الآية رقم (21) - لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾: لو حدث ونزل هذا القرآن على جبل، على حجر أصمّ، على جماد، لكان هذا الجبل: ﴿خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، على ثباته وقوّته فإنّه سيخشع ويتصدّع ويتفتّت خوفاً من الله عز وجلَّ، وتقوم كلّ ذرّة من ذرّاته تباشر مهمّتها انقياداً لربّها وخالقها، هذا بالنّسبة إلى الجبل وهو غير مكلّف، فكيف بالإنسان؟ فلو نزل القرآن الكريم على جبل لاندكّ كما اندكّ جبل الطّور في قصّة موسى عليه السلام: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾[الأعراف: من الآية 143]، ومعنى يندكّ؛ أي: يسيح في الأرض لهول الموقف، والجبل ليس مكلّفاً، وقد عُرِضَت عليه الأمانة فأبى أن يتحمّلها، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: من الآية 72]، ولكنّ تكليفه أن يظلّ مخزناً للقوت والنّماء ليعطي بني البشر أقواتهم.

﴿لَوْ﴾: أهل اللّغة يقولون: (لو) حرف امتناع لامتناع، فالإنزال لم يحدث على جبل، لكنّه لو حدث لرأيت الجبل خاشعاً متصدّعاً بالفعل، والتّصدّع أن يتفتّت هذا الجماد فيصير تراباً، فإن قلت: فكيف سنرى الله سبحانه وتعالى في الآخرة؟ قلنا: نحن الآن لا نستطيع رؤيته بما نحن فيه جل جلاله، فمن عنده مشكلة بالنّظر يصف له الطّبيب نظارة، فيرى بها ما لم يكن يستطيع رؤيته دونها، ولله المثل الأعلى، فأنت لا تستطيع أن ترى وأنت في الدّنيا، أمّا في الآخرة تتغيّر القوانين النّاظمة للإنسان ولرؤيته، فالله سبحانه وتعالى سيعدّنا إعداداً آخر وخلقاً آخر يصلح لهذه المسألة، يخلقنا على هيئة قادرة على أن ترى الله عز وجلَّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[القيامة].

﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾: والأمثال جمع مثل، وهو التّشبيه الّذي يقرّب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربيّ، والحقّ سبحانه وتعالى استخدم الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع ليقرّب من أذهاننا معنى الغيبيّات الّتي لا نعرفها ولا نشاهدها، ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمّة الإيمان، وهو وحدانيّة الله سبحانه وتعالى، وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ﴾ [النّور: من الآية 35]، فيُظهر الحقّ سبحانه وتعالى الأمر المعنويّ في صورة حسّيّة مشاهدة ليقرّب الأمر للنّاس، ويزيده وضوحاً ورهبة وخشوعاً.

﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾: أي: لعلّهم يتفكّرون في منطق الحقّ ويخشون الله سبحانه وتعالى ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتّى يكونوا في وقاية من عذاب الله عز وجلَّ وسخطه، والله سبحانه وتعالى يستثير فينا التّفكير بعد أن أثار فينا عظمة وهيبة ما قد يحدث للجبل إذا أُنزِل عليه القرآن الكريم.

الآية رقم (22) - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ

﴿هُوَ﴾: ضمير الغائب (هو) إذا أُطلِق لا ينصرف إلّا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه سبحانه هو الحاضر الّذي لا يغيب وإن ناديناه بضمير الغيبة، وفي آية أخرى قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص]، وقال جل جلاله: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾[الأنعام: من الآية 91]؛ فكأنّه سبحانه وتعالى بيّن بشكل قاطع من خلال هذا الضّمير أنّ المرجع الّذي لا يمكن أن يُنسى هو الله عز وجلَّ، فمع كون (هو) ضمير غائب، لكنّه سبحانه وتعالى حاضر، ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾: لا إله معبود، ولا إله مطلوب، إلّا هو، فهو غائب في الجملة، لكنّه موجود في كلّ أثر، لا نراه، وهو غائب عنّا، ولكنّه خالقنا، فيأتي بضمير الغائب أوّلاً ثمّ بتعريفه، كما في قوله جل جلاله: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص]، فأتى بالضّمير الغائب أوّلاً ثمّ بتعريفه ﴿ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾؛ لأنّ الجملة الخبريّة يكون فيها المدلول عليها والدّليل.

﴿اللَّهُ﴾: عَلَم على واجب الوجود سبحانه وتعالى، واسمه الدّالّ على ذاته جل جلاله، وما عداه من الأسماء فهي صفات، كما نقول: الحيّ القيّوم القادر المحيي..، لذلك علّمنا رسول الله ﷺ أن نبدأ كلّ شيء ذي بال ببسم الله؛ لأنّه الاسم الّذي تنفعل له الأشياء كلّها في الكون.

﴿الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾: نفي لألوهيّة ما دون الله سبحانه وتعالى وإثباتها لله وحده لا شريك له، وهذه الشّهادة لا إله إلّا الله أوّل من شهد بها شهد الله سبحانه وتعالى بها لنفسه جل جلاله، وهذه شهادة الذّات للذّات، ثمّ شهد بها ملائكته شهادة مشهد، ثمّ شهد بها أولو العلم شهادة العقل والدّليل والبرهان: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾[آل عمران: من الآية 18]، وما دام أنّ الله سبحانه وتعالى شهد لنفسه بهذه الشّهادة، ولم يقم لها معارض أو منازع فالدّعوى تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض: ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾[الإسراء].

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾: قلنا: إنّ الدّعوى تثبت لصاحبها حتّى يأتي معارض، فقال جل جلاله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾؛ يعني: لم يأت، ولن يأتي لها معارض، فالله سبحانه وتعالى عالم الغيب والشّهادة أخبرنا بهذا.

﴿الْغَيْبِ﴾: كلّ ما غاب عن الإدراك، وما غاب عن الإدراك نوعان:

1- نوع له مقدّمات يمكن أن توصل إليه، مثل تمارين الهندسة لها معطيات توصلك إلى المطلوب، وهذا هو ما غاب عنك الآن، لكن معك مقدّمات توصلك إليه فيما بعد، وقد يكون الغيب غيباً عنك وليس غيباً عن غيرك، فحين يسرق منك شيء يصير غيباً عنك، لكنّه ليس غيباً عمّن سرقه.

2- أمّا الغيب الّذي اختصّ الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم يُطلِع أحداً عليه فهو الغيب المطلق، وهذا لا يعلمه أحد إلّا الله عز وجلَّ، وليست له مقدّمات توصل إليه أو تدلّ عليه، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجنّ: الآية 26- من الآية 27].

﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: الشّهادة هي الشّيء المشهود، فما الميزة في أنّه سبحانه وتعالى يعلم المشهود والخلق يعلمونه؟ هذه المسألة وقفنا عندها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾[الأنبياء]، فالحقّ سبحانه وتعالى يمتنّ علينا بمعرفة ما يكتمه الإنسان، ويعلم السّرّ وأخفى، وقلنا: لو أنّ هناك جمهرة كبيرة من النّاس يهتفون فهذا جهر ونحن نسمعه، فهل نستطيع أن نعيد كلّ صوت فيه إلى صاحبه؟ هذه لا يقدر عليها إلّا الله سبحانه وتعالى الّذي يعلم الجهر في كلّ زمان ومكان، ويعلم الجهر في اللّحظة في أنحاء الدّنيا، ومن يقدر على هذه إلّا الله سبحانه وتعالى؟

﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾: ما علاقة الرّحمن الرّحيم بعالم الغيب والشّهادة؟ يعني: أنّ عالم الغيب هو الرّحمن الرّحيم، ليظلّ غيب الخلق كلّهم مستوراً عن الخلق، لتسير حركة الحياة آمنة، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أن حفظ أسرارنا وغيبنا، فالغيب ألّا تعرف كلّ شيء عمّن هو سواك، فالله رحمن رحيم في علمه للغيب، ونحن نبدأ بها أعمالنا، فنقول: بسم الله الرّحمن الرّحيم، فبها نُعَان ونُوَفَّق، وبها تنفعل لنا الأشياء، فنحن لا نقدر على الفعل بذاتنا، إنّما بتسخير الله سبحانه وتعالى لنا ينفعل الشّيء، فعندما نبدأ الطّعام نقول: بسم الله الرّحمن الرّحيم، وعندما نتحرّك نقول: بسم الله الرّحمن الرّحيم، فهي الأساس في كلّ أمر من أمورنا.

