﴿قُلِ ادْعُوا﴾: أي: اذكروا، أو نادوا، أو اطلبوا.
﴿اللَّهَ﴾: عَلَم على واجب الوجود سبحانه وتعالى، ومعنى: عَلَم على واجب الوجود أنّها إذا أُطْلِقَتْ انصرفتْ للذّات الواجبة الوجود، وهو الحقّ سبحانه وتعالى، كما نُسمِّي شخصاً، فإذا أُطْلِق الاسم ينصرف إلى المسمَّى، والأسماء عندنا أنواع كثيرة: إمّا اسم، أو كُنْية، أو لَقَب، فالاسم: يُطلَق على المولود بعد ولادته ويُعرَف المولود به، والكُنْية: تُطلَق على الإنسان، وتُسبَق بأب أو أمّ أو ابن أو بنت، كما نقول: أبو بكر، وأمّ المؤمنين، واللّقب: وصف يُشْعِر بالمدح أو الذّمّ، كما نقول: الصِّدّيق، الشّاعر، الفاروق، فإذا كان الاسم معه شريك غيره لا بُدَّ لتمييزه من وَصْفه وَصْفاً يُعْرف به، فشخصين اسمهما محمّد، نضيف لقب يميّز أحدهما عن الآخر، فإذا أُطلِق الاسم بصفته ينصرف إلى شخص معيّن.
والحقّ سبحانه وتعالى سَمَّى نفسه بأسمائه الّتي قال عنها: الأسماء الحُسْنى، وكلمة (حُسْنى) أفعل تفضيل للمؤنّث، مثل: كبرى، والمذكّر منها أحسن، لكن لماذا وَصَف أسماءه سبحانه وتعالى بالحسنى؟ الجواب: أنّ الأسماء عند البشر قد لا تنطبق على المسمَّى الّذي أُطلقت عليه، فقد نُسمِّي شخصاً: «سعيد» وهو شقيّ، وهذا ليس بحَسنٍ في الأسماء، الحسَن في الاسم أنْ يطابق الاسم المسمَّى، ويتوفّر في الشّخص الصّفة الّتي أُطلِقت عليه، لكنّه لا يأخذ الحُسْن الأعلى؛ لأنّ الحُسن الأعلى لأسماء الله عز وجل الّتي سَمّى بها نفسه، فله الكمال المطلق.
فلفظ الجلالة الله عَلَم على واجب الوجود، وبعد ذلك جاءت صفات غلبت عليه، بحيث إذا أُطلِقَتْ لا تنصرف إلّا إليه، فإذا قُلْنا: العزيز على إطلاقه فإنّها لا تنصرف إلّا لله سبحانه وتعالى، لكن يمكن أن نقول: فلان العزيز في قومه، فلان الرّحيم بمَنْ معه، فلان النّافع لـمَنْ يتّصل به، إنّما لو قُلْت: النّافع، على إطلاقه فهو الله سبحانه وتعالى، لذلك حَلَّتْ الصّفات محلَّ اسم الذّات الله؛ لأنّها إذا أُطْلِقَتْ لا تنصرف إلّا إليه عز وجل، فأسماءُ الله الحُسْنى هي في الأصل صفات له سبحانه، ولو تأمّلنا هذه الأسماء لوجدناها على قسمين: أسماء ذات، وأسماء صفات فعليّة، اسم الذّات لا يتّصف الله سبحانه وتعالى بمقابله، فالعزيز مثلاً اسم ذات، فلا نقول في مقابله: الذّليل، والحيّ اسم ذات فلا نقول: الميّت، أمّا اسم الصّفة الفعليّة فيكون له مقابل، فالمعزّ صفة فعل يعني يُعِزّ غيره، ومقابلها المذلّ، والضَّارّ مقابلها النّافع، والمحيي مقابلها المميت.. وهكذا، فإنْ وجدتَ للاسم مقابلاً فاعلم أنّه اسمٌ لصفة الفعل من الله عز وجل، وإذا لم يكن له مقابل فهو اسم ذات، لكن تقف مثلاً عند السَّتَّار وهي صفة فعل؛ لأنّه يستر غيره، لكن ليس لها مقابل فلا نقول: الفضَّاح، لماذا؟ لأنّه عز وجل يريد أنْ يتخلّق خَلْقه بهذه الصّفة، وأنْ يُربِّب صفة السّتر عند النّاس للنّاس، فلو علم النّاس، عن أحد أمراً فاضحاً لزهدوا في كلّ ما يأتي من عنده ولو كان حسنة، وبذلك يُحرَم المجتمع من طاقات كثيرة من الخير، لكن حين تستر على صاحب العيب عيبه، فإنّك تعطي للمجتمع فرصة لينتفع بما لديه من صفات الخير وليتحسّن ويتوب؛ لذلك الله سبحانه وتعالى يُعصَى ويحبّ أن يُستَر على عبده العاصي؛ لكي يستمرّ دولاب الحياة؛ لأنّه لا يوجد أحد له كمال إلّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ﴾: الله: العَلَم على واجب الوجود، وهو اسم ذات لا يدلُّ على صفةٍ معيّنة، لكنّه يحمل في طيّاته كلّ صفات الكمال فيه، فإنْ كانت للأسماء الأخرى مجالات، فالقادر في القدرة، والحكيم في الحكمة، والقابض في القبض، والعزيز في العِزّة، فإنّ لكلّ اسم مجالاً، فإنّ الله هو الاسم الجامع للصّفات كلّها، لذلك في الحديث النّبويّ الشّريف: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَال لَا يُبْدَأ فِيهِ بِاسْمِ الله فَهُوَ أَبْتَر»([1])، فيكفي أن تقولَ في الإقدام على الفعل: باسم الله؛ لأنّك ذكرتَ الاسم الجامع لكلِّ صفات الكمال.
