الآية رقم (76) - وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ

﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾: أي: أنّها على طريقٍ ثابتٍ تمرُّون عليه إنْ ذهبتُم ناحية هذا المكان، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصّافّات]، فهذه المدينة في طريقٍ ثابت، لن تُضيّعه عوامل التَّعْرية أو الأغيار، ولن تضيّعه تلك العوامل إلّا إذا شاء الله سبحانه وتعالى.    

الآية رقم (77) - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾: آية يعني عبرة، معجزة، دليل.

وهكذا يُنهِي الحقّ سبحانه وتعالى هنا قصّة لوط، وما وقع عليهم من عذابٍ يجب أن يتّعظَ به المؤمنون، فقد نالوا جزاءَ ما فعلوا من فاحشة.

وينقلنا الحقّ سبحانه وتعالى من بعد ذلك نَقْلةً أخرى إلى أهل مَدْين، وهم قوم شُعَيب عليه السلام، وهم أصحاب الأيكة، يقول سبحانه وتعالى:    

الآية رقم (78) - وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ

أصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام، مدينتهم مدين، و(الأَيْك) هو الشّجر الـمُلْتفّ كثير الأغصان، ونعلم أنّ شعيباً عليه السلام قد بُعِث لأهل مدين وأصحاب الأيكة، وهي مكانٌ قريبٌ من مدين، وكان أهل مدين قد ظلموا أنفسهم بالشّرك، وقد قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ﴾  [الأعراف: من الآية 85]، وقال عن أصحاب الأيكة: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشّعراء]، وهكذا نعلم أنّ شعيباً عليه السلام قد بُعِث لأُمّتين مُتجاورتين.    

الآية رقم (79) - فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ

﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾: يُقال: إنّ ما كان يفصل بين مدين وأصحاب الأيكة هو هذا الشّجر الـمُلْتفّ الكثيف القريب من البحر، ولذلك نجد هنا الدّليل على أنّ شعيباً عليه السلام قد بُعِث إلى أُمّتين هو قوله جل جلاله: ﴿وَإِنَّهُمَا﴾، وقد انتقم الله جلّ وعلا من الأُمّتين الظّالمتين، مَدْين وأصحاب الأيكة.

﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾: والإمام هو ما يُؤتَمّ به في الرّأي والفتيا، أو في الحركات والسَّكنات، أو في الطّريق الـمُوصِل إلى الغايات، ويُسمَّى (إمام)؛ لأنّه يدلُّ على الأماكن أو الغايات الّتي نريد أن نصل إليها.

وفيما يبدو أنّ أصحاب الأَيْكة قد تَمادَوْا في الظُّلم والكفر، وإذا كان سبحانه قد أخذ أهل مَدْين بالصّيحة والرّجفة، فقد أخذ أصحاب الأيكة بأن سلّط عليهم الحَـرَّ سبعة أيّام لا يُظِلّهم منه ظِلٌّ، ثمّ أرسل سحابةً وتمنَّوْا أن تُمطر، وأمطرتْ ناراً فأكلتهم، كما قالت كتب الأثر، وهذا هو العذاب الّذي قال فيه الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشّعراء: من الآية 189]، وهكذا تكون تلك العِبَر بمثابة الإمام الّذي يقود إلى التّبصُّر بعواقب الظّلم والشّرك.

بعد ذلك ينقلنا الحقّ جل جلاله إلى خبر قومٍ آخرين، فيقول سبحانه وتعالى:

الآية رقم (80) - وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ

أصحاب الحِجْر هم قوم صالح عليه السلام، وكانت المنطقة الّتي يُقيمون فيها كلّها من الحجارة، ولا يزال مُقَامهم معروفاً في المسافة بين خيبر وتبوك، وقال فيهم الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشّعراء]، فقد كان عندهم حضارة وتقنيّة وعلم، يبنون مصانع منذ ذلك الزّمن.

