الآية رقم (98) - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا

يُسرِّي الحقّ سبحانه وتعالى عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ما يلاقي من عنت في سبيل دعوته، كأنّه يقول له: إيّاك أنْ ينالَ منك بُغْض القوم لك وكُرههم لمنهج الله عزَّ وجلَّ، إيّاك أنْ تتضاءلَ أمام جبروتهم في عنادك، فهؤلاء ليسوا أعزَّ من سابقيهم من المكذّبين الّذين أهلكهم الله عزَّ وجلَّ، إنّما أستبقي هؤلاء؛ لأنّ لهم مهمّة معك.

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ﴾: كم: خبريّة تفيد الكثرة.

﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: من أمّة.

﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾: لأنّنا أخذناهم فلم نُبق منهم أثراً.

﴿أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾: الرّكْز: الصّوت الخفيّ، الّذي لا تكاد تسمعه.

وهذه سُنَّة الله عزَّ وجلَّ في المكذّبين من الأمم السّابقة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[الدّخان]، أين عاد وثمود وإرم ذات العماد الّتي لم يُخلَق مثلها في البلاد؟ وأين فرعون ذو الأوتاد؟ فكلّ جبّار مهما عَلَتْ حضارته ما استطاع أنْ يُبقي هذه الحضارة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لها أنْ تزول، وهل كفّار مكّة أشدّ من هؤلاء كلّهم؟ لذلك حين تسمع هذا السّؤال: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ لا يسَعْك إلَّا أنْ تُجيب: لا أحسُّ منهم من أحد، ولا أسمع لهم ركزاً.

الآية رقم (95) - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

﴿فَرْدًا﴾: أي: وحده، ليس معه أهل أو أولاد أو عِزْوة، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس]، فكلٌّ مشغول بحاله، ذاهل عن أقرب النّاس إليه، ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾[الحجّ: من الآية 2].

الآية رقم (96) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: الإيمان يرد دائماً مع العمل الصّالح، فهو ترجمة الإيمان، فالإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، وليس فقط ما وقر في القلب، بل لا بدّ من عملٍ صالحٍ يُصَدِّقه.

﴿وُدًّا﴾: مودّة ومحبّة تقوم على الإيمان، وتقود إلى شدّة التّعلّق، وقد جعل الحقّ تبارك وتعالى كَوْنه أسباباً لهذه المحبّة والمودّة، كأنْ ترى إنساناً يُحبّك ويتودّد إليك، فساعةَ تراه مُقبلاً عليك تقوم له وتبشُّ في وجهه، وتُفسِح له في المجلس، ثمّ تسأل عنه إنْ غاب، وتعوده إنْ مرض، وتشاركه الأفراح وتواسيه في الأحزان وتؤازره عند الشّدائد، فهذه المودّة ناشئة عن حُبٍّ ومودّة سابقة، هذه محبّة جعلها الله سبحانه وتعالى بين المؤمنين، فضلاً منه جل جلاله وتكرُّماً، لا بسبب من أسباب المودّة المعروفة، لذلك قال هرم بن حَيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: “إنّ الحقّ تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل عليه بقلبه وأسكنه فيه، وأبعد عن قلبه الأغيار، وسلَّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات العقائد وينبوع الصّالحات، وقدَّمه لربّه عزَّ وجلَّ، إلّا فتح له قلوب المؤمنين جميعاً”، كما جاء في الحديث القدسيّ: «وما أقبل عبدٌ على الله بقلبه، إلّا جعلَ الله قلوب المؤمنين تنقادُ إليهِ بالودِّ والرّحمةِ، وكان الله بكلّ خيرٍ إليه أسرعُ»([1])؛ أي: بالمودّة والرّحمة دون أسباب، وفي الحديث القدسيّ: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ فُلَاناً، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ أَهْلَ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَاناً، فيُحِبُّوهُ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ الْقَبُولَ فِي الْأَرْضِ»([2]).

