﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾: لو حدث ونزل هذا القرآن على جبل، على حجر أصمّ، على جماد، لكان هذا الجبل: ﴿خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، على ثباته وقوّته فإنّه سيخشع ويتصدّع ويتفتّت خوفاً من الله عز وجلَّ، وتقوم كلّ ذرّة من ذرّاته تباشر مهمّتها انقياداً لربّها وخالقها، هذا بالنّسبة إلى الجبل وهو غير مكلّف، فكيف بالإنسان؟ فلو نزل القرآن الكريم على جبل لاندكّ كما اندكّ جبل الطّور في قصّة موسى عليه السلام: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾[الأعراف: من الآية 143]، ومعنى يندكّ؛ أي: يسيح في الأرض لهول الموقف، والجبل ليس مكلّفاً، وقد عُرِضَت عليه الأمانة فأبى أن يتحمّلها، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: من الآية 72]، ولكنّ تكليفه أن يظلّ مخزناً للقوت والنّماء ليعطي بني البشر أقواتهم.
﴿لَوْ﴾: أهل اللّغة يقولون: (لو) حرف امتناع لامتناع، فالإنزال لم يحدث على جبل، لكنّه لو حدث لرأيت الجبل خاشعاً متصدّعاً بالفعل، والتّصدّع أن يتفتّت هذا الجماد فيصير تراباً، فإن قلت: فكيف سنرى الله سبحانه وتعالى في الآخرة؟ قلنا: نحن الآن لا نستطيع رؤيته بما نحن فيه جل جلاله، فمن عنده مشكلة بالنّظر يصف له الطّبيب نظارة، فيرى بها ما لم يكن يستطيع رؤيته دونها، ولله المثل الأعلى، فأنت لا تستطيع أن ترى وأنت في الدّنيا، أمّا في الآخرة تتغيّر القوانين النّاظمة للإنسان ولرؤيته، فالله سبحانه وتعالى سيعدّنا إعداداً آخر وخلقاً آخر يصلح لهذه المسألة، يخلقنا على هيئة قادرة على أن ترى الله عز وجلَّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[القيامة].
﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾: والأمثال جمع مثل، وهو التّشبيه الّذي يقرّب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربيّ، والحقّ سبحانه وتعالى استخدم الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع ليقرّب من أذهاننا معنى الغيبيّات الّتي لا نعرفها ولا نشاهدها، ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمّة الإيمان، وهو وحدانيّة الله سبحانه وتعالى، وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ﴾ [النّور: من الآية 35]، فيُظهر الحقّ سبحانه وتعالى الأمر المعنويّ في صورة حسّيّة مشاهدة ليقرّب الأمر للنّاس، ويزيده وضوحاً ورهبة وخشوعاً.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾: أي: لعلّهم يتفكّرون في منطق الحقّ ويخشون الله سبحانه وتعالى ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتّى يكونوا في وقاية من عذاب الله عز وجلَّ وسخطه، والله سبحانه وتعالى يستثير فينا التّفكير بعد أن أثار فينا عظمة وهيبة ما قد يحدث للجبل إذا أُنزِل عليه القرآن الكريم.