الآية رقم (91) - كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا

ﲚﲛ: يعني كما ذهب إلى المغرب ذهب إلى المشرق.

الآية رقم (92) - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا

ذهب إلى مكانٍ آخر.

الآية رقم (93) - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا

﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾: السّدّ: هو الحاجز بين شيئين، والحاجز قد يكون أمراً معنويّاً، وقد يكون طبيعيّاً محسوساً كالجبال، فالمراد بالسّدّين هنا جبلان بينهما فجوة، وما دام قد قال: ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ فالبَيْن هنا يقتضي وجود فجوةٍ بين السّدّين يأتي منها العدوّ.

﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا﴾: أي تحتهما.

﴿قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾: أي لا يعرفون الكلام، ولا يفقهون القول؛ لأنّ الّذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلّم، وهؤلاء لا يقولون كلاماً، ولا يفهمون ما يُقَال لهم.

ومعنى: ﴿لَا يَكَادُونَ﴾ أنّه لا ينفي عنهم الفَهْم، بل مجرّد القُرْب من الفهم، وكأنّه لا أملَ في أن يفهمهم.

لكن، كيف نفى عنهم الكلام، ثمّ قال بعدها مباشرةً: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾  فأثبت لهم القول؟

يبدو أنّه خاطبهم بلغة الإشارة، واحتال على أن يجعلَ من حركاتهم كلاماً يفهمه وينفذ لهم ما يريدون، ولا شكَّ أنّ هذه العمليّة احتاجت منه جهداً وصبراً حتّى يُفهمهم ويفهم منهم، وإلّا فقد كان في وُسْعه أنْ ينصرف عنهم بحجّة أنّهم لا يتكلّمون ولا يتفاهمون، فهو مثالٌ للرّجل المؤمن الحريص على عمل الخير، الّذي لا يألو جَهْداً في نَفْع القوم وهدايتهم.

الآية رقم (94) - قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا

﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾: المراد بالقول هنا: أنّهم تحدّثوا بطريقةٍ ما، أو بالإشارة.

﴿إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾: يأجوج ومأجوج قومٌ خَلْف السّدّين أو الجبلين، ينفذون إليهم من هذه الفجوة، فيؤذونهم ويعتدون عليهم؛ لذلك عرضوا عليه أن يجعلوا له خَرْجاً:

﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾: خرجاً؛ أي أجراً وخراجاً يدفعونه إليه على أنْ يسدَّ لهم هذه الفجوة بين السّدّين، فلا ينفذ إليهم أعداؤهم.

الآية رقم (85) - فَأَتْبَعَ سَبَبًا

أي: لا يذهب لغايةٍ إلّا بالوسيلة الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى له، فلقد مكَّن الحقّ عز وجل لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كلّ شيءٍ سبباً، ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أُعطي، فلم يتقاعس، ولم يكسل، بل أخذ من عطاء الله سبحانه وتعالى له بشيءٍ من كلّ سبب.

وفي هذه الآية القصيرة درسٌ بليغٌ للنّاس جميعاً، وخصوصاً للنّاس المؤمنين الّذين يتوكّلون على الله عز وجل، ويعلمون أنّ التّوكّل على الله سبحانه وتعالى هو ثقةٌ به جل جلاله، لكن لا يمكن أن تتوكّل على الله سبحانه وتعالى من غير أن تأخذ بأسباب الله عز وجل، وألّا تخالف أوامره سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالعلم، وقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: من الآية 114]، وأمرنا بالعمل، فقال: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التّوبة: من الآية 105]، وأمرنا بالاجتهاد، وفعل الخيرات، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحجّ: من الآية 77]، ولو أعطانا سبحانه وتعالى من النّعم فتحصيل النّعم لا يكون إلّا بأخذ أسباب الله عز وجل في خلقه، فالّذي يدخل إلى المسجد فيصلّي ويدعو الله سبحانه وتعالى ويقول: يا ربّ ارزقني، من غير عملٍ، فهو يعلم تماماً أنّ السّماء لا تمطر ذهباً ولا فضّة، ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى تزيد في رزق المؤمن إذا هو أخذ بأسباب التّمكين والعلم والمعرفة والثّقافة والحضارة والبناء والتّقدّم، هذا هو السّبيل، الأخذ بالأسباب والقوانين، لا يجب أن يسبقنا العالم بالأخذ بقوانين الفيزياء والكيمياء، فأجدادنا كانوا هم من علّموا النّاس العلوم والحضارة، أجدادنا في الأندلس بنوا حضارةً للأمم، وما زالت دراساتهم في الكيمياء والطّبّ والفيزياء تدرَّس، والنّظريات الّتي بناها الغرب بُنيت على دراساتهم وعلى علومهم، لم يقعدوا ويقولوا: إنّ الله سبحانه وتعالى قد ميّزنا بديننا، فلا تمييز إلّا بما تُقدّم من عملٍ وعلمٍ وخدمةٍ للإنسانيّة، عندها ينطبق علينا قوله سبحانه وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: من الآية 110].

الآية رقم (75) - قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا

فيأتي الرّدّ من الخضر مخالفاً للرّدّ الأوّل، ففي المرّة الأولى قال: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ عندما خرق السّفينة؛ أي قلت كلاماً عامّاً، أمّا هنا عند قتل النّفس فقال: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ، وأكَّدها وأراده بالكلام؛ أي قُلْت لك أنت.