وهم قد كذّبوا نبيّهم صالح عليه السلام، وكان تكذيبهم له يتضمّن تكذيب كلّ الرّسل، ذلك أنّ الرّسل -عليهم السّلام- جاؤوا بوحدانيّة الله عز وجل، ويتّفقون في الأحكام العامّة الشّاملة، ولا يختلف الأنبياء -عليهم السّلام- إلّا في الجزئيّات المناسبة لكلّ بيئةٍ من البيئات الّتي يعيشون فيها:

فبيئةٌ: تعبد الأصنام، فيُثبِت لهم نبيُّهم أنّ الأصنام لا تستحقّ أن تُعبد.

وبيئةٌ أخرى: تُطفِّف الكيْل والميزان، فيأتي رسولهم بما ينهاهم عن ذلك.

وبيئةٌ ثالثة: ترتكب الفواحش كقوم لوط فيُحذِّرهم نبيّهم من تلك الفواحش.

وهكذا اختلف الرّسل -عليهم السّلام- في الجزئيّات المناسبة لكلّ بيئةٍ، لكنّهم لم يختلفوا في المنهج الكُلّيّ الخاصّ بالتّوحيد، وقد قال الحقّ سبحانه وتعالى عن قوم صالح أنّهم كذَّبوا الـمُرْسلين؛ بمعنى أنّهم كذّبوا صالحاً عليه السلام فيما جاء به من دعوة التّوحيد الّتي جاء بها الرّسل كلّهم -عليهم السّلام-.     

الآية رقم (70) - قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ

﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾: أي: ألَـمْ نُحذِّرك من قَبْل من ضيافة الشّبّان الّذين يتميَّزون بالحُسْن؛ ولأنّك قُمْتَ باستضافة هؤلاء الشّبّان الحسان، فلا بُدَّ لنا من أنْ نفعلَ معهم ما نحبّ من الفاحشة، وكانوا يتعرَّضون لكلّ غريبٍ بالسّوء.

وحاول لوطٌ عليه السلام أنْ يُثنيهم عن ذلك بأن قال لهم ما جاء به الحقّ سبحانه وتعالى:    

الآية رقم (81) - وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ

وهنا يُوجِز الحقّ سبحانه وتعالى ما أرسل به نبيّهم صالح عليه السلام من آياتٍ تدعوهم إلى التّوحيد بالله عز وجل، وصِدْق بلاغ صالح عليه السلام الّذي تمثَّل في النّاقة الّتي حذَّرهم صالح عليه السلام أنْ يقربوها بسوءٍ كَيْلا يأخذهم العذاب الأليم، لكنّهم كذَّبوا وأعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إلى الآيات الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى في الكون من ليلٍ ونهار، وشمسٍ وقمر، واختلاف الألْسُنِ والألوان بين البشر.. ونعلم أنّ الآيات تأتي دائماً بمعنى الـمُعْجزات الدَّالّة على صدْق الرّسول في بلاغه عن الله سبحانه وتعالى، وسيّدنا صالح عليه السلام جاءهم بآيةٍ خاصّة هي هذه النّاقة، ولكنّهم أنكروا وجحدوا بالآية، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾؛ أي: تكبَّروا وأعرضوا عن المنهج الّذي جاءهم به صَالح عليه السلام، والإعراض هو أنْ تُعطِي الشّيء عَرْضك بأن تبتعدَ عنه ولا تُقبِل عليه.     

الآية رقم (71) - قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ

﴿ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي ﴾: هو لم يقدّم بناته للفاحشة، وحاشا لله أن يصدر مثل هذا الفعل عن رسولٍ، بل هو عليه السلام قد عرض عليهم أن يتزوّجوا النّساء، ثمّ إنّ لوطاً عليه السلام كانت له ابنتان اثنتان، وهو قد قال: ﴿ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي ﴾؛ أي: أنّه تحدّث عن جمعٍ كثير، ونعلم أنّ بنات القوم كلّهم الّذين يوجد فيهم رسولٌ يُعتبرْنَ من بناته، ولذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى ما يُوضّح ذلك في آيةٍ أخرى: ﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [الشّعراء]؛ أي: أنّ لوطاً عليه السلام أراد أنْ يردَّ هؤلاء الشّواذّ إلى دائرة الصّواب والفعل الطّيّب، فأمرهم أن يقوموا بما أحلّه الله سبحانه وتعالى بالفطرة والزّواج بين الذّكر والأنثى، وليس ارتكاب الفاحشة، فإن كنتم مصرّين فلماذا لا تتزوجون من بناتي؛ أي: بنات المؤمنين، بدلاً من ارتكاب الفاحشة وما تقومون به من فعلٍ ينافي الأخلاق والفطرة والقيم جميعاً؟!     

