﴿قُلْ﴾: أي يا محمّد، وهذا كلامٌ جديدٌ.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾: يعني: خُذُوني أُسْوة، فأنا لست ملَكاً، إنّما أنا بشرٌ مثلكم، وحملتُ نفسي على المنهج الّذي أطالبكم به، فأنا لا آمركم بشيءٍ وأنا عنه بنجْوَى، بل على العكس، فقد كان صلى الله عليه وسلم أقلَّ النّاس حَظّاً من مُتَعِ الحياة وزينتها، فكان في المؤمنين به الأغنياء الّذين يتمتّعون بأطايب الطّعام ويرتدُونَ أغْلى الثّياب، في حين كان صلى الله عليه وسلم يمرّ عليه الشّهر والشّهران من غير أنْ يُوقَد في بيته نارٌ لطعامٍ، وكان يرتدي المرقّع من الثّياب، كما أنّ أولاده لا يرثونه كما يرث باقي النّاس، ولا تحلّ لهم الزكاة كغيرهم، فحُرِموا من حَقٍّ تمتّع به الآخرون، لذلك كان صلى الله عليه وسلم أعظم الأسوات، وأدناها في متع الحياة وزخرفها، وهذا يلفتنا إلى أنّ الرّسالة لم تُجْرِ لسيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام نفعاً دنيويّاً، ولم تُميِّزه عن غيره في زَهْرة الدّنيا الفانية، إنّما مَيَّزتْه في القيم والفضائل.
﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾: والآية هنا لا تميّزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلّا في أنّه يوحى إِليه، فما زاد محمّدٌ صلى الله عليه وسلم عن البشر إلّا بذلك.
﴿أَنَّمَا﴾: أداة قَصْرٍ.
﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: أي لا إله غيره، وهذه قِمَّة المسائل، فلا تلتفتوا إلى إلهٍ غيره، والله سبحانه وتعالى الواحد يقتضي أن يكون العابد في حالةٍ من الامتثال لأمر المعبود.
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾: النّاس يعملون الخير لغاياتٍ رسمها الله سبحانه وتعالى لهم في الجزاء، ومن هذه الغايات الجنّة ونعيمها، لكن هذه الآية تُوضّح لنا غايةً أَسْمى من الجنّة ونعيمها، هي لقاء الله عز وجل والنّظر إلى وجهه الكريم، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ تصرف النّظر عن النّعمة إلى المنعم تبارك وتعالى. فمن أراد لقاء ربّه جل جلاله لا مُجرَّد جزائه في الآخرة:
﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾: فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ العمل الصّالح دليلٌ على أنّك احترمتَ أمر الله عز وجل بالعمل، ووثقتَ من حكمته ومن حُبِّه لك، فارتاحتْ نفسك في ظلِّ طاعته، فإذا بك إذا أويْتَ إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك، فلا تجد إلّا خيراً تسعَدُ به نفسك، وينشرح له صدرك، ولا تتوجَّس شرّاً من أحدٍ، ولا تخاف عاقبة أمرٍ لا تُحمَدُ عقباه.
﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾: وسبق أن قُلْنا: إنّ الجنّة أحدٌ، فلا تشرك بعبادة الله سبحانه وتعالى شيئاً، ولو كان هذا الشّيء هو الجنّة، فعليك أنْ تسموَ بغاياتك، لا إلى الجنّة بل إلى لقاء ربّها وخالقها والمنعِم بها عليك.
ونضرب لذلك مثلاً بالرّجل الّذي أعدَّ وليمةً عظيمةً فيها أطايب الطّعام والشّراب، ودعا إليها أحبابه، فلمّا دخلوا شغلهم الطّعام إلّا واحداً لم يهتمّ بالطّعام والشّراب، وسأل عن صاحب الوليمة ليُسلِّم عليه ويأنس به.