ثمّ بعد المرّة الثّانية الّتي يقاطع فيها موسى عليه السلام معلّمه الخضر يأخذ عهداً جديداً على نفسه.

الآية رقم (86) - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا

﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ﴾: إنّ بلوغه مغرب الشمس دليلٌ على أنّه لم يكُنْ بهذا المكان، بل كان قادماً إليه من المشرق.

وهنا سؤالٌ: هل الشّمس تغرب؟

هي تغرب في عين الرّائي، فلو لاحظتَ الشّمس ساعة الغروب لوجدتها تغربُ في مكان، وفي مكانٍ آخر ليست غاربة، فغروبها بمعنى غيابها عن مرأىَ عين الإنسان، فالشّمس لا تغيب أبداً، فهي حين تغرب على قومٍ تشرق على آخرين؛ لذلك تتعدّد المشارق والمغارب، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ [المعارج: من الآية 40]، وهذه أعطتنا دوام ذكر الله سبحانه وتعالى ودورانه على الألسنة في الأوقات كلّها، فحين نصلّي الظّهر مثلاً يصلّي غيرنا العصر، ويصلّي غيرهم المغرب.. وهكذا، فالحقّ سبحانه وتعالى مذكورٌ في كلّ وقتٍ؛ لذلك يقول أهل المعرفة: يا زمن وفيك كلّ الزّمن.

﴿وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾: أي في عينٍ فيها ماء، وقلنا: إن الحمأ المسنون هو الطّين الذي اسودّ لكثرة وجوده في الماء.

﴿ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ﴾: أي عند هذه العين.

﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾: فهذا تفويضٌ له من الله عز وجل، ولا يُفوَّض إلّا المأمون على التّصرُّف، ولا بُدّ أنّهم كانوا وثنيّين لا يؤمنون بالله عز وجل، فإمّا أنْ تعذبهم، وإمّا أن تتّخذَ فيهم حُسْناً.

لكن ما وجه الحُسْن الّذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يتّخذه؟ يعني أنّهم قد يكونون من أهل الغفلة الّذين لم تصلهم الدّعوة، فبيّن لهم وجه الصّواب ودلّهم على دين الله سبحانه وتعالى، فَمنْ آمن منهم فأحسن إليه، ومَنْ أرادوا أن يطمّ الفساد ويعمّ فعذّبه، فعليك أن تأخذهم أوّلاً بالعِظَة الحسنة والبيان الواضح، ثمّ تحكم بعد ذلك على تصرّفاتهم.

الآية رقم (76) - قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا

﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾: وهكذا قطع موسى عليه السلام الطّريق على نفسه، وأعطاها فرصةً واحدةً يتمّ بعدها الفراق؛ لذلك في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا»([1]).

فهذه هي الثّالثة، وليس لموسى عليه السلام عذرٌ بعد ذلك.

﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾: أي قد فعلت معي كلّ ما يمكن فعله، وليس لي عُذْرٌ بعد ذلك.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب العلم، باب ما يستحبّ لِلعَالِم إذا سئل: أيّ النّاس أعلم؟ فيكل العلم إلى اللّه، الحديث رقم (122).

الآية رقم (77) - فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا

﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾: استطعم: أي طلب الطّعام، وطَلَبُ الطّعام هو أصدق أنواع السّؤال، فلا يسأل الطّعام إلّا جائعٌ محتاجٌ، فلو سأل مالاً لقلنا: إنّه يدّخره، إنّما الطّعام لا يعترض عليه أحدٌ، ومنْعُ الطّعام عن سائله دليل بُخْلٍ ولُؤْمٍ متأصِّل في الطّباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية الّتي مَرّا بها وطلبَا الطّعام فمنعوهما.

والمتأمّل في الآية يجد أنّ أسلوب القرآن الكريم يُصوّر مدى بُخْل هؤلاء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم، فلم يقُلْ مثلاً: فأبَوا أن يطعموهما، بل قال: ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾، وفرْق بين الإطعام والضّيافة، أَبَوْا الإطعام يعني منعوهما الطّعام، لكن أَبَوْا أن يُضيّفوهما، يعني كلّ ما يمكن أنْ يُقدَّم للضّيف حتّى مجرّد الإيواء والاستقبال، وهذا مُنْتَهى اللُّؤم.

ونلحظ أيضاً تكرار كلمة: ﴿أَهْلَ﴾، فلمّا قال: ﴿ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾، فكان المقام للضّمير فيقول: استطعموهم، لكنّه قال: ﴿اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾؛ لأنّهم حين دخلوا القرية: هل قابلوا أهلها كلّهم أو قابلوا بعض الّذين واجهوهم أثناء الدّخول؟ بالتّأكيد قابلوا بعضهم، أمّا الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنّهما مرّا على كلّ بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنّهم مجمعون على البُخْل.

﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾: أي لم يلبثا بين هؤلاء اللّئام حتّى وَجَدا جداراً يريد أنْ ينقضّ، ونحن نعرف أنّ الإرادة لا تكون إلّا للمفكّر العاقل، فكيف يريد الجدار؟! إنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى: قَرُب؛ أي جداراً قارب أنْ ينهار، لما فيه من علامات كالتّصدُّع والشُّروخ مثلاً. ومن يدقّق في هذه المسائل والأمور يرى أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ [الدّخان: من الآية 29]، فإذا كانت السّماء تبكي فقد تعدَّتْ مجرّد الكلام، وأصبح لها أحاسيس، ولديها عواطف، فقوله: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ دليلٌ على أنّها تبكي على فَقْد الصّالحين. وقد سُئِل الإمام عليّ كرّم الله وجهه عن هذه المسألة فقال: «نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضعٌ في السّماء وموضعٌ في الأرض، أمّا موضعه في الأرض فموضع مُصلَّاه، أمّا موضعه في السّماء فهو مصعد عمله»، وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكَوْن من حوله، فالكون كلّه مُسبِّحٌ لله سبحانه وتعالى.

ثم يقول الحقّ سبحانه وتعالى عن فِعْل الخضر مع الجدار الّذي قارب أن ينقض ﴿فَأَقَامَهُ﴾؛ أي أصلحه ورمَّمه.

﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾: هذا قول موسى عليه السلام لـمّا رأى لُؤْمَ القوم وخِسّتهم، فقد طلبنا منهم الطّعام فلم يُطْعمونا، بل لم يقدّموا لنا مجرّد المأوى، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل من غير أجرة؟

وجاء هذا القول من موسى عليه السلام؛ لأنّه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل.

الآية رقم (78) - قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا

﴿قَالَ﴾: أي العبد الصّالح.

﴿هَذَا﴾: أي ما حدث منك من قولك: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾، وقد سبق أن اشترط موسى عليه السلام على نفسه إن اعترض على معلّمه هذه المرّة يكون الفِراقُ بينهما، وكأنّ العبد الصّالح لم يَأْتِ بشيءٍ من عنده، فقد قال موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾ وها هو يسأله، فليس إلّا الفراق: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾.

﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾: أي لن أتركك وفي نفسك هذه التّساؤلات، حتّى لا يكون في نفسك منّي شيءٌ، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال الّتي اعترضْتَ عليها لتعلم أنّ الله سبحانه وتعالى علّمني هذا العلم اللّدنّي، ثمّ أخذ العبد الصّالح يكشف لموسى عليه السلام الحكمة من هذه الأفعال واحداً تِلْو الآخر.

الآية رقم (79) - أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا

﴿ لِمَسَاكِينَ ﴾: اللّام هنا للملكيّة، يعني مملوكة لهم.

وقد حسمتْ هذه الآيةُ الخلافَ بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيّهما أشدّ حاجةً من الآخر، وعليها، فالمسكين: هو مَنْ يملك شيئاً لا يكفيه، كهؤلاء الّذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسمّاهم القرآن الكريم مساكين، أمّا الفقير: فهو مَنْ لا يملك شيئاً.

﴿ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾: أي مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركّاب أو البضائع، أو الصّيد.

﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾: المتكلّم هنا هو الخضر عليه السلام، فنسب إرادة عَيْب السّفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله سبحانه وتعالى تنزيهاً له تعالى عَمَّا لا يليق.

﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾: كلمة: ﴿كُلَّ﴾ ترسم سُوراً كُليّاً لا يترك شيئاً، فالمراد أنّ ملكاً يأخْذ كلّ سفينةٍ ويغصبها من أصحابها عندما يراها.

والغَصْب: ما أُخذ بغير الحقّ، عُنْوةً وقَهْراً ومُصَادرةً، وله صورٌ متعدّدةٌ:

منها مثلاً السّرقة: وهي أَخْذ المال من حِرْزه خفيةً.

ومنها الغَصْب: وهو أخْذ مال غيرك بالقوّة، وتحت سمعه وبصره.

ومنها الخطف: وهو أخْذ مال الآخرين علانية، ولكن بحيلةٍ ما، يخطف الشّيء ويفرّ به من غير أن تتمكّن من اللّحاق به.

ومنها الاختلاس: وهو أن تأخذ مال غيرك وأنت مؤتمنٌ عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلةٍ تستره.

فخَرْق السّفينة في ظاهره اعتداءٌ على هذا الملك، وهذا منهيّ عنه شرعاً، لكن إذا كان هذا الاعتداء من الخضر سيكون سبباً في نجاة السّفينة من الغاصب فلا بأس به، وسفينة معيبة خيرٌ من عدمها، فحوَّل السّفينة إلى سفينةٍ غير صالحةٍ ليصرف نظر الملك عنها.

﴿وَرَاءَهُمْ﴾: هنا بمعنى أمامهم؛ لأنّ هذا الظّالم كان يترصَّد للسّفن الّتي تمرّ عليه، فما وجد منها صالحةً غصبها، وما كانت غير ذلك تركها، فكلمة وراء جاءت في القرآن الكريم على أربعة معانٍ:

1- بمعنى: أمام، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ﴾ [إبراهيم]، وهل جهنّم وراءه أو أمامه؟

2- بمعنى: بَعْد، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾[هود: من الآية 71].

3- بمعنى: غير، كما في قوله سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾[المؤمنون].

وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النّساء: من الآية 23]، إلى قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النّساء: من الآية 24].

4- بمعنى: خلف، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: من الآية 187].

فكلمة ﴿وَرَاءَ﴾ جاءتْ في القرآن الكريم على أربعة معَانٍ: أمام، خلف، بعد، غير، وهذا مما يُميِّز اللّغة العربيّة عن غيرها من اللّغات، والملَكة العربيّة قادرةٌ على أن تُميّز المعنى المناسب للسّياق، فكلمة العَيْن مثلاً تأتي بمعنى العين الباصرة، أو: عين الماء، أو: بمعنى الذّهب والفضّة، وبمعنى الجاسوس. والسّياق هو الّذي يُحدّد المعنى المراد.

الآية رقم (80) - وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا

الغلام: الولد الّذي لم يبلغ الحُلُم وسِنّ التّكليف، وما دام لم يُكلَّف فما يزال في سِنِّ البراءة من المعاصي؛ لذلك لـمّا اعترض موسى عليه السلام على قتله قال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾؛ أي طاهرة، والفتنة بالأولاد والمال، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التّغابن: من الآية 14]، والفتنة بالأولاد تأتي من حِرْص الآباء عليهم، والسّعي إلى جعلهم في أحسن حال، وربّما كانت الإمكانيّات غير كافية، فيُضطرّ الأب إلى الحرام فيسرق ويرتشي من أجل تأمين مستقبل أولاده. وقد عَلِم الحقّ سبحانه وتعالى أنّ هذا الغلام سيكون فتنةً لأبويه، وهما مؤمنان ولم يُرِد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان.

وكأنّ قضاء الله عز وجل جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدَث الظّاهر الّذي اعترض عليه موسى عليه السلام.

لذلك يُعَدُّ من الغباء إذا مات لدينا الطّفل أو الغلام الصّغير أَنْ يشتدّ الحزن عليه، أو إذا رأينا فقيراً أو أعمى فلنعلم أنّ هناك حكمةً وفي باطنها خيرٌ، ولكن لا أن تفعل ذلك أنت فتقتل وتؤذي وتقول: في ذلك حكمة!.

﴿ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾: خشينا: خِفْنا. فالواحد منّا يولد له ابنٌ فيكون قرّة عَيْن وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد أبيه وأسرته، فلا نعرف الحكمة ولا نعرف الغاية.

الآية رقم (81) - فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا

﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ﴾: ولا يفوت الخضر عليه السلام أن ينسب الخير هنا أيضاً إلى الله جل جلاله، فيقول: أنا أُحبّ هذا العمل وأريده، إنّما الّذي يُبدّل في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾، فهذا الخير من الله عز وجل، وما أنا إلّا وسيلةٌ لتحقيقه.

﴿ خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً ﴾: أي طُهْراً.

﴿ وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾: لأنّهما أرادا الولد لينفعهما في الدّنيا، وليكون قُرَّة عَيْن لهما، ولـمّا كانت الدّنيا زائلة لا بقاءَ لها، وقد ثبت في علمه سبحانه وتعالى أنّ هذا الولد سيكون فتنةً لأبويْه، وسيجلب عليهما المعاصي والسّيّئات، وسيجرّهما إلى العذاب، كانت الرّحمة الكاملة في أخذه بدل أنْ يتمتّعا به في الدّنيا الفانية، ويشقيَا به في الآخرة الباقية.

الآية رقم (82) - وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا

﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ﴾: غلامين: أي لم يبلغا سِنَّ الرُّشْد، إضافة إلى أنّهما يتيمان.

﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾: وكان تحت هذا الجدار المائل كَنْزٌ لهذين الغلامين غير القادرين على تدبير شأنهما، ولك أنْ تتصوّر ما يحدث لو تهدَّم الجدار، وانكشف هذا الكنز، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الّذين عرفت صفاتهم، وقد منعوهما الطّعام بل ومجرّد المأْوى، إنَّ أقلّ ما يُوصفون به أنّهم لِئَامٌ لا يُؤتمنون على شيءٍ. ولقد تعوَّدنا أن نعبّر عن شدّة الضّياع بقولنا: ضياع الأيتام على موائد اللّئام.

فلا شَكَّ أنّ ما قام به العبد الصّالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يُعَدُّ بمثابة صَفْعة لهؤلاء اللّئام تناسب ما قابلوهم به من تنكُّرٍ وسوء استقبال، وتردُّ لهم الصَّاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز. فعلَّة إصلاح الجدار ما كان تحته من مالٍ يجب أنْ يُحفَظ لحين أنْ يكبُرَ هذان الغلامان ويتمكّنا من حفظه وحمايته في قريةٍ من اللّئام.

وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذّات، حيث أخذ الجدار في التّصدُّع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أنْ يقع وينكشف أمر الكنز.

ثمّ إنّ العبد الصّالح أصلح الجدار ورَدَّه إلى ما كان عليه رَدَّ مَنْ علَّمه الله سبحانه وتعالى من لَدُنْه، فيُقال: إنّه بنَاهُ بناءً موقوتاً يتناسب وعُمْرَ الغلامين، وكأنّه بناه على عمرٍ افتراضيٍّ ينتهي ببلوغ الغلامين سِنَّ الرّشْد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عمليّةٌ دقيقةٌ لا يقدر على حسابها إلّا مَنْ أُوتِي علماً خاصّاً من الله سبحانه وتعالى.

ويبدو من سياق الآية أنّهما كانا في سِنٍّ واحدة توأمين لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾؛ أي سويّاً، ومعنى الأشُدّ: أي القوّة، ونلاحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال هنا: ﴿يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾، ولم يقُلْ: رُشْدهما؛ لأنّ هناك فرْقاً بين الرُّشْد والأَشُدّ، فالرُّشْد: حُسْن التّصرُّف في الأمور، أمّا الأشُدَّ: فهو القوّة، والغلامان هنا في حاجةٍ إلى القوّة الّتي تحمي كَنْزهما من هؤلاء اللّئام، فناسب هنا قوله عز وجل: ﴿أَشُدَّهُمَا﴾.

