الآية رقم (75) - قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا

﴿قُلْ﴾: أمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم.

﴿مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾: أي: يُمهله ويستدرجه؛ لأنّه رَبٌّ للجميع، وبحكم ربوبيّته يعطي المؤمن والكافر، وكما يعين المؤمن بالنّصر، كذلك يعين الكافر بمراده، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾[البقرة: من الآية 10]؛ لأنّهم ارتاحوا إليه، ورَضُوا به، وطلبوا منه المزيد.

﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾: أي: في الدّنيا وزينتها، كما قال جلّ جلاله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾[الشّورى]، وفي موضعٍ آخر يقول: إيّاك أنْ تعجبك أموالهم وأولادهم؛ لأنّها فتنة لهم، يُعذِّبهم بها في الدّنيا بالسَّعْي في جمع الأموال وتربية الأولاد، ثمّ الحسرة على فقدهما، ثمّ يُعذِّبهم بسببها في الآخرة: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التّوبة].

﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ﴾: العذاب: عذاب الدّنيا؛ أي: بنصر المؤمنين على الكافرين وإهانتهم وإذلالهم.

﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾: أي: ما ينتظرهم من عذابها، وعند ذلك:

﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾: لكنّه عِلْم لا يُجدي، فقد فات أوانه، فالموقف في الآخرة حيث لا استئناف للإيمان، فالنّكاية هنا أعظم والحسرة أشدّ.

لكن ما مناسبة ذكر الجند هنا والكلام عن الآخرة؟ وماذا يُغني الجند في مثل هذا اليوم؟ قالوا: هذا تهكُّم بهم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾[الصّافّات]، فهل أَخْذهم إلى النّار هداية؟ بل هو نكال بهم.

الآية رقم (76) - وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا

قلنا: إنّ للهداية معنيَيْن: هداية بمعنى الدّلالة على الخير وبيان طريقه، وهداية المعونة والتّوفيق للإيمان، فمَنْ صدق في الأُولى أعانه الله سبحانه وتعالى على الأخرى، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمّد].

﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾: الباقيات الصّالحات: هي الأعمال الصّالحة الّتي كانت منك خالصةً لوجه الله عزَّ وجلَّ.

﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾: هذه هي الغاية الّتي ينتظرها الإنسان، ويسعى إليها، فساعةَ أنْ تقارن السُّبل الشّاقّة فاقْرِنها بالغاية المسعدة، فيهون عليك عناء العبادة ومشقّة التّكليف.

﴿وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾: أي: مرجعاً تُرَدُّ إليه.

الآية رقم (77) - أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا

نلاحظ هنا أنّ القرآن الكريم لم يذكر لنا هذا الشّخص الّذي قال هذه المقولة ولم يُعيِّنه، وإنْ كان معلوماً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي خُوطب بهذا الكلام؛ وذلك لأنّ هذه المقولة يمكن أنْ تُقال في زماننا وفي كلّ زمان، فليس المهمّ الشّخص بل القول نفسه، وقد أخبر عنه أنّه أميّة بن خلف، أو العاص بن وائل السَّهْمي.

﴿أَفَرَأَيْتَ﴾: يعني: ألم تَرَ هذا؟ كأنّه يستدلّ بالّذي رآه على هذه القضيّة.

﴿الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ﴾: ويروى أنّه قال: إنْ كان هناك بَعْثٌ فسوف أكون في الآخرة كما كنت في الدّنيا، صاحبَ مال وولد، كما قال صاحب الجنّة لأخيه: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: من الآية 36]، ثمّ يردُّ الحقّ جل جلاله على هذه المقولة الكاذبة:

الآية رقم (78) - أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾: يعني: أَقال هذا القول مُتطوِّعاً به من عند نفسه، أم اطّلعَ على الغيب، فعرفَ منه ما سيكون له في الآخرة:

﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾: أي: أعطاه الله سبحانه وتعالى عهداً بأن يكون له في الآخرة كما له في الدّنيا؟ فإمّا هذه وإمّا هذه، فأيُّهما توفّرتْ له حتّى يجزم بهذا القول؟

والعَهْد: الشّيء الموثّق بين اثنين، والعهد إنْ كان بين النّاس فقد يحدث فيه اختلال، ويمكن أنْ تحُول الظّروف بينه وبين ما وعد به، أمّا إنْ كان العهد من الله سبحانه وتعالى المالك لكلّ شيء، وليست هناك قوّة تُبطل إرادته تعالى، فهو العَهْد الحقّ الموثوق به، الّذي لا يتخلّف أبداً.

