الآية رقم (95) - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ

لقد ثبت لكلّ مَنْ عاش تلك الفترة أنّ كلّ مُستهزئٍ بمحمّد صلى الله عليه وسلم قد ناله عقابٌ من السّماء، فها هو ذا الوليد بن المغيرة الّذي يتبختر في ثيابه، فيسير على قطعةٍ من الحديد، فيأنَفُ أن ينحنيَ لِيُخلّص ثوبه الّذي اشتبك بقطعة الحديد، فتُجرح قدمه وتُصاب بالغرغرينا ويقطعونها له، ثمّ تنتشر الغرغرينا في كُلِّ جسده إلى أنْ يموتَ، وها هو الثّاني الأسود بن عبد يغوث يُصاب بمرض في عينيه فيعمى، وكذلك الحارث بن الطّلاطلة، والعاص بن وائل.

وكلّ مستهزئٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم قد ناله عقابٌ ما، ومَنْ لم تُصِبْه عاهة أو آفة صرعتْه سيوف المسلمين في بدر.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرّه من استهزء به سابقاً ولا لاحقاً ولا اليوم ولا في أيّ وقتٍ من الأوقات؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى حكم بذلك بقوله: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾.   

الآية رقم (96) - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

﴿ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾: إنّ هؤلاء المشركين جعلوا مع الله سبحانه وتعالى إلهاً آخر، والله سبحانه وتعالى لم يحدّد ما هو الإله الآخر، فقد يكون شهوات أو مال، وقد يكون من النّاس، أو يكون هوى نفس، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان]، وليس بالضّرورة أن يكون صنماً أو عجلاً أو شمساً أو قمراً أو أيّ شيء، وكلّ من يستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ينكر وجود الله عز وجل.

﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾: في هذا القول استيعاب للأزمنةكلّها؛ أي: سيعلمون الآن ومن بعد الآن، فالحقّ سبحانه وتعالى لم يأخذهم جميعاً في مرحلةٍ واحدة، بل أخذهم على فترات.   

الآية رقم (97) - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ

وفي هذا القول الكريم يتجلَّى تقدير الحقّ سبحانه وتعالى لمشاعر النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى كلّفه بأوامر، وطلب منه أن ينفّذها، ويقول له جل جلاله: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾، وفي آيةٍ أخرى قال له: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام]، هذه هي الحقيقة، فمشكلتهم مع الله سبحانه وتعالى، وليس معك يا رسول الله، المشكلة بالنّسبة إليهم أنّك رسولٌ من الله عز وجل، فهم يكذّبون بآيات الله سبحانه وتعالى، فأنت يا رسول الله أكرم من أن تُكَذَّب، فقد شهدوا لك بالصّدق عبر معايشتهم لك من قبل الرّسالة .

﴿ يَضِيقُ صَدْرُكَ ﴾: ضيق الصّدر بالمعنى الحسّيّ: أنْ يقِلّ الهواء الدّاخل عَبْر عمليّة التّنفُّس إلى الرّئتين، فمن هذا الهواء تستخلص الرّئتان الأوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون، ويعمل الأوكسجين على أكسدة الغذاء لِينتجَ الطّاقة، فإنْ ضاق الصَّدْر صارت الطّاقة قليلة، والمثَل يتّضح لِمَنْ يصعدون السُّلَّم العالي لأيّ منزلٍ أو أيّ مكان، ويجدون أنفسهم يلهجون، والسّبب في هذا اللّهج هو أنّ الرّئة تريد أنْ تُسرِعِ بالتقاط كمّيّة هواء أكبر من تلك الّتي تصل إليها، فيعمل القلب بشدّة أكثر كي يُتيح للرّئةِ أن تسحبَ كمّيّةً أكبر من الهواء، أمّا مَنْ يكون صدره واسعاً فهو يسحب ما شاء من الهواء الّذي يُتيح للرّئة أن تأخذَ الكمّيّة الّتي تحتاجها من الهواء، فكأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يُكذِّبه أحد، أو يستهزئ به أحد كان يضيق صَدْره فتضيق كمّيّة الهواء اللّازمة للحركة؛ ولذلك يُطمئِنه الحقّ سبحانه وتعالى أنّ مَدَده له لا ينتهي، وأنت تلحظ عمليّة ضيق الصّدر في نفسك حين يُضايقك أحد فتثور عليه، فيقول لك: لماذا يضيق صدرك؟ وَسِّع صدرك قليلاً، والله سبحانه وتعالى يقول في موضعٍ آخر: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: من الآية 125]؛ أي: يُوسّع صدره، وتزداد قدرته على فَهْم المعاني الّتي جاء بها الدّين الحنيف، ويقول أيضاً: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: من الآية 125]، وهنا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يشرح عمليّة الصّعود وكأنّ فيها مجاهدةً ومكابدةً، وهذا يخالف المسألة المعروفة بأنّك إذا صعدتَ إلى أعلى وجدتَ الهواء أكثرَ نقاءً، وقد ثبت أنّ الإنسان كلّما صعد إلى أعلى في الفضاء فلن يجد هواء.

ويدلُّ الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على علاج لمسألة ضيق الصّدر حين يُحزنه أو يؤلمه مُكذّب، أو مُسْتهزئ؛ وهي للمؤمنين كلّهم، فيقول سبحانه وتعالى:   