﴿وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾: أي يستخرجاه بما لديهما من القوّة والفُتوَّة.

والرّحمة: صفةٌ تُعطَى للمرحوم لتمنع عنه الدّاء.

وهنا نقف عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾، فما حدث للغلامين من حمايةٍ لمالهما كان رحمةً من الله سبحانه وتعالى بسبب أنّ أباهما كان صالحاً، وهنا يجب أن نعلم أنّ صلاح الآباء يعود على الأبناء، وأنّه ثروةٌ للأبناء، وليس أن يرتشي ويسرق من أجل بناء مستقبل لولده، فصلاح الأب ضَمِن وحفظ الأيتام. وهذه إشارةٌ قرآنيّةٌ عظيمةٌ فسبب رحمة المولى سبحانه وتعالى بهما هو صلاح الأب.

﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾: ثمّ لم يَفُتْ العبد الصّالح أنْ يُرجِع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾؛ أي أنّ ما حدث كان بأمر الله عز وجل، وما علَّمتك إيّاه كان من عنده جل جلاله، فليس لي مَيّزة عليك، وهذا درسٌ في أَدب التّواضع ومعرفة الفضْل لأهله.

﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾: تأويل: أي إرجاع الأمر إلى حقيقته.

هنا قال ما لم تسطع وفي الآية السّابقة قال: ﴿مَا لَمْ تَسْطِعْ﴾، لتتناسب مع السّياق؛ لأنّ موسى عليه السلام شاهد ثلاثة أفعال مثيرة للخضر، وقد وقع موسى عليه السلام في حيرةٍ وهو يحاول تفسيرها، وكأنّه صار في همٍّ نفسيٍّ وشعوريٍّ ثقيل، وصار في شوقٍ كبيرٍ لمعرفة حقيقة وحكمة تلك الأفعال الثّلاثة المثيرة، وقد راعى القرآن الكريم المعجز هذا الثّقل النّفسيّ الّذي عاشه موسى عليه السلام، فأثبت التّاء في فعل: ﴿تَسْطِعْ﴾، ليتناسب ثقل الهمّ النّفسيّ عند موسى عليه السلام مع الثّقل البنائيّ في حروف الفعل، وحذف التّاء هنا في قوله: ﴿تَسْطِعْ﴾، وهو يناسب التّخفيف في مشاعر موسى عليه السلام، وزوال الهمّ والثّقل الّذي يفكّر فيه، فقد بيّن له الخضر حكمة أفعاله الثّلاثة، وذكر له حقيقتها، فاطمأنّ موسى عليه السلام، وشعر بانشراح صدرٍ وهدوء نفسٍ، ولم يتكلّم بعدها بكلمة وفارقه، فخُفِّف الفعل.

ونجد هنا حِكَمٌ عظيمةٌ جليلةٌ بيّنت لنا بشكلٍ قاطعٍ أنّ كلّ أمرٍ يأتي من الله سبحانه وتعالى من ورائه حكمةٌ، أمّا إذا أتى من يد الإنسان فلا نقول: أكسر وأؤذي وهناك حكمةٌ من وراء ذلك.. فالعلم اللّدنّي هو أن تعلم حقيقة الشّيء إذا جاء قدريّاً.

ندرك من قصّة سيّدنا موسى والخضر، فيما يتعلّق بفهم القدر:

الأكيد أنّ هذه القصّة تحديداً تختلف تماماً عن القصص كلّها، قصّة موسى والعبد الصّالح لم تكن كغيرها من القصص؛ لأنّ القصّة تتعلّق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب، وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي، إنّما نحن في هذه القصّة أمام علم من طبيعةٍ أخرى غامضة أشدّ الغموض.. علم القدر الأعلى، علمٌ أُسدلت عليه الأستار الكثيفة، كما أُسدلت على مكان اللّقاء وزمانه وحتّى الاسم: ﴿عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا﴾، هذا اللّقاء كان استثنائيّاً؛ لأنّه يجيب على أصعب سؤال يدور في النّفس البشريّة منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض وما عليها.. سؤال… لماذا خلق الله عز وجل الشّرّ والفقر والمعاناة والحروب والأمراض؟ لماذا يموت الأطفال؟ كيف يعمل القدر؟

بعضهم يذهب إلى أنّ العبد الصّالح لم يكن إلّا تجسيداً للقدر المتكلّم لعلّه يرشدنا: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾.