الآية رقم (72) - لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ

﴿لَعَمْرُكَ﴾: الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و(عَمْرُك) معناها السّنُّ الـمُحدَّد للإنسان، والله سبحانه وتعالى يُقسم بعمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا يماثل قولنا في الحياة اليوميّة: (وحياتك)، وهذا من التّكريم العظيم الّذي لم يلقه نبيٌّ قبل النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، فبدلاً من أن يناديه: (يا محمّد) أو: (يا أحمد) كما كان ينادي الرُّسُل -عليهم السّلام-، كان يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: من الآية 41]، أو: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الأنفال: من الآية 64]، وفي هذا تكريمٌ عظيم، وفي هذه الآية نجد تكريماً آخر، فسبحانه يُقسِم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى يُقسِم بما شاء على ما شاء، أقسم بالشّمس وبمواقع النّجوم وبالنّجم إذا هَوَى.. فهو الخالق العليم بكلّ ما خلق، أمّا الإنسان فلا يجوز أن يقسم إلّا بالله سبحانه وتعالى.

﴿إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾: بحياتك يا محمّد إنّهم في سَكْرة يعمهون.

﴿سَكْرَتِهِمْ﴾: السّكرة: هي التّخديرة العقليّة الّتي تحدث لمن يختلّ إدراكهم بفعل عقيدةٍ فاسدة، أو عادةٍ شاذّة، أو بتناول مادّةٍ تُثير الاضطراب في الوعي.

﴿يَعْمَهُونَ﴾: أي: يضطربون باختيارهم.

ويأتي العقاب، فيقول الله سبحانه وتعالى:     

الآية رقم (73) - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ

سبق أنْ أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنّه سيقطع دابرهم وهم مصبحون، وهنا يخبرنا أنّ الصّيحة أخذتهم وهم مُشْرقون؛ أي: عند شروق الشّمس، والصّيحة أفقدتهم التّوازن؛ ولذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى في موقعٍ آخر: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾  [القمر]، ومرّةً يُسمّيها الله سبحانه وتعالى بالطّاغية، فيقول: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ [الحاقّة].       

الآية رقم (63) - قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ

وهكذا أعلنوا -عليهم السّلام- للوطٍ عليه السلام سبب قدومهم إليه؛ كي يُنزِلوا العقابَ بالقوم الّذين أرهقوه، وكانوا يشكُّون في قدرة الحقّ سبحانه وتعالى أنْ يأخذهم أَخْذَ عزيزٍ مُقْتدر، وفي هذا تَسْرية عنه، ثمّ يُؤكِّدون ذلك بما أورده الله سبحانه وتعالى على ألسنتهم:

الآية رقم (64) - وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

أي: جِئْنا لك بأمر عذابهم الصّادر من الحقِّ سبحانه وتعالى، فلا مجالَ للشّكِّ أو الامتراء، ونحن صادقون فيما نُبلِّغك به عن الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (65) - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ

﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾: أي: سِرْ أنت وأهلك في جزء من اللّيل، ومرّةً يُقَال: (سرى)، ومرّةً يُقال: (أسرى)، ويلتقيان في المعنى، ولكن (أسرى) تأتي في موقعٍ آخر من القرآن الكريم، وتكون مُتعدِّية مثل قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: من الآية 1]، وهنا يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾، وكلمة: (قطع) هي اسم جمع، والمقصود هو أن يخرج لوطٌ عليه السلام بأهله في جُزْءٍ من اللّيل، أو من آخر اللّيل، فهذا هو منهج الإنجاء الّذي أخبر به الملائكة -عليهم السّلام- لوطاً عليه السلام ليتبعه هو وأهله والمؤمنون به، وأوصوه أن يتّبعَ أدبار قومه بقولهم:

﴿وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾: أي: أن يكون في الـمُؤخّرة، وفي ذلك حَثٌّ لهم على السُّرعة.