(([1] جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزَّوائِد: كتاب الخوف والرّقائق والمواعظ، الحديث رقم (9667).

(([2] السّنن الكبرى للنّسائيّ: كِتَابُ الْمَلَائِكَةِ، الحديث رقم (11937).

الآية رقم (97) - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا

﴿فَإِنَّمَا﴾: الفاء هنا تفيد ترتيب شيء على شيء، فلنبحث في الجملة بعدها عن هذا التّرتيب، فالمعنى: بشِّر المتّقين، وأنذر القوم اللُّدّ؛ لأنّنا يسّرنا لك القرآن الكريم.

﴿يَسَّرْنَاهُ﴾: أي: طوّعناه لك حِفْظاً وأداءً وإلقاء معانٍ، فأنت تُوظِّفه في المهمّة الّتي نزل من أجلها.

وتيسير القرآن الكريم وَردَ في آيات كثيرة، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر]، والمتأمّل في تيسير القرآن الكريم يجد العجائب في أسلوبه، فترى الآية تأتي في سورة بنصّ، وتأتي في السّياق ذاته في سورةٍ أخرى بنصٍّ آخر، فالمسألة ليست ثابتة، وليست عمليّة ميكانيكيّة صمّاء، إنّه كلام ربّ.

خُذْ مثلاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾[المدّثّر]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الإنسان]، فمرّة يقول: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾  [الإنسان: من الآية 29]، ومرّة يقول جلَّ جلاله: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ [عبس].

ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة (الرّحمن)، حيث يقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرّحمن]، ثمّ يأتي الحديث عنهما: فيهما كذا، إلى أنْ يصلَ إلى قاصرات الطّرف، فيقول: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ [الرّحمن: من الآية 56]، وكذلك في: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾[الرّحمن]، فيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى الحور العين فيقول: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرّحمن]، ولك أنْ تتساءل: الحديث هنا عن الجنّتين، فلماذا عدل السّياق عن: ﴿فِيهِمَا﴾ إلى: ﴿فِيهِنَّ﴾ في هذه النّعمة بالذّات؟ قالوا: لأنّ نعيم الجنّة مشترك، يصحّ أنْ يشترك فيه جميع النّاس إلّا في هذه النّعمة، فلها خصوصيّتها، فالله سبحانه وتعالى يحترم مشاعر النّاس.

ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم ويسَّره لَمَا حفظه أحد، فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان ينزل عليه الآيات، وحِين يسري عنه يمليها على الصّحابة، ويظلّ يقرؤها كما هي، ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى قال له: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى] ما تيسّر له ذلك، فحفظ الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بعجائب، فالصّبيّ في سنِّ السّابعة يستطيع حفْظ القرآن الكريم وتجويده، فمسألة حفظ القرآن الكريم ليست مجرّد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على وُدٍّ وأُلْفة بكتاب الله سبحانه وتعالى ظلَّ معك، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك، كما جاء في الحديث الشّريف: «تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَـهُـوَ أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا»([1])، ذلك؛ لأنّ حروف القرآن الكريم ليست مجرّد حرف له رسم ومنطوق، إنّما حروف القرآن الكريم ملائكة تُصفّ، فتكون كلمة، وتكون آية، فإنْ وددتَّ الحرف، وودتَّ الكلمة والآية، ودَّتْك الملائكة، وتراصّتْ عند قراءتك، ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن الكريم أنّك إنْ أعملتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتُخطىء، فإنْ أعدتَ القراءة هكذا على السّليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك دون أن تُخطئ.

ونلحظ هنا أنّ القرآن الكريم لم يأْتِ باللّفظ الصّريح، إنّما جاء بضمير الغائب في: ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾؛ لأنّ الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلّا على القرآن الكريم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص]، فضمير الغائب هنا لا يعود إلّا على الله سبحانه وتعالى.