أهمّ مواصفات القدر المتكلّم أنّه رحيمٌ عليمٌ؛ أي أنّ الرّحمة سبقت العلم، فقال النّبيّ البشر (موسى عليه السلام): ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾، فيردّ القدر المتكلّم (الخضر عليه السلام): ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾، ففهم أقدار الله عز وجل فوق إمكانيّات العقل البشريّ، ولن تصبر على التّناقضات التّي تراها، فيردّ سيّدنا موسى عليه السلام بكلّ فضول البشر: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾، هنا تبدأ أهمّ رحلةٍ توضّح لنا كيف يعمل القدر، يركبان في قارب المساكين فيخرق الخضر القارب.. تخيّل المعاناة الرّهيبة الّتي حدثت للمساكين في القارب المثقوب.. معاناة، ألم، رعب، خوف، تضرّع.. ممّا جعل موسى البشريّ يقول: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾، عتابٌ للقدر كما نفعل نحن تماماً.. أخلقتني بلا ذرّيّة كي تشمت بي النّاس؟ أفصلتني عن عملي كي أصبح فقيراً؟ أزحتني عن الحكم ليشمت بي الأراذل؟ يا ربّ، لماذا كلّ هذه السّنوات في السّجن؟ يا ربّ، أنستحقّ هذه المهانة؟ ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ألم أقل لك: إنّك أقلّ من أن تفهم الأقدار؟ ثمّ يمضيان بعد تعهّدٍ جديدٍ من موسى عليه السلام بالصّبر.. يمضي الرّجلان.. ويقوم الخضر الّذي وصفه ربّنا بالرّحمة قبل العلم بقتل الغلام.. ويمضي.. فيزداد غضب موسى عليه السلام النّبيّ الّذي يأتيه الوحي، ويعاتب بلهجةٍ أشدّ: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾، تحوّل من: ﴿إِمْرًا﴾ إلى: ﴿نُكْرًا﴾، والكلام صادرٌ عن نبيٍّ أوحي إليه، لكنّه بشرٌ مثلنا، ويعيش حيرتنا ذاتها،.. ويؤكّد له الخضر مرّةً أخرى: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، ثمّ يمضيان بعد تعهّدٍ أخير من النّبيّ موسى عليه السلام كليم الله عز وجل بأن يصمت ولا يسأل، فيذهبان إلى القرية فيبني الخضر الجدار ليحمي كنز اليتامى، وهنا ينفجر موسى عليه السلام.. فيجيبه من سخّره ربّه ليحكي لنا قبل موسى حكمة القدر: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾، هنا تتجلّى حكمة الإله الّتي لن نفهم بعضها حتّى يوم القيامة، فالشّرّ نسبيٌّ، ومفهومنا كبشر عن الشّرّ قاصرٌ؛ لأنّنا لا نرى الصّور الكاملة.

القدر أنواع ثلاثة:

– النّوع الأوّل: شرٌّ تراه فتحسبه شرّاً فيكشفه الله سبحانه وتعالى لك أنّه كان خيراً، فما بدا أنّه شرٌّ لأصحاب القارب اتّضح أنّه خير لهم، وهذا نراه كثيراً في حياتنا اليوميّة، وعندنا جميعاً عشرات الأمثلة عليه.

– النّوع الثّاني: شرٌّ تراه فتحسبه شرّاً، لكنّه في الحقيقة خير، لكن لن يكشفه الله سبحانه وتعالى لك طوال حياتك، فتعيش عمرك وأنت تحسبه شرّاً، مثل قتل الغلام، هل عرفت أمّ الغلام حقيقة ما حدث؟ هل أخبرها الخضر؟ الجواب: لا، بالتّأكيد قلبها انفطر، وأمضت اللّيالي الطّويلة حزناً على هذا الغلام الّذي ربّته سنيناً في حجرها ليأتي رجلٌ غريبٌ يقتله ويمضي، وبالتّأكيد هي لم تستطع أبداً أن تعرف أنّ الطّفل الثّاني كان تعويضاً عن الأوّل، وأنّ الأوّل كان سيكون سيّئاً: ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾، فهنا نحن أمام شرّ مستطير حدث للأمّ، ولم تستطع تفسيره أبداً، ولن تفهم أمّ الغلام أبداً حقيقة ما حدث إلى يوم القيامة، نحن الّذين نمرّ على المشهد مرور الكرام؛ لأنّنا نعرف فقط لماذا فعل الخضر عليه السلام ذلك، أمّا هي فلم ولن تعرف.

– النّوع الثّالث من القدر وهو الأهمّ: هو الشّرّ الّذي يصرفه الله سبحانه وتعالى عنك من غير أن تدري لطف الله عز وجل الخفيّ، الخير الّذي يسوقه الله سبحانه وتعالى لك ولم تره، ولن تراه، ولن تعلمه، هل اليتامى أبناء الرّجل الصّالح عرفوا أنّ الجدار كان سيهدم؟ لا، هل عرفوا أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل لهم من يبنيه؟ لا، هل شاهدوا لطف الله جل جلاله الخفيّ، الجواب: قطعاً لا، هل فهم موسى عليه السلام السّرّ من بناء الجدار؟ لا، فلنعد سويّاً إلى كلمة الخضر (القدر المتكلّم) الأولى: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، لن تستطيع أيّها الإنسان أن تفهم أقدار الله عز وجل، فالصّورة أكبر من عقلك.

استعن بلطف الله سبحانه وتعالى الخفيّ لتصبر على أقداره الّتي لا تفهمها.. ثق في ربّك فإن قدرك كلّه خير.. وقل في نفسك: أنا لا أفهم أقدار الله عز وجل، لكنّني متّسق مع ذاتي ومتصالحٌ مع حقيقة أنّني لا أفهمها، لكنّني موقنٌ -كما الرّاسخون في العلم- أنّه كلٌّ من عند ربّنا.. إذا وصلت إلى هذه المرحلة ستصل إلى أعلى مراحل الإيمان، وهي الطّمأنينة، وهذه هي الحالة الّتي لا يهتزّ فيها الإنسان لأيٍّ من أقدار الله عز وجل، خيراً بدت أم شرّاً، ويحمد الله تبارك وتعالى في كلّ حالٍ، حينها فقط سينطبق عليك كلام الله عز وجل: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ ]الفجر[، ولاحظ هنا أنّه لم يذكر للنّفس المطمئنّة لا حساباً ولا عذاباً.