الآية رقم (79) - كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا

﴿كَلَّا﴾: أداة لنفي ما قيل قبلها وإبطاله؛ أي: لإبطال ونفي قوله: ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾، ثمّ يأتي ما بعد ﴿كَلَّا﴾ حُجّة، ودليلاً على النّفي.

وقد ورد هذا الحرف ﴿كَلَّا﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر]، فالحقّ تبارك وتعالى ينفي الكلام السّابق؛ لأنّ النّعمة وسَعَة الرّزق ليست دليلَ إكرام، كما أنّ الفقر وضِيق الرّزق ليس دليلَ إهانةٍ، فكلاهما ابتلاء واختبار كما أوضحتْ الآيات، فإتيان النّعمة في حَدِّ ذاته ليس هو النّعمة، إنّما النّعمة هي النّجاح في الابتلاء في الحالتين.

﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾: لقد جاءت كلمة ﴿سَنَكْتُبُ﴾ حتّى لا يؤاخذه سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنّه فعله، ولكن بما كتب عليه وليقرأه بنفسه، وليكون حجّة عليه، كأنّ الكتابة ليست كما نظنّ فقط، ولكنّها تسجيل للصّوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كلّ إنسان ما فعله مسطوراً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء].

﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾: أي: يزيده في العذاب؛ لأنّ المدّ هو أن تزيد الشّيء.

الآية رقم (71) - وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا

﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾: وهذا خطاب عامّ للخلْق جميعهم دون استثناء، بدليل قوله سبحانه وتعالى بعدها: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، فالورود هنا يشمل الأتقياء وغيرهم.

والورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسّقيا؛ أي: أخْذ الماء دون أنْ تشرب منه، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ [القصص: من الآية 23]؛ أي: وصل إلى الماء، فمعنى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾؛ أي: أنّكم جميعاً مُتّقون ومجرمون، سترِدُون النّار وتروْنها؛ لأنّ الصّراط الّذي تمرُّون عليه مضروب على مَتْن جهنّم، فالله سبحانه وتعالى يمتنُّ على عباده المؤمنين فيُريهم النّار وتسعيرها؛ ليعلموا فضل الله سبحانه وتعالى عليهم، وماذا قدَّم لهم الإيمان بالله سبحانه وتعالى والعمل الصّالح من النّجاة من هذه النّار، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: من الآية 185]، ثمّ يُنجِّي الله سبحانه وتعالى المؤمنين، ويترك فيها الكافرين، فيكون ذلك أنْكَى لهم وأغيظ.

﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾: الحتْم: هو الشّيء الّذي يقع لا محالةَ، والعبد لا يستطيع أنْ يحكم بالحتميّة على أيّ شيء؛ لأنّه لا يملك المحتوم ولا المحتوم عليه، فقد تقول لصديقك: أحتّم عليك أنْ تزورني غداً، وأنت لا تملك من أسباب تحقيق هذه الزّيارة شيئاً، فمَنْ يدريك أن تعيشَ لغد؟ ومَنْ يدريك أنّ الظّروف لن تتغيّر وتحُول دون حضور هذا الصّديق؟! فالله سبحانه وتعالى هو الوحيد الّذي له الأمر، ثمّ يؤكّد هذا الحتم بقوله سبحانه وتعالى:

﴿مَقْضِيًّا﴾: أي: حكم لا رجعةَ فيه، وحُكْم الله سبحانه وتعالى لا يُعدِّله أحد، فهو حكم قاطع، فمثلاً: حينما قال كفّار مكّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، يريدون أنْ يتعايش الإيمان والكفر لكنّ هذا لا يمكن؛ لأنّ الإيمان لا يتجزّأ، فهؤلاء يؤمنون بالباطل، ومن يؤمن بالله عزَّ وجلَّ فهو على الحقّ.

الآية رقم (72) - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا

﴿جِثِيًّا﴾: قعد على رُكَبه دلالة على المهانة والتّنكيل.

فيُنَجّي الله سبحانه وتعالى المؤمنين المتّقين الّذين رأوا النّار ولم يدخلوا فيها، ويدع الظّالمين فيها جثيّاً، من المهانة والتّنكيل بهم.