﴿بِلِسَانِكَ﴾: أي: بلغتك، فجعلناه قرآنا عربيّاً في أمّة عربيّة؛ ليفهموا عنك البلاغ عن الله سبحانه وتعالى في البشارة والنّذارة، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن الكريم عنهم: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾[فصّلت: من الآية 44].

﴿وَتُنْذِرَ بِهِ﴾: الإنذار: التّحذير من شَرٍّ سيقع في المستقبل.

﴿قَوْمًا لُدًّا﴾: اللَّدَد: عُنْف الخصومة، وشراسة العداوة.

(([1] صحيح البخاريّ: كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ، بَابُ اسْتِذْكَارِ القُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ، الحديث رقم (5033).

الآية رقم (89) - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا

﴿إِدًّا﴾: الإدّ: المتناهي في الفظاعة، وهو الأمر المستبشع، من: آدّه الأمر؛ أي: أثقله ولم يَقْو عليه، ومنه قوله سبحانه وتعالى في آية الكرسيّ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾[البقرة: من الآية 255]؛ أي: لا يثقل عليه، لكن لماذا جعل هذا الأمر إدّاً ومنكراً فظيعاً؟ قالوا: لأنّ اتّخاذ الولد له مقاصد، فالولد يُتّخذ ليكون عِزْوة وقوّة؛ أو ليكون امتداداً للأب بعد الموت، والله سبحانه وتعالى هو العزيز، الّذي لا يحتاج إلى أحد، وهو الباقي الدّائم الّذي لا يحتاج إلى امتداد.

الآية رقم (90) - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا

فلسنا نحن فحسْب مَن يُنكر هذا الأمر، بل الجماد غير المكلّف أيضاً ينكره، فالسّموات بقوّتها وعظمها تتفطّر؛ أي: تتشقّق، وتكاد تكون مِزَعاً لهوْلِ ما قيل، ولم تنفطر؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يمسكها: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر: من الآية 41].
فما العِلَّة في أنّ السّماء تقرب أن تنفطر، والأرض تقرب أن تنشقّ، والجبال تقرب أن تخِرَّ؟

الآية رقم (91) - أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا

هذه هي العلّة والحيثيّة الّتي من أجلها يكاد الكونُ كلُّه يتزلزل ويثور.

الآية رقم (92) - وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا

وعلينا هنا أنْ نُفرّق بين نَفْي الحدث ونفي انبغاء الحدث، فمثلاً في قول الحقّ سبحانه وتعالى في شأن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾[يس: من الآية 69]، فنفى عنه قَوْل الشّعر، ونفى عنه انبغاء ذلك له، فقد يظنّ ظانٌّ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع أن يقول شعراً، أو أنّ أدوات الشّعر من اللّغة ورِقَّة الإحساس غير متوفّرة لديه صلّى الله عليه وسلّم، لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادرٌ على قَوْل الشّعر إنْ أراد، فهو قادرٌ على الحدث، إلّا أنّه لا ينبغي له.
كذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾، فإنْ أراد سبحانه وتعالى أن يكون له ولد لَكانَ ذلك، كما جاء في قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزّخرف].

الآية رقم (93) - إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا

ذلك لأنّ الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان، وجعل له منطقة اختيار يفعل أو لا يفعل، يؤمن أو لا يؤمن، وكذلك جعل فيه منطقة قَهْر، لا يستطيع أنْ يتمرّد عليها، كالمرض والموت والفقر، فهو مُختار في شيء وعَبْد في أشياء، كما أنّ منطقة الاختيار هي له في الدّنيا، وليست له في الآخرة.

الآية رقم (94) - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا

﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ﴾: الإحصاء: هو العَدُّ، وكانوا قديماً يستخدمون الحصَى أو النّوى في العَدِّ، لكنّ النّوى فرع ملكيّة النّخل، فقد لا يتوفّر للجميع؛ لذلك كانوا يستخدمون الحصَى، ومنه كلمة الإحصاء.