وكان من طبيعة العرب أنّهم إذا كانوا في مكانٍ وأرادوا الرّحيل منه، فكلٌّ منهم يحمل رَحْلَه على ناقته، وأهله فوق النّاقة ويبتدئون السّير، ويتخلّف رئيس القوم، واسمه (مُعقِّب) كي يرقُب إنْ كان أحدٌ من القوم قد تخلَّف أو تعثَّر أو ترك شيئاً من متاعه، وهنا تأمر الملائكة -عليهم السّلام- لوطاً عليه السلام أن يكون مُعقّباً لأهله والمؤمنين به؛ لِيحثّهم على السّير بسرعة، ثمّ لِينفّذ أمراً آخرَ يأمره به الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾: وتنفيذ الأمر بعدم الالتفات يقتضي أن يكون لوط عليه السلام في مُؤخّرة القوم.

﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾: يريد الحقّ سبحانه وتعالى ألَّا يلتفت أحدٌ خَلْفه حتّى لا يشهدَ العذاب، أو مقدّمة العذاب الّذي يقع على القوم، فتأخذه بهم شفقة، فقد يحِنّ إليهم، أو يعطف عليهم، وهكذا كان الأمر بالإسراء بالقوم الّذين قرّر الحقّ سبحانه وتعالى نجاتهم، والكيفيّة هي أن يكون الخروج في جزءٍ من اللّيل، وأنْ يتّبعَ لوطٌ عليه السلام أدبارهم، وألّا يلتفتَ أحدٌ من النّاجين خَلْفه؛ ليمضوا حيث يأمرهم الله سبحانه وتعالى، وقيل: إنّ الجهة هي الشّام.    

الآية رقم (66) - وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ

﴿وَقَضَيْنَا﴾: أي: أوحينا، والله سبحانه وتعالى تكلَّم من قَبْل عن الإنجاء للمؤمنين من آل لوط، ثمّ تكلَّم جل جلاله عن عذاب الكافرين المنحرفين، والأمر الّذي قضى به الحقّ سبحانه وتعالى أنْ يُبيدَ هؤلاء المنحرفين.

﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾: قَطْع الدَّابر هو الخَلْع من الجذور، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام]، وهكذا نفهم أنّ قَطْع الدّابر هو أنْ يأخذَهم الحقّ سبحانه وتعالى أَخْذ عزيزٍ مقتدر، فلا يُبقِي منهم أحداً.

﴿مُصْبِحِينَ﴾: و موعد ذلك هو الصّباح، فبعد أنْ خرج لوط عليه السلام ومَنْ معه بجزءٍ من اللّيل وتمَّتْ نجاتهم، يأتي الأمر بإهلاك المنحرفين في الصّباح، والأَخْذ بالصُّبح هو مبدأ من مبادئ الحروب، ويُقال: إنّ أغلب الحروب تبدأ عند أوّل خيطٍ من خيوط الشّمس.

ويعود الحقّ سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قوم لوطٍ الّذين لا يعرفون ما  سوف يحدث لهم، فيقول جل جلاله:    

الآية رقم (67) - وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ

وعندما عَلِم أهل المدينة من قوم لُوطٍ بوصول وَفْدٍ من الشّبّان الحِسَان الـمُرْد إلى لوط عليه السلام أتَوا مُستبشرين فَرِحين من أجل الفاحشة، وكان لوطٌ عليه السلام يعلم هذا الأمر فيهم، ويعلم ما سوف يَحيق بهم، فيقول الحقّ سبحانه وتعالى ما جاء على لسان لوط عليه السلام:    

