الآية رقم (86) - وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً

﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية يريد أنْ يُربِّي الكفّار ويُؤنّبهم، ويريد أن يُبَرّئ ساحة رسوله صلى الله عليه وسلم ويتحمّل عنه المسؤوليّة، فالرّسول صلى الله عليه وسلم مُبلّغ عن الله عز وجل، وإيّاكم أن تقولوا عنه: مُفْترٍ، أو أتى بشيءٍ من عنده، بدليل أنّني لو شِئْتُ لسلبتُ ما أوحيتُه إليه وقرأه عليكم، وسمعتموه أنتم، وكتبه الصّحابة -كتبة الوحي-.

فإنْ سأل متسائل: وكيف يذهب الله سبحانه وتعالى الوحي الـمُنزِّل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن حُفظ وكُتِب، وسمعه الكفّار؟ نقول: إنّ سياق الآية يدلُّنا على أنّ هذه العمليّة لم تحدث؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا﴾، بمعنى: لو شِئْنا فعلنا ذلك، فالفعل لم يحدث، والمراد بيان إمكانيّة ذلك ليُبَرِّئ موقف الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه ليس له من الأمور شيء، والغريب أن يفهم بعضهم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾[آل عمران: من الآية 128] أنّها ضدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدْح في شخصه، وليس الأمر كذلك؛ لأنّ ربّه سبحانه وتعالى يريد أنْ يتحمّل عنه ما يمكن أن يُفسِد العلاقة بينه وبين قومه، كما قال عز وجل: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾[الغاشية]، ونلاحظ في الآية جملة شرطيّة، أداة الشّرط فيها (إنْ)، وهي تُستَخدم للأمر المشكوك في حدوثه، على خلاف (إذا) فتأتي للأمر المحقّق. ثمّ يُوضِّح لنا الله سبحانه وتعالى أنّه إنْ ذهب بما أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يستطيع أحد إعادته، ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا﴾، فالأمر كلّه بيد الله عز وجل، فإذا شاء المولى سبحانه وتعالى ذلك فهو يستطيع أن يُذهب الوحي.

الآية رقم (87) - إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا

﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾: أي: أنّك لا تجد لك وكيلاً في أيِّ شيءٍ إلّا من جانب رحمتنا نحن؛ لأنّ فَضْلنا عليك كبير.

ثمّ يخاطب الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلن تحدّيه للعالمين:

الآية رقم (88) - قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا

﴿قُلْ﴾: لا يقولها الحقّ تبارك وتعالى بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، بل المراد: أعلنها يا محمّد على الملأ، وأسمِعْ بها النّاس جميعاً؛ لأنّ القضيّة قضيّة تَحَدٍّ للجميع.

﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾: وهما الثَّقَلان اللّذان يكوّنان أمّة التّكليف لما منحهما الله سبحانه وتعالى من نعمة الاختيار الّذي هو منَاطُ التكليف.

وقد أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليهما جميعاً، وقد استمعت الجنّ إلى القرآن الكريم كما استمعت إليه البشر: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾[الجنّ]، والتّحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارِض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارِض، فلا يتحدّاهم بشيءٍ لا عِلْم لهم به، وهذا يردّ على مَنْ قال: إنّ التّحدّي بالمعنى لا بالكلمات، لذلك جاءت معجزات الرّسل كلّها من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التّحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنّه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله عز وجل، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأنّ قومه نبغوا في الطّبّ، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة الّتي نبغ فيها العرب، فالقرآن الكريم هو معجزة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى المعجزات المادّيّة الّتي جاء بها، كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، والإسراء والمعراج، فالتّحدّي هنا في البلاغة والفصاحة وصناعة اللّغة العربيّة، لقد جاءت بلاغة القرآن الكريم وفصاحته للأمّة المتلقِّية للدّعوة الأولى، العرب الّذين سيحملون عِبْءَ الدّعوة، ويَسِيحُون بها في شتّى بقاع الأرض، فإذا ما انتشرت الدّعوة كانت المعجزة للنّاس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر، فالغيبيّات الّتي يخبرنا بها، والكونيّات الّتي يُحدّثنا عنها، والّتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن الكريم، وهو مُنزَّل على نبيٍّ أُمّيٍّ، وفي أُمّة أُمّيّة غير مثقّفة، فهذه كلّها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم، وما زِلْنا حتّى الآن نقف أمام آيات، وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن معناها، وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أنّ الذّرّة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الكريم الذّرّة في مثل قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزّلزلة]، وبتقدُّم وسائل البحث توصَّلوا إلى ما ذكره القرآن الكريم كلّه، فتحدَّاهم الحقّ سبحانه وتعالى بقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾، وأُدخِل الجنّ في مجال التّحدّي؛ لأنّ العرب كانوا يعتقدون أنّ لكلّ شاعر نابغ، أو أديب مُفوّه، أو عبقريّ عنده نبوغٌ بيانيٌّ شيطاناً يُلهِمه، وهذه الشّياطين تسكن وادياً عندهم يسمّونه: «وادي عَبْقَر»، لذلك لم يكتَف القرآن الكريم بتحدّيهم هم، بل تحدّى أيضاً مَنْ يُلهمونهم، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوّة في هذا الأمر، فلئن اجتمع الإنس والجنّ جميعهم، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لن يستطيعوا ولو تساندوا ولو تكاتفوا ولو اجتمعوا جميعاً.

﴿عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ﴾: فالتّحدِّي أنْ يأتوا ﴿بِمِثْلِهِ﴾، فلا يمكن أنْ يأتوا به نفسه مرّة أخرى؛ لأنّه نزل من عند الله سبحانه وتعالى وانتهى الأمر، فالواقع لا يقع مرّتين، فالمتصَوَّر في مجال التّحدّي أنْ يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشّيء مثل هذا الشّيء، فلا شَكَّ في أنّ المشبَّه به أقوى وأصدق من المشبّه، ولا يرتقي المشبّه ليكون هو المشبّه به، بل مثله، فالحقّ سبحانه وتعالى في قوله: ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾، لا ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن، بل بمثل القرآن الكريم، فإذا كانوا لا يأتون بالصّورة، فهل يقدرون على الأصل؟! ثمّ يقول سبحانه وتعالى زيادةً في التّحدِّي:

﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾: والظّهير: هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر، قد يقول قائل: إنّ هذه المهمّة لا يقوم بها فردٌ واحد، فقال لهم تبارك وتعالى: بل هاتوا كلّ ما لديكم من طاقاتٍ إبداعيّة وعبقريّات بيانيّة، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجنّ، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التّحدّي، حتّى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر، لكن، لن تستطيعوا أنْ تأتُوا بمثل هذا القرآن الكريم أبداً.