الآية رقم (98) - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ

﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: يمكن أن تُذْهب عنك أيَّ ضيق بتسبيح الله جل جلاله، وإذا ما جافاكَ البِشْر أو ضايقك الخَلْق، فاعلم أنّك قادرٌ على الأُنْس بالله عز وجل عن طريق التّسبيح، ولن تجد أرحم منه سبحانه وتعالى، وأنت حين تُسبِّح ربّك عز وجل فأنت تُنزِّهه عن كُلِّ شيءٍ وتحمده؛ لتعيش في كَنَف رحمته، ولذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في موقعٍ آخر: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾  [الصّافّات]، ولذلك إذا ضاق صدرك في الأسباب فاذهب إلى الـمُسبِّب، ونحن دائماً نقرن التّسبيح بالحمد، فالتّنزيه يكون عن النّقائص في الذّات أو الصّفات أو الأفعال، وسبحانه كاملٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، فذاتُه لا تُشْبِه أيَّ ذات، وصفاته أزليّة مُطْلقة، أمّا صفات الخَلْق فهي موهبةٌ منه سبحانه وتعالى وحادثة، وأفعال الحقّ سبحانه وتعالى لا حاكمَ لها إلّا مشيئته جل جلاله، ولذلك نجده عز وجل يقول في مسألة التّسبيح: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: من الآية 36]، وهو القائل جل جلاله: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الرّوم]، وكُلٌّ من المساء والصّباح آية منه سبحانه وتعالى، فحين تغيب الشّمس، فهذا إذْنٌ بالرّاحة، وحين تصبح الشّمس فهذا إِذْنٌ بالانطلاق إلى العمل، وتسبيح المخلوق للخالق هو الأمر الّذي لا يشارك اللهَ سبحانه وتعالى فيه أحدٌ من خَلْقه أبداً، فكأنّ سَلْوى المؤمن حين تضيق به أسباب الحياة أنْ يفزَع إلى ربّه عز وجل من قسوة الخَلْق؛ ليجد الرّاحة النّفسيّة؛ لأنّه يَأْوي إلى رُكْنٍ شديد، ونجد بعضاً من العارفين بالله عز وجل وهم يشرحون هذه القضيّة يقولون: “إذا أوحشك من خَلْقه فاعلم أنّه يريد أن يُؤنسك به”، وأنت حين تُسبِّح الله عز وجل فأنت تُقِرّ بأنّ ذاته ليستْ كذاتِك، وصفاته ليست كصفاتك، وأفعاله ليست كأفعالك؛ وذلك كلّه لمصلحتك، فقدرتك وقدرة غيرك من البشر هي قدرة عَجْزٍ وأغيار، أمّا قدرته سبحانه وتعالى فهي ذاتيّة فيه ومُطْلقة وأَزليّة، وهو الّذي يأتيك بالنِّعم كُلّها، ولهذا فعليك أنْ تصحبَ التّنزيه بالحمد، فأنت تحمد ربّك؛ لأنّه مُنزَّهٌ عن أنْ يكونَ مثلك، والحمد لله عز وجل واجب في كلّ وقت، فسبحانه الّذي خلق المواهب كلّها لِتخدُمَك، وحين نرى هذا العطاء كلّه من الله سبحانه وتعالى فيجب أن نسبّحه ونحمده سبحانه وتعالى، وهو جل جلاله المعطي والمانع.

﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾: فالسّجود هو الـمَظْهر الواسع للخضوع، وأقرب ما يكون العبد من الرّبّ عند السّجود، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»([1])، وعندما يضع الإنسان وجهه على الأرض فهو لا يتذلّل لبشر، وإنّما يرتقي فوق البشر، ومَنْ يسجد بأرقى ما فيه، فهذا خضوعٌ يُعطي عِزّة، ومَنْ يخضع لله سبحانه وتعالى شكراً له على نعمه، فسبحانه يعطيه من العزّة ما يكفيه، فالسّجود هو قمّة الخضوع لله سبحانه وتعالى، وليس عبوديّة البشر للبشر، وإنّما هو عطاءٌ:

حسبُ نفسي عزّاً بأنّي عبدُ هو في قُدْسِه الأعزّ ولكن                     . يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
أنا ألقاه متى وأين أحبّ
.

(([1] صحيح مسلم: كتاب الصّلاة، باب ما يُقال في الرّكوع والسّجود، الحديث رقم (482).

الآية رقم (99) - وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ ﴾: العبادة هي إطاعة العابد لأوامر المعبود إيجاباً أو سَلْباً، وهي تطبيق (افعل) و(لا تفعل)، وتطبيق لوظائف الإيمان، فكلّ آيةٍ في القرآن الكريم تأتي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فما بعدها هو أمرٌ واجب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: من الآية 183]،  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: من الآية 6]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التّوبة]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: من الآية 12]… إلخ، وكثيرٌ من النّاس يظنّون أنّ العبادة هي الأمور الظّاهريّة في الأركان الخمسة من شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت لِمَن استطاع إليه سبيلاً، ونقول لهم: لا، هذه هي أركان العبادة؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»([1])، فهذه الخمس بُنِيَ عليها الإسلام؛ أي: أنّها البنْية الّتي تقوم عليها بقيّة العبادات، وكُلّ ما لا يقوم الواجب إلّا به فهو واجب؛ أي: أنّ حركة الحياة كلّها حتّى كَنْس الشّوارع، وإماطة الأذى عن الطّريق هي عبادة، يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستّون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق»([2])، فكلّ ما يُقصد به نَفْع العباد هو عبادة، فهذا هو المفهوم الحقيقيّ.

﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾: أمّا اليقين بالغيبيّات فهو من خُصوصيّات المؤمن، فمن آمن بالقرآن الكريم وصَدَّق بما جاء به، فهو يؤمن بما أخبر عنه القرآن الكريم، والمثَلُ الواضح في ذلك هو سيّدنا أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه حينما كانوا يُحدِّثونه بالأمر الغريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: “ما دام قد قال فقد صدق”، أمّا المشكّك والكافر -والعياذ بالله- فهو يشكُّ في كلّ شيءٍ غيبيٍّ أو حتّى مادّيّ ما لم يكن محسوساً لديه، ولكن ما إنْ يأتيه الموت حتّى يعلمَ أنّه اليقين الوحيد، ولذلك نجد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: “ما رأيتُ يقيناً أشبه بالشّكِّ من يقين النّاس بالموت”، وكلّنا على يقين أنّنا سوف نموت، ونرى الميّت يؤخذ من بيته وأهله وأحبابه ويُدفَن أمام أعيننا، لكِنَّنا نُزحزِح مسألة اليقين هذه بعيداً عَنَّا مع أنّها واقعةٌ لا محالةَ، فإذا ما جاء الموت، نقول: ها هي اللّحظة الّتي لا ينفع فيها شيءٌ إلّا عمل الإنسان إذا كان مؤمناً مُؤدِّياً لحقوق الله عز وجل، ولذلك إنّ اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكّداً، بحيث لا يطفو إلى الذّهن لِيُناقَش من جديد، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تُبَلِّغك به، أمّا عَيْن اليقين، فهي الّتي ترى الحدث فتتيقّنه، أو هو أمرٌ حقيقيٌّ يدخل إلى قلبك فَتُصدِّقه، وهكذا يكون لليقين مراحل: أمرٌ تُصدِّقه تَصديقاً جازماً فلا يطفو إلى الذّهن لِيُناقَش من جديد، وله مصادر عِلْم مِمَّنْ تثق بصدقه، أو: إجماعٌ من أناس لا يجتمعون على الكذب أبداً، وهذا هو (علم اليقين)، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التّكاثر]، فإذا رأيتَ الأمر بعينيك فهذا هو حقّ اليقين، والمؤمن يُرتِّب تصديقه وتيقّنه على ما بلغه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هو الإمام عليّ كرَّم الله وجهه وأرضاه يقول: “ولو أنّ الحجاب قد انكشف عن الأمور الّتي حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيباً ما ازددتُ يقيناً”، وها هو سيّدنا حارثة رضي الله عنه يقول: “عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» -قَالَهَا ثَلَاثًا-([3])، وذلك هو اليقين كما آمنَ به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا نتوقّف لحظات عند موضوع اليقين، فالإيمان حقيقةً هو يقينٌ بما أخبر الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم، وهناك أمورٌ تتعلّق بالحياة الدّنيا، وهناك أمورٌ غيبيّة، والإيمان لا يكون إلّا بما هو غيب، فالله سبحانه وتعالى بالنّسبة إلينا موجودٌ، وهو بالنّسبة إلينا غيبٌ؛ لأنّنا لا نراه؛ أي: لا يمكن أن يُدرَك بالحواسّ جل جلاله، وكذلك الإيمان بالملائكة -عليهم السّلام-، والكتب والرّسل -عليهم السّلام- واليوم الآخر، هذه كلّها من عناصر وأركان الإيمان، كلّها تكون بالغيبيّات، ويجب أن تكون في مقام اليقين بالنّسبة إلى الإنسان؛ لأنّ الموضوع الّذي يُناقش تجريبيّاً وعقليّاً هو الموضوع المتعلّق أوّلاً بوجود الله عز وجل، هل هو موجود؟ هل هو خالق؟ قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾  [آل عمران]، فأنت عندما تؤمن بالله سبحانه وتعالى تؤمن به من خلال العلم، ومن خلال معطيات المخلوقات، ومن خلال ما أوجده سبحانه وتعالى، فمن خلال هذه المعطيات العلميّة والعقليّة يجب أن يكون الإيمان هو إيمان يقين بما أخبر الله سبحانه وتعالى به، فتؤمن بالرّسول الكريم، وتؤمن بالقرآن الكريم، فأنت عندما آمنت بالله عز وجل وتيقّنت بالقرآن الكريم، وتيقّنت برسول الله صلى الله عليه وسلم عقليّاً وعلميّاً ووجدانيّاً وأخلاقيّاً، فبعد ذلك كلّ ما يخبر عنه القرآن الكريم أصبح في مناط اليقين بالنّسبة إلى المؤمن، فإذا قال الله سبحانه وتعالى لك: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [غافر]، فلا نشكّ للحظةٍ واحدة بأنّ السّاعة آتية، وإذا قال المولى جلّ وعَلا: ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾[الزّخرف: من الآية 44]، فلا نشكّ في السّؤال للحظةٍ واحدة، وإذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر]، فلا نشكّ للحظةٍ واحدة أنّ الإنسان في قبره إمّا أن يكون منعّماً وإمّا أن يكون معذّباً، ولا نشكّ للحظةٍ واحدة عندما تحدّث المولى سبحانه وتعالى عن وجود الملائكة أنّ الملائكة -عليهم السّلام- خَلْقٌ من مخلوقاته سبحانه وتعالى، وعندما يقول جل جلاله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذّاريات]، فلا نشكّ للحظةٍ واحدة أنّ الجنّ من مخلوقاته سبحانه وتعالى، فمرحلة اليقين تأتي عندما يصبح الإنسان مؤمناً بالله سبحانه وتعالى وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الكريم، فهذه الأمور نعيدها إلى هذا المصدر الأوّل.

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النّبيّ ,: «بني الإسلام على خمس»، الحديث رقم (8).

(([2] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، الحديث رقم (35).

(([3] شُعَب الإيمان للبيهقيّ: باب الزّهد وقصر الأمل، الحديث رقم (10107).

الآية رقم (94) - فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾: أي: افرغ لِمُهمّتك، والصّدع: أن تصنع شقّاً في متماسكٍ، كما نشقّ زجاجاً بالمشرط الخاصّ بذلك، أو نصنع شقّاً في حائط. والرّسول صلى الله عليه وسلم قد جاء لِيشقَّ الكفر، ويهدم الفساد القويّ المتماسك الّذي يَقْوى بقوّة صناديد قريش، وقد شاع ذلك المصطلح (الصّدع) في الزّجاج؛ لأنّ أيَّ شقٍّ في أيِّ شيءٍ من الممكن أنْ يلتئمَ إلّا في الزّجاج؛ لأنّه يصعب أن يجمع الإنسان الفتافيت والقطع الصّغيرة الّتي تنتج من صدعه، وقد جاء الإيمان ليصدع بنيان الكفر والفساد المتماسك.

﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾: أي: أَعْطِهم عرض كتفيك، ولا تسأل عنهم، فَهُم لن يُسلِموا لك، ذلك أنّهم مستفيدون من الفساد الّذي جِئْتَ يا محمّد لتهدمه، ولكنّهم سيأتون لك تباعاً بعد أن تتثبّت دعوتُك، وتصل قلوبهم إلى تيقُّن أنّ ما جئتَ به هو الحقّ، والمثَل هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنه؛ فقد قالا: “لقد استقرّ الأمر لمحمّد، ولم تَعُدْ معارضتنا له تفيد أحداً”، ودخلَا الإسلام، وهكذا دخل النّاس في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً.  