الآية رقم (85) - يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا

أعطانا الحقّ تبارك وتعالى صوراً متعدّدة ومشاهد مختلفة ليوم القيامة، فأعطانا صورة للمعبود الباطل، وللعابدين للباطل، وما حدث بين الطّرفين من جدال ونقاش، وأعطانا صورة لمن تعاونوا على الشّرّ، ولـمَنْ تعاونوا على الخير، وهذه صورة أخرى تعرض للمتّقين في ناحية، والمجرمين في ناحية، فما هي صورة المتّقين؟

﴿نَحْشُرُ﴾: أي: نجمع.

﴿إِلَى الرَّحْمَنِ﴾: جاء اسم: ﴿الرَّحْمَنِ﴾؛ لأنّنا نتّكل على رحمة الله سبحانه وتعالى.

﴿وَفْدًا﴾: الوفد: الجماعة ترِدُ على الملِك لأخْذ عطاياه، جمعها وفود، والواحد وافد.

وهذه حال المتّقين حين يجمعهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وَفْداً لأخذ عطايا ربّهم تبارك وتعالى، ولا نظنّ أنّهم يُحشَرون ماشين مثلاً، لا، بل كلّ مؤمن تقيّ يركب ناقة لم يُرَ مثل حُسْنها، رَحْلها من ذهب، وأزمّتها من الزّبرجد.

الآية رقم (86) - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا

﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ﴾: السّائق يكون من الخلف ينهرهم ويزجرهم، ولم يقل مثلاً: نقودهم؛ لأنّ القائد يكون من الأمام، وربّما غافله أحدهم وشرد منه.
﴿إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾: الوِرْد: هو الذَّهَاب للماء لطلب الرّيِّ، أمّا النّار فمحلُّ اللّظى والشُّواظ واللّهب والحميم، فلماذا سُـمِّي إتيان النّار بحرِّها ورِدْاً؟ هذا تهكُّم بهم، كما جاء في آيات أخرى: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ [الكهف: من الآية 29]، وساعةَ نسمع: ﴿يُغَاثُوا﴾ ننتظر الخير ونأمل الرّحمة، لكنّ هؤلاء يُغاثون: ﴿بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ تهكُّم من الله عزَّ وجلَّ.

الآية رقم (87) - لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾: حين يباشر الكافر العذاب يطمع أوّل ما يطمع في أن يشفعَ له معبوده، ويُخرجه ممَّا هو فيه لكِنْ هيهات، ألم نقرأ قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف]، لذلك يقول سبحانه وتعالى عن هؤلاء يوم القيامة: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾؛ لأنّ الشّفاعة لا تكون إلّا لمن أخذ الإذن بها.
﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾: والعهد الّذي تأخذه على الله سبحانه وتعالى بالشّفاعة أنْ تُقدِّم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت، والخير لا يضيع عند الله عزَّ وجلَّ، فما زاد عن التّكليف فهو في رصيدك في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يهمل مثقال ذرّة، وعلى المؤمن مهما كان مُسْرفاً على نفسه ساعةَ يرى إنساناً مُقبلاً على الله سبحانه وتعالى مُستزيداً من الطّاعات أنْ يدعوَ له بالمزيد، وأن يفرح به؛ لأنّ فائض طاعاته لعلّه يعود عليك، ولعلّك تحتاج شفاعته في يومٍ من الأيّام، أمّا مَنْ يحلو لهم الاستهزاء والسّخرية من أهل الطّاعات، فلن يجدوا شافعاً لهم يوم القيامة.
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوّل مَنْ قدّم رصيداً إيمانيّاً وسع أمّته كلّها، أخبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[التّوبة: من الآية 61]، لذلك وجبت له الشّفاعة، وأُذِن له فيها، فالعهد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ أن تدخل مع ربّك عزَّ وجلَّ في مقام الإحسان، ولا يدخل هذا المقام إلّا مَنْ أدَّى ما عليه من تكليف وزيادة.