الآية رقم (89) - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ﴾: التّصريف: هو التّحويل والتّنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أنّ القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعدِّدة؛ لأنّه يخاطب طباعاً متعدّدة، ويتعرّض لموضوعات ومعانٍ مختلفة، فلا بُدَّ أن يُصَرِّف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه، فالّذي لا يفهم هذه يفهم هذه، وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التّصريف في أسلوب القرآن الكريم استخدام المثل، وهو تعبير مُوجَز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشّق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته، فلأهمّيّة المثل في لغة العرب جعله القرآن الكريم لَوْناً أسلوبيّاً، وأداةً للإقناع، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: من الآية 26]، فالله سبحانه وتعالى يخاطب بالقرآن الكريم عقولاً مختلفة وطبائع متعدّدة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلّاً بما يناسبه، وقد يقول قائل: لماذا قال: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر؟ نقول: المراد بما فوقها؛ أي: في المعنى المراد، وهو الصِّغر؛ أي: ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها، ثمّ يأتي بالمعنى في صورةٍ أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحجّ]، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت]، فيُصرِّف الله سبحانه وتعالى الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كلّ طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن الكريم على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يُعطَى للجميع، بل يُشخّص الأدواء ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً، وهذه المسألة واضحة في الحديث النّبويّ الشّريف، حيث كان الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم السّؤال الواحد، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال سائله، ويحاول أنْ يعالج نقطة الضّعف فيه، فالأمر ليس ثابتاً يعطيه للجميع، بل هي مراعاة الأحوال والطّباع، وهذا هو الدّين الإسلاميّ لا يأتي لإجبار البشر ولا للتّضييق عليهم، وإنّما يتوافق ويناسب طباعهم.

﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾: نعرف أنّ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول: جاء القوم إلّا زيداً، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت: ضربت إلّا زيداً، والآية أسلوب عربيّ فصيح، نقول: لأنّ معنى (أبى): لم يقبل ولم يَرْضَ، فالمراد: لم يَرْضَ إلّا الكفور، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبَق بنفي.

الآية رقم (90) - وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا

﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾: (لن) تُفيد تأبيد نَفْي الفعل في المستقبل، تقول: أنا لم أصنع هذا، ولن أصنعه؛ أي: في المستقبل، ومعلوم أنّ الإنسان ابن أغيار، ولا يحكمه حال واحد بل هو مُتقلِّب بين أحوال شتّى طوال حياته، والله سبحانه وتعالى وحده هو الّذي لا يتغيّر، وما دام الإنسان ابنَ أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال، فليس له أنْ يحكمَ على شيء حُكْماً قاطعاً في مستقبل هو لا يملكه، فالّذي يملك الحكم القاطع هو الحقّ سبحانه وتعالى الّذي لا تتناوله الأغيار، فــ ﴿لَنْ﴾ تُفيد تأبيد النّفي في المستقبل، وهذا أمرٌ لا يملكه إلّا مالك الأحداث سبحانه وتعالى، أمّا صاحب الأغيار فليس له ذلك، والّذين آمنوا فيما بعد برسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّنْ قالوا هذه المقولة: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾، نستطيع أن نقول لهم: لقد أوقعتْكم (لن) في الكذب؛ لأنّكم أبَّدتُم نَفْي الإيمان، وها أنتم مؤمنون، ولم يُفجِّر لكم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينبوعاً من الأرض! وعند فتح مكّة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخَنْدَمَة ما قال، ثمّ رجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً مُعتذراً وخرج محارباً مع خالد بن الوليد رضي الله عنه في اليرموك، وحين طُعِن الطّعنة المميتة، وحمله خالد، فإذا به يقول له: أهذه ميتة تُرضِي عنّي رسول الله؟ فمَنْ يقول كلمة عليه أن يكون قادراً على تنفيذها، مالكاً لزمامها، ضامناً لنفسه أَلَّا يتغيّر، وأَلَّا تتناوله الأغيار، ولا يملك ذلك إلّا الله سبحانه وتعالى.

﴿حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾: وفي آية أخرى قال: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: من الآية 12]، فالتّفجير: أن تعمل في الأرض عمليّة تُخرِج المستتر في باطنها على ظهرها، وعين الماء تُخرِج لك الماء من الأرض، وتأخذ من حاجتك فلا ينقص، أمّا الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء، كما في زمزم مثلاً، ولا شكَّ في أنّ هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء، وحاجتهم الشّديدة إليه.

ويذكر الله سبحانه وتعالى أنّهم واصلوا حديثهم للرّسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا:  

الآية رقم (91) - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا

سبق أن طلبوا الماء لأنفسهم، وهنا يطلبون للرّسول صلى الله عليه وسلم ﴿جَنَّةٌ﴾؛ أي: بستان أو حديقة من النّخيل والعنب؛ لأنّهما الصِّنْفان المشهوران عند العرب.

﴿فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾: أي: خلال هذه الحديقة حتّى تستمرّ ولا تذبل.

ويواصلون تحدّيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون:            

الآية رقم (92) - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً

﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾: الزَّعْم: هو القبول المخالف للواقع، ويقولون: الزّعم مطيّة الكذب، قال سبحانه وتعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ [التّغابن: من الآية 7]، ولذلك طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُوقِع بهم هذا التّهديد، فيسقط السّماء كسفاً.

﴿كِسَفًا﴾: أي: قِطَعاً، ومفردها: كسفة كقطعة.

﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾: أي: نراهم أمامنا هكذا مُقابلةً عياناً، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: من الآية 21]، والمتأمّل فيما طلبه الكفّار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يجده تعجيزاً بعيداً كُلَّ البعد عن الواقع، ممّا يدلّنا على أنّهم ما أرادوا الإيمان والهداية؛ لأنّ الإيمان يكون بالأمور الغيبيّة وليس المشاهدة، بل قصدوا الجدل والعناد؛ لذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى رَدّاً على لَجَج هؤلاء وتعنُّتهم: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾[الأنعام: من الآية 111].       