الآية رقم (68) - قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ

و الفضيحة: هي هَتْك المساتير الّتي يستحيي منها الإنسان، فالإنسان قد يفعل أشياءَ يستحي أنْ يعلمها عنه غيره، والحقّ سبحانه وتعالى حين يطلب منّا أن نتخلَّق بخُلُقه، جعل من صفات الجمال والجلال كُلِّها نصيباً يعطيه لخَلْقه، من أجل أن يتخلّقوا بالأخلاق الّتي علّمنا الله سبحانه وتعالى إيّاها وأمرنا أن نبتعد عن الفواحش، والآن ما يجري في المجتمعات الغربيّة من زواج المثليّين واختيار الجنس هل يكون ذكراً أو أنثى، كلّ هذا كان في قوم لوط، وذُكِر لنا كيف أنّ الله سبحانه وتعالى عذّبهم وأنزل بهم أشدّ العقاب بسبب هذه الفاحشة والأمر الشّائن.   

الآية رقم (58) - قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ

ونعلم أنّ كلمة: (القوم) مأخوذةٌ من القيام، وهُم القوم الّذين يقومون للأحداث.

وهنا أخبرتْ الملائكةُ -عليهم السّلام- إبراهيمَ عليه السلام أنّهم مُرْسَلون إلى قومٍ مُجرمين، أجرموا بحقّ أنفسهم وأجرموا بحقّ مجتمعهم من خلال الفاحشة الكبيرة الّتي كانوا يقومون بها، وأرهقوا لوطاً عليه السلام بالتّكذيب والمعاصي الّتي أدمنوها.

ولكنّ الحقّ سبحانه وتعالى يستثني آل لوط عليه السلام من جريمة قوم لوط، فقد كانت أغلبيّة قوم لوط من الفاسدين، فيقول سبحانه وتعالى

الآية رقم (69) - وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾: أي: ضَعوا بينكم وبين عقاب الله عز وجل لكم وقاية.

﴿وَلَا تُخْزُونِ﴾: ولا تخزون في ضيوفي، فمن العار أن تَرغبُوا في فعل الفاحشة، ولكنّهم لم يستجيبوا له، بدليل أنّهم تَمادَوْا في غيِّهم وقالوا ما أورده الحقّ سبحانه وتعالى:   

الآية رقم (59) - إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ

﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾: وهذا استثناءٌ لآل لُوطٍ عليه السلام من المجرمين.

والـمُجرِم: هو الـمُنقطِع عن الحقّ، والجريمة هي الانقطاع عن الحقّ لانتصار الباطل، غلب اسم القوم على الجماعة الـمُجْرمين، وهكذا كان الاستثناء من هؤلاء المجرمين.

ثمّ يأتي استثناءٌ جديد، حيث يقرّر الحقّ سبحانه وتعالى أنّ امرأة لوط سيشملها الإهلاك، فيقول سبحانه وتعالى:

الآية رقم (60) - إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ

﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾: ونعلم في اللّغة أنّه إذا توالتْ استثناءات على مُستثنى منه، نأخذ الـمُسْتثنى الأوّل من الـمُسْتثنى منه، والـمستثنى الثّاني نأخذه من الـمستثنى الأوّل، والـمستثنى الثّالث نأخذه من الـمستثنى الثّاني.

هنا يتبيّن أنّ امرأة لوط ستبقى مع الغابرين، فاستثناها من النّجاة؛ لأنّها كانت مع هؤلاء القوم، وكانت تدلّـهم وتسايرهم على أفعالهم.

﴿إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾: الغابر: هنا بمعنى داخل، أو هو من أسماء الأضداد، وهي لن تنجو؛ لأنّ مَنْ تقرّرتْ نجاتهم سيتركون القرية، وسيهلك مَنْ يبقى فيها، وامرأة لُوط من الباقين في العذاب، والاستثناء من النّفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فاستثناء امرأة لوط من النّاجين يلحقها بالهالكين.

وتنتقل السّورة من إبراهيم عليه السلام إلى لوطٍ عليه السلام فيقول الحقّ سبحانه وتعالى: