الآية رقم (106) - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا

﴿ذَلِكَ﴾: أي ما كان من إحباط أعمالهم، وعدم إقامتنا لهم وزناً ليس تجنِّياً مِنَّا عليهم أو ظلماً لهم، بل جزاءً لهم على كفرهم.

﴿جَزَاؤُهُمْ﴾: أي بسبب كفرهم.

﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾: فقد استهزؤوا بآيات الله سبحانه وتعالى، وكلّما سمعوا آيةً قالوا: أساطيرُ الأوّلين: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [القلم].

وكذلك لم يَسْلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريّتهم واستهزائهم، وكذلك المؤمنون.

ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن المقابل لهؤلاء، فيقول

الآية رقم (107) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: سبق أن قلنا: إنّ الإيمان هو تصحيح الينبوع الوجدانيّ العقديّ لتصدر الأفعال مناسبةً لإيمانك بمَنْ شرّع، والإيمان بالله تعالى هو قمّة أركان الإيمان.

﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: أردف الحقّ سبحانه وتعالى الإيمانَ بالعمل الصّالح؛ لأنّ العمل الصّالح لا بُدَّ له أن ينطلق من الإيمان ويصدر عنه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.

والمراد: عمل الشّيء الصّالح، الّذي يصلح نفسه ويصلح غيره، بأن يكون خيره يعود على غيره، فعندما يأمر الشّرع بإكرام اليتيم وإطعام الفقير… فهو يتعدّى بالخير إلى الآخرين، هكذا هو العمل الصّالح الّذي يعود بالفائدة على النّاس جميعاً، وليس فقط أن تعمل العمل الّذي يصلح لك وحدك، وإنّما يصلح لك ولغيرك في المجتمع.

فالإيمان مقترنٌ بالعمل الصّالح دائماً، وإلّا ما فائدة الإيمان من غير عملٍ صالحٍ؟ فأنت تؤمن بالله سبحانه وتعالى، وهو يأمرك بالإحسان، تؤمن بالله سبحانه وتعالى وهو يأمرك بطاعة الوالدين، والإحسان إلى الجار، والإنفاق، وعدم الغيبة.. فمن يقول: أنا مؤمنٌ، لا بدّ أن يكون مقابلها عملٌ صالحٌ، فالإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل.

﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾: الفردوس: هو أعلى الجنّة، والنُّزُل: ما يُعدّه الإنسان لإكرام ضيفه من الإقامة ومَقوّمات الحياة وتَرَفها، والإنسان حينما يُعِدُّ النُّزلَ لضيفه يُعدّه على حَسْب قدراته وإمكانيّاته وعلمه بالأشياء، فما بالك إنْ كان المعِدّ لِلنُّزُل هو الله تبارك وتعالى؟!

الآية رقم (108) - خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا

﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾: وخلود النّعيم في الآخرة يُميّزه عن نعيم الدّنيا مهما سَمَا؛ لأنّ أيّ نعيمٍ في الدّنيا هو مقطوعٌ وزائلٌ، بينما نعيم الآخرة نعيمٌ دائمٌ، وأنت مُخلّد فيه.

﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾: أي: لا يطلبون تحوُّلهم عنها إلى غيرها؛ لأنّه لا يُتصوَّر في النّعيم أعلى من ذلك، فهذا أعظم ما يتمنّاه الإنسان على الإطلاق.

الآية رقم (109) - قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا

لأنّ قدرته سبحانه وتعالى لا حدود لها، وما دامت قدرته لا حدود لها فالمقدورات أيضاً لا حدود لها؛ لذلك لو كان البحر مداداً؛ أي حِبْراً يكتب به كلمات الله سبحانه وتعالى الّتي هي (كُنْ) الّتي تبرز المقدورات ما كان كافياً لكلمات الله عز وجل.

﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾: أي بمثل البحر.

نقول مثلاً عن السّلعة الجيّدة: لا يستطيع المصنع أنْ يُخرِج أحسن من هذه، أمّا صنعة الله سبحانه وتعالى فلا تقف عند حدٍّ؛ لأنّ المصنع يعالج الأشياء، أمّا الحقّ تبارك وتعالى فيصنعها بكلمة: ﴿كُنْ﴾.

وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول لنا: لقد استنفدتم وسائلكم في الدّنيا، وبلغتم أقصى ما يمكن من مُتَعِها وزينتها، فتعالوا إلى ما أعددتُه لكم، اتركوا ما كنتم فيه من أسباب الله عز وجل، وتعالوا عِيشُوا بالله سبحانه وتعالى، كنتم في عالم الأسباب فتعالَوْا إلى المسبِّب.

وإنْ كان الحقّ سبحانه وتعالى قد تكلّم في هذه الآية عن المداد الّذي تُكتب به كلمات الله عز وجل، فقد تكلَّم جلّ وعلا عن الأقلام الّتي يكتب بها في آيةٍ أخرى أكثر تفصيلاً لهذه المسألة، فقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[لقمان: من الآية 27].

ونقف هنا عند دِقَّة البيان القرآنيّ، فلو تصوَّرنا ما في الأرض من شجر أقلام، مع ما يتميّز به الشّجر من تجدُّدٍ مستمرٍّ، وتكرُّرٍ دائمٍ يجعل من الأشجار ثروة لا حَصْر لها ولا تنتهي، وتصوَّرنا ماء البحر مداداً يُكتب به إلّا أنّ ماء البحر منذ خلقه الله سبحانه وتعالى محدودٌ ثابتٌ لَا يزيد ولا ينقص، لذلك لـمّا كان الشّجر يتجدَّد ويتكرَّر، والبحر ماؤه ثابتٌ لا يزيد، قال تبارك وتعالى: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾، ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشّجر، والمراد سبعة أمثاله، واختار هذا العدد بالذّات؛ لأنّه مُنتَهى العدد عند العرب.

وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطّبيعة، ومنها نعلم أنّ كمّيّة الماء في الأرض ثابتةٌ لا تزيد؛ لأنّ ما يتمّ استهلاكه من الماء يتبخّر ويعود من جديد، فالإنسان مثلاً لو شَرِب طيلة عمره مئة طن من الماء، فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلات في عمليّة الإخراج تجدها الكمّيّة ذاتها الّتي شربها، وقد تبخّرتْ وأخذَتْ دورتها من جديد؛ لذلك يقولون: رُبَّ شربةِ ماء شربها من آدم الملايين.

الآية رقم (110) - قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا

﴿قُلْ﴾: أي يا محمّد، وهذا كلامٌ جديدٌ.

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾: يعني: خُذُوني أُسْوة، فأنا لست ملَكاً، إنّما أنا بشرٌ مثلكم، وحملتُ نفسي على المنهج الّذي أطالبكم به، فأنا لا آمركم بشيءٍ وأنا عنه بنجْوَى، بل على العكس، فقد كان صلى الله عليه وسلم أقلَّ النّاس حَظّاً من مُتَعِ الحياة وزينتها، فكان في المؤمنين به الأغنياء الّذين يتمتّعون بأطايب الطّعام ويرتدُونَ أغْلى الثّياب، في حين كان صلى الله عليه وسلم يمرّ عليه الشّهر والشّهران من غير أنْ يُوقَد في بيته نارٌ لطعامٍ، وكان يرتدي المرقّع من الثّياب، كما أنّ أولاده لا يرثونه كما يرث باقي النّاس، ولا تحلّ لهم الزكاة كغيرهم، فحُرِموا من حَقٍّ تمتّع به الآخرون، لذلك كان صلى الله عليه وسلم أعظم الأسوات، وأدناها في متع الحياة وزخرفها، وهذا يلفتنا إلى أنّ الرّسالة لم تُجْرِ لسيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام نفعاً دنيويّاً، ولم تُميِّزه عن غيره في زَهْرة الدّنيا الفانية، إنّما مَيَّزتْه في القيم والفضائل.

﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾: والآية هنا لا تميّزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلّا في أنّه يوحى إِليه، فما زاد محمّدٌ صلى الله عليه وسلم عن البشر إلّا بذلك.

﴿أَنَّمَا﴾: أداة قَصْرٍ.

﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: أي لا إله غيره، وهذه قِمَّة المسائل، فلا تلتفتوا إلى إلهٍ غيره، والله سبحانه وتعالى الواحد يقتضي أن يكون العابد في حالةٍ من الامتثال لأمر المعبود.

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾: النّاس يعملون الخير لغاياتٍ رسمها الله سبحانه وتعالى لهم في الجزاء، ومن هذه الغايات الجنّة ونعيمها، لكن هذه الآية تُوضّح لنا غايةً أَسْمى من الجنّة ونعيمها، هي لقاء الله عز وجل والنّظر إلى وجهه الكريم، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ تصرف النّظر عن النّعمة إلى المنعم تبارك وتعالى. فمن أراد لقاء ربّه جل جلاله لا مُجرَّد جزائه في الآخرة:

﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾: فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ العمل الصّالح دليلٌ على أنّك احترمتَ أمر الله عز وجل بالعمل، ووثقتَ من حكمته ومن حُبِّه لك، فارتاحتْ نفسك في ظلِّ طاعته، فإذا بك إذا أويْتَ إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك، فلا تجد إلّا خيراً تسعَدُ به نفسك، وينشرح له صدرك، ولا تتوجَّس شرّاً من أحدٍ، ولا تخاف عاقبة أمرٍ لا تُحمَدُ عقباه.

﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾: وسبق أن قُلْنا: إنّ الجنّة أحدٌ، فلا تشرك بعبادة الله سبحانه وتعالى شيئاً، ولو كان هذا الشّيء هو الجنّة، فعليك أنْ تسموَ بغاياتك، لا إلى الجنّة بل إلى لقاء ربّها وخالقها والمنعِم بها عليك.

ونضرب لذلك مثلاً بالرّجل الّذي أعدَّ وليمةً عظيمةً فيها أطايب الطّعام والشّراب، ودعا إليها أحبابه، فلمّا دخلوا شغلهم الطّعام إلّا واحداً لم يهتمّ بالطّعام والشّراب، وسأل عن صاحب الوليمة ليُسلِّم عليه ويأنس به.

وما أصدق ما قالته السّيّدة رابعة العدويّة:

كُلُّهُمْ يَعْبــدُونَك مِنْ خَــــوْفِ نَـــارٍ
أَوْ بـأَنْ يســكُنُوا الجِنَــانَ فيحظَـــوْا لَيْـــسَ لي في الجِنَـــانِ والنّـــــار حَـــــظٌّ                     .
ويَــــــــــرَوْن النَّجَـــــاةَ حَظّـــــــــاً جَـــــــزِيــــلاً
بقُصــــــورٍ ويشْـــــــــــــــــرَبُوا سَـــــــــلْسَــــــبِيلَا أَنَـــــا لا أَبْتَغــــــــي بحُـبِّـــــــــي بَـــــدِيــــــــــــــلاً
.

فتعمل العمل لوجه الله سبحانه وتعالى خالصاً، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنّته، لكن المطلوب أن يطمع المؤمن بالجنّة وأن يخاف من النّار، صحيحٌ أنّ الخوف من الله سبحانه وتعالى مطلوبٌ لردع الإنسان من ارتكاب المحرّمات، وكذلك الطّمع بجنّته؛ لأنّها أعدّت من قبل الله عز وجل للمؤمنين، لكن أرقى الأمور بأنّك تعبد الله سبحانه وتعالى كي ترى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، فكانت هذه الخاتمة الرّائعة في سورة الكهف.

لاحظنا في هذه السّورة لاءاتٍ نسمّيها: (لاءات الكهف لتصحيح المسار)، وهي تسع لاءات.

اللّاءات التّسع في سورة الكهف:

١-اللّاء الأولى: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ في حواراتك مع النّاس لا تدّعي امتلاك الحقيقة، ولا تجادل جدالاً عقيماً زُرع في تربة الجهل وسقي بماء الظّنون.

٢- اللّاء الثّانية: ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ فيما يُشكل عليك من أمور، لا تطلب الفتيا من شخصٍ غابت عنه حقيقة ذاك الشّيء.

٣- اللّاء الثّالثة: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وأنت ترسم لحظاتك القادمة.. لا تعِدْ نفسك أو غيرك بعمل شيءٍ في المستقبل من غير أن تعلّق الأمر على مشيئة الله عز وجل.