الآية رقم (84) - قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً

﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾: أي: أنّ كلّ إنسانٍ يعمل على طريقته، وعلى طبيعته، وعلى مقدار ما تكوّنت به من خلايا الإيمان، أو من خلايا إيمان اختلطت بخلايا عصيان، أو بما عنده من خلايا كفر، فالنّاس مختلفون وليسوا على طبعٍ واحد، فلا تحاول أن تجعل النّاس على طبعٍ واحد.

وما دام الأمر كذلك، فليعمل كلّ واحدٍ على شاكلته، وحسب طبيعته، فإنْ أساء إليك إنسان سيّئ الطّبع فلا تقابله بسوء مثله، ولتعمل أنت على شاكلتك، ولتقابله بطبع طيّب؛ لذلك يقولون: لا نُكافئ مَنْ عصى الله فينا بأكثر من أنْ نُطيع الله فيه، وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف.

﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾: والرّبُّ: المتولّي للتّربية، والمتولّي للتّربية لا شكّ في أنّه يعلم خبايا المربَّى، ويعلم أسراره ونيّاته، كما قال عز وجل: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك].     

الآية رقم (75) - إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا

﴿إِذًا﴾: أي: لو كِدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات، وبهذا التّهديد يرفع الله سبحانه وتعالى سخيمة الكُرْه من صدور القوم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وينقلها لساحته عز وجل، فأيّ إنسانٍ يمكن أن يركن إليهم فسيذيقه الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات.

﴿ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾: الضّعْف: مضاعفة الشّيء مرّة أخرى؛ أي: قَدْر الشّيء مرّتين، ولا يُذاق في الحياة إلّا العذاب، فالمراد: لأذقناك ضِعْف عذاب الحياة وضِعْف عذاب الممات، لكن لماذا يُضَاعَف العذاب هنا؟ الجواب: لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أُسْوة كبيرة وقُدْوة يقتدي النّاس بها، ويستحيل في حقِّه هذا الفعل، وهكذا يجب أن تتعلّم القدوات، كما قال سبحانه وتعالى في نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾[الأحزاب]؛ ذلك لأنّهنّ بيت النّبوّة وأمّهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين، وكلّما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدّعوة إلى الله تعالى فعليه أن يكون بَعيداً عن الشّبهة؛ لأنّه سيكون أُسْوة فعل، فإنْ ضَلَّ فلن يضلّ في ذاته فقط، بل سيضلّ معه غيره، وقد اختار الله سبحانه وتعالى لفظ: ﴿لَأَذَقْنَاكَ﴾؛ لأنّ الإذاقة من الذَّوْق، وهو أعمّ الملكَات شُيوعاً في النّفس، فأنت ترى بعينك وتسمع بأذنك وتشمُّ بأنفك، لكنّ المذاق تشترك فيه الملكات كلّها.

﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾: أي: لا تجد مدافعاً يدافع عنك؛ أو ناصراً ينصرك؛ لأنّ مددَك منّي وحدي، فكيف يكون لك ناصرٌ من دوني؟! وهذا الكلام مخاطَبٌ به أمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أكبر تكريم لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.     

الآية رقم (76) - وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً

﴿كَادُوا﴾: أي: قاربوا، فهم لا يجرؤون على الفعل، ولا يستطيعون، فالأمر مجرّد القُرْب من الفعل، فإنّهم سيحاولون إخراجك يا محمّد، لكنّك لن تخرج إلّا بأمري وتقديري.

﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾: من استفزَّه؛ أي: طلب منه النّهوض والخِفّة إلى الفِعْل، كما تقول لأحدهم: (فِز)؛ أي: قُمْ وانهض، فهم يستحثّونك على الخروج ﴿مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾: أي: من مكّة بإيذائهم لك، وعَنَتهم معك ليحملوك على الخروج، ويُكرِّهوك على الإقامة بها، وكفّار مكّة يعلمون أنّ في خروجه صلى الله عليه وسلم من مكّة راحة لهم، حتّى يبقى الفساد ويبقى العبيد وضعاف القوم فلا يتّبعونه.

﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾: أي: لو أخرجوك من مكّة فلن يلبثوا فيها بعدك إلّا قليلاً، وقد حدث فعلاً، فبعد خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة بعام كانت غزوة بدر، فقُتِل سبعون من صناديد قريش، وأُسِرَ سبعون، وبعد أن خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة لم يتمتّعوا فيها بالنّعيم ولا بالسّيادة الّتي كانوا يَرجُونها بعد خروجه.    

الآية رقم (77) - سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً

﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾: يُوضِّح المولى سبحانه وتعالى أنّ ما حدث هو سُنّة من سُنن الله سبحانه وتعالى في الرّسل، كما قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[الصّافّات]، فكان عليهم أنْ يأخذوا عِبْرةً من الرّسل السّابقين، وبما حلَّ بأعداء الرّسل من عذاب الله عز وجل، لقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرّسل -عليهم السّلام- فكُذِّبوا وعُودوا واضطهِدُوا، ومع ذلك نصرهم الله عز وجل، وجعل لهم الغَلبة في النّهاية.

﴿سُنَّةَ﴾: السُّنّة: هي العادة والطّريقة الّتي لا تتخلَّف، والقانون الّذي لا يتبدَّل؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى بعدها: ﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾:؛ لأنّ السُّنّة لا تتحوّل ولا تتبدّل إلّا بالأقوى الّذي يأتي ليُغيّر هذه السُّنّة الّتي جرت على النّاس، فإذا كانت السُّنّة أو القانون من الله سبحانه وتعالى القويّ، بل الأقوى، فهو سبحانه وتعالى وحده الّذي يملك هذا التّحويل، ولا يستطيع أحدٌ أبداً تحويل سنّة الله عز وجل، فإذا قال عز وجل، فقوله الحقّ الّذي لا يُبدِّله أحدٌ، ولا يُعارضه أحدٌ.