الآية رقم (73) - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا

هذا حوار قديم دار بين المؤمنين والكافرين، وكان المؤمنون عادةً هم الضّعفاء الّذين لا يقدرون حتّى على حماية أنفسهم، وليس لهم جاه ولا سيادة يحافظون عليها، وجاء منهج الله عزَّ وجلَّ في مصلحتهم يُسوِّي بين النّاس جميعاً: السّادة والعبيد، والقويّ والضّعيف، فطبيعيّ أنْ يُقابلَ هذا الدّين بالتّكذيب من كفّار مكّة، أهل الجاه والسّيادة، وأهل القوّة.
﴿خَيْرٌ مَقَامًا﴾: المقام بفتح الميم: اسم لمكان قيامك من الفعل: قام.
أمّا (مُقام) بضمّ الميم، فمِنْ أقام، والمراد هنا: ﴿خَيْرٌ مَقَامًا﴾؛ أي: مكاناً يقوم فيه على الآخر؛ أي: بيت كبير وأثاث ومجلس يتباهى به على غيره.
﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾: الإنسان عادةً له بيت يَأويه، وله مجلس يَأوي إليه، ويجلس فيه مع أصحابه وأحبابه يُسمُّونه (حجرة الجلوس)، وفيها يجلس كبير القوم ومن حوله أهله وأتباعه، ومن ذلك قول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق]، ومن ذلك ما كان يُسمَّى قبل الإسلام بـ (دار النّدوة)، الّتي كانوا يجتمعون فيها ليدبِّروا المكائد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فكان قول الكفّار للمؤمنين: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ موضع فتنة للفريقين، فقالوا: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: من الآية 11]، وقال الكفّار: ما دام الله سبحانه وتعالى حبانا في الدّنيا وهو الرّزّاق، فلا بدّ أنْ يَحْبُوَنَا في الآخرة.

الآية رقم (63) - تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا

﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ﴾: أي: الّتي يعطينا صور لها هي:
﴿الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾: أي: يرثونها، فهل كان في الجنّة أحد قبل هؤلاء، فَهُم يرثونه؟ الجواب: الحقّ تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره، ومَنْ سيكفر باختياره، علم مَنْ سيطيع ومَنْ سيعصي، فلم يُرغِم سبحانه وتعالى عباده على عبادته، إنّما علم ما سيكون منهم بطلاقة علمه سبحانه وتعالى، إلّا أنّه سبحانه وتعالى أعدَّ الجنّة لتسع الخَلْق جميعهم إنْ أطاعوا، وأعدَّ النّار لتسع الخَلْق جميعهم إنْ عَصَوْا، فلن يكون هناك زحام ولا أزمة إسكان، إنْ دخل النّاس جميعاً الجنّة، أو دخلوا جميعاً النّار.
فحينما يدخل أهلُ النّارِ النّارَ، أين تذهب أماكنهم الّتي أُعِدَّتْ لهم في الجنّة؟ تذهب إلى أهل الجنّة، فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلاء.

الآية رقم (64) - وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا

﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾: هنا ينتقل السّياق إلى موضوعٍ آخر، فبعد أنْ تحدَّث عن الجنّة وأهلها عرض لأمرٍ حدث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي، وقلنا: إنّ الوحي ينزل بواسطة سيّدنا جبريل عليه السّلام وهو مَلَكٌ على النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وهو بشر.

وهذه الآية نزلت لـمّا فتر الوحي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الكفّار: إنّ ربَّ محمّد قد قلاه، أو أنّها نزلت بعد أن سأل كفّار مكّة الأسئلة الثّلاثة الّتي تحدّثنا عنها في سورة الكهف، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «أخبركم غداً»، لكنّ الوحي لم يأته مدّة خمسة عشر يوماً، فشقَّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلت: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾؛ أي: الملائكة لا تنزل إلّا بأمر الله عزَّ وجلَّ، ولا تغيب إلّا بأمره.

﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾: أي: الّذي أمامنا.

﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾: أي: في الخلف.

﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾: أي: ما بين الأمام والخلف، فالله سبحانه وتعالى هو المالك، وهو الملك، يملك المكان، ويملك الزّمان.

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾: هل يرسل الحقّ سبحانه وتعالى رسولاً، ثمّ ينساه هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزَّه عن الغفلة وعن النّسيان.