الآية رقم (83) - وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾: ذو القرنين: هذا لقبه؛ لأنّه ربّما كان في تكوينه ذا قرنين، أو يلبس تاجاً له اتّجاهان؛ أو لأنّه بلغ قرنَي الشّمس في المشرق وفي المغرب.

وقد بحث العلماء في: مَنْ هو ذو القرنين؟ فمنهم مَنْ قال: هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطّوّاف في البلاد، لكنّ الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب ممّا دعا عالماً محقّقاً من علماء الهند هو: أبو الكلام آزاد إلى القول: بأنّه ليس هو الإسكندر الأكبر، بل هو قورش الصّالح، وهذه رحلته في الشّرق والغرب وبين السّدّين، كما أنّ الإسكندر كان وثنيّاً، وكان تلميذاً لأرسطو، وذو القرنين رجلٌ مؤمنٌ كما سنعرف من قصّته.

فهناك أقوالٌ كثيرةٌ وبحوثٌ كثيرةٌ حول من هو هذا الشّخص، وعلى العموم، ليس من مصلحة القصّة معرفة من هو الشّخص، ولو أراد الله جل جلاله أن نعرف من هو لأخبرنا، ولو عرفنا من هو لشُخِّصَت القصّة، وتشخيص القصّة يُضعِف من تأثيرها، ويصبغها بِصبْغةٍ شخصيّةٍ، فنرى مَنْ يقول: إنّها مسألةٌ شخصيّةٌ لا تتكرّر.

والحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يضرب لنا مثلاً يَعُمُّ أيّ شخصٍ، ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إنْ مكَّنَ الله سبحانه وتعالى له ومنحه قوةً وسلطةً؟ ولو حدّدَ القرآن الكريم هذه الشّخصيّة في الإسكندر أو قورش أو غيرهما، لَقُلْنَا: إنّه حَدَثٌ فرديٌّ لا يتعدّى هذا الشّخص، وتنصرف النّفس عن الأُسْوة به، وتفقد القصّة مغزاها وتأثيرها، ولو كان في تعيينه فائدةً لَعيَّنه الله عز وجل لَنَا.

﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾: نلاحظ أنّ مادة السّؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم أخذتْ حيِّزاً كبيراً فيه، فقد ورد السّؤال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم من القوم ستّ عشرة مرّة، إحداها بصيغة الماضي في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[البقرة: من الآية 186].

وخمس عشرة مرّة بصيغة المضارع، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ [البقرة: من الآية 189]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: من الآية 215]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: من الآية 217]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾[البقرة: من الآية 219]، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: من الآية 219]، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة: من الآية 220]، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: من الآية 222]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ [المائدة: من الآية 4]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [الأعراف: من الآية 187]، ثلاث مرّات: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [الأحزاب: من الآية 63]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [النّازعات: من الآية 42]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾[الأنفال: من الآية 1]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: من الآية 85]، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ [الكهف: من الآية 83]، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ [طه].

خمسة عشر سؤالاً بالمضارع، إلّا أنّ الجوابَ عليها مختلفٌ، وكلّها صادرةٌ من الله الحكيم، فلا بُدَّ أنْ يكون اختلاف الجواب في كلّ سؤالٍ له مَلْحظ، ومن هذه الأسئلة ما جاء من الخصوم، ومنها ما سأله المؤمنون، والسّؤال من المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وفق ما يريدون أنْ يطّلعوا عليه، أمّا المشركون واليهود فيريدون إحراج النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وبتأمّل الإجابة على هذه الأسئلة تجد منها واحدةً يأتي الجواب مباشرة دون: ﴿قُلْ﴾، وهي في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: من الآية 186]، وواحدة وردتْ مقرونةً بالفاء: ﴿فَقُلْ﴾ ، وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ [طه]، وباقي الأسئلة وردت الإجابة عليها بالفعل: ﴿قُلْ﴾، فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه الآية دون غيرها؟ قالوا: حين يقول الحقّ سبحانه وتعالى في الجواب: ﴿قُلْ﴾ فهذه إجابةٌ على سؤال سُئِلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل؛ أي حدث فعلاً منهم، أمّا الفاء فقد أتتْ في الجواب على سؤالٍ لم يُسأله صلى الله عليه وسلم، ولكنّه سيُسأله مستقبلاً، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾ سؤالٌ لم يحدث بَعْد، فالمعنى: إذا سألوك فَقُلْ، وكأنّه احتياطٌ لجوابٍ عن سؤالٍ سيقع.

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾: أي عن تاريخه وعن خبره والمهمّة الّتي قام بها.

﴿قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾: وأيُّ شرفٍ بعد هذا الشّرف، إنّ الحقّ تبارك وتعالى يتولّى التّأريخ لهذا الرّجل، ويُؤرّخ له في قرآنه الكريم الّذي يُتلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، ليظلّ ذِكْره باقياً بقاء القرآن، خالداً بخلوده، يظلّ أثره فيما عمل أُسْوةً وقُدْوةً لمن يعمل مثله، فأيُّ ذكْرٍ أبقى من ذكر الله سبحانه وتعالى لخبر ذي القرنين وتاريخه؟

﴿ مِنْهُ ﴾: أي بعضاً من ذِكْره وتاريخه، لا تاريخه كلّه.