الآية رقم (23) - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ

﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾: تكرار هذه العبارة أفادت تأكيد أنّه سبحانه وتعالى المتّصف وحده بهذه الصّفات الّتي جاءت بعدها، فالله وحده الّذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشّهادة، الله وحده الرّحمن الرّحيم، الله وحده الملك القدوس، الله وحده السّلام المؤمن، الله وحده المهيمن العزيز، الله وحده الجبّار المتكبّر.

﴿الْمَلِكُ﴾: اسم من أسمائه جل جلاله، ومادّة (ملك) منها مالك، وهو مالك، وهو الّذي يملك شيئاً مهما كان صغيراً حقيراً، حتّى لو كان يملك الثّوب الّذي يلبسه يسمّى: (مالك)، فالمالك هو كلّ من يحوز شيئاً، ومنها الملك وهو الّذي يملك من يملك، فالحقّ سبحانه وتعالى هو (الملك) الّذي يملك الأشياء، ويملك مالكيها، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ﴾ [آل عمران: من الآية 26]، ولم يصف الحقّ سبحانه وتعالى نفسه بأنّه مالك إلّا عند حديثه عن يوم القيامة: ﴿مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة]، فهو سبحانه وتعالى في هذا اليوم المالك، حيث لا مالك غيره جل جلاله، ففي هذا اليوم تنتزع الأملاك من أصحابها فلا أحد يملك شيئاً.

﴿الْقُدُّوسُ﴾: مبالغة في التّنزّه عن كلّ نقيصة وزيادة في الطّهر، فهو الطّهور الّذي يطهّر كلّ شيء، لذلك تقول الملائكة في تسبيح الله عز وجلَّ: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح، أنت يا ربّنا مسبّح تسبّحك المخلوقات كلّها، فقدوس؛ أي: منزّه عن كلّ عيب ونقيصة، وهذه من الكلمات الّتي لا تقال إلّا له جل جلاله، لذلك قلنا في دعائه سبحانه وتعالى: سبحانك، ولم نسمع أحداً يقول لأحد: سبحانك، وقلنا ذلك أيضاً في اسم الجلالة (الله)، فمع وجود الكفر والكافرين والملاحدة ومنكري الألوهيّة، لم نجد أحداً سمّى ابنه: (الله)؛ لأنّه لا يجرؤ على ذلك أحد، يخاف أن يؤخذ في لحظتها أخذ عزيز مقتدر، لذلك قال سبحانه وتعالى في تعظيم نفسه: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم: من الآية 65]، والّذين يأخذون بمبدأ الصّرفة يقولون: إنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي صرفهم عن هذا، نقول: حتّى لو لم يصرفهم سبحانه وتعالى ما جرؤوا على ذلك، كما قالوا في قضيّة إعجاز القرآن الكريم: إنّ الله سبحانه وتعالى صرف العرب عن الإتيان بمثل هذا القرآن، ولولا أنّ الله عز وجلَّ صرفهم لأتوا بمثله، وهذا القول مجانب للصّواب؛ لأنّهم لو لم يصرفوا أيضاً لا يأتون بمثله.

﴿السَّلامُ﴾: أي: السّلام في ذاته جل جلاله، والسّلام مشتقّ من السّلامة؛ أي: سلامة الجوارح من التّعارض والتّنافر مع ذاتها، فهي منسجمة مع بعضها بعضاً، لذلك عندما بلغت السّيّدة خديجة قوله ﷺ: إنّ ربّك يحييك بالسّلام، قالت: الله السّلام، ولم تقل: وعلى الله السّلام؛ لأنّه سبحانه وتعالى هو السّلام في ذاته، وقد جعلت تحيّة المسلمين: السّلام عليكم، فحين يطرأ علينا طارئ لا نعرف أهو آت بخير أم بشرّ، فيقول: السّلام عليكم، نأمن جانبه ونأنس إليه؛ لأنّه جاء من باب السّلام، ونردّ عليه التّحيّة: وعليكم السّلام؛ أي: نحن أيضاً أهل سلام، ولن ينالك منّا إلّا السّلام، وقد جعلها الله سبحانه وتعالى تحيّة الملائكة لأهل الجنّة: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزّمر: من الآية 73]، ثمّ يرقّي هذه التّحيّة فيحيي بها الحقّ سبحانه وتعالى عباده وأهل جنّته: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾[يس].

﴿الْمُؤْمِنُ﴾: أيضاً اسم من أسمائه وصفة من صفاته سبحانه وتعالى، ومادّة (أمن) تتعدّى بنفسها في مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: من الآية 4]، وقوله جل جلاله: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: من الآية 57]؛ أي: جعلناهم آمنين لا يخوّفهم شيء، وتتعدّى بالباء، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: من الآية 114]، وهي هنا بمعنى: اعتقده، ومرّة تتعدّى باللّام، كما في قوله جل جلاله: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾[يوسف: من الآية 17]؛ أي: مصدِّق، فمعنى ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ الّذي يؤمّن عباده ممّا يخيفهم، أو هو المؤمن بمعنى الإيمان، فهو سبحانه وتعالى أوّل من آمن بنفسه سبحانه وتعالى كما قلنا شهادة الذّات للذّات في قوله سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: من الآية 18]، وإذا كانت بمعنى التّصديق فهو سبحانه وتعالى المصدّق لرسله بالمعجزات.

﴿الْمُهَيْمِنُ﴾: المهيمن على الشّيء، يعني القيّم عليه، المتصرّف فيه، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ﴾ [المائدة: من الآية 48]، فالقرآن الكريم مهيمن على الكتب الّتي نزلت قبله والكلمة له، والله سبحانه وتعالى المهيمن على خلقه، القائم عليهم، المتصرّف فيهم.

﴿الْعَزِيزُ﴾: هو الشّيء النّادر الوجود الّذي لا مثيل له، والعزيز: هو الغالب الّذي لا يُغلَب.

﴿الْجَبَّارُ﴾: صفة من صفات الجلال للحقّ سبحانه وتعالى يقهر بها المخالفين لمنهجه، وهي أيضاً من صفات الخلق، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾[الشّعراء]، وقال : ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾[ق: من الآية 45]، يعني: مسيطر عليهم تقهرهم على أن يؤمنوا، والله سبحانه وتعالى أيضاً جابر، نقول: يا جابر كلّ كسير، وجابر العثرات، يجبر الكسير فيغنيه، ويجبر كسر الجاهل فيعلّمه، ويجبر كسر الضّعيف فيقوّيه، وكذلك من الخلق من هو جابر العظام يسمّونه مجبّراً، وهو الّذي يعيد العظام إلى موضعها ويربط عليها الجبيرة، مع الفارق بين صفة الحقّ وصفة الخلق، صفة الحقّ سبحانه وتعالى ذاتيّة فيه، والصّفة في الخلق موهوبة قد تُسلَب منه، والجبروت في الخلق فيه ظلم وتعدّ، أمّا الجبروت في حقّه سبحانه وتعالى ففيه حلم وحكمة وعدالة.

﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾: من الكبر، وهي صفة مذمومة في الخلق محمودة في الخالق سبحانه، في الخلق صفة نقص وفي الخالق صفة عظمة وكمال، والكبر صفة ذاتيّة في الله سبحانه وتعالى وصفة مفتعلة في المخلوق؛ لأنّه يتكبّر بشيء موهوب له ليس ذاتيّاً فيه، فمن النّاس من يتكبّر بماله أو بصحّته أو بجاهه، وهذه كلّها عوار مستردّة وعرض زائل، لذلك الله سبحانه وتعالى وحده هو المتكبّر بحقّ وما سواه متكبّر بالباطل، الله سبحانه وتعالى متكبّر؛ لأنّه الغنيّ عن خلقه لا ينقصه شيء، وهو واهب كلّ شيء، لذلك من نِعَم الله عز وجلَّ علينا أنّه المتكبّر؛ لأنّ تكبره سبحانه وتعالى يعني أنّه لا يظلم أحداً: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصّلت: من الآية 46]، فهذه من كبريائه جل جلاله؛ لأنّ الظّلم يعني أن تأخذ ما ليس لك لتزيد فيما عندك، والله سبحانه وتعالى متكبّر عن هذا؛ لأنّه مالك كلّ شيء على الحقيقة ولا ينقصه شيء، لكن هل جبّاريّة العبد تخرجه عن جبّاريّة خالقه؟ لا، بل يظلّ تحت جبّاريّة خالقه عز وجلَّ لا ينفلت منها، وكيف له ذلك؟ لأنّ خالقه وإن جعله مختاراً في أن يطيع أو يعصي، أن يؤمن أو يكفر، يفعل أو لا يفعل، إلّا أنّه مقهور في منطقة أخرى لا اختيار له فيها، فهو مخلوق سيموت، مخلوق سيمرض.. إلخ، وهذه هي جبّاريّة خالقه عليه لا تنفكّ عنه، لذلك يقول أحدهم: إذا دعتك قدرتك إلى ظلم النّاس فتذكّر قدرة الله عز وجلَّ عليك، ومن حظّ المخلوق أن يكون الكبرياء للخالق سبحانه وتعالى وحده، فلكلّ واحد منّا نصيب من هذا الآخر؛ لأنّنا أمام كبرياء الله عز وجلَّ سواء، ومن عرف أنّ الكبرياء لله سبحانه وتعالى وحده استحيَ أن يتكبّر على خلقه، وفي الحديث القدسيّ: «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»([1])، فمن تكبّر فهو ينازع الله عز وجلَّ في الكبرياء.

﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾: يعني: تنزيهاً لله سبحانه وتعالى عمّا يشركون به، فهذه الصّفات والأسماء الحسنى كلّها تندرج تحت عنوان ما انتهت إليه هذه الآية: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، فـ ﴿سُبْحَانَ﴾ كما قلنا: هي تنزيه لله عز وجلَّ، فالله سبحانه وتعالى قويّ وأنت قويّ، ولكن ليست قوّة الله عز وجلَّ كقوّتك، أنت حيّ والله عز وجلَّ حيّ، ولكنّ حياتك ستنتهي بالموت، والله سبحانه وتعالى حيّ لا يموت، فنهاية هذه الأسماء كلّها هو أنّه يجب أن ننزّه الله سبحانه وتعالى أن يكون له شريك أو مثيل أو ندّ في أيّ صفة من صفاته وأفعاله وأسمائه سبحانه وتعالى، فإذا اعتقدت أنّ فلان يضرّ وينفع، وأنّه يحيي ويميت، وأنّه يعطي ويمنع، وأنّه يعزّ ويذلّ، فقد أشركت بالله سبحانه وتعالى.

([1]) سنن أبي داود: كتاب اللّباس، باب ما جاء في الكبر، الحديث رقم (4090).

الآية رقم (24) - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

﴿هُوَ اللَّهُ﴾: هنا يعيدها للمرّة الثّالثة؛ لأنّ الآيات مستمرّة في ذكر أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، ومنها: ﴿الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ هكذا في جملة واحدة؛ لأنّ هذه المعاني الثّلاثة ما هي إلّا مراحل متتالية للشّيء الواحد.

﴿الْخَالِقُ﴾: الله سبحانه وتعالى هو الخالق، والخلق إيجاد من العدم.

﴿الْبَارِئُ﴾: أي: الّذي يسوّي هذا المخلوق على هيئة صالحة ليؤدّي مهمّته الّتي جعل لها، مثلما تبري القلم لتكتب به، أو تبري السّهم ليصيب الهدف، فالأشياء لا تؤدّي مهمّتها إلّا إذا كانت على هيئة معيّنة، ولنأخذ مثالاً الولد الّذي يذهب مع والده الحدّاد إلى الورشة فيجده يأخذ عود الحديد المستقيم ويعوجه، فيتعجّب لفعل أبيه كيف يعوج المستقيم، فيبيّن له الوالد أنّه يريد أن يصنع منه خطّافاً، والخطّاف لا يؤدّي مهمّته إلّا إذا كان معوجّاً.

﴿الْمُصَوِّرُ﴾: الّذي يصوّر هذا المخلوق كيف يشاء، ويصوّره على غير مثال سابق، فقال في الإنسان: ﴿الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار]، فهنا طلاقة قدرة أوّلاً، قادرة على أن توجد من عدم وتبرز إلى الوجود شيئاً لم يكن موجوداً، وقبلها إرادة ترجّح المطلوب، وبعد ذلك يأتي المصوّر فيعطيها الصّورة اللّائقة، ولنتأمّل الإعجاز في خلق الإنسان وتصويره وطلاقة القدرة في كثرة الأعداد وفي عدم التّطابق في الأشخاص، نحن نرى مثلاً مهندس لمنتج معيّن يصنع له قالباً يعطي نماذج متساوية ومتطابقة، كالأكواب مثلاً، أمّا الخالق فيبدع في الخلق، بحيث يأتي كلّ إنسان خلقاً فريداً وحده لا يطابق غيره أبداً، وتعرفون الآن الاختلاف في بصمة اليد وبصمة الصّوت.. وكلّ يوم يكتشفون في الإنسان بصمة جديدة تميّزه عن غيره، ولولا هذا التّمايز في خلق البشر لتشابهوا إلّا بهذا التّميّز، وإلّا لو حدثت جريمة كيف نتعرّف على الفاعل، وكيف نميّزه عن غيره؟

﴿لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾: قلنا: إنّ اسم الجلالة (الله) هو عَلَم على واجب الوجود سبحانه وتعالى، وهو الاسم، وغيره من الأسماء هي في الحقيقة صفات، فالخالق البارئ المصوّر صفات للحقّ سبحانه وتعالى، ولشهرتها انتقلت من الوصف إلى الاسم، والدّليل على أنّها صفات أنّ الله سبحانه وتعالى وصفها بالحسنى، والحسنى جمع مؤنّث، ولو كانت أسماء لقلنا: الأسماء الحسان، فهي صفات لكن اشتهرت عنه سبحانه وتعالى وخصّت به وحده فصارت أسماء له، فحين نقول: ﴿الْبَارِئُ﴾ فلا تُطلَق إلّا على الله عز وجلَّ، و﴿الْمُصَوِّرُ﴾ لا تُقال إلّا له سبحانه وتعالى، والوصف قد يكون من الشّهرة بحيث يلتصق بصاحبه فلا ينصرف إلّا إليه، كما نقول -ولله المثل الأعلى- أمير الشّعراء فلا تنصرف إلّا إلى أحمد شوقي.

﴿الْحُسْنَى﴾: أي: الّتي تدلّ على صفات الكمال المطلق له سبحانه وتعالى، فاسم الجلالة (الله) يدلّ على الوجود فقط، وبه تنفعل لك الأشياء عندما تبدأ بـ (بسم الله)، مثل القاضي حينما يجلس للحكم يقول: باسم الشّعب؛ لأنّ الشّعب هو الّذي جعله يجلس على هذه المنصّة، كذلك إن أردت عملاً فيه قدرة أو حكمة أو علم أو رحمة، فقل: يا الله؛ لأنّه الاسم الجامع لهذه الصّفات كلّها، وللتّجليات كلّها في هذه الأسماء.

﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: لاحظنا أنّ مادّة: (سبّح) في القرآن الكريم استوعبت الزّمان كلّه في الماضي والحاضر والمستقبل، قال هنا: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: من الآية 1]، وقال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى]، وقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾[الإسراء: من الآية 1]، فالله سبحانه وتعالى مسبَّح من كلّ شيء: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 44]، بل إنّه جل جلاله مسبَّح قبل أن يخلق من يُسَبِّح.

﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾: بضمير الغائب إشارة إليه سبحانه وتعالى؛ لأنّ الآيات السّابقة بدأت بقوله عز وجلَّ: ﴿هُوَ اللَّهُ﴾، فالله الّذي هذه صفاته: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ، هو الّذي يُسبّح له ما في السّموات والأرض.

﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: ومرّة يقول: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾[البقرة: من الآية 255]، قلنا: لأنّ السّموات والأرض خلقٌ عجيب، ومعجزاته بذاته ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾[غافر: من الآية 57]، فالسّموات والأرض تُسبّح قبل أن يخلق الإنسان المسبِّح.

﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: قلنا: العزيز النّادر الّذي لا مثيل له، أو العزيز يعني: القويّ الّذي يغلِب ولا يُغلَب، وهذه الغلبة منزّهة عن البطش والظّلم والتّعدّي؛ لأنّها محكومة بالحكمة.

﴿الْحَكِيمُ﴾: الّذي يضع الشّيء في موضعه وضعاً يناسب مهمّته، فالقوّة تُذَمّ حينما تكون منفلتة لا ضابط لها.

وهكذا تنتهي سورة الحشر، وهذا الحشد من أسماء الله وصفاته الحسنى، ومن لا يحفظ هذه الآيات عليه أن يحفظها، فعندما تريد أن تدعو الله سبحانه وتعالى وتتقرّب إليه تدعوه بهذه الأسماء، ولا يمكن أن تعرف الله سبحانه وتعالى إلّا من خلال أسمائه، فعندما تعرف أنّ الله عز وجلَّ قادر، وأنّه حيّ، وأنّه مالك الملك، وأنّه رحمن، وأنّه رحيم، وأنّه قدّوس، وأنّه مؤمن، وأنّه مهيمن، وأنّه عزيز، وأنّه جبّار، وأنّه متكبّر… عندما تعرف هذه الصّفات فإنّك تعبد الله جل جلاله حقّ العبادة، وتكاد لا تجد آية من آيات القرآن الكريم إلّا تنتهي باسمٍ من أسماء الله عز وجلَّ، حتّى نعرف الله سبحانه وتعالى ونحبّه ونتعبّده ونطيعه سبحانه وتعالى.

الآية رقم (19) - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾: هناك أمر بتقوى الله سبحانه وتعالى وتطبيق منهجه، وهنا نهي عن نسيان الله عز وجلَّ، يعني؛ حين نطبّق منهج الله سبحانه وتعالى ينبغي ألّا يغيب الله عز وجلَّ عن بالنا أبداً؛ لأنّه ربّنا وإلهنا الّذي نعمل له، ونلاحظ هنا أنّ الآية الكريمة لم تقل لنا: (لا تنسوا الله)، وإنّما: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾، فكأنّ نسيان الله سبحانه وتعالى أمرٌ غير متوقّع أن يحدث من الّذين آمنوا، والنّسيان أن تكون عندك معلومة ثمّ تنصرف عنها بمشاغل أخرى، أو تغفل عنها حتّى تنساها؛ لأنّ العقل فيه بؤرة الشّعور وحاشية الشّعور، فالمعلومة تدخل في بؤرة الشّعور، وطالما هي في بؤرة الشّعور تتذكّرها، فإذا انتقلت إلى حاشية الشّعور تنساها وتحتاج من يذكّرك بها لتعيدها إلى بؤرة الشّعور مرّة أخرى، وإلّا لو ظلّ كلّ شيء في بؤرة الشّعور لما التفت الإنسان إلى شيء آخر، ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾[الأحزاب: من الآية 4]، ومِن نِعَم الله عز وجلَّ علينا أنّنا نستطيع أن نستدعي المعلومة من حاشية الشّعور حينما نحاول أن نتذكّرها، لكن كيف كان الله سبحانه وتعالى معلوماً لهم، ثمّ نسوا ذكره جل جلاله؟ قال العلماء: الله عز وجلَّ معلوم لكلّ الخلق منذ أن كانوا جميعاً في مرحلة الذّرّ، وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام، ومنذ أن أخذ الله سبحانه وتعالى عليهم العهد: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾[الأعراف: من الآية 172]، فالحقّ سبحانه وتعالى يخاطب فينا هذه الذّرّة الّتي أخذناها من أبينا آدم عليه السلام؛ لأنّه سبحانه القادر وحده على ذلك، فيخاطب الذّرّة كما خاطب الأرض وكما خاطب النّحل، والحقّ سبحانه وتعالى أخذ علينا هذا العهد ليكون حجّة علينا إذا غفلنا عن ذكره جل جلاله أو نسيناه: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوۡ تَقُولُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَشۡرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّیَّةࣰ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ﴾ [الأعراف: من الآية 172-والآية 173]، كأنّه سبحانه وتعالى يقول لنا: إيّاكم أن تقولوا هذا القول، إيّاكم أن تصيبكم هذه الغفلة الّتي تنسيكم ذكر الله عز وجلَّ؛ لأنّه لا عذر لكم فيه، فالله سبحانه وتعالى أخذ العهد علينا، ثمّ توالت رسله وتتابعت لتذكّرنا بهذا العهد، فإذا لم يوجد في المجتمع الرّادع، وكان المجتمع فاسداً، تدخّلت السّماء برسول جديد، إلى أن جاءت رسالة محمّد ﷺ، وجعل الله سبحانه وتعالى أمّته أمّة تبليغ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: من الآية 110]، وجعلنا الله سبحانه وتعالى شهداء على غيرنا من الأمم: ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: من الآية 143]، وبهذا تحمّلت هذه الأمّة مهمّة الرّسل كلّهم، وضمنت ألّا يخلو مجتمع من عناصر الخير وحاملي مشاعل الهداية، ومهما انطمست الحقائق، وأظلمت الصّورة لا نعدم وجود نموذج للخير والهداية تردّ النّاس إلى الجادّة.

﴿فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾: لأنّهم نسوا الله عز وجلَّ، ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله سبحانه وتعالى، وصرفتهم الدّنيا، وتواردت عليهم الغفلة، فنسوا حتّى أنفسهم؛ أي: نسوا مصدر الخير لهم، فكأنّهم نسوا أنفسهم حينما حرموها من مصدر خيرها، والإنسان حينما ينفصل عن ربّه وخالقه جل جلاله يعيش في ضنك مهما نال من نعيم الدّنيا، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[طه].

﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: يقال: فسقت الرّطبة؛ أي: بعدت القشرة عن الثّمرة، فعندما تكون الثّمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالثّمرة، بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها، فإذا أصبحت الثّمرة أو البلحة رطباً تسودّ قشرتها، وتبتعد الثّمرة، بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة، هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله عز وجلَّ ينسلخ عنه بسهولة ويسر؛ لأنّه غير ملتصق به، وعندما نبتعد عن منهج الله سبحانه وتعالى فإنّنا لا نرتبط بأوامره ونواهيه.

والفسق فسقان: فسق صغير وفسق كبير، الفسق الصّغير يكون بالذّنوب الصّغيرة والخروج عن الطّاعة، وهو الفسق الجزئيّ، أمّا الفسق الكبير فهو الخروج عن متطلّبات الإيمان كلّها، وهو فسق القمّة.