الآية رقم (65) - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا

﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾: ما علاقة قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾  بقوله جل جلاله في هذه الآية: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؟ قالوا: لأنّ هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه، وما فيه من هندسة التّكوين وإبداع الخلق قائم بقيّوميّة الله سبحانه وتعالى عليه وليس على قانون يُديره، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾[فاطر: من الآية 41]، وقال هنا: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾، وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانيّة، وأنّه رَبٌّ واحد، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: من الآية 2]، وقال جلّ جلاله: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾[الشّعراء: من الآية 26]، وما دام هو سبحانه وتعالى ربّ كلّ شيء فقد رتّب العبادة على الرّبوبيّة.

﴿فَاعْبُدْهُ﴾: العبادة: طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى، وكيف لا نطيع الله عزَّ وجلَّ ونحن خَلْقه وصَنْعته، ونأكل من رزقه، ونتقلّب في نعمه؟ فالتّشريعات جُعلَتْ لمصلحتنا.

﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾: لأنّ العبادة فيها مشقّة، فلا بُدَّ لها من صبر؛ لأنّها تأمرنا بأشياء يشقُّ علينا أنْ نفعلها، وتنهانا عَنْ أشياء يشقُّ علينا أن نتركها؛ لأنّنا ألِفْناها.

والصّبر يكون منّا جميعاً، كُلٌّ مِنَّا يصبر على الآخر؛ لأنّنا أبناء أغيار، فإن صبرتَ على الأذى صَبرَ النّاس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: من الآية 3]، والحقّ سبحانه وتعالى يُعلِّمنا: إن أذنب أحدٌ في حَقِّنا، أو أساء إلينا فلنغفر له كما نحبّ أن يغفر لنا ذنبنا، ونعفوَ عن سيّئته، ولا يظنّنّ إنسان أنّ صبره على أذى الآخرين لهم تطوُّع من عنده؛ لأنّه لن يضيع عليه عند الله سبحانه وتعالى، مهما فعل، ومهما ظُلِم.

﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾: سبق أن تكلّمنا في معنى (السَّميّ) وقد اختلف العلماء في معناها، قالوا: السَّميُّ: الّذي يُساميك؛ أي: أنت تسمو وهو يسمو عليك، أو السَّميّ: النّظير والمثيل.

والحقّ سبحانه وتعالى ليس له سميٌّ يُساميه في صفات الكمال، وليس له نظير أو مثيل أو شبيه، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص].

وللسّميِّ معنى آخر أوضحناه في قصّة يحيى عليه السلام، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ [مريم: من الآية 7]؛ أي: لم يسبق أنْ تسمَّى أحد بهذا الاسم، وكذلك الحقّ سبحانه وتعالى لم يتسمَّ أحدٌ باسمه، لا قبل هذه الآية، ولا بعد أنْ أطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحدّياً بين الكفّار والملاحدة الّذين يتجرّؤون بالكفر على الله سبحانه وتعالى، فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أنْ يُسمّي ولداً من أولاده (الله)؟ الحقيقة أنّ هؤلاء وإنْ كانوا كفّاراً وملاحدة إلّا أنّهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويعترفون بوجوده، ويخافون من عاقبة هذه التّسمية، ولا يأمنون أنْ يصيبهم السّوء بسببها، فلم تحدث، ولم يجرؤ أحد عليها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قالها وأعلنها تحدّياً، وإذا قال الله سبحانه وتعالى، علم أنّهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة.

الآية رقم (66) - وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا

﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾: ما المراد بالإنسان؟ الإنسان تُطلق ويُراد بها عموم أيّ إنسان، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج]، ويُراد بها أحياناً خصوصيّة لبعض النّاس، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[النّساء: من الآية 54]، فالمراد بالنّاس هنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾: أي: الكافر الّذي لا يؤمن بالآخرة، ويستبعد الحياة بعد الموت:

﴿أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾: والاستفهام هنا للإنكار، لكنّ هذه المسألة الرّدُّ عليها سَهْلٌ مَيْسور، فيقول سبحانه وتعالى:

الآية رقم (67) - أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا

﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ﴾: أي: لو تذكّر هذه الحقيقة ما كذَّب بالبعث، وقد عولجت هذه المسألة أيضاً في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس]، فلو تذكَّر خَلْقه الأوّل ما ضرب لنا هذا المثل، ثمّ يأتي الجواب منطقيّاً: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس]، وهنا أيضاً يكون الدّليل: ﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾.