وبعد أن تكلَّم الحقّ سبحانه وتعالى عن الإلهيّات إيماناً بها، وعن النّبوّات تصديقاً لها، وعن القيامة ووجوب الإيمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب، أراد سبحانه وتعالى أنْ يأتي لنا بثمرة هذا المنهج وحصيلته النّهائيّة، وهي أنْ يستقيمَ لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها، هذا المنهج الإلهيّ جاء في صورة أحكام، ولهذه الأحكام أركانٌ أساسيّة جمعها النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»([1])، فهذه هي الأركان الّتي بُنِي عليها الإسلام، لكن ما حظّ المسلم من هذه الأركان؟ لو تأمّلنا لوجدنَا أنّنا نشترك جميعاً في شهادة أنْ لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وفي الصّلاة؛ لأنّها لا تسقط عن أحدٍ لأيّ سبب، وهي المكرَّرة في اليوم خمس مرّات، أمّا باقي الأركان، وهي: الزكاة، والصّوم، والحجّ فقد لا تنطبق شروطها على الجميع، فالفقير لا تُفرض عليه زكاة أو حجّ، والمريض لا يُفرض عليه الصّوم.. فالصّلاة هي عماد الدّين، مَن أقامها فقد أقام الدّين، ومن تركها فقد هدم الدّين، وهي الرّكن الرّكين من أركان الإسلام.     

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ,: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، الحديث رقم (8).

الآية رقم (78) - أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾: الصّلاة فريضةٌ ثابتةٌ متكرّرةٌ لا تسقط في حالٍ من الأحوال، فيها إعلانُ ولاء للإيمان بالله عز وجل كلّ يوم خمس مرّات، وفيها أيضاً أركان الإسلام كلّها؛ لأنّك في الصّلاة تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فتقولها عدّة مرّات في كلّ صلاة أثناء التّشهّد، وهذا هو الرّكن الأوّل، كما أنّها تشتمل على الصّوم؛ لأنّك تصوم في أثناء الصّلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج، وكذلك عن أيِّ فعلٍ غير أفعال الصّلاة، وتصوم عن الكلام في غير ألفاظ الصّلاة، ففي الصّلاة صيامٌ بالمعنى الأوسع للصّوم، وفي الصّلاة زكاة؛ لأنّ المال الّذي تكتسبه وتُزكِّيه ناتجٌ عن الحركة، والحركة فرع الوقت، وفي الصّلاة تُضحّي بالوقت، فكأنّ الزكاة في الصّلاة أبلغ، وكذلك في الصّلاة حجٌّ؛ لأنّك تتوجّه فيها إلى الكعبة المشرّفة، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظرَيْكَ، لذلك استحقّت الصّلاة أن تكون عماد الدّين، مَنْ أقامها فقد أقام الدّين، ومَنْ هدمها فقد هدم الدّين، ومن هنا جاءت الصّلاة في أوّل هذه الأحكام، فقال سبحانه وتعالى في هذه السّورة: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾؛ أي: أدِّها أداءً كاملاً في أوقاتها، فالإقامة شيءٌ والأداء شيءٌ، الإقامة هي أداء كامل بشروطها في وقتها، والصّلاة لها مَيْزة عن أركان الإسلام كلّها؛ لأنّ تكليفات الإسلام كلّها جاءت بواسطة الوحي (جبريل عليه السلام) لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا الصّلاة، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة من الله سبحانه وتعالى ليلة الإسراء والمعراج ممّا يدلُّ على أهمّيتها.

﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصّلاة.

الدّلوك: معناه: الزّوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا: فلان (المدلِّك)؛ أي: الّذي يتولّى عمليّة التّدليك، وتتحرّك يده من مكانٍ إلى مكان، والمراد بــ دلوك الشّمس: مَيْلها عن وسط السّماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السّماء، فيراها على شكل قوسٍ ممتدٍّ وعلى حَسْب نظره وقوّته يرى الأفق، فإنْ كان نظره قويّاً رأى الأُفُقْ واسعاً، وإنْ كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيّقاً؛ لذلك يقولون لقليل التّفكير: ضيِّق الأفق، وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السّماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعةَ أنْ ترى الشّمس عموديّة عليك، فهذا وقت الزّوال، فإذا ما انحرفتْ الشّمس ناحية المغرب يُقَال: دلكت الشّمس؛ أي: مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظّهر، والمتأمّل في فَرْض الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنّ الظُّهْر هو أوّل وقتٍ صَلَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الصّلاة فُرِضَتْ عليه في السّماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلمّا عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظّهر، فكانت هي الصّلاة الأولى.

﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾: أي: أقِم الصّلاة عند دُلوك الشّمس، إلى متى؟ إلى غَسَق اللّيل؛ أي: ظلمته، وفي الفترة من دُلوك الشّمس إلى ظُلمة اللّيل تقع صلاة الظّهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلّا صلاة الصّبح، فقال عنها سبحانه وتعالى:

﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾: ونتساءل هنا: لماذا ذكر قرآن الفجر، ولم يَقُلْ: صلاة؟ قال العلماء: في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النّفوس، تتلقّى القرآن الكريم نديّاً طريّاً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة.

﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾: أي: تشهده الملائكة، فالمشهوديّة لها دَخْل في العبادة، فإذا كانت مشهوديّة مَنْ لا تكليف عليه في الصّلاة جعلها الله سبحانه وتعالى حيثيّة، فكيف بمشهوديّة مَنْ كُلِّف بالصّلاة؟! فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة اللّيل.

ويجب أن نلتفت إلى أنّ الحقّ سبحانه وتعالى ربط الصّلوات الخمس بالوقت، وبآية كونيّة تدلُّ عليه هي الشّمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟ فعلى الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلاً تفتّقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والّتي تُيسِّر كثيراً على النّاس؛ لذلك كانت الطّموحات الإنسانيّة لأشياء تخدم الدّين وتوضّح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين، على اعتبار أنّ مَا لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

