الآية رقم (0) - مقدمة عن سورة الحشر

سورة الحشر سورة مدنيّة، عدد آياتها: (24) آية، ترتيبها في المصحف الشّريف (59)، نزلت بعد سورة البيّنة، وقبل سورة النّصر، كان ابن عبّاس 8 يسمّيها: سورة بني النّضير؛ لأنّها نزلت فيهم.

الآية رقم (1) - سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

نلحظ التّرابط بين أواخر سورة المجادلة وسورة الحشر، ففي آخر سورة المجادلة حدّثتنا الآيات عن حزب الشّيطان: ﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[المجادلة: من الآية 19]، ثمّ حدّثنا المولى سبحانه وتعالى عن حزب الله فـقـال: ﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[المجادلة: من الآية 22]، وهنا يعطينا نمـوذجاً تطبيقيّاً لكلٍّ من الحزبين أو الفئتين، ومثال عمليّ لهذه النّظريّات.

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾: هذه الآية لها متشابهات، ففي سورة الحديد قال سبحانه وتعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الحديد: من الآية 1]، دون تكرار (ما)، والفرق بينهما أنّ تكرار الاسـم الموصول (ما) يعني أنّ لله سبحانه وتعالى جنوداً في السّـمـوات فقط، وجنوداً في الأرض فقط، وهناك جنود الله في السّموات والأرض معاً، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الحديد: من الآية 1]، يعني الجنود المشتركين معاً في خدمة السّموات والأرض، وحين يقول: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، يريد ملائكة السّموات وملائكة الأرض، وهذا يعني أنّ كلّ شيء في الكون مسبّح لله سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء: من الآية 44]، والتّسبيح هو لغة المخلوقات كلّها، وهو تسبيح على وجه الحقيقة لا تسبيح دلالة كما يقول بعض المفسّرين، ولو كان تسبيح دلالة ما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 44]، فكلّ شيء في الكون يسبّح الله سبحانه وتعالى بلغته، ونحن لا نفهم هذه اللّغات ، فلكلّ جنس من المخلوقات لغته الّتي يتفاهم بها، النّملة لها لغة: ﴿يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكم لا يَحْطِمَنَّكم سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ وهم لا يَشْعُرُونَ﴾[النّمل: من الآية 18]، وقد سمع سليمان عليه السلام هذا القول، والهدهد له لغة: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍۢ يَقِينٍ﴾[النّمل: من الآية 22]، فقضيّة تسبيح المخلوقات لا يدري كنهها إلّا الله عز وجلَّ، وهناك آيات واضحة المعالم: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾[الأنبياء: من الآية 79]؛ أي: تسبيح حقيقيّ بلغة منطوقة، ومعنى التّسبيح تنزيه الله عز وجلَّ التّنزيه المطلق في ذاته، فليست ذاته عز وجلَّ كالذّوات، وتنزيهه سبحانه وتعالى في صفاته، فليست صـفاته كصفات غيره، وتنزيهه سبحانه وتعالى في أفعاله، فليس فعله جل جلاله كفعل غيره، ولا بدّ أن نأخذ هذه المسائل كلّها في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، وأنّ له سبحانه وتعالى الكمال المطلق، فإذا قرأنا مثلاً: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[الأعراف: من الآية 54]، لا نقول: جلس أو اسـتقرّ كجلوسنا، إنّما استوى استواء يناسب جلاله سبحانه وتعالى، وإذا قرأت: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾[الإسراء: من الآية 1]، لا نقل: هذا فوق طاقة وقدرة البشر؛ لأنّ محمّداً ﷺ ما أسرى بقوّته البشريّة، إنّما أُسريَ به، وفعل الله سبحانه وتعالى ليس كفعل الخلق، ومادّة سبّح وردت في القرآن الكريم بمشتقّاتها المختلفة في أكثر من (۱۷۹) موضعاً في كتاب الله عز وجلَّ، وردت بالاسم (سبحان) مضافاً إلى الاسم الظّاهر، مثل: ﴿سُبْحَانَ اللهِ﴾ [المؤمنون: من الآية 91]، و﴿سُبْحَانَ الَّذِي﴾[الإسراء: من الآية 1]، ومضافاً إلى ضمير الغائب: ﴿سُبْحَانه﴾ [البقرة: من الآية 116]، ومضافاً لكاف الخطاب: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ [البقرة: من الآية 32]، ووردت بصيغة الفعل الماضي: ﴿سَبَّحَ﴾ [الحديد: من الآية 1]، والمضارع: ﴿يُسَبِّحُ﴾ [الإسراء: من الآية 44]، والأمر: ﴿سَبِّح﴾ [الأعلى: من الآية 1]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾؛ أي: قبل أن يخلق الله عز وجلَّ الإنسان المسبِّح، فكلّ ما في الكون سبّح لله عز وجلَّ، ولا يزال يُسبّح إلى قيام السّاعة.

﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: العزيز: هو الشّيء النّادر الّذي لا مثيل له، ومنه قوله جل جلاله: ﴿وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾[إبراهيم]، ومن معانيها أنّه الغالِب الّذي لا يُغلَب.

﴿الْحَكِيمُ﴾: الّذي يضع الشّيء في موضعه الّذي يناسبه بدقّة وإحكام، فالله سبحانه وتعالى حكيم في خلقه، حكيم في إرادته وقضائه وقدره.

الآية رقم (2) - هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ

﴿هُوَ﴾: الضّمير (هو) يعود إلى الحقّ سبحانه وتعالى الّذي يُسبِّح له ما في السّموات وما في الأرض، وهو العزيز الحكيم.

﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾: المراد يهود بني النّضير، وكانوا حول المدينة المنوّرة، فأجلاهم رسول الله ﷺ إلى خيبر، وهذا هو أوّل الحشر، أجلاهم؛ لأنّهم غدروا ونقضوا العهود والمواثيق، وكانوا متآمرين مع المنافقين والمشركين، وكان الحشـر الثّاني حينما أجلاهم المسلمون من الجزيرة العربيّة في زمن سيّدنا عمر t، أيضاً لغدرهم ومكرهم ولؤمهم.

ومعنى الحشـر: أي: جمعهم كلّهم في مكان واحد ضيّق، كما نقول: فلان انحـشر، إذا دخل مكاناً يضيق حيّزه عن حجمه، لكن لماذا أخرج الله سبحانه وتعالى اليهود من حول المدينة إلى خيبر أوّلاً؟ كما قلنا؛ لأنّهم نقضوا عهدهم مع رسول الله ﷺ وعادوه، بل واستعدُوا عليه كفّار مكّة، والعجيب أنّ العداوة أوّلاً كانت بين اليهود وكفّار مكّة؛ لأنّ اليهود أهل كتاب وأهل دين سماويّ، أمّا كفّار مكّة فكانوا عبّاد أوثان، فكان اليهود يستفتحون على الّذين كفروا من أهل المدينة، ويقولون لهم: لقد أظلّ زمـان رسول جـديد يأتي ونؤمن به، ونقتلكم به قتل عـاد وإرم، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾[البقرة: من الآية 89]، فلمّا هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة عادوه واستعدوا عليه كفّار مكّة بعد أن عاهدوه على ألّا يقفوا ضـدّه، وقالوا: لا نكون معك ولا نكون عليك، فلمّا نقـضـوا هذا العـهـد ألّبـوا عليه الكفّـار في مكّة، وأرسلوا كعب بن الأشرف إلى مكّة في أربعين راكباً من اليهود، فالتقى بأبي سفيان وخرج معه في أربعين مثلهم من كفّار مكّة وذهبوا إلى الكعبة، وعند أسـتارها تعاهدوا على معاداة محمّد ﷺ والإسلام، وأن يكونوا يداً واحدة في العداء عليه، ولكنّ الحقّ سبحانه وتعالى أطلع رسـوله ﷺ على ما يدبّرون له، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾، فأجلاهم رسول الله ﷺ إلى خيبر، وما أجّج العداوة بين الطّرفين أنّه كان هناك قبيلة لها عهد مع بني النّضير، فخرج عمرو بن أميّة الحضرميّ وقتل من هذه القبيلة اثنين، وكان للنّبيّ ﷺ عهد معهم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَتِهِمَا وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ عَقْدٌ وَحِلْفٌ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوهُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، وَكَانَ جَالِساً إِلَى جَانِبِ جِدَارٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: مَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِيَ هَذِهِ الصَّخْرَةَ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ وَيُرِيحَنَا مِنْهُ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ فَأَتَاهُ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَامَ مُظْهِراً أَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْرَحُوا، وَرَجَعَ مُسْرِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَبْطَأَهُ أَصْحَابُهُ، فَأُخْبِرُوا أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَحِقُوا بِهِ، فَأَمَرَ بِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَتَحَصَّنُوا([1]).

﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا﴾: يخاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين، فيقول لهم: ما كان يخطر ببالكم أن يخرج اليهود من حول المدينة -فهذا أمر مستبعد- فأنتم تعتقدون أنّهم أهل منعة وعزّة ومعهم العدد والعدّة والمال، لكنّ الله سبحانه وتعالى أخرجهم.

﴿وَظَنُّوا﴾: أي: اليهود.

﴿أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ﴾: وظنّ اليهود أنّهم أصحـاب حصـون تمنعهم أن ينهزمـوا أمام المؤمنين، مجرّد ظنّ لايرقى إلى اليقين؛ لأنّهم أيضاً تذكّروا يوم بدر يوم انتصر المسلمون وهم قلّة في العدد والعدّة، ولنتأمّل اللّفظ القرآنيّ في قوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم﴾، فاختار التّعبير بالجملة الاسميّة الدّالّة على الثّبوت والدّوام، ولم يقل: تمنعهم؛ لأنّ الجملة الفعليّة تفيد التّجدّد والحدوث.

﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾: الله سبحانه وتعالى لا يأتي هؤلاء، إنّما أتاهم عقابه وعذابه، وهزمهم وأرعبهم.

﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾: من حيث لم ينتظروا، ولم يقدروا، ولم يظنّوا، ولم يخطر لهم على بال.

﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾: ألقى فيها الرّعب والهلع، والقذف: إلقاء بشدّة وعنف، والقلوب: مضخّات الدّم في الأجساد، وحين يلقي الله سبحانه وتعالى الرّعب والفزع في القلوب فإنّ أعضاء الجسم كلّها يصيبها الهلع والفزع الشّديد.

﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾: أي: بيوتهم الحصينة الّتي كانوا يظنّون أنّها مانعتهم يخربونها بأيديهم، نعم هم لم يفعلوا مباشرة، إنّما كانوا السّبب في أن تخرّب على أيدي المسلمين، أو خرّبوها بالفعل لكي لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم، وهذه لها شواهـد في تاريخهم القديم والحديث، أنّهم يخربون العامر، ويقطعون الأشجار، ويفسدون في الأرض، فلا يتركونها خلفهم إلّا دماراً، فكانوا إذا تركوا مكاناً خرّبوه وأخذوا ما فيه.

﴿فَاعْتَبِرُوا﴾: الاعتبار: أن تستدلّ بما حدث في الماضي على ما يحدث في المستقبل، ومنه: عبر فلان البحر، ومنها تعبير الرّؤيا، ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾: أي: خذوا من الماضي عبرة تعينكم على استقبال الحاضر، ولا تتعجّلوا الأشياء؛ لأنّ الله تبارك وتعالى معكم.

﴿يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾: الأبصار: جمع بصر، فالاعتبار يكون بداية بالبصر، ثمّ بالبصيرة، فالبصائر إنّما تربو بدقّة البصر، والرّؤية الواعية الّتي تؤدّي إلى قضيّة عقليّة يقتنع بها الإنسان تكوّن عنده هذه البصيرة.

([1]) فتح الباري لابن حجر: ج7، ص331، قوله: حديث بني النّضير.

الآية رقم (3) - وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ

﴿وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ﴾: أي: قضى عليهم به.

﴿الْجَلاء﴾: الخروج بأهلهم من المدينة إلى خيبر أوّلاً، ثمّ إلى خارج المدينة المنوّرة، ولم يبق منهم في الجزيرة العربيّة إلّا ابن أبي الحقيق وحيي بن أخطب أبو السّيّدة صفيّة أمّ المؤمنين رضي الله عنها.

﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾: أي: بالقتل.

﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾: يعني: إن أفلتوا من عذاب الدّنيا فلن يفلتوا من عذاب الآخرة، لذلك خاطب الحقّ سبحانه وتعالى نبيّه ﷺ بقوله: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾[غافر: من الآية 77].

الآية رقم (4) - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

﴿ذَلِكَ﴾: أي: ما حدث لهم من الإجلاء.

﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أي: بسبب أنّهم شاقّوا الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ.

﴿شَاقُّوا﴾: من الشّقاق؛ أي: جعلوا أنفسهم في شقّ، وجعلوا الله عز وجلَّ ورسوله ﷺ في شقّ، والمراد: عادوا الله سبحانه وتعالى وحاربوه، وحاربوا رسوله ﷺ ودعوته.

﴿وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: قال المفسّرون: هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وقد تكون جملة جديدة، فالحـقّ سبحانه وتعالى بعد أن أخبر عن اليهود وما كان منهم، بدأ عـبارة جديدة معزولة عن الّتي قبلها تقرّر قضيّة ومبدأ، ﴿وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ﴾: يعاديه ويحارب منهجه، فعاقبته العقاب الشّديد من الله عز وجلَّ الّذي عاداه بدل أن يتقرّب إليه، وهذه قضيّة إيمانيّة ينبغي ألّا يغفل عنها الإنسان، ونلاحظ هنا أنّ التّعبير القرآنيّ ذكر في صدر الآية: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، ثمّ في الجملة الأخرى: ﴿وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ﴾، ولم يذكر رسوله ﷺ، وهذا يعني أنّ طاعة الرّسول ﷺ من طاعة الله عز وجلَّ، وأنّه من يشاقق الله سبحانه وتعالى يشاقق في الوقت نفسه رسول الله ﷺ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النّساء]، ومن ميزاته ﷺ الّتي تميّز بها عن غيره من الرّسل أنّ ربّه عز وجلَّ فوّضه التّشريع لأمّته، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا اتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[الحشر: من الآية 7].