الآية رقم (85) - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾: والحقُّ: هو الشّيء الثّابت الّذي لا تَعْتوره الأغيار، والمثَل هو نظام المجرَّات وحركة الشّمس والقمر، نجدها مُنْضبِطة؛ ذلك أنّ الإنسان لا يتدخَّل فيها، وليس للإنسان معه أيّ اختيار، ولذلك نجد أنّ الفسادَ لا ينشأ في الكون من النّواميس العُلْيا، ولكن من الأمور الّتي يتدخَّل فيها الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق السّموات والأرض وما بينهما، والمولى سبحانه وتعالى يبيّن بأنّه خلقها بالحقّ: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرّحمن]، فإذا أردتم أن تنتظمَ أموركم في الحياة الدّنيا فلا تطغَوْا في ميزان أيِّ شيءٍ، وهنا يُذكِّرنا الحقّ سبحانه وتعالى ألَّا نقعَ في خطأ الوهم بأنّنا سنأخذ نِعَم الدّنيا من غير ضابط أو رابط، فالحساب قادم لا محالة، ولذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ [الزّخرف]؛ أي: مَا قدّره الله سبحانه وتعالى سيقع من غير أنْ يَصُدَّه شيء مهما كان، وإمَّا ترى ذلك في حياتك، أو تراه لحظة البَعْث، والدّليل هو ما حاق بمَنْ كفروا وظلموا وكذَّبوا الرّسل-عليهم السّلام-، وعاثوا في الأرض مُفْسدين، وأهلكهم الله سبحانه وتعالى كما رأينا في الآيات السّابقة.

﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾: فلا يردّها شيءٌ، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: إنّ السّاعة آتية فهي قادمة؛ لأنّ من يقول هو الّذي يملك مقادير السّموات والأرض، ويملك الماضي والحاضر والمستقبل، والقادر على كلّ شيءٍ.

﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾: دائماً يعطي المولى سبحانه وتعالى سعة في الأخلاق إضافة لسعة الكون، و﴿الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ أن يكون الإنسان في صدره سعة للصّفح عن النّاس؛ لأنّ السّاعة آتية والحساب آتٍ، فإذا تفلّت من عدالة الأرض فلن يستطيع أن يفلت من عداوة السّماء أبداً، والصّفح الجميل هو الّذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كلّ ما عاناه، وهو صبرٌ جميل، فقد عانى النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام متاعب ومشاقّ، لكنّه يتذرّع دائماً بالصّبر الجميل، الّذي يرافقه الصّفح الجميل.

الآية رقم (86) - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ

وقد جاء سبحانه وتعالى هنا بالاسم الّذي خلق به من عَدَم، وأمدَّ من عُدْم، وقيُّوميّة الرّبوبيّة هي الّتي تمدُّ الكون كلّه برزقه وترعاه، فسبحانه هو الّذي استدعى الإنسان إلى الكون.

﴿رَبَّكَ﴾: هذه الكلمة تُوحي بأنّه إنْ أصابك شيءٌ بسبب دعوتك، وبسبب كنود قومك أمامك وعدائهم لك، فربُّكَ يا محمّد -عليه الصّلاة والسّلام- لن يتركهم.

والرّبّ -كما نعلم- هو مَنْ يتولَّى تربية الشّي إلى ما يعطيه مناط الكمال، ولا يقتصر ذلك على الدّنيا فقط، ولكنّه ينطبق على الدّنيا والآخرة.

﴿الْخَلَّاقُ﴾: مبالغة في الخَلْق، وهي امتداد صفة الخَلْق في كلّ ما يمكن أنْ يُخلق؛ لأنّه سبحانه وتعالى هو الّذي أعدَّ كلّ مادّة يكون منها أيّ خَلْق، وأعدّ العقل الّذي يُفكِّر في أيِّ خلق، وأعدَّ الطّاقة الّتي تفعل، وأعدَّ التّفاعل بين الطّاقة والمادّة والعقل الـمُخطِّط لذلك، وما يفعله الإنسان المخلوق هو التّوليف بين ما خلقه الله سبحانه وتعالى من موادّ، وإنْ وُجِد خلّاق من البشر، فهو وحده سبحانه وتعالى الّذي يهب إنساناً ما أفكاراً لينفّذها، ثمّ يأتي مَنْ هو أذكى منه لِيُطوِّرها، ولذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: من الآية 76]، والعلم هو أساس بالنّسبة إلى الإنسان، وعلم الله سبحانه وتعالى ليس عِلْماً مُكْتسباً أو ممنوحاً، بل العلم صفة ذاتيّة فيه.    

الآية رقم (87) - وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ

يمتنُّ المولى سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنّه يكفيه أنْ أنزلَ عليه القرآن الكريم الكتاب المعجز، والمنهج الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، فالقرآن الكريم يضمُّ كمالاتِ الحقّ سبحانه وتعالى، فإذا كان سبحانه وتعالى قد أعطاه ذلك، فهو أيضاً يتحمَّل عنه كُلَّ ما يُؤلِمه، والحقّ سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: من الآية 97]، وأزاح الحقّ سبحانه وتعالى عنه هموم اتّهامهم له بأنّه ساحرٌ أو مجنون، وقال له سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: من الآية 33].

﴿سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾: اتّفق العلماء على أنّ كلمة: ﴿ الْمَثَانِي ﴾ تعني فاتحة الكتاب، فلا يُثنَّى في الصّلاة إلّا فاتحة الكتاب.