٤- اللّاء الرّابعة: ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وأنت تسير في قافلة الصّالحين، لا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم طمعاً في دنيا تصيبها.

٥- اللّاء الخامسة: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ تعرّف العنوان الّذي كتبت نفسك تحته، وتخفّف من كلّ شيءٍ لا يقرّبك إلى الله عز وجل؛ لأنّه يشغلك عن السّعي إليه.. وحينئذ لا تُطِعْ من كان غافلاً عن ذكر الله سبحانه وتعالى وآثَرَ هواه على طاعة مولاه، وصار أمره في جميع أعماله ضياعاً وهلاكاً.

٦- اللّاء السّادسة: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ في ممارستك لفضولك المعرفيّ، لا تستعجل السّؤال عن شيءٍ قبل أن تستكمل التّفاصيل كلّها.

٧- اللّاء السّابعة: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾ وأنت تطوّر اتّجاهاتك نحو النّاس تذكّر أنّهم بشرٌ.. فلا تحاسبهم على سهوهم ونسيانهم أو ما استُكرهوا عليه.

٨- اللّاء الثّامنة: ﴿وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ هناك طاقةٌ استيعابيّةٌ لكلّ فردٍ.. فلا نطلب من أحدٍ ما لا يستطيع، ولا نحمّله ما لا يُطيق.

٩- اللّاء التّاسعة: ﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ في بناء علاقات قيّمة.. لا تصاحب من استنفذت معه مقوّمات الدّيمومة.

هذه لاءاتٌ تسع كانت من الأمور الجماليّة الّتي وردت في سورة الكهف.

وفي هذه السّورة بيّن الله سبحانه وتعالى قصّة أصحاب الكهف وقصّة ذي القرنين وقصّة الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام والحِكَم الّتي وراء الأحداث. فكانت سورة الكهف نوراً في كهف الحياة المظلم يُضاء للمؤمن، فلنحافظ على قراءتها وحفظها.

 

الآية رقم (100) - وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا

﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ﴾: أي تُعرَض عليهم ليروها ويشاهدوها، وهذا العَرْض أيضاً للمؤمنين، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا  [مريم]، وبعضهم يظنّ أنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَارِدُهَا﴾ يعني: داخلها، لا، بل واردها بمعنى: يراها ويمرُّ بها، فقد ترِد الماء بمعنى: تصل إليه من غير أنْ تشربَ منه؛ ذلك لأنّ الصّراط الّذي سيمرّ عليه الجميع مضروبٌ على ظهر جهنّم ليراه المؤمن والكافر.

أمّا المؤمن فرؤيته للنّار قبل أنْ يدخل الجنّة تُرِيه مدى نعمة الله عز وجل عليه ورحمته به، حيث نجّاه من هذا العذاب، ويعلم فضل الإيمان عليه، وكيف أنّه أخذ بيده حتّى مَرَّ من هذا المكان سالماً، لذلك يُذكّرنا الحقّ سبحانه وتعالى بهذه المسألة فيقول: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: من الآية 185].

وأمّا الكافر فسيعرض على النّار ويراها أوّلاً، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والنّدامة والفزع؛ لأنّه يعلم أنّه داخلها، ولن يُفلِتْ منها.

وبرحمة الله سبحانه وتعالى بالمؤمنين وفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنّار عند هذا الحدّ، وتُكتب له النّجاة؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التّكاثر]، أمّا الكافر -والعياذ بالله- فلَهُ مع النّار مرحلة ثالثة هي حَقُّ اليقين، يوم يدخلها ويباشر حَرَّها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة].

فعِلْم اليقين هو الصّورة العلميّة للنّار الّتي أخبرنا بها الحقّ سبحانه وتعالى، وأنّ من صفات النّار كذا وكذا وحذَّرنا منها، ونحن في بحبوحة الدّنيا وسِعَتها، وعَيْن اليقين: في الآخرة عندما نمرُّ على الصّراط، ونرى النّار رؤيا العين، ثمّ حَقُّ اليقين: وهذه للكفّار حين يُلْقَوْن فيها ويباشرونها فعلاً.