الآية رقم (79) - وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا

﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾: الهجود: هو النّوم، وتهجَّد: أي: أزاح النّوم والهجود عن نفسه، وهذه خصوصيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزيادة على ما فُرِض على أمّته أنْ يتهجَّد لله عز وجل في اللّيل، كما قال له ربّه سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزّمّل]، فهذه الخصوصيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ كانت فَرْضاً عليه، إلّا أنّها ليست في قالبٍ من حديد، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرّيّة في هذه العبادة، المهمّ أن يقوم لله سبحانه وتعالى جزءاً من اللّيل، لكن ما عِلَّة هذه الزّيادة في حَقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ العلّة في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزّمّل]، وكأنّ التّهجُّد ليلاً، والوقوف بين يدي الله عز وجل في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوّة والطّاقة اللّازمة للقيام بهذه المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، ألَا وهي مسؤوليّة حَمْل المنهج وتبليغه للنّاس، وفي الحديث الشّريف: عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى”([1])، ومعنى حَزَبه أَمْر: أي: ضاقت أسبابه عنه، ولم يَعُد له فيه منفذ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمام الرّسول صلى الله عليه وسلم إلّا المسبِّب سبحانه وتعالى يلجأ إليه ويهْرع إلى نجدته: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزّمّل]؛ لأنّك في الوقت الّذي ينام فيه النّاس ويخلدون إلى الرّاحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربّك مناجياً مُتضرِّعاً، فتتنزّل عليك من الرّحمات والفيوضات، فَمَنْ قام من النّاس في هذا الوقت، واقتدى بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَهُ نصيبٌ من هذه الرّحمات، وحَظٌّ من هذه الفيوضات، أمّا مَنْ تثاقلتْ رأسه عن القيام فلا حَظَّ له، ففي قيام اللّيل قوّة إيمانيّة وطاقة روحيّة أعطيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولـمّا كانت مهمّة الرّسول صلى الله عليه وسلم فوق مهمّة الخَلْق كان حظّه من قيام اللّيل أكثر من حظّهم، فأعباء الرّسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، والعِبْءُ الثّقيل يحتاج إلى اتّصالٍ كبير بالأحدِ القَيُّوم، حتّى يستعين بلقاء ربّه على قضاء مصالحه.

﴿نَافِلَةً لَكَ﴾: النّافلة: هي الزّيادة عمّا فُرِضَ على الجميع.

﴿لَكَ﴾: أي: خاصّة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الّذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذّاريات]، والمحسن هو الّذي دخل مقام الإحسان، بأن يزيد من جنس ما فرضه الله سبحانه وتعالى عليه؛ لذلك جاءت حيثيّة الإحسان: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذّاريات]، وهذا المقام ليس فرضاً علينا، فلنا أن نصلّي العشاء وننام حتّى صلاة الفجر، لكن إنْ أردنا أن نتأسَّى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونتشبّه به فلنُدخِلْ أنفسنا في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتنا، وإن كانت لنا هموم ومشكلات في الحياة، وطلبات من ربّنا سبحانه وتعالى فعلينا أن نتهجّد حتّى تكون لنا.

﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾: تحدّثتْ الآية في أوّلها عن التّكليف، أمّا الآن فعن الجزاء.

﴿عَسَى﴾: تدلّ على رجاء حدوث الفعل، وبما أنّ الرّجاء من الله سبحانه وتعالى فهو أمرٌ محقّق، وليس مستحيل الحدوث.

﴿مَقَامًا مَحْمُودًا﴾: كلمة محمود: أي: الّذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع، فلم يَقُلْ: محمود مِمَّنْ؟ فهو محمود مِمَّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد، محمود من الكلّ من لَدُنْ آدم عليه السلام وحتّى قيام السّاعة.

والمراد بالمقام المحمود: هو مقام الشّفاعة، حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب وهَوْل الموقف وشِدّته، حتّى ليتمنّى النّاس الانصراف ولو إلى النّار، وتتمنّى كُلُّ أمّة من نبيّها أن يشفع، فيقول: اذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيّد الأنبياء، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أَنَا لَهَا»([2])، لذلك أمرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدّعاء: «وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ»([3])، ولا شَكَّ في أنّه دعاءٌ لمصلحتنا.

([1]) سنن أبي داود: أبواب قيام اللّيل، بَابُ وَقْتِ قِيَامِ النَّبِيِّ , مِنَ اللَّيْلِ، الحديث رقم (1319).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب التّوحيد، بَاب 36، الحديث رقم (7510).

([3]) صحيح البخاريّ: كتاب الأذان، بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ، الحديث رقم (614).

الآية رقم (80) - وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا

﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾: من حيث النّظرة العامّة؛ لأنّه قبل أنْ يدخلَ الإنسان يطلب الخروج أوّلاً؛ لأنّك لن تدخلَ إلّا بعد أنْ تخرجَ، وإنْ كان التّرتيب الطّبيعيّ أن تقول: أخرجني مُخْرَج صدق، وأدخلني مُدْخَل صدق، ومعنى مخرجَ الصّدق، ومدخل الصّدق: أنّك لا تدخل أو تخرج من غير هدف، فإنْ خرجتَ من مكان فليكُن مخرجك مخرج صدق؛ أي: مطابقاً لواقع مهمّتك، وإنْ دخلتَ مكاناً فليكُنْ دخولك مدخل صدق؛ أي: لهدف محدّد تريد تحقيقه، فيكون دخولك وخروجك لله سبحانه وتعالى، وهكذا كان خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة لله سبحانه وتعالى ودخوله المدينة لله عز وجل، والإنسان دائماً عند الدّخول يجب أن يفكّر بالمخرج، حتّى في هذه الحياة، فالإنسان عندما يتحرّك أيّ حركة؛ يخرج من منزله يقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾.

﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾: طلب النُّصْرة من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه أرسله بمنهج الحقّ، وسوف يصطدم هذا الحقّ بأهل الباطل والفساد الّذين يحرصون على الباطل، وينتفعون بالفساد، وهؤلاء سوف يُعَادُون الدّعوة، ويُجابِهون النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لذلك توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربّه عز وجل الّذي أرسله واستعان به على مواجهة أعدائه.

﴿سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾: السّلطان: سبق أنْ أوضحنا أنّه يُراد به: إمّا حجّة تُقنع، وإمّا سيف يَرْدَع، وهذا واضحٌ في قَوْل الله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: من الآية 25]؛ أي: بالآيات الواضحات، وهذه أدوات الحجّة والإقناع، ثمّ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[الحديد: من الآية 25]، وهذه أدوات القوّة والرّدع، فالحقّ لا بدّ له من قوّة تحميه.

الآية رقم (81) - وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا

﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾: هكذا أطلقها الله سبحانه وتعالى شعاراً مُدوّياً ﴿جَاءَ الْحَقُّ﴾، وما دام قال للرّسول صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) فلا بُدَّ أنّ الحقّ قادمٌ لا شَكَّ فيه؛ لذلك أمره بهذا الأمر الصّريح، وبعد ذلك يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح، عندما دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، وَحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِئَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: «جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»([1])؛ أي: جاء الحقّ واندحر الباطل، ولم يَعُدْ لديْه القوّة الّتي يُبدِئ بها ويُعيد، فقد خَمدتْ قواه ولم يَبْقَ له صَوْلَة ولا كلمة، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾يُشعرنا بأنّ الحقّ أتى بنفسه؛ لأنّه نسب المجيء إلى الحقّ كأنّه أمرٌ ذاتيٌّ فيه، فلم يأْتِ به أحد، وكذلك في: ﴿وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ فالباطل بطبيعته زاهقٌ مُندحرٌ ضعيف لا بقاءَ له، فجاء الحقّ ليس لاستعباد النّاس، ولكن لراحتهم ورَفْع رؤوسهم.

