الآية رقم (40) - قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ

﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾: الطّرف: الجِفْن الأعلى للعين.

تكلّم العلماء في هذه الآية: أوّلاً: قالوا: ﴿الْكِتَابِ﴾ يُراد به اللّوح المحفوظ، يُعلم الله عزَّ وجلَّ بعض خَلْقه أسراراً من اللّوح المحفوظ، أمّا الّذي عنده علم من الكتاب، فقال بعض العلماء: هو آصف بن برخيا، وكان رجلاً صالحاً أطلعه الله عزَّ وجلَّ على أسرار الكون، وقال آخرون: بل هو سليمان عليه السّلام، لـمّا قال له العفريت: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، قال هو: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾؛ لأنّه لو كان شخصاً آخر لكان له تفوُّق على سليمان عليه السّلام في معرفة الكتاب، لكن رَدُّوا عليهم بأنّ من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيّته هذا العلم، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخّر له، كما أنّ المزايا لا تقتضي الأفضليّة، وليس شَرْطاً في الـملك أنْ يعرف كلّ شيء، وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين مَنْ يأتي به في طَرْفة عين، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوّة، والزّمن يتناسب مع القوّة تناسباً عكسيّاً: فكلّما زادت القوّة قَلَّ الزّمن، وما دام الزّمن يتناسب مع القوّة، فلا ننسب الحدث إلى سليمان عليه السّلام أو أحد حاشيته، إنّما إلى ربّ سليمان تعالى.

﴿فَلَمَّا رَآهُ﴾: أي: العرش.

﴿مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾: إمّا لأنّه أقدره على الإتيان به بنفسه، أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب، فأتاه به، فهذه أو ذلك فضل من الله تعالى.

﴿لِيَبْلُوَنِي﴾: يختبرني.

﴿أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾: يعني: أشكر الله عزَّ وجلَّ فأُوفَّق في هذا الاختبار؟ أم أكفر بنعمة الله تعالى فأخفق فيه؟ لأنّ الاختبار إنّما يكون بنتيجته، والشّكر بأن ينسب الإنسان النّعمة إلى المنعم، وألّا يلهيه جمال النّعمة عن جلال واهبها ومُسْديها، فيقول مثلاً: إنّما أوتيته على علم عندي.

﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾: أي: أنّ الله عزَّ وجلَّ لا يزيده شُكْر النّاس شيئاً، فله عزَّ وجلَّ صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد، فمَنْ يشكر فإنّما يعود عليه، وهو ثمرة شُكْره.

﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾: يعني: جحد النّعمة، ولم يشكر المنعم.

﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾: أي: عن شكره.

﴿كَرِيمٌ﴾: أي: يعطي عبده مع ما كان منه من جحود وكفر بالنّعمة؛ لأنّ نعمه عزَّ وجلَّ كثيرة لا تُعَدُّ، وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه، لذلك لـمّا نتأمّل قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم: من الآية 34]، وقد تكرّرت هذه العبارة بنصِّها في آيتين من كتاب الله تعالى، ممّا جعل بعضهم يرى فيها تكراراً لا فائدة منه، لكن لو نظرنا إلى عَجُز كلّ منهما لوجدناه مختلفاً، فالأولى تُختتم بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: من الآية 34]، والأخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النّحل: من الآية 18]، فهما متكاملتان، فالأولى تبيّن ظلم الإنسان حين يكفر بنعمة الله عزَّ وجلَّ عليه ويجحدها، وتضيف الأخرى أنّ الله عزَّ وجلَّ مع ذلك غفور لعبده رحيم به، كما نلحظ في الآية: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا﴾  [إبراهيم: من الآية 34]، استخدم (إنْ) الدّالّة على الشّكّ؛ لأنّ أحداً لا يجرؤ على عَدِّ نِعَم الله عزَّ وجلَّ في الكون، فهي فوق الحصر؛ لذلك لم يُقْدِم على هذه المسألة أحد، مع أنّهم بوسائلهم الحديثة أحصُوا كلّ شيء إلّا نعم الله عزَّ وجلَّ لم يتصَدَّ لإحصائها أحد في معهد أو جامعة ممّن تخصّصت في الإحصاء، كما لم نجد مثلاً مَنْ تصدّى لإحصاء عدد الرّمل في الصّحراء، كما نقف عند قوله عزَّ وجلَّ: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾  [إبراهيم: من الآية 34]، ولم يقُلْ: نِعَم الله، فالعجز عن الإحصاء أمام نعمة واحدة؛ لأنّ تحتها نِعَم كثيرة لو تتبّعتها لوجدتها فوق الحصر.