الآية رقم (20) - لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ

﴿لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾: هذا أمر منطقيّ وأمر طبيعيّ، وهما لا يستويان في دنيا النّاس، فكيف يستويان عند الله سبحانه وتعالى الحكم العدل؟ هذان في الدّنيا يمثّلان الجنّة والنّار في الآخرة، وكما أنّ الجنّة لا تستوي مع النّار، كذلك لا يستوي أصحابهما في الدّنيا، وأصحاب الجنّة هم الّذين اختاروا الجنّة بعملهم، وكذلك أصحاب النّار هم الّذين اختاروا النّار بعملهم، وهذه المسألة نأخذها دليلاً على وجود الجنّة والنّار في الآخرة، فلو فعل أهل المعاصي معاصيهم، وأفسدوا في الأرض، وآذوا العباد والبلاد، ثمّ أفلتوا من العقاب وانتهى أمرهم بالموت لكانت الحظوة لهم والخسارة لأهل الإيمان والاستقامة، وهذا أمر لا يصحّ ولا يقبله عقل، ومن هؤلاء من يبرّر لنفسه الانفلات من منهج الله سبحانه وتعالى، ويقول حتّى لو كان هناك جزاء وعقاب فسوف نحرق في النّار وتنتهي القصّة، لكنّه غفل عن حقيقة الآخرة وأنّها دار خلود وبقاء لا يفنى نعيمها، ولا ينتهي عذابها، قال سبحانه وتعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾[النّساء: من الآية 56]، وأذكر أنّ هذه الآية أحدثت ضجّة كبيرة عند جماعة من المستشرقين حتّى أسلم سبعة منهم في جلسة واحدة؛ لأنّهم لاحظوا فيها وجهاً من وجوه الإعجاز العلميّ في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم أوّل من أعلن أنّ الجلد مصدر الإحساس ومحلّ الإذاقة، وكانوا قبل ذلك يقولون: المخّ هو المسؤول عن الإحساس.

﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾: فازوا بنعيم الجنّة، وفازوا برضا الله سبحانه وتعالى، وارتاحوا من تعب الدّنيا وعنائها، وأصبحت خواطرهم هي الّتي تسيّر حياتهم، فبمجرّد أن يخطر الشّيء على بال أحدهم يجده بين يديه دون تعب.

الآية رقم (10) - وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾: من هم الّذين جاؤوا بعد المهاجرين والأنصار؟ المهاجرون والأنصار هم جيل الصّحابة، والّذين جاؤوا من بعدهم هم التّابعون لهم، وجيل التّابعين هم أفضل الأجيال بعد صحابة رسول الله ﷺ، ويأخذ حكمهم في الأفضليّة كلّ من سار على منهجهم، وبقدر التّمسّك بالمنهج تكون الأفضليّة، ومن دعاء هؤلاء التّابعين قولهم:

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾: يدعون لهم؛ لأنّ سبقهم للإيمان هو الّذي أبقى لنا الإيمان الّذي نعتزّ به، فهم أصحاب فضل على كلّ مسلم بعدهم؛ لأنّهم إمّا قتيل في سبيل الله عز وجلَّ قدّم حياته في سبيل نصرة هذا الدّين، وإمّا عالم أفنى أيضاً حياته في سبيل صيانة العلم ونشره وإيصال الإيمان لمن بعده.

﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾: لأنّهم نالوا المنزلة العليا الّتي لم يبلغها غيرهم، فانزع يا ربّ غلّ قلوبنا، فلا نحقد عليهم ولا نحسدهم.

الغلّ: الحقد على شخص؛ لأنّه أدرك ما لم تستطع إداركه، والغلّ من غليان النّفس.

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ﴾: الرّأفة: دفع الأذى ومنع العقوبة.

﴿رَّحِيمٌ﴾: الرّحمة أن تبدّل العقوبة إلى مثوبة، فهم يطلبون الرّأفة والرّحمة من الله سبحانه وتعالى.

ثمّ يعود السّياق بنا مرّة أخرى إلى الحديث عن المنافقين:

الآية رقم (11) - أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

الله سبحانه وتعالى يفضح اليهود والمنافقين، ويفشي أسرارهم، ويخبر رسوله ﷺ بما قالوه سرّاً، فيقول:

﴿أَلَمْ تَر﴾: ومعناها أنّ إخبار الله سبحانه وتعالى لنبيّه بشيء أوثق من رؤيته له.

﴿إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾: وكان على رأسهم ثلاثة: عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعبد الله بن الأكتع، ورافع بن زيد، فهؤلاء انتهزوا الفرصة، وقالوا لبني النّضير: إذا أخرجكم محمّد لا تخرجوا، فلمّا أمرهم رسول الله ﷺ بالخروج قالوا: انظرنا يا أبا القاسم، فالموت أهون علينا من هذا، وأمهلنا عشرة أيّام لكي نستعدّ، فأنظرهم رسول الله ﷺ عشرة أيّام، فلمّا لم يخرجوا حاصرهم واحداً وعشرين يوماً حتّى يئسوا ورفعوا راية التّسليم، والحقّ سبحانه وتعالى يكشف نفاق المنافقين، فيقول: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: يقولون لليهود، وقد وصفهم بالكفر؛ لأنّهم وإن كانوا في بدايتهم على دينٍ سماويّ، إلّا أنّهم لـمّا جاءهم ما عرفوا من بعثته ﷺ، وما بشّرت به كتبهم كفروا به فسمّاهم كافرين، لذلك قال سبحانه وتعالى في أهل الكتاب: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُوْن﴾[آل عمران]، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام t، ونعلم قصّة إسلامه، وهو القائل: “والله إنّي لأعرف محمّداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمّد أشدّ”.

﴿يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ﴾: وجعلهم إخواناً؛ لأنّهم بالفعل إخوان في معاداة رسول الله ﷺ ودعوة الحقّ، أو إخوان؛ لأنّهم عقدوا عقد ولاء فيما بينهم في الكفر والتّصدّي لرسول الله ﷺ.

﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾: يقول المنافقون لهم: لئن أخرجكم محمّد من المدينة وما حولها.

﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾: قالوا هذا الكلام سرّاً بينهم وبين بعض.

﴿وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾: لا نطيع أحداً يأمرنا بقتالكم، لكنّ الله سبحانه وتعالى يشهد ويحكم على هذا القول أنّه كذب:

﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: لأنّهم منافقون والكذب يجري في عروقهم.

الآية رقم (12) - لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ

يفضح الله سبحانه وتعالى هذا الكذب، ويكشف نيّاتهم:

﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ﴾: يفرّون من المعركة.

﴿ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾: وصدق الله سبحانه وتعالى فيما أخبر عنهم، وهذا هو دأب المنافقين في كلّ زمان ومكان، يكذبون حتّى على الله عز وجلَّ ويقولون ما لا يفعلون.

الآية رقم (13) - لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ

﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ﴾: هذا يعني أنّهم مهما تبجّحوا وتظاهروا بالقوّة، إلّا أنّهم في أنفسهم يرهبون المسلمين ويخافونهم أشدّ الخوف، وهذا المعنى عبّرت عنه الآيات في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍۢ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التّوبة: الآية 14]، فلو أراد الحقّ سبحانه وتعالى لانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فهم يخافون منكم أشدّ من خوفهم من الله عز وجلَّ؛ لأنّهم قوم مادّيّون لا يؤمنون إلّا بالمادّة وبما يشاهدونه، لذلك حينما تقرأ في التّلمود تجده يتكلّم في مسائل مادّيّة ولا ذكر فيه لأمور تتعلّق بالآخرة.

﴿ذَلِكَ﴾: أي: خوفهم من المسلمين وعدم خوفهم من الله عز وجلَّ.

﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَفْقَهُونَ﴾: نعم لا يفقهون؛ لأنّ المسلمين لم يحاربوهم إلّا بتوجيه من الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (14) - لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ

﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾: لأنّهم يخافون المسلمين ويرهبونهم ويجبنون عن مواجهتهم في حرب مفتوحة، وليس عندهم الشّجاعة للمواجهة؛ لذلك: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾، وتحصين القرية يكون بحفر خندق حول القرية بحيث لا يستطيع أحد أن يدخلها، فلا بدّ أن يكون الخندق واسعاً وعميقاً ورأسيّاً بحيث لا يستطيع الفَرَس القفز فوقه أو النّزول فيه، أو تحصين القرية يكون ببناء سور حولها لا يستطيع أحد تسلّقه؛ أي: من وراء جدر، وأيضاً كانوا يحصّنون بيوتهم بسدّ الأبواب بالمتاريس الخشب فلا يستطيع أحد دخولها.

﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾: أي: أنّهم يظهرون المحبّة فيما بينهم، وهم في الحقيقة يكره بعضهم بعضاً، ويحقد بعضهم على بعض.

﴿تَحْسَبُهُمْ﴾: أي: في الظّاهر.

﴿جَمِيعًا﴾: متّحدين.

﴿وَقُلُوبُهُمْ﴾: هي في الحقيقة.

﴿شَتَّى﴾: مختلفة ومتفرّقة، كما بين بني قريظة وبني النّضير، وأمر طبيعيّ أن يختلف مثل هؤلاء وأن تتفرّق قلوبهم، فليس هناك حقّ يجمعهم ويؤلّف قلوبهم وجوارحهم.

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ﴾: هناك قال: ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾، وهنا: ﴿لّا يَعْقِلُونَ﴾، فنفى عنهم التّعقّل الّذي يميّزون به بين الحقّ والباطل والصّواب والخطأ، والعقل كما ذكرنا هو المرحلة الوسطى بين الحواسّ، وهو الّذي يغربل المدركات ويفاضل بينها، فما اقتنع به ألقاه إلى القلب فيصير عقيدة راسخة، فماذا ننتظر من قوم لا يعقلون؟

الآية رقم (15) - كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يشبّه حال اليهود بحال إخوانهم من المشركين في مكّة.

﴿قَرِيبًا﴾: من عهد قريب.

﴿ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾: أي: سوء عاقبة شركهم ومصادمتهم لدعوة الحقّ، وهذه إشارة إلى ما حدث لهم في غزوة بدر.

﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: يؤلمهم، والعذاب ورد في القرآن الكريم بعدّة أوصاف لكلّ منها مغزى يناسب حال المعذَّبين -والعياذ بالله- فواحد عذابه شديد، وواحد عذابه أليم، وواحد عذابه مهين.

الآية رقم (5) - مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ

بعد أن حدث من اليهود ما حدث، وأجلاهم رسول الله ﷺ، أمره الله سبحانه وتعالى أن يقطّع بعض نخيلهم إغاظة لهم، وإظهاراً لقوّة شوكة الإسلام، فأمر رسول الله ﷺ صحابته بذلك، فمنهم من قطع ومنهم من أبقى، فقال اليهود: يا محمّد، ألم تنه عن الفساد في الأرض؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ﴾: اللّينة: النّخلة الجيّدة الكريمة، أو: هي نخلة العجوة اللّيّنة الحلوة.

﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾: يعني واقفة لم تقطع.

﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾: بأمره، ومادام القطع جاء بأمر الله سبحانه وتعالى فليس لأحدٍ أن يقول: هذا إفساد في الأرض؛ لأنّ قطع بعض النّخلات فيه إصلاح يفوق الضّرر الواقع بقطعها، والآية تسوّي بين القطع والإبقاء؛ لأنّ بعض الصّحابة قطع، وقال: قطعت هذه لك يا رسول الله، والآخر أبقى، وقال: هذه أبقيتها لك يا رسول الله، وهذا يعني أنّ للقطع معنى، وللإبقاء معنى.

﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾: يلحق الخزي والذّلّة بهم، والفاسق هو الخارج عن أوامر الله سبحانه وتعالى ومنهجه.

الآية رقم (16) - كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ﴾: أي: ما حدث من المنافقين حينما عاهدوا اليهود إن أخرجوا ليخرجنّ معهم، ولئن قوتلوا لينصرنّهم، ثمّ تركوهم وتخلّوا عنهم، مثل ما حدث من الشّيطان حينما أغوى ابن آدم وأوقعه في المحظور، فلمّا طاوعه وكفر، قال: إنّي بريء منك؛ لأنّه أخذ حظّه منه وذهب ليبحث عن غيره، فهذا مثل، والمثل يضربه الحقّ سبحانه وتعالى لنا لتجلية أمر مجهول بآخر معلوم.

﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾: يخاف الله ربّ العالمين؛ لأنّه طرد من الجنّة، وقد قال كما أخبرنا سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الأعراف]، فهو يخاف من هذا اليوم الّذي هو منظور له، فحظّ الشّيطان أن يوقع الإنسان في المعصية ثمّ يتبرّأ منه، والشّيطان خذول لمن يتّبعه، فهو يمدّ حبال الأمل فإذا ما جاء وقت الحاجة إليه تخلّى عنه وتركه، كذلك يفعل الشّيطان بأوليائه، وكذلك فعل المنافقون مع اليهود في المدينة المنوّرة.

الآية رقم (6) - وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

الأشياء الّتي يأخذها المسلمون من الكفّار في الحرب أحلها الله سبحانه وتعالى لهم إمّا فيئاً وإمّا غنيمة، الفيء: ما يؤخذ منهم دون حرب، والغنيمة: ما يؤخذ منهم بعد هزيمتهم، فتصير غنيمة للمسلمين تُقسَّم بطريقة معيّنة، قال سبحانه وتعالى في شأن غنائم الحرب: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: من الآية 41]، ثمّ يقسـّم الباقي بين المحاربين، وأمّا الفيء فلا يعطى للمحاربين، إنّما يُعطى لله سبحانه وتعالى ولرسوله ﷺ وللفقراء، والحقّ سبحانه وتعالى هنا يحدّثنا عن الفيء الّذي أحلّه  للمسلمين:

﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾: يعني: ما أخذتموه من أموالهم دون مشقّة.

﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ﴾: يعني: أسرعتم إليه، أوجف الدّابّة: أسرع بها، وهذه صفة الفارس الّذي يعشق الحرب، ويريد أن يموت شهيداً.

﴿وَلا رِكَابٍ﴾: الرّكاب: ما يُركب ويُسار به إلى الحرب، والمراد هنا: الإبل، والمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى أنعم عليكم وساق لكم هذا الرّزق حلالاً دون تعب، ودون أن تبذلوا في سبيله أيّ مجهود.

﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: يعني: أنّ هذا الفيء جاءكم ليس لكم فيه فضل ولا حاربتم من أجله، بل هي جنود الله سبحانه وتعالى سلّطها عليهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وقذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الحشر: من الآية 2].

﴿رُسُلَهُ﴾: أي: جنوده، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾[المدّثّر: من الآية 31].

الآية رقم (17) - فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ

﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا﴾: أي: عاقبة الشّيطان وعاقبة من اتّبعه من الإنس الخلود في النّار؛ لأنّ كليهما تمرّد على الله عز وجلَّ، فجمع الحقّ سبحانه وتعالى بينهما في مصير واحد.

﴿وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ﴾: الشّرك ظلم، وقد قال عز وجلَّ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان: من الآية 13]، فالظّالم أشرك بالله سبحانه وتعالى ما لم يخلق ولا يرزق، فأشرك معه بشراً، وهذا ظلم، فحرّم ما أحل الله سبحانه وتعالى، وأحلّ ما حرّم الله عز وجلَّ.