الآية رقم (88) - وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا

هذا الكلام منهم عبث وافتراء؛ فالله سبحانه وتعالى كما وصف نفسه جل جلاله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾ [الإخلاص]، فالشّمس هي الشّمس، والنّجوم هي النّجوم، والهواء هو الهواء، فالله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى إكمال، ولم يكن عنده صفة معطّلة اكتملت بمجيء من يُكمّلها له؛ لأنّ الصّفات الكماليّة لله سبحانه وتعالى موجودة قبل أنْ يخلق أيَّ شيء، فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن يَخْلق، ورازق قبل أنْ يَرزُق، ومُحْيٍ قبل أنْ يحيى، ومميت قبل أن يميت، فالبصّفات أوجد هذه الأشياء، فصفات الكمال فيه سبحانه وتعالى موجودة قبل متعلّقاتها.

الآية رقم (80) - وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا

﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾: أي: في حين ينتظر أنْ نزيدَه ونعطيه سنأخذ منه.
﴿وَنَرِثُهُ﴾؛ أي: نأخذ منه، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم]، وقوله جل جلاله: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: من الآية 58].
فكأنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَرِثُهُ﴾ تقابل قوله: ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾[مريم: من الآية 77]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ تقابل: ﴿وَوَلَدًا﴾ [مريم: من الآية 77]، فسيأتينا من القيامة فَرْداً، ليس معه من أولاده أحد يدفع عنه.

الآية رقم (81) - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا

﴿آلِهَةً﴾: جمع إله، وهو المعبود والرّبّ الّذي يوجد من عَدَم، ويمدّ من عُدْم، والّذي تولّى بالتّربية، فعطاء الألوهيّة تكليف وعبادة، وعطاء الرّبوبيّة نِعَم وهِبَات، فمَنْ أَوْلى بالعبادة ومَنْ أحقّ بالطّاعة؟ هؤلاء الّذين اتّخذوا من دون الله سبحانه وتعالى آلهة من شمس، أو قمر، أو حجر، أو شجر، بماذا تعبَّدتكم هذه الآلهة؟ بماذا أمرتكم؟ وعن أيّ شيءٍ نهتْكُم؟ وبماذا أنعمتْ عليكم؟ وأين كانت وأنتم أجنّة في بطون أمّهاتكم؟

وهكذا الحالُ فيمَنْ اتّخذوا من دون الله سبحانه وتعالى آلهة وارتاحوا إلى إله لا تكليفَ له ولا مشقّةَ في عبادته، إله يتركهم يعبدونه كما يحلو لهم، لا يقول لهم: افعل، ولا تفعل، ولا حلال ولا حرام، إنّهم أخذوا عطاء الرّبوبيّة فتمتّعوا بنعمة الله عزَّ وجلَّ، وتركوا عطاء الألوهيّة فلم يعبدوه سبحانه وتعالى.

﴿لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾: العزّ: هو الغَلَبة والامتناع من الآخر، بحيث لا ينال أحد منه شيئاً، يقولون: فلان عزيز؛ أي: لا يُغلب.

ولنا أن نسأل: ما العزّة في عبادة هذه الآلهة؟ وما الّذي سيعود عليكم من عبادتها؟ لذلك يردُّ عليهم الحقّ تبارك وتعالى:

الآية رقم (82) - كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا

﴿كَلَّا﴾: تنفي أن يكون لهؤلاء عِزٌّ في عبادة ما دون الله عزَّ وجلَّ، بل ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾.
هذه الآلهة نفسها ستكفر بعبادتهم، وتنكر أن تكون هي آلهة من دون الله عزَّ وجلَّ، وأكثر من ذلك:
﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾: أي: في حين اتّخذها الكفّار آلهة من دون الله تعالى وطلبوا العزّة في عبادتها تنقلب عليهم، وتكون ضِدّاً لهم وخَصْماً.
والضّدّ: هو العدوّ المخالف لك، الّذي يحاول أنْ ينكِّل بك.
وفي القرآن الكريم حوارات كثيرة بينش هذه المعبودات ومَنْ عبدوها، فمثلاً الّذين عبدوا الملائكة واتّخذوها آلهةً من دون الله عزَّ وجلَّ، يسأل الله سبحانه وتعالى الملائكة: ﴿أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾؟ [سبأ: من الآية 40]، فيُجيبون: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ]، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: من الآية 166]، فما ظنَّه الكفّار عِزّاً ومَنَعة صار عليهم ضِدّاً وعداوة، وهؤلاء الّذين يعبدون المال، ويروْن فيه القوّة، ويعتزُّون به لا يدرون أنّه سيكون وَبَالاً ونَكالاً عليهم يوم القيامة: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التّوبة].

الآية رقم (83) - أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾: هذه الآية تثير سؤالاً: إذا كان الحقّ تبارك وتعالى يكره ما تفعله الشّياطين بالإنسان المؤمن أو الكافر، فلماذا أرسلهم الله سبحانه وتعالى عليه؟ أرسل الله سبحانه وتعالى الشّياطين على الإنسان لمهمّة يؤدّونها، وهي الابتلاء والاختبار، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت]، فهم يُؤدُّون مهمّتهم الّتي خُلِقوا من أجلها، فيقفون بالمرصاد للمؤمن ليصرفوه عن الإيمان فيُمحّص الله سبحانه وتعالى المؤمنين بذلك، ويُظهر صلابة مَنْ يثبت أمام كيد الشّيطان.
وقلنا: إنّ للشّيطان تاريخاً مع الإنسان، حين أَبَى أن يطيع أمر الله عزَّ وجلَّ له بالسّجود لآدم عليه السلام، فطرده الله سبحانه وتعالى وأبعده من رحمته، فأراد الشّيطان أنْ ينتقمَ من ذرّيّة آدم عليه السلام بسبب ما ناله من آدم عليه السّلام، فقال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: من الآية 82]، وقال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف: من الآية 16].
وهكذا أعلن الشّيطان عن منهجه وطريقته، فهو يتربّص لأصحاب الاستقامة، أمّا أصحاب الطّريق المعوجّ فليسوا في حاجة إلى إضلاله وغوايته، لذلك نراه يتهدّد المؤمنين: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: من الآية 17]، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾[فصّلت: من الآية 36]، فما علينا ساعةَ أنْ نشعر أنّنا سنخرج عن خطِّ العبادة والاستقامة بين يدي الله عزَّ وجلَّ إلَّا أنْ نقول: أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم.
ولنا وقفة مع قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾ ومعلومٌ أنّ عمل الشّيطان عمل مستتر، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: من الآية 27]، فكيف يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم في هذه المسألة بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ وهي مسألة لا يراها الإنسان؟ نقول: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بمعنى ألم تعلم؟ فعدَل عن العلم إلى الرّؤية، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل]، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يَرَ هذه الحادثة، فإخبار الله سبحانه وتعالى لك أصحُّ من إخبار عينك لك؛ لأنّ رؤية العين قد تخدع، أمّا إعلام الله عزَّ وجلَّ فهو صادق لا يخدعك أبداً، فعلمك من إخبار الله سبحانه وتعالى لك أَوْلَى وأوثق من علمك بحواسِّك.
والشّياطين: جمع شيطان، وهو العاصي من الجنّ، والجنّ خَلْق مقابل للإنسان، قال الله عزَّ وجلَّ عنهم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجنّ]، فَالّذين دون الصّالحين، هم الشّياطين.
﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾: الأزُّ: هو الهزُّ الشّديد بعنف؛ أي: تُهيّجهم، ومثْلُه النّزغ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: من الآية 200]، والأَزّ أو النَّزْغ يكون بالوسوسة والتّسويل ليهيّجه على المعصية والشّرّ، كما يأتي هذا المعنى أيضاً بلفظ (الطّائف)، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف].