وكلمة (ذِكْر) وردت في القرآن الكريم بمعانٍ متعدّدة، تلتقي جميعها في الشّرف والرّفعة، وفي التّذكُّر والاعتبار. وإذا أُطلقتْ فالمقصود بها القرآن الكريم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر]، وبعد ذلك تُستعمل في أيّ كتابٍ أنزله الله سبحانه وتعالى من الكتب السّابقة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النّحل].

وقد يُطلَق الذّكر على ما يتبع هذا من الصِّيت والشّرف والرّفعة وتخليد الاسم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء]، وقوله عز وجل: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزّخرف: من الآية 44]؛ أي صيتٌ حَسَنٌ وشرفٌ ورفْعةٌ لكون القرآن الكريم يذكر هذا الاسم.

فذِكْر ذي القرنين في كتاب الله عز وجل شرفٌ كبيرٌ، وإشارة إلى أنّ فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى، ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين النّاس في الدّنيا.

الآية رقم (84) - إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا

﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ﴾: التّمكين؛ أي أنّنا أعطيناه إمكانيّات يستطيع بها أن يُصرِّف أموره كلّها الّتي يريدها؛ لأنّه مأمونٌ على تصريف الأمور على حَسْب منهج الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى عن يوسف عليه السلام: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾[يوسف: من الآية 56]، فالتّمكين يعني إعطاؤه إمكانيّاتٍ متعدّدةٍ يُصرِّف بها الأمور.

﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾: أي أعطيناه أسباباً يصل بها إلى ما يريد، فما من شيءٍ يريده إلّا ويجعل الله سبحانه وتعالى له وسيلةً مُوصِّلةً إليه.

فماذا صنع هو؟

الآية رقم (74) - فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا

نلاحظ أنّ الاعتداء الأوّل من الخضر كان على مالٍ أتلفه، وهنا صعَّد الأمر إلى قَتْل نفسٍ زكيّةٍ من غير حقٍّ، فبأيِّ جريرةٍ يُقتل هذا الغلام الّذي لم يبلغ رُشْده؟! فهذا أمرٌ محرّمٌ شرعاً؛ لذلك قال في الأولى: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾؛ أي عجيباً، أمّا هنا فقال: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾؛ أي مُنكَراً؛ لأنّ الجريمة كبيرة.

النّفس الزكيّة: الطّاهرة الصّافية الّتي لم تُلوِّثها الذّنوب.

الآية رقم (73) - قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا

﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾: اعتذر موسى عليه السلام عمّا بدر منه لمعلّمه، وطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته:

﴿وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾: أي لا تُحمِّلني من أمر اتّباعك عُسْراً ومشقّة، فسامحه الخضر وعاودا السّير:

الآية رقم (63) - قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا

﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾: هذا كلام فتى موسى عليه السلام.

أرأيت عندما لجأنا إلى الصّخرة لنستريح عند مَجْمع البحرين.

﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾: ونلحظ أنّه قال هنا: ﴿نَسِيتُ﴾ ، وقال في الآية السّابقة: ﴿نَسِيَا﴾؛ ذلك لأنّ الأولى إخبارٌ من الله عز وجل، والثّانية كلام فتى موسى عليه السلام. فكلام الله سبحانه وتعالى يدلُّنا على أنّ رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرّف في كلّ شيءٍ؛ لأنّ تابعه قد لا يهمّه أمر المسير في شيءٍ، وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوطٌ به من أمر الرّحلة.

ثمّ يعتذر الفتى عمّا بَدَر منه من نسيان الحوت، ويقول:

﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾: فالشّيطان هو الّذي لعب بأفكاره وخواطره حتّى أنساه واجبه، وأنساه ذكْر الحوت.

﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾: أي اتّخذ الحوتُ طريقه في البحر عَجَباً، في الآية السّابقة قال: ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ وهذه حال الحوت، وهنا يقول: ﴿عَجَبًا﴾؛ لأنّه يحكي ما حدث ويتعجّب منه، وكيف أنّ الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتّى يقفز من المكتل، ويتّجه صَوْبَ الماء، فهذه حقّاً عجيبةٌ من العجائب؛ لأنّها خرجتْ عن المألوف.

الآية رقم (64) - قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا

﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾: أي قال موسى عليه السلام، نبغ: أي نطلب.

فهذا المكان الّذي فُقِد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأنّ الحوت كان أعلم بالموعد من موسى عليه السلام، وهكذا عرف عنوان المكان، وهو مَجْمع البحرين، حيث يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً.

وهذه الصّورة لا توجد إلّا في مسرح بني إسرائيل في سيناء، وهناك خليج العقبة وخليج السّويس، ويلتقيان في بحرٍ واحدٍ.

﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾: أي عادا على أثر الأقدام كما يفعل قَصَّاصُو الأثر، ومعنى: ﴿قَصَصًا﴾؛ أي بدقةٍ إلى أنْ وصلَا إلى المكان الّذي تسرَّب فيه الحوت، وهو الموعد الّذي ضربه الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام حيث سيجد هناك العبد الصّالح.