﴿وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾: يَصِف الله سبحانه وتعالى القرآنَ بالعظيم، وهو جل جلاله يحكم بعظمة القرآن الكريم على ضَوْء مقاييسه الـمُطْلقة، وهي مقاييس العظمة عنده سبحانه، والمثَل الآخر على ذلك وَصفه سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم]، وهذا حُكْمٌ بالمقاييس العُلْيا للعظمة، وهكذا يصبح متاع الدّنيا كُلّه أقلّ مِمَّا وهبه الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ونلحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قد عطف القرآن الكريم على السَّبْع المثاني، وهو عَطْف عامّ على خَاصٍّ، كما قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: من الآية 238]، ونفهم من هذا القول أنّ الصّلاة تضمُّ الصّلاة الوُسْطى أيضاً، وكذلك مثل قول الحقّ سبحانه وتعالى ما جاء على لسان نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: من الآية 28]، وهكذا نرى عَطْف عامٍّ على خاصّ، وعَطْف خاصٍّ على عامّ، أو أنْ نقولَ: إنّ كلمة (قرآن) تُطلَق على الكتاب الكريم الـمُنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوّل آيةٍ في القرآن الكريم إلى آخر آيةٍ فيه، وتُطلق أيضاً على الآية الواحدة من القرآن الكريم، فقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرّحمن]، هي آيةٌ من القرآن الكريم، وتُسمَّى أيضاً قرآناً، ونجده سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[الإسراء: من الآية 78]، ونحن في الفجر لا نقرأ القرآن الكريم كلّه، بل بعضاً منه، ولكن ما نقرؤه يُسمَّى قرآناً، وكذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء]، وهو لا يقرأ القرآن الكريم كُلَّه بل بعضه، فكلُّ آيةٍ من القرآن الكريم هي قرآن، وقد أعطى الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم السَّبْع المثاني (الفاتحة) والقرآن العظيم، وتلك هي قِمَّة العطايا، فللّه جل جلاله عطاءاتٌ متعدّدة تشمل المؤمن والكافر، وتشمل الطّائع والعاصي، وعطاءاتٌ خاصّة بمَنْ آمن به جل جلاله، وتلك عطاءات الألوهيّة لـمَنْ سمع كلام ربِّه فأطاع وانتهى عمّا نهى عنه الله سبحانه وتعالى، وسبحانه يمتدّ عطاؤه من الخَلْق إلى شَرْبة الماء، إلى وجبة الطّعام، وإلى الملابس، وإلى الـمَسْكن، وكلّ عطاءٍ له عُمْر، ويسمو العطاء عند الإنسان بسُموّ عمر العطاء، وكلّ عطاءٍ يمتدُّ عمره يكون هو العطاء السّعيد، فإذا كان عطاء الرّبوبيّة يتعلَّق بمُعْطيات المادّة وقوام الحياة، فإنّ عطاءات القرآن الكريم تشمل الدّنيا والآخرة، وإذا كان ما يُنغِّص أيَّ عطاء في الدّنيا أنّ الإنسانَ يُفارقه بالموت، أو أن يذوي هذا العطاء في ذاته، فعطاء القرآن الكريم لا ينفد في الدّنيا ولا في الآخرة، ونعلم أنّ الآخرة لا نهايةَ لها على عكس الدّنيا الّتي لا يطول عمر الإنسان فيها بعمرها، بل بالأجل الـمُحدَّد له فيها، وإذا كانت عطاءاتُ القرآن الكريم تحرس القيم الّتي تهبُ الإنسان عطاءات الحياة الّتي لا تفنَى وهي الحياة الآخرة، فهذا هو أَسْمى عطاء، وإيّاك أن تتطلّعَ إلى نعمة موقوتة عند أحد منهم من نِعَم الدّنيا الفانية؛ لأنّ مَنْ أُعطِي القرآن الكريم وظنَّ أنّ غيره قد أُعْطِي خيراً منه، فقد حقّر ما عَظَّم الله عز وجل، وما دام الحقّ سبحانه وتعالى قد أعطاك هذا العطاء العظيم، فيترتّب عليه قوله جل جلاله:     

الآية رقم (88) - لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ

﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾: الـمَدُّ: هو مَطُّ الشّيء وزيادته، وللعيْن مسافات تُرَى فيها المرائي، كُلّ عَيْنٍ حَسْب قدرتها، فهناك مَنْ يتمتّع ببصرٍ قويٍّ حادّ، وهناك مَنْ ليس كذلك.

والمراد بمَدِّ العين ليس إخراج حبّة العين ومدِّها، ولكن المراد إدامة النّظر والإمعان، ولكنّ الحقّ سبحانه وتعالى عبَّر في القرآن الكريم هذا التّعبير، وكأنّ الإنسان سيُخرِج حبَّة عينه ليجري بها، وليُمعِن النّظر، وهذا ما يُفهَم من منطوق الآية، والمنطوق يشير إلى المفهوم المراد، وهذا عين الإعجاز.

﴿ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ ﴾: كلمة: (متاع) تُفيد أنّ شيئاً يُــتمتَّع به وينتهي، ولذلك يُوصَف متاع الدّنيا في القرآن الكريم بأنّه متَاعُ الغرور؛ أي: أنّه متاعٌ موقوت.

﴿ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ﴾: هي جَمْع زَوْج، وسبق أنْ أوضحنا أنّ كلمة (زوج) هي مفرد، والذّكَر والأنثى حين يتلاقيان يصبح اسمهما زوجين، والحقّ سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يس]، والأزواج كلُّها تعني الفرد، ومعه الفرد من كلّ صنف من الأصناف، والمراد بكلمة (أزواج) هنا أنّ المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا شِلَلاً شِللاً، ضالّ ومضلّ، وضالّ آخر معه مُضِلّ، ولحظة الحساب سيقول كلّ منهم: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ [الصّافّات]، وهكذا كانت كلمة (أزواج) تدلّ على أصنافٍ متعدِّدة من الّذين يقفون معاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومُنكِرين لمنهجه.

وهنا يُوضِّح الحقّ سبحانه وتعالى: إيّاكَ أنْ تَمُدَّ عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم؛ لأنّنا أعطيناك أعلى عطاء، وهو معجزة القرآن الكريم حارس القيم الّذي يضمُّ النَّهْج القويم، فلا تمدنّ عينيك إلى متاع هؤلاء المجموعات مهما كانت.

﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾: يُقال: حزنت منه، وحَزِنت عليه، وحَزِنت له، فمَنْ ناله ما يُحزن، ولم يَصْدُر عنك السّبب في حزنه، فأنت تقول له: (حَزِنت لك). ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَزِن عليهم، فقد كان يُحِبّ أنْ يؤمنوا، وأنْ يتمتّعوا بالنّعمة الّتي يتمتّع هو بها وهي القرآن الكريم، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف]، وقول الحقّ سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾  دليلٌ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يُؤمِن قومه، محبّةً فيهم، وليتعرَّفوا على حلاوة الإيمان بالله عز وجل، وكان صلى الله عليه وسلم يتألّـم ويحزّ في نفسه عدم إيمانهم، لدرجة أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال له في آيةٍ أخرى﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشّعراء]، وهنا يُوضِّح المولى سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ إيمانهم ليس أمراً صعباً عليه عز وجل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس].

﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾: يريد أن تتحوّل هذه العاطفة الموجودة من هؤلاء الّذين لا فائدة منهم إلى أولئك المؤمنين، الّذين آمنوا وتحمّلوا المشاقّ، فتوجّه طاقة الحنان والمودَّة الّتي في قلبك إلى مَنْ يستحقّها، وهم المؤمنون برسالته صلى الله عليه وسلم، فهذا الحزن إنّما هو طاقة عاطفيّة يجب أن تكون بخفض الجناح، وهو التّواضُع لهؤلاء المؤمنين؛ ذلك أنّ الجناحَ هو الجانب، فحين يأتيك إنسانٌ تريد أنْ تتكبَّر عليه، فهو يقول: “فلانٌ لَوَى عنِّي جانبه”، وهذا أمرٌ عامٌّ للمؤمنين كلّهم، وكلمة: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ﴾ مأخوذةٌ من خَفْض جناح الطّائر، فالطّائر يرفع جناحه عند الطّيران، ولكن ما إنْ يلمسَ هذا الطّائر فَرْخَه الصّغير حتّى يَخفِض جناحه له ليضمّه إليه، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[الإسراء].

الآية رقم (89) - وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ

نعلم أنّ الرّسل -عليهم السّلام- مُبشرِّون ومُنذرِون، ولسائلٍ أنْ يقولَ: لماذا تأتي صيغة الإنذار دائماً؟ نقول: إنّ مَنْ يؤمن هو مَنْ يتلقَّى البشارة، أمّا مَنْ عليه أنْ يتوقَّع النِّذارة فهو الـمُنكِر لوجود الله سبحانه وتعالى.

وبذلك يكون الله سبحانه وتعالى في الآيتين السّابقتين قد امتنَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنّه قد آتاه السّبع المثاني والقرآن العظيم، وأوصاه ألَّا تطمح نفسه إلى ما أوتي بعض الكفّار من جاه ومال في هذه الحياة، فالقرآن الكريم عزُّ الدّنيا والآخرة، ونحن قومٌ أعزّنا الله عز وجل بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة بغيره أذلّنا الله سبحانه وتعالى، ويوصيه كذلك بألّا يحزنَ عليهم نتيجة انصرافهم عن دعوته، فليس عليه صلى الله عليه وسلم إلّا البلاغ والإنذار، وأن يتواضعَ للمؤمنين ليزداد ارتباطهم به صلى الله عليه وسلم، فهم خيرٌ من الكافرين برسالته، ثمّ يُوصيه الحقّ سبحانه وتعالى أن يُبلّغ الجميع أنّه نذيرٌ وبشير، ويوضّح ما جاء في القرآن الكريم من خيرٍ يعُمَّ المؤمنين، وعقاب ينزل على الكافرين.

الآية رقم (90) - كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ

نعلم أنّه سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم، واستقبله النّاس استقبالَينِ: فمنهم مَنِ استمع إلى القرآن الكريم فتبصَّر وآمن، وفي هؤلاء قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾  [المائدة]، والصّنف الآخر استمع إلى القرآن الكريم، فكانت قلوبهم كالحجارة، وفيهم قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [محمّد]، والمسألة لها سوابق مع غيرك من الرّسل، فقد نزل كلّ رسولٍ بكتابٍ يحمل المنهج، ولكنّ النّاس استقبلوا تلك الكتب كاستقبال قومك لِمَا نزل إليك بين كافر ومؤمن، واختلفوا في أمور الكُتب المنزَّلة إلى رسلهم، وكان انقسامهم كانقسام قومك حول الكتاب الـمُنزَّل إليك، فلا تحزنْ إنِ اتّهموك بأنّك ساحرٌ، أو أنّ ما نزل إليك كتابُ شعر، أو أنّك تمارس الكهانة، أو فقدوا القدرة على الحكم عليك واتّهموك بالجنون.

وهكذا قَسَّموا القرآن الكريم الـمُنزَّل من الله سبحانه وتعالى إلى أقسام هي: السِّحْر، والكهانة، والشّعر، والجنون، كما فعل من قبلهم أقوام آخرين: فمنهم قال: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشّعراء: من الآية 27]، فالاقتسام الّذي استقبل به الكفّار القرآن الكريم سبق وأنْ حدث مع الرّسل الّذين سبقوك. 

الآية رقم (91) - الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ

﴿عِضِينَ﴾: تعني القطع، فيُقال للجزّار حين يذبح الشّاة أو العجل: إنّه قد جعله عِضين؛ أي: فصَل كُلَّ ذراعٍ عن الآخر، وكذلك قطع الفخذ؛ أي: أنّه جعل الذّبيحة قِطَعاً قِطَعاً بعد أنْ كانت أعضاءً مُتّصلة.

وكذلك كان القرآن الكريم حينما نزل كياناً واحداً، فأراد بعض الكفّار أن يُقطِّعوه إلى أجزاء، والمقصود بهم جماعة من اليهود كانوا على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرادوا أنْ يُقطِّعوا القرآن الكريم كما فعلوا مع التّوراة الّتي نزلت على موسى عليه السلام، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾  [المائدة: من الآية 13]، فاليهود استقبلوا القرآن الكريم استقبالَ مَنْ يُصدِّق بعضه مِمَّا يناسبهم وممّا لا يُتعِبهم، وكذَّبوه في بعضه الّذي يتعبهم، فقد كذَّبوا مثلاً أنّ كتابهم قد بشَّرهم بالنّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، وهكذا نرى كيف حاولوا أن يجعلوا القرآن الكريم عِضين؛ أي: قطعاً مفصولة عن بعضها بعضاً، وقد حاولوا ذلك بعد أن تبيَّن لهم أنّ القرآن الكريم مُؤثِّر وفاعل.