الآية رقم (101) - الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا

﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾: أي على أبصارهم غشاوةٌ تمنعهم إدراك الرّؤية، ليس هذا وفقط، بل:

﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾: والمراد هنا السّمع الّذي يستفيد منه السّامع، سَمْع العبرة والعِظَة، وإلّا فآذانهم موجودةٌ وصالحةٌ للسّمع، ويسمعون بها، لكنّه سمَاعٌ لا فائدةَ منه؛ لأنّهم ينفرون من سماع الحقّ والموعظة.

فهنا يبيّن الله سبحانه وتعالى بعض أحداث يوم القيامة.

الآية رقم (102) - أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا

﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾: يخاطب المولى سبحانه وتعالى هؤلاء الّذين كانت أعينهم في غطاءٍ من ذكر الله عز وجل، ولا يستطيعون سماع الموعظة، ولا يقبلون الحقّ: أعَمُوا عن الحقّ فظنُّوا أنْ يتّخذوا عبادي من دوني أولياء؟ والكلام هنا عن الّذين اتّخذوا من دون الله سبحانه وتعالى أولياء يحسبون أنّهم يضرّون وينفعون، لذلك هذه الآية تبيّن أنّ الإنسان يجب أن يعلم علم اليقين أنّ الله جل جلاله هو النّافع والضّارّ والمعطي والمانع والمعزّ والمذلّ والمحيي والمميت…

﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾: النُّزُل: ما يُعَدُّ لإكرام الضّيف كالفنادق مثلاً، وهذا من التّهكّم بهم والسُّخرية منهم.

الآية رقم (103) - قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا

﴿ قُلْ ﴾: أي يا محمّد.

﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ﴾: الأخسر: اسم تفضيلٍ من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة.

﴿أَعْمَالًا﴾: أي خسارتهم بسبب أعمالهم. وهؤلاء الأخسرين هم:

الآية رقم (104) - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا

﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾: وقد ضلَّ سَعْي هؤلاء؛ لأنّهم فعلوا الشّرّ، ويظنّون أنّه خيرٌ، فهم ضالّون من حيث يظنّون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال كثيرٍ من النّاس الّذين يعملون كثيراً من الأمور الحسنة يبتغون بذلك السّمعة والشّهرة وإذلال البشر، ذاك يعطي ليمنّ على الفقير، أو ليُقال عنه: جوادٌ كريمٌ، هؤلاء ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا؛ لأنّهم لم يقدّموا الخير خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى.

﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾: أي بطُل وذهب وكأنّه لا شيءَ، مثل السّراب كما صَوَّرهم الحقّ سبحانه وتعالى في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النّور: من الآية 39]، وهؤلاء لا يبخسهم الله سبحانه وتعالى حقوقهم، ولا يمنعهم الأَجْر؛ لأنّهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدّنيا؛ لأنّهم لـمّا عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدّنيا، ولا نصيبَ لهم في جزاء الآخرة.

وقد أوضح الحقّ سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾  [الشّورى].

ومع ذلك نرى في حديث سيّدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَيْتُ بَعِيراً، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْراً، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ: جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي، وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثاً بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ، أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً»، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْماً؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ»، قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللهَ عز وجل عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»([1])، فانظر إلى دِقَّة الميزان ودقّة العدالة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء].

وقد جاءت كلمة الضّلال في القرآن الكريم في عِدّة استعمالات يُحدِّدها السّياق الّذي وردتْ فيه. وهنا الضّلال بمعنى الغفلة عن قول الحقّ.

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكيّين، حديث عبد الله بن أُنَيس، الحديث رقم (16042).

الآية رقم (105) - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: لقد كفروا بآيات الكون الدّالّة على قدرة الله سبحانه وتعالى، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها، وكفروا بآيات القرآن الكريم الّتي فيها الأحكام، وكذلك كفروا بآيات المعجزات الّتي أنزلها الله سبحانه وتعالى لتأييد الرّسل عليهم السلام فلم يصدّقوها.

فكلمة: ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾  هنا عامّة في هذه الأنواع كلّها.

﴿ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ : أي بَطُلت وذهب نفعُها.

﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾: وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية وقالوا: كيف نُوفِّق بينها وبين الآيات الّتي تثبت الميزان، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء]، وقوله جل جلاله: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ﴾[القارعة]؟

ونقول: إنّ العلماء في التّوفيق بين هذه الآيات قالوا: المراد بقوله تعالى: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ جاءتْ على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار، فالمراد لا وزنَ لهم عندنا؛ أي لا اعتبارَ لهم ولا قيمة، وهذه نستعملها الآن في المعنى نفسه، نقول: فلان لا وزنَ له عندي؛ أي لا قيمة له.

وبالبحث في هذه الآية وتدبّرها نجد أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾، ولم يَقُل: عليهم، فالميزان موجودٌ، ولكنّه ليس في مصلحتهم.

الآية رقم (95) - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا

﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾: والقوْل هنا أيضاً قَوْل دلالة وإشارة تُفهمهم أنّه في غِنىً عن الأجر، فعنده كثيرٌ من الخير الّذي أعطاه الله سبحانه وتعالى إيّاه، إنّما هو في حاجةٍ إلى قوّةٍ بشريّةٍ عاملةٍ تُعِينه في تنفيذ هذا العمل.

ونفهم من الآية الكريمة أنّ المعونة من الـمُمكَّن في الأرض المالك للشّيء يجب أن تكون حِسْبةً لله عز وجل، وأنْ تُعين معونةً تبتغي بها الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ولا تحوج الّذي تعينه إلى أن تُعينه كلّ وقت، بل أعنه إعانةً تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه بدل أنْ تعطيه مثلاً مالاً ينفقه في يومه وساعته ثمّ يعود محتاجاً؛ لذلك يقولون: لا تُعطِني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطاد، وهكذا تكون الإعانة مستمرّةً دائمةً.

ولـمّا كان ذو القرنين ممكّناً في الأرض، وفي يده كثيرٌ من الخيرات والأموال، فهو ليس بحاجةٍ إلى مالٍ بل إلى الطّاقة البشريّة العاملة، فقال:

﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾: أي قوّة وطاقة بشريّة قويّة.

﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾: ولم يقُلْ: سدّاً؛ لأنّ السّدّ الأصمَّ يعيبه أنّه إذا حصلت رَجَّة مثلاً في ناحيةٍ منه ترجّ النّاحية الأخرى؛ لذلك أقام لهم ردماً؛ أي بنى حائطاً من الأمام وآخر من الخلف، ثمّ جعل بينهما ردماً من التّراب ليكون السّدّ مَرِناً لا يتأثّر إذا ما طرأت عليه هزّةٌ أرضيّةٌ مثلاً، فيكون به التّراب مثل «السُّوست» الّتي تمتصّ الصّدمات.

والرّدم أن تضع طبقات التّراب فوق بعضها، حتّى تردم حُفْرةً وتُسوّيها بالأرض.

الآية رقم (96) - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا

﴿آتُونِي﴾: لم يكن ذو القرنين رجلاً رحّالةً، يسير بمفرده، بل مكَّنه الله تعالى من أسباب كلّ شيءٍ، ومعنى ذلك أنّه لم يكن وحده، بل معه جيشٌ وقوّةٌ وعددٌ وآلات، معه رجالٌ وعمّال، معه القوت ولوازم الرّحلة، وكان بمقدوره أنْ يأمرَ رجاله بعمل هذا السّدِّ، لكنّه أمر القوم وأشركهم معه في العمل لِيُدرِّبهم ويُعلِّمهم ما داموا قادرين، ولديهم الطّاقة البشريّة اللّازمة لهذا العمل.

﴿زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾: أي قطع الحديد الكبيرة، ومفردها زُبْرة.

﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾: الصّدف: الجانب، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ [الأنعام: من الآية 157]؛ أي مال عنها.

فمعنى: ساوى بين الصّدفين؛ أي ساوى الحائطين الأماميّ والخلفيّ بالجبلين.

﴿قَالَ انْفُخُوا﴾: أي في الحديد الّذي أشعل فيه.

﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾: القِطْر: هو النّحاس المذاب.

حتّى إذا التهب الحديد نادى بالنّحاس المذَاب، وهكذا انسبكَ الحديد الملتهب مع النّحاس المذَاب، فأصبح لدينا حائطٌ صَلْبٌ عالٍ أملس.

هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنّه استخدم الحديد، وسَدَّ ما بينه من فجوات بالنّحاس المذاب ليكون أكثر صلابةً، فلا يتمكّن الأعداء من خَرْقه، وليكون أملسَ فلا يستطيعون أن يتسلّقوا عليه، لذلك قال سبحانه وتعالى بعدها:     

الآية رقم (97) - فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا

﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾: أي ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن يعلوا السّدّ أو يتسلّقوه وينفذوا من أعلاه؛ لأنّه ناعمٌ أملس، ليس به ما يمكن الإمساك به.

﴿ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾: لأنّه صَلْب.

لنلحظ هنا ملحظاً مهمّاً: الفرق بين: اسطاعوا، واستطاعوا، فعند تسلّق السّدّ والعلوّ عليه استخدم كلمة:﴿اسْطَاعُوا﴾ ، بينما نقب السّدّ أشدّ وأصعب فقال: ﴿اسْتَطَاعُوا﴾، فالأصعب احتاج إلى حرفٍ إضافيٍّ.

ثمّ يقول سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين:

الآية رقم (87) - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا

﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾: يعطينا إشارةً إلى المهلة الّتي سيعطيها لهؤلاء، مهلة تمكّنه أنْ يعِظهم ويُذكِّرهم ويُفهِّمهم مطلوبات دين الله عز وجل. والظّلم أنواع، أفظعها وأعلاها الشّرك بالله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: من الآية 13].

﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ﴾: فلن نُعذِّبه على قدْر ما فعل، بل نُعذّبه عقوبةً دنيويّةً فقط؛ لأنّ العقوبات الدّنيويّة شُرعَتْ لحفظ توازن المجتمع، ورَدْع مَنْ لا يرتدع بالموعظة، وإلّا فما فائدة الموعظة؟! وبعد عذاب الدّنيا، هناك عذابٌ أشدّ في الآخرة.

﴿عَذَابًا نُكْرًا﴾: الشّيء النّكر: هو الّذي لا نعرفه، ولا عَهْد لنا به أو أُلْفة.

الآية رقم (98) - قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾: لم يَفُتْ ذو القرنين وهو الرّجل الصّالح أنْ يسند النّعمة إلى الـمُنعم جل جلاله، وأنْ يعترف بأنّه مجرّد واسطةٍ وأداةٍ لتنفيذ أمر الله عز وجل، فهو قد أخذ المقوِّمات الّتي منحه الله سبحانه وتعالى إيّاها، واستعملها في خدمة عباده.

الفكر مخلوقٌ لله عز وجل، والطّاقة والقوّة مخلوقةٌ لله سبحانه وتعالى، المواد والعناصر في الطّبيعة مخلوقةٌ لله جل جلاله، فما لي أن أقول: أنا عملتُ كذا وكذا؟

﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾: فإيّاكم أن تظنّوا أنّ صلابة هذا السَّدّ ومتانته باقيةٌ خالدةٌ، إنّما هذا عملٌ للدّنيا فحسب، فإذا أتى وَعْد الله سبحانه وتعالى بالآخرة جعله الله عز وجل دكّاً وسوّاه بالأرض، ذلك لكيلا يغترّوا به ولا يتمرّدوا على غيرهم بعد أنْ كانوا مُستذلّين مُستضعفين ليأجوج ومأجوج.

﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾: واقعاً لا شكّ فيه.

وكثرت الأقوال في موقع هذا السّدّ، والتّحقيق الأخير في مسألة ذي القرنين وبناء السّدّ أنّه واقعٌ بمكانٍ يُسمَّى الآن (بلخ)، والجبلان من جبال القوقاز، وهما موجودان فعلاً، وبينهما فَجْوةٌ مبنيُّ فيها، ويقولون: إنّ صاحب هذا البناء هو قورش، وهذا المكان الآن بين بحر قزوين والبحر الأسود.

لكنّنا لا نجزم بهذه الأقوال، لكن من المؤكّد أنّ ذا القرنين قد بنى السّدّ؛ لأنّ القرآن الكريم تحدّث عنه، ومن علامات يوم القيامة انهدام السّدّ وخروج يأجوج ومأجوج.