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾: زَهُوق: صيغة مبالغة، فالباطل نفسه سريعاً ما يذهب ويندثر، ومن العَجَب أن نرى الباطل نفسه من جنود الله عز وجل؛ لأنّ الباطل لو لم يُؤلم النّاس ويُزعجهم ما تشوَّقوا للحقّ وما مالوا إليه، وما طلبت أنفسهم الحقّ، فإذا ما لدغهم الباطل واكتَووْا بناره عرفوا الحقّ، وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنا مثلاً للحقّ وللباطل، فقال: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرّعد]، الحقّ سبحانه وتعالى يُمثِّل للحقّ وللباطل بشيءٍ حِسّيٍّ نراه حينما ينهمر المطر على قمم الجبال، فيسيل الماء على الأودية بين الجبال حاملاً معه صغار الحصى والرّمال والقشِّ، وهذا هو الزَّبَد الّذي يطفو على صفحة الماء ولا ينتفع النّاس به، وهذا الماء مثالٌ للحقّ الّذي ينفع النّاس، والزَّبَد مثال للباطل الّذي لا خَيْر فيه، أو: يعطينا المثال في صورةٍ أخرى: صورة الحدّاد أو الصّائغ الّذي يُوقِد النّار على الذّهب ليخرج منه ما علق به من شوائب.   

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المغازي، بَابٌ: أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ , الرَّايَةَ يَوْمَ الفَتْحِ، الحديث رقم (4287).

الآية رقم (82) - وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا

كما نعرف جميعاً القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل المنزّل على عبده ونبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة النّاس، جعله الله سبحانه وتعالى عطاءً ومدداً ومعجزةً لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولأمّته وللعالمين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء]، والآية تُعطينا نموذجين لتلقِّي القرآن الكريم: إنْ تلقَّاه المؤمن كان له شفاء ورحمة، وإنْ تلقَّاه الظّالم كان عليه خَسَاراً، والقرآن الكريم حَدَّدَ الظّالمين لِيُبَيِّن أنّ ظلمهم هو سبب عدم انتفاعهم بالقرآن الكريم؛ لأنّ القرآن الكريم خيرٌ في ذاته وليس خساراً، وقد سبق أن أوضحنا أنّ الفعل قد يكون واحداً، لكن يختلف القابل للفعل، ويختلف الأثر من شخصٍ لآخر، فسلامة الطّبع أو فساده لها أثرٌ في تلقِّي القرآن الكريم والانفعال به، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التّوبة]، فالآية واحدة، لكنّ الطّبع المستقبل مختلف، فالمؤمن يستقبلها بمَلكاتٍ سليمة، فيزداد بها إيماناً، والكافر يستقبلها بملكَاتٍ فاسدة فيزدادَ بها كفراً، فالمشكلة في تلقّي الحقائق واستقبالها، فيجب أن تكون ملكاتُ التّلقّي غير فاسدة، فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ متوقّفٌ على سلامة الطّبع والفهم عن الله عز وجل، وليس محاولة التّضليل.

والشّفاء: أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه.

والرّحمة: أن تتّخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم عودة المرض مرّة أخرى، فالرّحمة وقاية، والشّفاء علاج.

لكن، هل شفاء القرآن الكريم شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النّفوس، فيُخلِّص الإنسان من القلق والحَيْرة والغَيْرة، ويجتثّ ما في نفسه من الغِلِّ والحقد، والحسد، إلى غير هذا من أمراض معنويّة؟ أو كما يقول بعضهم: هو شفاءٌ للمادّيّات، ولأمراض البدن أيضاً؟ يجب أن نقف عند هذا الموضوع، بما أنّ الله سبحانه وتعالى قال: إنّ القرآن الكريم هو شفاءٌ، ولم يحدّد، فبالمعنى العامّ لهذه الكلمة، يكون شفاءً للمعنويّات ولكن قد يكون شفاءً للمادّيّات، بدليل ما رُوِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ t أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَـمْ تَقْرُونَا، وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ…، فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ…»([1])؛ أي: أنّ الفاتحة رُقْية يُرقَى بها المريض فيبرأ بإذن الله سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم أنّ بعض العلماء سئل عن الآية: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وكيف كان سيّدنا عمر بن الخطّاب t يعود المرضى فيقرأ الفاتحة عند المريض فيبرأ، بينما نحن نقرأ الفاتحة والقرآن الكريم كاملاً فلا يبرأ، فقال بجوابٍ مختصر: هذه الفاتحة، فأين عمر؟! وفي هذا جوابٌ بليغ.

ونحن عندنا في الإسلام لكلّ داءٍ دواء، فتأخذ بالأسباب، تذهب إلى الطّبيب وتأخذ الدّواء وتأخذ الاحتياطات كلّها وبعد ذلك تقرأ الفاتحة وتقرأ ما يتيسّر من القرآن الكريم، وتدعو للمريض، هذا هو معنى الرّقية، وليس معنى الرّقية أن أداوي الإنسان المريض بقراءة الفاتحة فقط، فمن كان معه الزّائدة مثلاً هل أقرأ له فاتحة بدلاً من إجراء عمليّة؟! الجواب: بالتّأكيد لا، بل آخذه للطّبيب وتُجرى له عمليّة الزّائدة وأقرأ له الفاتحة، فأنت تأخذ الدّواء لكنّ الشّافي هو الله سبحانه وتعالى، فتقرأ كلام الله عز وجل.

﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾: لأنّهم بظُلْمهم واستقبالهم لفُيوضات السّماء بملَكَاتٍ سقيمة، وأجهزة متضاربة متعارضة، لم ينتفعوا بالقرآن الكريم، ولن يستفيدوا من رحمات الله عز وجل.    

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الطّبّ، بَابُ الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، الحديث رقم (5736).