والآن كثيرٌ من النّاس جعلوا القرآن الكريم عضين، فأخذوا منه ما يناسبهم، وتركوا ما لا يناسبهم حسب رأيهم، أو يقول بعضهم: إنّنا الآن في زمنٍ مختلفٍ عن الأزمان السّابقة فنأخذ من القرآن الكريم ما يناسبنا، وهذا كلامٌ غير مقبول؛ لأنّنا نتعامل مع كلام الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى كلامه أزليّ؛ أي: يَصلُح لكلّ زمانٍ ومكانٍ، ويستوعب الأزمنة والأماكن، فلا تجعلوا القرآن الكريم عضين؛ أي: لا تفصلوه، بل يجب أن تأخذوه جملةً واحدة؛ أي: كلّاً متكاملاً، ولكن يمكن أن تختلف تفسيرات البشر في كلّ وقت وليس أن يُختَلف حول القرآن الكريم، فيمكن أن يجتهد النّاس في تفسيراتهم؛ لإنزال النّصّ على الواقع، وعند إنزال النّصّ على الواقع قد تختلف الأحكام بتبدّل الأزمان كما نعلم من محكم القرآن الكريم، فالقرآن الكريم فيه آياتٌ محكمات هنّ أمّ الكتاب وأُخَر متشابهات، والمتشابهات يمكن أن تُؤَوَّل، أمّا المحكمات فلا، مثلاً: لا يقولنّ قائلٌ: اليوم لا نستطيع أن نصلّي أربع ركعات الظّهر وسنقتصرها على ركعتين، أو نصوم للظّهر وليس للمغرب، فهذا كلامٌ يستحيل عقليّاً، وهكذا تنطبق الأمور كلّها بالنّسبة إلى الآيات القرآنيّة، فيجب ألّا نكون كالمقتسمين الّذين جعلوا القرآن الكريم عضين، ولا تتعلّق القضيّة فقط بالقوم الّذين استقبلوا أوّل استقبالٍ للقرآن الكريم، ففي كلّ زمن وفي كلّ جيلٍ هناك استقبالان للقرآن الكريم: الأوّل: استقبال إيمان كامل متكامل بالقرآن الكريم وبما يتبعه من السّنّة النّبويّة المطهّرة الّتي أمر بها القرآن الكريم: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النّساء: من الآية 80]، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: من الآية 7]، فهذا أمرٌ محتوم قطعيّ، والاستقبال الثّاني في كلّ زمن: هو استقبال الإنكار، فإمّا أن يكون إنكاراً كاملاً، وهو الإلحاد وعدم القبول بالإيمان بشكلٍ كاملٍ أو أن نأخذ جزءاً ونجعل القرآن الكريم عضين، وهذا ما نحن بصدده الآن، بأن نأخذ ما يناسبنا وندع ما لا يناسبنا منه، فبدلاً من أن نرتفع إلى مستوى عطاءات القرآن الكريم نريد من عطاءات القرآن الكريم أن تستر عيوبنا، وهذه هي مشكلة من جعلوا القرآن الكريم عضين.             

الآية رقم (92) - فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ

﴿فَوَرَبِّكَ﴾: يُقسِم الله سبحانه وتعالى بصفة الرّبوبيّة الّتي تعهّدتْ رسوله صلى الله عليه وسلم بالتّربية والرّعاية ليكون أهلاً للرّسالة وأنّه لن يُسلِمه لأحد، وهو سبحانه وتعالى مَنْ قال: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطّور: من الآية 48].

﴿لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾: يُبيِّن لنا سبحانه وتعالى أنّه سيسألهم عن أدقِّ التّفاصيل، ومجرّد توجيه السّؤال إليهم فيه لَوْنٌ من العذاب، ويحاول بعضهم مِمَّنْ يريدون أنْ يعثروا على تعارضٍ في القرآن الكريم أن يقولوا: كيف يقول الله سبحانه وتعالى مرّةً: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرّحمن]، ويقول في أكثر من موقع في القرآن الكريم أنّه سيسأل هؤلاء الـمُكذِّبين؟ فكيف يُثبِت السّؤالَ مرّةً، وينفيه مرّةً أخرى؟ نقول لهؤلاء: أنتم تستقبلون القرآن الكريم بسطحيّةٍ شديدة، تسطيح العقل في فهم القرآن الكريم، فهذا الّذي تقولون: إنّه تعارضٌ، إنّما هو مجرّد ظاهر من الأمر، وليس تعارضاً في حقيقة الأمر، ونحن نعلم أنّ أيّ سؤال له مُهِمّتان:

الـمُهِمّة الأولى: أن تعلم ما تجهل.

والمهمّة الثّانية: لتقرَّ بما تعلم.

والحقّ سبحانه وتعالى حين ينفي سؤالاً فهو ينفي أنّ أحداً سيُخبره بما لا يعلم سبحانه وتعالى، وحين يثبت السّؤال، فهذا يعني أنّه سيسألهم سؤالَ الإقرار، وقوله هنا: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾؛ يعني أنّ الضَّالّ والـمُضِلّ، والتّابع والمتبوع سَيُسألون عَمَّا كانوا يعملون.      

الآية رقم (82) - وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ

وهنا يمتنُّ المولى سبحانه وتعالى عليهم بأن منحهم حضارةً، ووهبهم مهارة البناء والتّقدُّم في العمارة، وأخذوا في بناء بيوتهم في الأحجار، ومن الأحجار الّتي كانت توجد بالوادي الّذي يقيمون فيه، وقطعوا تلك الأحجار بطريقةٍ تُتيح لهم بناء البيوت والقُصور الآمنة من التّقلُّبات الجوّيّة وغيرها.