الآية رقم (88) - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا

﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾: إيمانٌ وعملٌ، وهنا نلحظ أنّ ذي القرنين لم يقل: يُرَدّ إلى ربّه فيدخله جنّات النّعيم، وإنّما أطلق ذلك، يعطيه الجزاء الحسن ويقول له الكلام الطّيّب الّذي يُشجِّعه وييسر له الأمر.

وهذه الآية تضع لنا أساس عمليّة الجزاء الّتي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته، فمجتمعٌ بلا جزاءات تثيب المجدّ وتعاقب المقصِّر مجتمعٌ ينتهي إلى الفوضى والتّسيُّب، فإنْ أَمِن النّاسُ العقابَ تكاسلوا، وأحد أسباب الفساد هو هذا الأمر، فميزان المجتمع وأساس نهضته قوله سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾.

﴿فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾: الحسنى: أفعل التّفضيل المؤنّث لحسن، فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب أَوْلَى، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: من الآية 26].

ولا يوجد إيمان من غير عملٍ، فهناك وظائف للإيمان: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التّوبة: من الآية 105]، فلا بدّ من عملٍ، حتّى إماطة الأذى عن الطّريق هي شعبةٌ من شعب الإيمان كما بيّن النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان من غير عمل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾  [العصر].

﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾: خطابنا معه خطاب الحكمة والدّين والتّشجيع والجوائز والتّكريم.

الآية رقم (99) - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا

﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾: فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض، كموج الماء لا تستطيع أن تفرّق بعضهم من بعض، كما أنّك لا تستطيع فصل ذرّات الماء في الأمواج، يختلط فيهم الحابل بالنّابل.

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾: وهذه هي النّفخة الثّانية؛ لأنّ الأولى نفخة الصَّعْق، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزّمر]، فالنّفخة الأولى نفخة الصَّعْق، والثّانية نفخة البَعْث، والصَّعْق قد يكون مميتاً، وقد يكون مُغْمِياً لفترةٍ ثمّ يفيق صاحبه، فالصَّعْق المميت كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الذّاريات]، أمّا الصَّعْقة الّتي تُسبِّب الإغماء فهي مِثْل الّتي حدثت لموسى عليه السلام حينما قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف].

الآية رقم (89) - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا

﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ﴾: أي أخذ بسببٍ آخر؛ أي تابع وذهب إلى مكانٍ آخر.

الآية رقم (90) - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا

﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾: هي دائماً طالعة؛ لأنّها لا تطلع من مكانٍ واحدٍ، بل كلّ واحدٍ له مطلع، وكلّ واحدٍ له مغْرب.

﴿وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾: وهذا اكتشافٌ اكتشف بعد فترةٍ طويلةٍ من الزّمن علميّاً، فالنّاس لم يكونوا يعرفون بأنّ هناك أماكن لا تغرب عنها الشّمس أكثر من ثلاثة أشهر.

السِّتْر: هو الحاجز بين شيئين، وهؤلاء القوم على ما يبدو كانوا بدائيّين، مرّ عليهم ذو القرنين، ولم يذكر لنا القرآن الكريم عن هؤلاء القوم شيئاً وماذا فعل ذو القرنين معهم، وإنْ قِسْنا الأمر على القوم السّابقين الّذين قابلهم عند مغرب الشّمس نقول: ربّما حضَّرهم ووفَّر لهم أسباب الرُّقي.

وبعض المفسّرين يروْنَ أنّ ذا القرنين ذهب إلى موضعٍ يومُه ثلاثة أشهر، أو نهاره ستّة أشهر، فصادف وصوله وجود الشّمس فلم يَرَ لها غروباً في هذا المكان طيلة وجوده به، ولم يَرَ لها سِتْراً يسترها عنهم، ويبدو أنّه ذهب إلى أقصى الشّمال.

فبيّن القرآن الكريم بشكلٍ غير مباشرٍ أنّ هناك منطقةً في الأرض تبقى الشّمس فيها طالعةً، وهذا من الإعجاز ، فكشف الغيب المستور الّذي لم يكن يعرفه النّاس.