﴿أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾: واختار الرّحمن دون الجبار أو القهّار؛ لأنّ الرّحمة صفة التّحنين للخلق، فالحقّ سبحانه وتعالى يُظهِر هذه الصّفة لعباده حتّى في أسماء الجبّار والقهّار؛ لأنّها من خَدَم الرّحمة ومن أسبابها؛ لأنّ العبد إذا عرف لله سبحانه وتعالى صفة الجبروت، وصفة القهر، وصفة الانتقام انتهى عن أسباب الوقوع تحت طائلة هذه الصّفات، فكأنّه يرحم عباده حتّى بصفات القهر والانتقام، وكذلك اختار اسم ﴿الرَّحْمَنَ﴾؛ لأنّ مجال التّكليف كلّه الرّحمة، وما نزل المنهج من الله سبحانه وتعالى إلّا لينظّم حياة النّاس ويُحقِّق لهم السّعادة في حركة الحياة، فيتكامل الخَلْق فيما بينهم، ويتعاونون، ويتساندون ولا يتعاندون، ويكونون جميعاً على قلب رجلٍ واحد، هذه غاية المنهج الإلهيّ في دنيا النّاس أنْ يعيشَ المجتمع آمناً سالماً، فالرّحمانيّة الإلهيّة هي الغالبة في التّشريع كلّه، وهي السِّمَة العامّة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾[الرّحمن]، فالقرآن الكريم الّذي نزل لِيُنظّم حياة النّاس، ويصلح حركة الحياة، ويضع السّلام بينك وبين الله عز وجل، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين النّاس، هذا القرآن الكريم مظهر من مظاهر هذه الرّحمانيّة الإلهيّة.
ونقف على لطيفة أخرى لاستخدام اسم الله عز وجل: ﴿الرَّحْمَنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: من الآية 59]؛ أي: بعد أن خلق الخَلْق كلّه، بسمائه وأرضه وما فيهما استوى على العرش؛ لأنّ الاستواء على العرش يعني أنّ كلّ شيء تَـمَّ له سبحانه وتعالى خَلْقاً وإيجاداً، فيعني مباشرة الملك والقدرة ولكن برحمته وليس بجبروته، فاختار صفة الرّحمة ليوحي لنا أنّ العرش والقوّة والقهر والجبروت إنّما يكون من رحمة الله سبحانه وتعالى، وليرحم بعضنا بعضاً، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا»([2])، «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»([3]).
﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾: فأيُّ اسم تدعو به، فأسماؤه كلّها حُسْنى، فتدعو بما يناسب حاجتك، فإنْ أردت عِلْماً فقُلْ: يا عالم علِّمني، وإنْ كنتَ ضعيفاً فقُلْ: يا قويّ قَوِّني، وإنْ أردتَ العزّة فَقُلْ: يا عزيز أعِزَّني.. وهكذا، فتستطيع أن تدعو بأيّ اسمٍ من أسماء الله عز وجل.
﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ﴾: الصّلاة يراد بها كلّ أعمال الصّلاة.
﴿وَلَا تَجْهَرْ﴾: فالجهر منهيٌّ عنه.
﴿وَلَا تُخَافِتْ﴾: أي: لا تُسِرَّها بحيث لا تُسْمع نفسك، وهذا منهيّ عنه أيضاً.
فكِلَا الطّرفين مذموم، وخَيْر الأمور الوسط، ونُوضِّح هنا: إذا كان الجهر بالصّلاة منهيّاً عنه فارتفاع الصّوت عالياً من باب أَوْلَى، فأنت حين ترفع صوتك بالقرآن الكريم، قد تُوقِع بعض النّاس في الإثم والحرج، ولعلّ غيرك في هذا الوقت يريد أن يستغفر، أو يُسبِّح أو يصلّي، أو يقوم بعملٍ آخر، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأعراف]، فلا نُدخِل النّاس في هذا الأمر.
﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾: أي: بين الجهر والإسرار، واسلك سبيل الوسطيّة الّتي جاء بها الشّرع، وتأسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يتفقّد الصّحابة ليلاً فوجد أبا بكر رضي الله عنه يقرأ، ولا يكاد يسمع صوته، فلمّا سأله، قال: يا رسول الله، أناجي ربّي وهو عالم بي، فلمّا ذهب إلى عمر رضي الله عنه وجده يقرأ بصوت عالٍ، فلمّا سأله قال: يا رسول الله، أزجر به الشّيطان، عندها أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أنْ يرفع صوته قليلاً، وأمر عمر أن يخفض صوته قليلاً، وهذا الاعتدال وهذه الوسطيّة أُمِرْنَا بها حتّى في الدّعاء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الأعراف: من الآية 205]، فكلمة: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾: البينيّة هذه تكاد تشيع في أحكام الدّين كلّه؛ لأنّ القرآن الكريم جاء لأمّة وسط بالأمور الوسط في شؤون الحياة كلّها.
([1]) الفتح السّماويّ للمناويّ: ج1، سورة الفاتحة، الحديث رقم (4).
([2]) السّنن الكبرى للنّسائيّ: كِتَابُ القَضَاءِ، حُكْمُ الحَاكِمِ فِي دَارِهِ، الحديث رقم (5928).
([3]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ البِرِّ وَالصِّلَةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي رَحْمَةِ الْمُسْلِمِينَ، الحديث رقم (1924).