الآية رقم (83) - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا

﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾: أي: أعرض عنّا وعن ذِكْرنا وانصرف عن منهجنا، ومِنَ النّاس مَنْ يُعرِض عن ذكر الله عز وجل، ولكنّه يؤدِّي منهجه، فإذا أدَّيت المنهج ذكرت صاحب المنهج، ويجب ألّا تنسى الـمُنعِم أبداً، وإذا شُغِل الإنسان بالنّعمة عن الـمُنعِم، فكأنّه يُخطئ بحقّ الـمُنعِم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾[العلق]، فالاستغناء هنا ليس ذاتيّاً في الإنسان، بل هو استغناءٌ موهوب، قد ينتهي في يومٍ من الأيّام ويعود الإنسان من جديد يطلب النّعمة من المنعِم عز وجل، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾[العلق].

ثمّ يتحدّث الحقّ سبحانه وتعالى عن صفة أخرى في الإنسان:

﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾: وهذه صفة مذمومة في الإنسان الّذي إذا ما تعرّض لشرٍّ أو مسَّه ضُرٌّ يقنط من رحمة الله عز وجل، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُخاطب عبده الّذي يقنط: لا يليق بك أن تقنط إذا ضاقتْ بك الدّنيا، وأنت مؤمن لا تعيش مع الأسباب وحدها إنّما مع المسبِّب سبحانه وتعالى، وما دُمْتَ في رحاب مُسبِّب الأسباب فلا تقنط، لذلك يقولون: «لا كَرْبَ وأنت ربٌّ»، فقد يقنط الإنسان إن لم يكُنْ له رَبٌّ يتولَّاه، أمّا والرّبّ موجودٌ فلا يليق به، كيف ومَنْ له أب لا يُلقي لهموم الدّنيا بالاً، ويستطيع أن يعتمد عليه في قضاء حاجاته، فما بالك بمَنْ له رَبٌّ يرعاه ويتولَّاه، ويستطيع أن يتوجّه إليه، ويدعوه في كلّ وقت؟

والله سبحانه وتعالى حينما يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يريد أنْ يُعطينا الأُسْوة به سبحانه وتعالى، يريد أن يقول للإنسان: لا تحزن إن أدَّيْتَ للنّاس جميلاً فأنكروه، أو معروفاً فجحدوه، وكيف تحزن وهم يفعلون هذا مع ربّ العالمين، فكثيراً ما أنعم الله سبحانه وتعالى على أُناس فأساؤوا وكفروا وجحدوا.  

الآية رقم (74) - وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً

﴿وَلَوْلَا﴾: أداة شرط إن دخلت على الجملة الاسميّة، وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشّرط، ويسمّونها حرف امتناع لوجود، كما لو قلت: لولا زيدٌ عندك لَزُرْتُكَ، فقد امتنعت الزّيارة لوجود زيد، فإنْ دخلت (لولا) على الجملة الفعليّة أفادتْ الحثَّ والحضَّ، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النّور: من الآية 13]، ﴿وَلَوْلَا﴾ في الآية دخلتْ على جملة اسميّة؛ لأنّ ﴿أَنْ﴾ بعدها مصدريّة، فالمعنى: لولا تثبيتنا لك لقاربتَ أن تركنَ إليهم شيئاً قليلاً، فأنت بشرٌ يوحَى إليك: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾[الكهف: من الآية 110].

والمتأمّل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عدّة احتياطات، فلم تقُلْ: (لولا تثبيتنا لك لَركنتَ إليهم)، لا، بل لَقاربتَ أنْ تركنَ إليهم ببشريّتك، فمنعتْ مجرّد المقاربة، أمّا الرّكون فهو أمرٌ بعيد وممنوعٌ نهائيّاً وغير مُتَصوّر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أكّد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله:

﴿شَيْئًا قَلِيلًا﴾: أي: ركوناً قليلاً، ممّا يدلُّ على أنّ طبيعته صلى الله عليه وسلم حتّى مِن غير الوحي من الله سبحانه وتعالى طبيعةٌ سليمةٌ بفطرتها، فلو تصوَّرنا عدم التّثبيت له من الله سبحانه وتعالى ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرّد (كاد) أو (قَرُب) أنْ يركنَ إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا: إنّ المقارنة تعني مشروعَ فِعْل، لكنّه لم يحدث، مِمّا يدلُّ على أنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتيّة مستقلّة.

﴿ثَبَّتْنَاكَ﴾: التّثبيت هو منع المثبَّت أنْ يتأرجح، لذلك نقول للمتحرّك: اثبت.

﴿تَرْكَنُ﴾: من ركون الإنسان إلى شيءٍ يعتصم به ويحتمي، ومن الرّكون قوله سبحانه وتعالى عن لوط عليه السلام مع قومه: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾[هود]؛ أي: أحتمي به وألجأ إليه.      

الآية رقم (66) - رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

﴿رَبُّكُمُ﴾: الرّبّ: هو المتولّي تربيتك: خَلْقاً من عَدم، وإمداداً من عُدم، وقيُّوميّته سبحانه وتعالى عطاءٌ ينتظم المؤمن والكافر.

﴿يُزْجِي﴾: الإزجاء: الإرسال بهوادة شيئاً فشيئاً.

﴿الْفُلْكَ﴾: هي السّفن وتُطلَق على المفرد وعلى الجمع، وعلى المذكّر والمؤنث، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾[البقرة: من الآية 164]، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: من الآية 22].

﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾: الابتغاء: هو القصد إلى نافع يُطلَب من البحر، كالقوت أو غيره، كما قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [النّحل: من الآية 14]، فالبحر مصدرٌ من مصادر الرّزق والقُوت، ومُسْتودع لثروة عظيمة من فضل الله سبحانه وتعالى؛ لذلك قال بعدها:

﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾: والرّحمة اتّساع مَدَد الفضل من الله عز وجل، فالّذي أعطاكم البَرَّ بما فيه من خيراتٍ أعطاكم البحر أيضاً بما فيه من خيرات، والأرض الّتي نعيش عليها هي بَرّ يسمّى يابسة، أو بحر، وإنْ كانت نسبة اليابس من الأرض الرُّبْع أو الخُمْس، فالباقي بحرٌ شاسع واسع يَزْخَر من خَيْرات الله سبحانه وتعالى بالكثير.