الآية رقم (84) - فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا

﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾: تمنّى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو أنّ الله جل جلاله أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدّعوة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾، فالله عزَّ وجلَّ يريد أنْ تطول أعمارهم، وتسوء فعالهم، وتكثر ذنوبهم، فالكتبة يعدُّون عليهم ويُحْصُون ذنوبهم.
﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾: إنّها مسألة س﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾: تمنّى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو أنّ الله جل جلاله أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدّعوة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾، فالله عزَّ وجلَّ يريد أنْ تطول أعمارهم، وتسوء فعالهم، وتكثر ذنوبهم، فالكتبة يعدُّون عليهم ويُحْصُون ذنوبهم.
﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾: إنّها مسألة ستنتهي؛ لأنّ كلّ ما يُعَدّ ينتهي، إنّما الشّيء الّذي لا يُحصَى ولا يُعَدُّ لا ينتهي، كما في قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: من الآية 34].
فقوله سبحانه وتعالى: ﴿نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾؛ أي: نُحصي سيّئاتهم ونَعدُّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم، وكلّما طالت الأعمار كثرتْ الذّنوب.
تنتهي؛ لأنّ كلّ ما يُعَدّ ينتهي، إنّما الشّيء الّذي لا يُحصَى ولا يُعَدُّ لا ينتهي، كما في قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: من الآية 34].
فقوله سبحانه وتعالى: ﴿نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾؛ أي: نُحصي سيّئاتهم ونَعدُّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم، وكلّما طالت الأعمار كثرتْ الذّنوب.

الآية رقم (74) - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا

﴿وَكَمْ﴾: خبريّة تدلّ على الكثرة الّتي لا تُحصَى، وأنّ المقول بعدها وقع كثيراً، كأن يقول لك صاحبك: ما فعلتَ معي أيّ معروف، فتُعدِّد له صنائع المعروف الّتي أسديتها إليه، فتقول: كم فعلتُ معك كذا، وكم فعلتُ كذا.

﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: القرن: هم الجماعة المتعايشون في زمنٍ واحد، بحيث تتداخل بينهم الأجيال، فترى الجدَّ والأب والابن والحفيد معاً، وقد قدَّروا القرن بمئة عام، كما يُطلَق القرن على الجماعة الّذين يجتمعون على مُلك واحد، أو رسالة واحدة مهما طال زمنهم كقوم نوح مثلاً.

﴿أَثَاثًا﴾: الأثاث: هو فراش البيت، وهذا أمر يتناسب وإمكانات صاحبه.

﴿وَرِئْيًا﴾: الرِّئْي: على وزن فِعْل، ويراد به المفعول؛ أي: المرئي، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾[الصّافّات]، فذبْح بمعنى: مذبوح، وورد في قراءة أخرى: (أحْسَنُ أثَاثاً وريّاً) وهي غير بعيدة عن المعنى الأوّل؛ لأنّ الرّيّ أيضاً من المرئيّ، وقد جاء الاختلاف في بعض ألفاظ القرآن الكريم من قراءة لأخرى؛ لأنّ القرآن الكريم دُوِّن أوّل ما دُوِّن غير منقوط ولا مشكول اعتماداً على مَلَكَة العربيّ وفصاحته الّتي تُمكِّنه من توجيه الحرف حَسْب المعنى المناسب للسّياق، وظلّ كذلك إلى أن وضع له العلماء النّقاط فوق الحروف ووضعوا التّشكيل، والعربيّ لمعرفته بمواقع الألفاظ يستطيع تحديد الحرف المراد، فكلمة (رئْيَا) تقرأ: (ريّا) والمعنى غير بعيد.

ومن ذلك كلمة: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ [النّساء: من الآية 94]، قرأها بعضهم: (فتثبّتوا)، وكلمة: ﴿صِبْغَةَ﴾ [البقرة: من الآية 138]، قرأها بعضهم: (صنعة).