الآية رقم (68) - فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا

﴿فَوَرَبِّكَ﴾: قسم، يقسم سبحانه وتعالى بذاته العليّة، وهذا تكريم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو يقول: ربّك أنت يا محمّد.

﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ﴾: الحشر: أن يبعثهم الله سبحانه وتعالى من قبورهم، ثمّ يسوقهم مجتمعين إلى النّار هم والشّياطين الّذين كانوا يُغْرونهم بالمعصية ويُزيّنونها لهم.

﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾: يقال: جثا يجثو فهو جَاثٍ؛ أي: ينزل على ركبتيه، وهي دلالة على الذِّلَّة والانكسار والمهانة الّتي لا يَقْوى معها على القيام.

الآية رقم (69) - ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا

﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ﴾: النّزع: خَلْع الشّيء من أصله بشدّة، ولا يقال: نزع إلّا إذا كان المنزوع متماسكاً مع المنزوع منه، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾[آل عمران: من الآية 26]، كأنّهم كانوا مُتمسّكين بالملك حريصين عليه.
﴿مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾: أي: جماعة متشايعون على رأي باطل، ومقتنعون به، ويسايرون أصحابه.
﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾: العتيّ: هو الّذي بلغ القمّة في الجبروت والطّغيان، بحيث لا يقف أحد في وجهه، كما قلنا كذلك في صفة الكِبَر: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾[مريم: من الآية 8]؛ لأنّه إذا جاء الكبر لا حيلةَ فيه، ولا يقدر عليه أحد.

الآية رقم (70) - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا

﴿صِلِيًّا﴾: اصطلاء واحتراقاً في النّار، مِن صَلِيَ يصْلَى؛ أي: دخل النّار وذاق حرَّها، أمّا: اصطلى؛ أي: طلب هو النّار، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾[النّمل: من الآية 7].

والمعنى: أنّنا نعرف مَنْ هو أَوْلى بدخول النّار أوّلاً، وكأنّ لهم في ذلك أولويّات معروفة؛ لأنّهم سيتجادلون في الآخرة ويتناقشون ويتلاومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رَهيب يفضح ما اقترفوه.

الآية رقم (62) - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾: اللّغو: هو الكلام الفُضوليّ الّذي لا فائدة منه، فهو مضيعة للوقت وهدر لطاقة المتكلّم وطاقة المستمع، وبعد ذلك لا طائلَ من ورائه ولا معنى له.

والكلام هنا عن الآخرة: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾، فإن كانوا قد سمعوا لَغْواً كثيراً في الدّنيا فلا مجالَ للّغو في الآخرة، ثمّ يستثني من عدم السّماع:

﴿إِلَّا سَلَامًا﴾: والسّلام ليس من اللّغو، وهو تحيّة أهل الجنّة وتحيّة الملائكة: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [يونس: من الآية 10]، وقد يُرَادُ بالسّلام السّلامة من الآفات الّتي عاينوها في الدّنيا، وهم في الآخرة سالمون منها، فلا عاهة ولا مرضَ ولا كَدَّ ولا نصبَ، لكن نرجّح هنا المعنى الأوّل؛ أي: التّحيّة؛ لأنّ السّلام في الآية ممّا يُسْمَع.

فإنْ قُلْتَ: فكيف يُستثنى السّلام من اللَّغْو؟ نقول: إنّ من أساليب اللّغة: تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ، كأن نقول: لا عيبَ في فلان إلّا أنّه شجاع، فالمعنى هنا: إنْ عددتَ الشّجاعة عيباً، ففي هذا الشّخص عَيْب، وهكذا نؤكّد مدحه بما يُشبه الذّمّ.

﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾: لم يقُل الحقّ سبحانه وتعالى: (وعلينا رزقهم)، بل: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ﴾؛ أي: أنّه أمرٌ قد تقرّر وخُصِّص لهم، فهو أمرٌ مفروغ منه. والرّزق: كُلُّ ما يُنتفع به، وهو في الآخرة على قَدْر عمل صاحبه من خير في الدّنيا.

ومن وصف النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عن هذه الجنّة: عن سَهْل بْن سَعْدٍ السَّاعِدِيّ، قَال: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مَجْلِساً وَصَفَ فِيهِ الجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صلّى الله عليه وسلّم فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»([1])، ففي الجنّة أشياء لا تقع تحت إدراكنا ولا عِلْمَ لنا بها؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبِّر عن نعيمها، وعندما يريد الله سبحانه وتعالى أن يصِفَ لنا نعيم الجنّة بصفة ما نعرفه من نعيم الدّنيا: نخل وفاكهة ورمّان ولحم طير وريحان، يقول جل جلاله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾[محمّد: من الآية 15].

﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾: فكيف يأتيهم رزقهم بُكْرة وعشيّاً، وليس في الجنّة وقت لا بُكْرة ولا عَشِيّاً، لا لَيْل ولا نهار؟ نقول: إنّ الله تبارك وتعالى يخاطبنا على قَدْر عقولنا، وما نعرفه من مقاييسٍ في الدّنيا، وإلّا فنعيم الجنّة دائم لا يرتبط بوقت، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرّعد: من الآية 35]، وفي آيةٍ أخرى قال سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون].

(([1] صحيح مسلم: كتاب الجَنَّةِ وَصِفَةِ نَعِيمِهَا وَأَهْلِهَا، الحديث رقم (2825).

الآية رقم (55) - وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا

أي: من خصال إسماعيل العظيمة الّتي ذكرها الله سبحانه وتعالى له: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾؛ أي: زوجته، والحقّ تبارك وتعالى لا يهتمّ بخَصْلة ولا يذكرها إلّا إنْ كانت كبيرة عنده، تساوي كونه صادقَ الوعد وكونه رسولاً ونبيّاً، فمَنْ أراد أنْ يتّصفَ بصفة من صفات النّبوّة، فعليه أنْ يأمرَ أهله بالصّلاة والزكاة، لكن لماذا اختصّ أهله بالذّات؟ اختصّ أهله؛ لأنّهم البيئة المباشرة الّتي إنْ صَلُحتْ للرّجل صَلُحَ له بيته، وصَلُحَتْ له ذرّيّته، فالالتفات للأهل مهمّ جدّاً، وسدٌّ لأيّ منفذ من منافذ الشّيطان، لذلك يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ»([1])، فكلّ رجل وكلّ امرأة يستطيع أن يكون رسولاً لأهله ولبيئته في كلّ ليلة. والصّلاة والزكاة هي من أهمّ الأركان الإيمانيّة في الأديان كلّها، فالصّلاة هي عماد الدّين، والزكاة هي التّرجمان، وهي النّماء للمال والبركة.

﴿وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾: أي: رَضِيَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَنْه، ليس لخصال الخير الّتي وصفه بها، بل من بدايته كان رضى الله سبحانه وتعالى يحيط به فاختاره رسولاً ونبيّاً.

(([1] سنن أبي داود: أَبْوَابُ قِيَامِ اللَّيْلِ، بَابُ قِيَامِ اللَّيْلِ، الحديث رقم (1308).

الآية رقم (56) - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ﴾: ما زال القرآن الكريم يعطينا لقطاتٍ من موكب الرّسالات والنّبوّات، وإدريس عليه السلام أوّل نبيّ بعد آدم عليه السلام، فهو إدريس بن شيث بن آدم، وبعد إدريس جاء نوح ثمّ إبراهيم، ومنه جاءت سلسلة النّبوّات المختلفة.

﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾: تحدّثنا عن معنى الصِّدِّيق في الكلام عن سيّدنا إبراهيم عليه السلام، والصِّدِّيق هو الّذي يبالغ في تصديق ما جاءه من الله عزَّ وجلَّ، فيجعل الله سبحانه وتعالى له بذلك فُرْقاناً وإشراقاً يُميّز به الحقّ فلا يتصادم معه شيطان؛ فدائماً هو في وارد الحقّ، لذلك فالصِّدِّيق وإن لم يكُنْ نبيّاً فهو مُلْحَق بالأنبياء كأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾[النّساء].

﴿نَبِيًّا﴾: وكذلك كان إدريس عليه السلام نبيّاً، ولم يقُلْ: رسولاً نبيّاً؛ لأنّ بينه وبين آدم عليه السّلام جيلين، فكانت الرّسالة لآدم عليه السلام ما زالت قائمة.

الآية رقم (57) - وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا

مكاناً عالياً في السّماء، رِفْعة معنويّة، أو رِفْعة حِسّيّة، خُذْها كما شئتَ، لكن إيّاك أنْ تجادل: كيف رفعه؟ لأنّ الله سبحانه وتعالى الّذي خلقه هو الّذي رفعه.