وطُرُق السّير في اليابسة كثيرة متعدّدة، تستطيع أن تمشي أو تركب، وكُلُّ وسيلةٍ من وسائل الرّكوب حَسْب قدرة الرّاكب، فهذا يركب حماراً، وهذا يركب فرساً، وهذا يركب درّاجةً، وهذا يركب سيّارة، وتستطيع أن تنتقل فيها من مكانٍ إلى آخر، أمّا البحر فلا يمكن الانتقال فيه إلّا أنْ تُحملَ على شيءٍ، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنْ جعل لنا السّفن آيةً من آياته تسير بنا على لُـجَّة الماء، ويمسكها بقدرته عز وجل فنأمَن الغرق. وأوّل مَنْ صنع السّفن بوحيٍ من الله سبحانه وتعالى نوحٌ عليه السلام، فلم تكُنْ معروفة قبله، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود]، فلم يكُنْ للنّاس عهد بالسّفن، وكانت سفينة نوح عليه السلام بدائيّة من ألواح الخشب والحبال، ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى دَلَّه على طريقة بنائها، وهداه إلى تنظيمها ما كان له عِلْمٌ بهذه المسألة، فكَوْنُ الحقّ سبحانه وتعالى يهدينا بواسطة نبيٍّ من أنبيائه إلى مركب من المراكب الّتي تيسّر لنا الانتفاع بثلاثة أرباع الأرض، لا شكَّ في أنّها رحمةٌ بالإنسان وتوسيعٌ عليه، وكذلك من رحمته سبحانه وتعالى بنا أنْ يسّر لنا تطوير هذا المركب على مرّ العصور، فبعد أن كان يتحرّك على سطح الماء بقوّة الهواء باستخدام ما يسمّى القلع الّذي يتحكّم في المركب من خلاله، ويستطيع الرّبّان الماهر تسفيح القلع، يعني توجيهه إلى النّاحية الّتي يريدها، فكانت الرّيح هي الأصل في سَيْر السّفن، ثمّ أتى التّقدّم العلميّ الّذي اكتشف البخار والآلات ثمّ الكهرباء، وبذلك سهّل على الإنسان تحريك السّفن على سطح الماء بسهولةٍ ويُسْر، حتّى أصبحنا نرى الآن البوارج الكبيرة متعدّدة الأدوار، الّتي تشبه فعلاً الجبال، مِصْداقاً لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾[الشّورى]، يعني: كالجبال، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يُعطينا الدّليل على عِلْمه عز وجل بما سيصل إليه العالم من تقدّم، وما ستصل إليه صناعة السّفن من رقيٍّ يصل بها إلى أنْ تكونَ كالجبال، وإلّا ففي زمن نزول القرآن الكريم لم يكُنْ هناك بوارج عالية كهذه، إنّها لم توجد إلّا بعد قانون أرشميدس الّذي تُبْنَى على أساسه هذه البوارج، لكن مع هذا التّقدّم كلّه في مجال الملاحة البحريّة لا نغفل أنّ القدرة الإلهيّة هي الّتي تُسيِّر هذه السّفن، وتحملها بأمانٍ على صفحة الماء، ويجب أَلَّا يغتَرّ الإنسان بما توصّل إليه من العلوم، ويظنّ أنّه أصبح مالكاً لزمام الأمور في الكون؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ [الشّورى: من الآية 33]، والرّيح هي الأصل في تسيير السّفن، فإنْ قال قائلٌ الآن: إنْ توقّفت الرّيح استخدمنا القوى الأخرى، مثل البخار أو الكهرباء! نقول: لقد أخذتَ الرّيح على أنّه الهواء فقط، إنّما لو نظرنا إلى كلمة الرّيح، وماذا تعني لوجدنا أنّ معنى الرّيح القوّة المطلقة أيّاً كان نوعها، بدليل قَوْله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 46]، فالمراد بالرّيح القوّة المطلقة، فمعنى: ﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾  [الشّورى: من الآية 33]، يُسكِن القوّة المحرّكة للسّفن أيّاً كانت هذه القوّة: قوّة الرّيح أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى، فإنْ شاء سبحانه وتعالى تعطَّلَتْ هذه القوى كُلُّها.   

الآية رقم (67) - وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا

البحر هو الضّائقة الّتي لا يستطيع الإنسان الخلاص منها إنْ أصابه فيه سوء، فالبرّ منافذ النّجاة فيه متعدّدة، أمّا البحر فلا نجاة فيه إلّا بعناية الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [يونس: من الآية 22]، وهكذا الإنسان حتّى غير المؤمن، إذا ضاقتْ به الحِيَل ولم يجد مَنْفذاً يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، المنفذ الحقيقيّ والمفرِّج للكَرْب، والإنسان عادة لا يُسلم نفسه، ويظلّ مُتعلّقاً بالأمل في النّجاة.

﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾: أي: أحاط بهم الخطر بالرّيح العاصف أو الموج العالي، وأحسُّوا بخطورة الموقف ولا مُنقِذَ لهم إلّا الله عز وجل، في هذا الموقف حتّى غير المؤمن يَصْدُق مع نفسه، ولا يخدعها ولا يكذب عليها؛ لأنّه عندها يلجأ إلى القوّة الّتي يمكن أن تنجيه، ويقول: يا ربّ، ولا يلجأ إلى الأصنام؛ لأنّه يعلم أنّها لا تسمع ولا تجيب، ولا تملك له نفعاً ولا نجاة.

﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾: أي: ذهب عن بالكم مَن اتّخذتموهم آلهة، وغابوا عن خاطركم، سواء الآلهة من البشر أم من الحجر، فلن يقولوا هنا: يا هبل؛ لأنّهم لن يغشُّوا أنفسهم، ولن يقولوا: يا فلان، لن ينساقوا وراء الكذب في هذا الوقت العصيب، إنّهم في هذا الضّيق لن يتذكّروا آلهتهم؛ لأنّهم لن يجدوا ملجأً إلّا الله سبحانه وتعالى، ويطلبون منه المعونة، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾[الأنعام: من الآية 43]، فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم؛ لأنّهم عباده وخَلْقه وصَنْعته، فما أرحمه سبحانه وتعالى حتّى بمَنْ كفر به! فغفر الله سبحانه وتعالى لهم بذلك عندما لجؤوا إليه، وهو ربٌّ رحيم، يتضرّع الإنسان إليه ويدعوهُ، لينجيه المولى سبحانه وتعالى.

﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾: فلمّا نجّاهم إلى البرّ أعرضوا، وتنكّروا للجميل والمعروف، لذلك قال سبحانه وتعالى:

﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾: كفور: صيغة مبالغة من الكفر؛ أي: كثير الكفر للنّعمة، ديدنه أن يكفر بهذه النّعمة، والله سبحانه وتعالى يمهل الخلق.