وما أصدق ما قالته السّيّدة رابعة العدويّة:
كُلُّهُمْ يَعْبــدُونَك مِنْ خَــــوْفِ نَـــارٍ
أَوْ بـأَنْ يســكُنُوا الجِنَــانَ فيحظَـــوْا لَيْـــسَ لي في الجِنَـــانِ والنّـــــار حَـــــظٌّ . |
|
ويَــــــــــرَوْن النَّجَـــــاةَ حَظّـــــــــاً جَـــــــزِيــــلاً
بقُصــــــورٍ ويشْـــــــــــــــــرَبُوا سَـــــــــلْسَــــــبِيلَا أَنَـــــا لا أَبْتَغــــــــي بحُـبِّـــــــــي بَـــــدِيــــــــــــــلاً
. |
فتعمل العمل لوجه الله سبحانه وتعالى خالصاً، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنّته، لكن المطلوب أن يطمع المؤمن بالجنّة وأن يخاف من النّار، صحيحٌ أنّ الخوف من الله سبحانه وتعالى مطلوبٌ لردع الإنسان من ارتكاب المحرّمات، وكذلك الطّمع بجنّته؛ لأنّها أعدّت من قبل الله عز وجل للمؤمنين، لكن أرقى الأمور بأنّك تعبد الله سبحانه وتعالى كي ترى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، فكانت هذه الخاتمة الرّائعة في سورة الكهف.
لاحظنا في هذه السّورة لاءاتٍ نسمّيها: (لاءات الكهف لتصحيح المسار)، وهي تسع لاءات.
اللّاءات التّسع في سورة الكهف:
١-اللّاء الأولى: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ في حواراتك مع النّاس لا تدّعي امتلاك الحقيقة، ولا تجادل جدالاً عقيماً زُرع في تربة الجهل وسقي بماء الظّنون.
٢- اللّاء الثّانية: ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ فيما يُشكل عليك من أمور، لا تطلب الفتيا من شخصٍ غابت عنه حقيقة ذاك الشّيء.
٣- اللّاء الثّالثة: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وأنت ترسم لحظاتك القادمة.. لا تعِدْ نفسك أو غيرك بعمل شيءٍ في المستقبل من غير أن تعلّق الأمر على مشيئة الله عز وجل.
٤- اللّاء الرّابعة: ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وأنت تسير في قافلة الصّالحين، لا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم طمعاً في دنيا تصيبها.
٥- اللّاء الخامسة: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ تعرّف العنوان الّذي كتبت نفسك تحته، وتخفّف من كلّ شيءٍ لا يقرّبك إلى الله عز وجل؛ لأنّه يشغلك عن السّعي إليه.. وحينئذ لا تُطِعْ من كان غافلاً عن ذكر الله سبحانه وتعالى وآثَرَ هواه على طاعة مولاه، وصار أمره في جميع أعماله ضياعاً وهلاكاً.
٦- اللّاء السّادسة: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ في ممارستك لفضولك المعرفيّ، لا تستعجل السّؤال عن شيءٍ قبل أن تستكمل التّفاصيل كلّها.
٧- اللّاء السّابعة: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾ وأنت تطوّر اتّجاهاتك نحو النّاس تذكّر أنّهم بشرٌ.. فلا تحاسبهم على سهوهم ونسيانهم أو ما استُكرهوا عليه.
٨- اللّاء الثّامنة: ﴿وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ هناك طاقةٌ استيعابيّةٌ لكلّ فردٍ.. فلا نطلب من أحدٍ ما لا يستطيع، ولا نحمّله ما لا يُطيق.
٩- اللّاء التّاسعة: ﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ في بناء علاقات قيّمة.. لا تصاحب من استنفذت معه مقوّمات الدّيمومة.
هذه لاءاتٌ تسع كانت من الأمور الجماليّة الّتي وردت في سورة الكهف.
وفي هذه السّورة بيّن الله سبحانه وتعالى قصّة أصحاب الكهف وقصّة ذي القرنين وقصّة الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام والحِكَم الّتي وراء الأحداث. فكانت سورة الكهف نوراً في كهف الحياة المظلم يُضاء للمؤمن، فلنحافظ على قراءتها وحفظها.