الآية رقم (7) - مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾: الفيء: هو كلّ مال صار للمسلمين من غير حرب ولا قهر، ومصارفها الّتي تصرف فيها محدّدة بهذه الآية: ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، فالفيء لله سبحانه وتعالى وللرسول ﷺ؛ أي: لبيت مال المسلمين وفي سبيل الله، وللرّسول ﷺ لينفق منه، ولذوي قرابته، ثمّ لليتامى والمساكين وأبناء السّبيل، وليس للمقاتلين شيء من الفيء؛ لأنّه جاء صلحاً دون حرب، إنّما لهم في الغنيمة وفق ما أقرّه الله سبحانه وتعالى لهم: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[الأنفال: من الآية 41]، فالمقاتلون لهم في الغنيمة أربعة أخماسها، وأمّا الخمس فيصرف في مصارف الفيء ذاتها.

﴿كَيْ لا يَكُونَ﴾: أي: المال.

﴿دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾: أي: مُلكاً متداولاً بينهم دون الفقراء والمساكين، لذلك سيّدنا رسول الله ﷺ لـمّا قسّم هذه الأموال لم يعط من الأنصار أحـداً، وإنّما أعطاها للفقراء من المهاجرين، فلمّا لاحظ أنّ الأنصار في نفوسهم شيء من هذا، قال لهم: «ألَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ»([1])، ثمّ إنّ الأنصار ليسوا في حاجة إلى المال، بل إنّهم يُشركون إخوانهم المهاجرين في أموالهم، وفي الأنصار نزل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: من الآية 9].

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾: جاءت هذه الآية لتردّ على قوم أرادوا أن يحصروا هذه الآية في هذا السّبب، فقال لهم: بل هي عامّة، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السّبب، ومن هذه الآية استدللنا على حقّ رسول الله ﷺ في التّشريع، وأنّه مفوّض من ربّه جل جلاله في ذلك، وبهذه الآية أيضـاً نردّ على الّذين ينادون بأن نأخذ بالقرآن الكريم دون السُّنّة، وقد قال رسول الله ﷺ: «ألَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ»([2])، فمن حين لآخر يطلع علينا من يُنكر سنّة رسول الله ﷺ، ويقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما كان فيه من حلال حلّلناه، وما كان فيه من حرام حرّمناه، فهم يُنكرون أحاديث رسول الله ﷺ ويشكّكون في صحّتها حتّى لا يأخذوا بها، وهذا ليس بالأمر الحديث بل هو قديم، ففي كلّ فترة من الزّمن يخرج أناس يُنكرون الأحاديث بحجّة أنّ هذا حديث ضعيف، وهذا غير صحيح، وهذا.. مع أنّ الأحاديث كلّها مصنّفة ومدروسة، ولا يوجد علم على وجه الأرض أدقّ من علم الحديث وعلم التّراجم وعلم مصطلح الحديث، فالنّبيّ ﷺ أخبر عن هؤلاء النّاس الّذين ينكرون الأحاديث منذ ذلك الوقت، فالقرآن الكريم جاء بأمور مجملة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ ﴾ [النّحل: من الآية 44]، فصلاة الصّبح مثلاً كم عدد ركعاتها؟ وكذلك الظّهر والعصر والمغرب والعشاء؟ وكم مقدار الزكاة؟ فهذه الأمور كلّها جاءت مفصّلة في السّنّة النّبويّة، فعلينا اتّباع السّنّة حتّى نستطيع أن نؤدّي ما أمرنا االله سبحانه وتعالى به من فرائض في القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النّساء]، فالطّاعة للرّسول ﷺ هي طاعة لله عز وجلَّ وهذا أمر منطقيّ؛ لأنّ الرّسول إنّما يبلّغ عمّن أرسله، فلا يمكن أن نفصل بين أوامر الله سبحانه وتعالى وبين أوامر رسول الله ﷺ، والقرآن الكريم ليس كتاب أحكام فحسب كالكتب السّابقة، إنّما هو كتاب إعجاز، ومع ذلك ورد فيه بعض الأصول والأحكام، وترك بعضها الآخر لبيان الرّسول ﷺ وتوضيحه في الحديث الشّريف، وجعل له حقّاً في التّشريع بنصّ القرآن الكريم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، فأعطى الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ تفويضاً عامّاً بالتّشريع وتفصيل ما أجمـله الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من أحكام، وهذه ميزة لرسول الله ﷺ، فتشريعه مأمور به ومأذون فيه من صلب القرآن الكريم، وأيّ حكم من الأحـكـام يأتي ولا نجد له سنداً من كتاب الله عز وجلَّ نقول ما قاله ﷺ؛ لأنّ القرآن الكريم أمرنا أن نتّبعه ﷺ.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: أنهى هذه الآية بقانون عامّ، من أنّه لا بدّ من تقوى الله عز وجلَّ، فلا بدّ من أن نأخذ بأوامر الله جل جلاله؛ لأنّ التّقوى هي العمل بالتّنزيل والرّضا بالقليل والاستعداد ليوم الرّحيل، والتّقوى أن نجعل بيننا وبين غضب الله سبحانه وتعالى حاجزاً، وبيننا وبين النّار حاجزاً.

﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: معصية الله سبحانه وتعالى ستؤدّي حتماً إلى عقاب الله عز وجلَّ، وعقابه سبحانه وتعالى ليس كعقاب البشر، فهو شديد العقاب جل جلاله.

([1]) مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل الأنصار، الحديث رقم (16473).

([2]) سنن التّرمذيّ: أبواب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النّبيّ ﷺ، الحديث رقم (2664).

الآية رقم (18) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾: هذه الآيات من أكثر الآيات الّتي يردّدها المسلمون، ويستزيدون فيها من فضل الله عز وجلَّ، وفيها الكثير من أسماء الله الحسنى، والنّداء بـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أمرٌ إلهيّ يجب أن نسمع إليه وأن ننظر فيه ماذا يريد الله سبحانه وتعالى منّا، فكما أخذنا منه جل جلاله عطاء الرّبوبيّة يجب علينا أن نأخذ أيضاً عطاء الألوهيّة، وهو التّكاليف الشّرعيّة.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فبعد أن نادانا سبحانه وتعالى بوصف الإيمان أمرنا بالتّقوى، وهذا يعني أنّ الإيمان النّظريّ لا يكفي، ولا بدّ أن يسانده الإيمان العمليّ التّطبيقيّ؛ أي: وظائف الإيمان، كما قال ﷺ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»([1])، فلا بدّ من التّطبيق لأوامر الله عز وجلَّ.

﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾: محور حياة الإنسان كلّه أن تنظر ما قدّمت لغد، والغد هو اليوم القادم، وهو اليوم الآخر، و﴿نَفْسٌ﴾ نكرة تفيد العموم، فمطلوب من كلّ نفس إنسانيّة أن تنظر ماذا قدّمت ليوم القيامة، وقال عز وجلَّ: ﴿لِغَدٍ﴾ للدّلالة على قرب يوم القيامة، بل الغد أبعد منها؛ لأنّها قد تأتينا بعد طرفة عين، وفي الحديث الشّريف، يقول ﷺ: «الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ»([2])، وهذا يعني أنّ منهج الله سبحانه وتعالى الّذي ارتضاه لنا لينظّم حركة حياتنا ويسعدنا في دنيانا ليس هو نهاية المطاف، نهاية المطاف هو: (غد)؛ أي: يوم القيامة، والّذين صادموا هذا المنهج، وخرجوا عن إطاره، وعاثوا في الأرض فساداً، أو عاشوا على تعب الآخرين وعرقهم ودمائهم، لم ينته أمرهم بانتهاء الحياة الدّنيا، بل هناك (غد)، هناك الحساب والجزاء، فيجب ألّا نغيب عن هذه الحقيقة، وأن تبقى في أذهاننا، وأن تكون حركتنا في الحياة على هدى منها، ويجب ألّا تفارق أنظارنا، ونفهم من كلمة: ﴿لِغَدٍ﴾، أنّنا في الدّنيا نعيش بالأسباب، وفي غدٍ نعيش بالمسبِّب سبحانه وتعالى فليس هناك شمس ولا قمر ولا أرض تزرع ولا عمل ولا سعي، لذلك لما تكلّم الحقّ سبحانه وتعالى عن الآخرة قال: ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ [الزّمر: من الآية 69]؛ لأنّ الشّمس ليس لها وجود، والنّور هناك نور الذّات الإلهيّة، ونفهم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ﴾أنّ كلّ نفس تنظر إلى نفسها في مسائل الإيمان، فلينظر كلٌّ منّا ماذا يريد، وما هدفه، وما غايته في الحياة؟ والحقّ سبحانه وتعالى حينما يخاطبنا: ﴿لْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ إنّما يعوّدنا محاسبة النّفس والنّظر فيما قدّمت لتدارك ما قد نراه في سلوكنا من تقصير أو انحراف عن جادّة الطّريق، فعمر الإنسان أقصر من أن يضيع دون أن يشعر، فربّنا عز وجلَّ خلقنا وتركنا نتمتّع بنعم الدّنيا، ولم يكلّفنا بشيء حتّى سنّ الخامسة عشرة، فما كلّفنا إلّا بعد أن اكتمل تكويننا ومداركنا، ثمّ جعل لنا وقفة مع أنفسنا في سنّ الأربعين، سنّ النّضج الأعلى، وهي سنّ النّبوّة، قال سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: من الآية 15]، ثمّ يقرر سبحانه وتعالى الجزاء: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[الأحقاف].

ولأهمّيّة هذه القضيّة كرّر بعدها الأمر بالتّقوى:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فالنّظر إلى الأعمال ومراقبتها أمر بين أمرين بتقوى الله عز وجلَّ، والتّقوى: كما قلنا: هي الجانب العمليّ في الإيمان، وبهذا المنهج يسعد الإنسان، ويأمن على ماله وعرضه.

([1]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب الميم، من اسمه: مقدام، الحديث رقم (9004).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، بَابٌ: «الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ»، الحديث رقم (6488).

الآية رقم (8) - لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾: الأولى بهذا الفيء هـم المهاجرون الّذين أخرجوا من ديارهم، وتركوا خلفهم كلّ ما يملكون.

﴿يَبْتَغُونَ﴾: يطلبون من خروجهم هذا.

﴿فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾:يطلبون فضل الله عز وجلَّ؛ أيّ: الزّيادة في رزق الدّنيا، فالفضل في المعاش الدّنيـويّ، أمّا الرّضوان ففي نعيم الآخرة، قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾[النّحل: من الآية 71]، ثمّ يطلـبـون رضـوان الله في الآخـرة، وقد ورد في الحـديث  القدسيّ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الـجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَـمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً»([1]).

﴿وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أي: بهجرتهم وخـروجـهم من أموالهم وديارهم نصرة لدين الله عز وجلَّ ودعـوة رسول الله ﷺ.

﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾: صادقون في إيمانهم، صادقون في خروجهم وتحمّل تبعاته، ولولا هذا الصّدق في الإيمان ما هان عليهم كلّ شيء في سبيل الإيمان، وما خرجوا من ديارهم وأموالهم، لذلك بعد الهجرة نظر سيّدنا رسول الله ﷺ إلى مصعب بن عمير t وهو يلبس ملابس خشنة من جلد جافّ، فقال: انظروا ما فعل الإيمان بصاحبكم، وكان مصعب بن عمير من أغنى أغنياء مكّة ويسمّونه فتى قريش المدلّل، حتّى أنّ النّاس كانوا يدفعون مالاً لتُغسل ملابسهم مع ملابس مصعب لكثرة ما فيها من عطور، ولكنّه بعد أن آمن ترك كلّ شيء لله عز وجلَّ ولرسوله الكريم وهاجر.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب صفة الجنّة والنّار، الحديث رقم (6549).

الآية رقم (9) - وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

الكلام هنا عن الأنصار أهل المدينة، يقول سبحانه وتعالى مادحاً موقفهم من إخوانهم المهاجرين:

﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا﴾: تبوأ یعني: سكن واستوطن واستقرّ.

﴿الدَّارَ﴾: هي دار الهجرة مدينة رسول الله ﷺ.

﴿وَالإِيمَانَ﴾: جعل الإيمان أيضاً شيئاً محسوساً يُتبوّأ .

فالدّار للقالب يأوي إليها الإنسان ليستريح من عناء اليوم وحـركة الحياة، والإيمان للقلب، فكمـا أنّ الدّار مرجع للقالب، فالإيمـان مرجع للقلب يرجع إليه في قضاياه ومواقفه كلّها، ويلتزمه ويرضى به حكماً ومنظّماً لحركة الحياة.

﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾: أي: أنّ الأنصار يحبّون المهاجرين.

﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾: أي: أنّ الأنصار تطيب نفوسهم بما أخذه إخوانهم المهاجرون من أموال الفيء، فلا في أنفسهم حقداً ولا حسداً ولا ضغينة، ولا يمنّون عليهم بما أعطوهم، فلم يقل أحـد منهم: فلان أخـذ منّي كذا وكذا، وكلّهم أخـذوا من الأنصار إلّا مـن عفّ، مثل عبد الرّحمن بن عوف الّذي قال لأخيه ابن الرّبيع: “احفظ عليك مـالك وأهلك ودلّني على السّوق”، ثمّ كان بعدها من أغنى أغنياء المدينة المنوّرة، وكان له نحـو ألف من العبيد، ولـمّا سألوهم عن حال عبـد الرّحمن معهم، فقال أحدهم: والله لو أقبلت علينا وهو بيننا ما عرفته، ومع ذلك رآه رسول الله ﷺ يدخل الجنّة حبواً، ولم يقف الأمر بالأنصار عند هذا الكرم والجـود، وإنّما تعـدّاه إلى الإيثار، قال سبحانه وتعالى بعدها:

﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾: فالجـود أن تعطي بعض ما عندك، أمّا الإيثار فأن تعطي كلّ ما  عندك، ولا تُبقي على شيء، فالأنصار كانوا يؤثرون إخـوانهم المـهـاجـرين على أنفـسـهم ويعطونهم ما يحتاجونه .

وكلمة: ﴿خَصَاصَةٌ﴾: مأخوذة من الخصّ، وهو عشّة صغيرة تصنع من عيدان الحطب، فهو شبه البيت، لكنّه لا يحمي صاحبه ولا يصون أهله، لذلك فهو بيت الفقير الّذي لا يستطيع البناء، فالخصاصة؛ أي: الفقر الشّديد، فمع ما كان بهم من الفقر والحاجة إلّا أنّهم كانوا يؤثرون إخوانهم على أنفسهم، لقد قدّم الأنصار لنا نموذجاً للعطاء لم يسبق له مثيل على مرّ التّاريخ.

ثمّ تقرّر الآيات هذه الحقيقة:

﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: المفلح من وقاه الله سبحانه وتعالى وجنّبه هذه الصّفة الذّميمة، وكلمة الشّحّ يقول بعضهم أنّها تعني: البخل، لكنّ الشّحّ أعمّ وأشدّ من البخل؛ لأنّ البخل ينشأ عن الشّحّ، نقول: شحّ الشّيء إذا قلّ، وما دام قلّ فلا بدّ أن تحافظ على هذا القليل حتّى لا ينتهي وينفد من بين يديك، فالشّحّ يُدخِل في جوارحك وتصرّفاتك البخل، ونستطيع أن نقول: الشّحّ طبع القلب، والبخل طبع القالب.

﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: مأخوذة من فلاحة الأرض واستخراج خيراتها، لذلك نقول في الأذان: حيّ على الفلاح؛ أي: الفوز بكلّ خير.