ونعلم أنّ مَنْ يعيش في خَيْمةٍ يعاني من قِلَّة الأمن، أمّا مَنْ يعيش في بيتٍ أو قصر فهو أقرب للأمان والسّكن منه من الآخرين، وإذا كان قوم صالح عليه السلام قد أقاموا بيوتهم من الحجارة فهي بالتّأكيد أكثر أَمْناً من غيرهم، ونجد نبيّهم صالحاً عليه السلام، وقد قال لهم ما أورده الحقّ سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف]، ولكنّهم طَغَوْا وبَغَوْا وأنكروا ما جاء به صالح عليه السلام فما كان من الحقّ تبارك وتعالى إلّا أنْ أرسلَ عليهم صيحةً تأخذهم.

الآية رقم (93) - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: والعمل كما نعلم هو اتّجاه جارحة إلى مُتعلّقها، فجارحةُ العين مُتعلِّقها أنْ ترى، وجارحةُ اللّسان مُتعلِّقها أن تتكلّم، وجارحةُ اليد إمّا أنْ تُربّت، وإمّا أنَ تبطشَ.. وهكذا فكُلُّ ما تصنعه ملكَاتُ الإدراك في النّفس البشريّة نُسمِّيه عملاً، وسبق أن قلنا: إنّ العمل ينقسم إلى قولٍ وفعلٍ، والإنسان محاسبٌ على أقواله: قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»([1])، ويقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: من الآية 74]، أي: تذكَّروا أنّ الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيءٌ، وأنّ كلّ ما تعملونه يعلمه، ويجب ألّا نقف عند موضوع العبادات فقط، فالله سبحانه وتعالى لن يحاسبنا فقط على العبادات والشّعائر ويدع المعاملات والأخلاقيّات والممارسات والأمانات في الحياة الدّنيا، فالمقاصد لا بدّ منها، فلا بدّ أن يكون الإنسان في كلّ حركةٍ يعيش منهج الله عز وجل على الأرض، وها هو سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يرفع هذا الشّعار، فكلّما فعل فعلاً أو قام بأمرٍ يقول: “ماذا ستقول غداً لربّك إذا لقيته يا عمر؟”.

(([1] مسند الإمام أحمد بن حنبل: تتمّة مسند الأنصار، حديث معاذ بن جبل، الحديث رقم (22016).

الآية رقم (83) - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ

وهم إذا كانوا قد اتّخذوا من جبليّة الموقع أَمْناً لهم، فقد جاءت الصّيحة من الحقّ تبارك وتعالى لِتدكَّ فوق رؤوسهم ما صنعوا، وقد قال الله جل جلاله عنهم في سورة هود: ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود]، وقال سبحانه وتعالى عنهم أيضاً: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف]، والرَّجْفة هي الزّلزلة، والصَّيْحة هي بعض من توابع الزّلزلة، ذلك أنّ الزّلزلة تُحدِث تموّجاً في الهواء يؤدّي إلى حدوث أصواتٍ قويّة تعصف بمَنْ يسمعها، وهم حسب قَوْل الحقّ سبحانه وتعالى قد تمتَّعوا ثلاثة أيّام قبل أنْ تأخذهم الصَّيْحة كَوَعْد نبيّهم صالح عليه السلام لهم: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: من الآية 65].

ويقول الله سبحانه وتعالى عن حالهم بعد أنْ أخذتهم الصَّيْحة:      

الآية رقم (84) - فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ

وهكذا لم تنفع الحصون في حمايتهم من قدَر الله عز وجل، ونعلم أنّ قدر الله تعالى أو عقابه لا يمكن أنْ يمنعه مانعٌ مهما كان، فهو سبحانه وتعالى القائل: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النّساء: من الآية 78]، وهكذا لا يمكن أن يحميَ الإنسانُ نفسَه ممّا قَدَّره الله عز وجل له، أو مِمَّا يشاء الحقّ سبحانه وتعالى أن يُنزِله على الإنسان كعقاب، وسبحانه القائل: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: من الآية 154]، وهكذا خَرُّوا جميعاً في قاع الهلاك، ولم تَحْمِهِم حصونهم من العذاب الّذي قدَّره الله سبحانه وتعالى.      

الآية رقم (74) - فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ

﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾: وما دام عاليها قد صار أسفلها، فهذا لَوْنٌ من الانتقام الـمُنظّم الـمُوجّه، ولو لم يكن انتقاماً مُنظّماً لانقلب بعضُ ما في تلك المدينة على الجانب الأيمن أو الأيسر، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يأتي لنا بصورة ما حدث؛ لِيدلَّنا على قدرته على أنّه يفعل ما شاء كما يشاء.

﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾: وأمطرهم الحقّ سبحانه وتعالى بحجارةٍ من سجيل، كتلك الّتي أمطر بها مَنْ هاجموا الكعبة في عام ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

﴿ سِجِّيلٍ ﴾: حجارة صُنِعَتْ من طين لا يعلم كُنْهَها إلّا الله سبحانه وتعالى، والطّين إذا تحجَّر سُمّي سجّيلاً.

والله سبحانه وتعالى هو القائل عن هذا الموقف ذاته في سورة الذّاريات: ﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ﴾ [الذّاريات]، وقد أرسل الحقّ سبحانه وتعالى تلك الحجارة عليهم لِيُبيدهم، فلا يُبقِي منهم أحداً نتيجة لهذا الفعل الفاحش، وهو فعل قوم لوط.     

الآية رقم (75) - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾: لقد كان العذاب الّذي أنزله الله سبحانه وتعالى بقوم لوط آية واضحة للمُتوسِّمين.

﴿لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾: الـمُتوسِّم: هو الّذي يُدرك حقائق الـمَسْتور بمكْشُوف المظهور، ويُقال: “توسَّـمْتُ في فلان كذا”؛ أي: أخذت من ظاهره حقيقة باطنه، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: من الآية 29]؛ أي: ساعةَ تراهم ترى أنّ الملامح تُوَضِّح ما في الأعماق من إيمان، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: من الآية 273]، وهكذا نعرف أنّ الـمُتوسِّم هو صاحب الفِراسة الّتي تكشف مكنون الأعماق، وها هو النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾»([1]).     

(([1] سنن التّرمذيّ: أبواب تفسير القرآن، بابٌ: ومِنْ سورة الحِجْرِ، الحديث رقم (3127).