الآية رقم (39) - قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ

﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾: الجنّ في القدرة والمهارة مثل الإنس، منهم القويّ الماهر، ومنهم العَييّ الّذي لا يُجيد شيئاً، وكلمة عفريت: من تعفير التّراب، وكانوا حينما يتسابقون في العَدُو بالخيل أو غيرها، فمَنْ يسبق منهم يُثير الغبار في وجه الآخر فيُعطّله عن السَّبْق، فقالوا: عفريت، يعني عفَّر مَن وراءه، أو: المعنى أنّه يُعفِّر وجه مَنْ عارضه بالتّراب، فسُمِّي: عفريتاً، فالعفريت: هو الخبيث الماكر من الجنّ، وصاحب القوّة الخارقة فيهم، وهو الّذي تعرَّض لهذه المهمّة، وقال:

﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾: هذا كلام مُجْمل؛ لأنّ مقام سليمان بين رعيّته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتاً: ساعة أو ساعتين مثلاً، وقد تعهَّد العفريت أنْ يأتي بالعرش في هذا الوقت، يعني: لن يُؤخِّره إلى جلسة أخرى.

﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾: يدلّ على أنّ هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش وضخامته، وأنّه شيء نفيس يستحقّ الاعتناء به، خاصّة في عمليّة نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره وضخامته: “أنا عليه قويّ، قادر على حَمْله”، ومن ناحية نفاسته وفخامته، “فأنا عليه أمين، لن أُبدِّد منه شيئاً”.

ثمّ تكلَّم آخر لم يُحدِّده القرآن الكريم إلّا بالوصف:

الآية رقم (38) - قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ

﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾: الملأ: أشراف القوم وسادتهم وأصحاب الرّأي فيهم.

﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾: هنا أيضاً مظهر من إشراقات النّبوّة عند سليمان عليه السّلام، فهو يعلم ما سيحدث عندهم حينما تعود إليهم هديّتهم، وأنّهم سيسارعون إلى الإسلام، فردُّ الهديّة يعني أنّنا أصحاب كلمة ورسالة ومبدأ ندافع عنه، لا أصحاب مصلحة، ولـمّا علم أنّهم سيأتون مسلمين طلب من جنوده أنْ يأتوه بعرشها، وحدَّد زمن الإتيان بهذا العرش: ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، فلا بُدَّ من الذهاب إلى مملكة سبأ وفكِّ العرش، وحَمْله إلى مملكة سليمان، ثمّ إعادة تركيبه عنده، وهذه مهمّة فوق قدرة البشر؛ لذلك لم يتكلّم منهم أحد، حتّى الجنّ العاديّ لم يعرض على سليمان استعداده للقيام بهذه المهمّة.

الآية رقم (32) - قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ

﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي﴾: الفتوى، من الفُتوّة؛ أي: القوّة، وهي مثل: غَنِيَ فلان؛ أي: صار غنيّاً بذاته، وأغناه غيره: أمدَّه بالغنى، كذلك أفتاه، يعني: أعطاه قوّة في الحكم والحجّة.

﴿فِي أَمْرِي﴾: قالت: ﴿أَمْرِي﴾، مع أنّ الأمر خاصٌّ بالدّولة كلّها، لا بها وحدها؛ لأنّها رمز للدّولة وللملْك، وإنْ تعرّض لها سليمان عليه السّلام فسوف يُخدَش مُلْكها أوّلاً، ويُنال من هيبتها قبل رعيّتها.

﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾: يعني: لا أَبُتُّ في أمر إلّا في حضوركم، وبعد استشارتكم، وهذا يدلّ على أنّها كانت تأخذ بمبدأ الشّورى مع ما كان لها من الملْك والسّيطرة والهيمنة، فردّ عليها الملأ من قومها:

الآية رقم (31) - أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ

﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾: إنّها برقيّة موجزة في أبلغ ما يكون الإيجاز، والعلوّ هنا: بمعنى الغطرسة والزَّهوّ الّذي يعتاده الملوك خاصّة، وهي مِثْله، ملكة لها عَرْش عظيم، وأُوتيتْ من كلّ شيء، وكونه يخاطبها بهذه اللّهجة المختصرة البعيدة عن النّقاش والجدال، هذا أمر يحتاج منها إلى نظر وإلى أَنَاةٍ، لذلك بعد أن أخبرتْ مستشاريها بأمر الكتاب، وما ورد فيه طلبتْ منهم الرّأي والمشورة.

الآية رقم (30) - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فهي تعرف سليمان عليه السّلام، وتعرف نُبوّته وصفاته، وأنّه يكاتبهم باسْم الله، ويَصْدُر في دعوتهم عن أوامر الله تعالى، وكان مجمل الكتاب بعد: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾:

الآية رقم (29) - قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ

﴿قَالَتْ﴾: نلحظ هنا سرعة جواب الأمر: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَاَ﴾، فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾، وهذا يدلّ على أنّ أوامر سليمان عليه السّلام كانت للتّنفيذ بشكل عاجل؛ لذلك حذف السّياق التّفاصيل كلّها بين الأمر: ﴿اذْهَبْ﴾، والجواب: ﴿قَالَتْ﴾ هكذا على وجه السّرعة.
﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾: الملأ: هم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون والخاصّة.
﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾: فوصفتْ الكتاب بأنّه كريم، إمّا لأنّها سمعتْ عن سليمان عليه السّلام وعظمة مُلْكه، أو: لأنّ الكتاب سُطِّر على ورق رَاقٍ وبخطّ جميل، وفيه: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبعد ذلك هو ممهور بخاتَمه الرّسـميّ، ممّا يدلّ على أنّه كتاب مهمّ ينبغي دراسته وأَخذْ الرّأي فيه.

الآية رقم (28) - اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ

﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾: هذا هو النّظر الّذي ارتآه سليمان عليه السّلام ليتأكّد من صِدْق الهدهد: أنْ يرسله بكتاب منه إلى هؤلاء القوم، وهنا مظهر من مظاهر الإيجاز البليغ في القرآن الكريم، فبعد أن قال سليمان عليه السّلام: ﴿سَنَنْظُرُ﴾، قال: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾، فهل كان الكتاب مُعَدَّاً وجاهزاً؟ الجواب: لا، إنّما التّقدير: قال: سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين، فكتب إليها كتاباً فيه كذا وكذا، ثمّ قال للهدهد: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾، وقد حُذِف هذا للعلم به من سياق القصّة.
﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾: يعني: ابتعِدْ قليلاً.
﴿عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾: يعني: يراجع بعضهم بعضاً، ويتناقشون فيما في الكتاب، ومن ذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ [طه]، والسّياق يقتضي أن نقول: فذهب الهدهد بالكتاب، وألقاه عند بلقيس، فقرأتْه، واستشارتْ فيه أتباعها وخاصّتها، ثمّ قالت:

الآية رقم (27) - قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

﴿قَالَ سَنَنْظُرُ﴾: النّظر محلُّه العين، لكن هل يُعرف الصّدق والكذب بالعين؟ الجواب: لا، فالكلمة انتقلت من النّظر بالعين إلى العلم بالحجّة، فهي بمعنى: نعلم، ونقول: هذا الأمر فيه نظر، يعني: يحتاج إلى دراسة وتمحيص.
﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾: وفي الآية مظهر من مظاهر أدب سليمان عليه السّلام وتلطُّفه مع رعيّته، فهو السّيّد المطاع، ومع ذلك يقول للهدهد: ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، والصِّدْق يقابله الكذب، لكنّ سليمان عليه السّلام يأبى عليه أدب النّبوّة أن يتّهم أحد جنوده بالكذب، فقال: ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، يعني: حتّى لو وقع منك الكذب فلست متأصّلاً فيه، فكثير من الخَلْق يكذبون، ممّا يدلُّ على أنّه بإلهاماته كنبيّ يعرف أنّه صادق، فهذا من أدب سليمان عليه السّلام.

الآية رقم (26) - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ

لـمّا تكلّم عن عرش بلقيس قال: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾، يعني: بالنّسبة إلى أمثالها من الملوك وأهل زمانها، فإذا عُرِّف: ﴿الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾، فإنّه لا ينصرف إلّا إلى عرشه تعالى، فله العظمة المطلقة عند كلّ الخَلْق.

الآية رقم (25) - أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ

﴿أَلَّا﴾: مكوَّنة من (أنْ) و(لا)، وعند إدغامهما تُقلَبُ النّون لَاماً فتصير: ألّا، فالمعنى: وزيَّن لهم الشّيطان أعمالهم؛ لئلّا يسجدوا، فهنا حرف جرّ محذوف، كما نقول: عجبتُ من أن يَقْدم علينا فلان، أو عجبت أن يقدم علينا فلان.

وفي قراءة أخرى: (ألَا) للحثِّ والحضِّ.

﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: قلنا: إنّه اختار هذه الصّفة بالذّات؛ لأنّ الهدهد خبير في هذه المسألة، حيث يرى الماء في باطن الأرض، كما يرى أحدكم الزّيت في إنائه، والمراد بالخبْء في السّموات: المطر، والخبْء في الأرض: النّبات، ومنهما تأتي مُقوِّمات الحياة، فمن ماء المطر وخصوبة الأرض يأتي النّبات، وعلى النّبات يتغذَّى الحيوان، ويتغذّى الإنسان.

﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾: كما قال في آية أخرى: ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾[إبراهيم: من الآية 38]، وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾[آل عمران: من الآية 29].

الآية رقم (24) - وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ

﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: ذلك لأنّه لـمّا طاف حول قصر بلقيس وجد فيه كُوَّة تدخل منها الشّمس، كما في معابد الفراعنة، ففي أحد هذه المعابد طاقات بعدد أيّام السّنة، بحيث تدخل الشّمس في كلّ يوم من واحدة بعينها لا تدخل من الأخرى، وكذلك كان عند بلقيس مثل هذه الكُوَّة تدخل منها الشّمس فتتنبّه لها وتستقبلها، فالهدهد مؤمن عارف بقضيّة العقيدة والإيمان بالله عزَّ وجلَّ يَغَار عليها ويستنكر مخالفتها، فهو يعرف أنّ الله عزَّ وجلَّ هو المعبود بحقٍّ، بل ويعلم أيضاً قضيّة الشّيطان، وأنّه سبب الانصراف عن عبادة الله عزَّ وجلَّ، فقال:

﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾: فالقضيّة عنده كاملة بكلّ تفاصيلها، ولا نتعجّب من مقالة الهدهد ولنقرأ قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء: من الآية 44]، إنّها موعظة بليغة من واعظ مُتمكِّن يفهم عن الله عزَّ وجلَّ، ويعلم منهجه ويدعو إليه، بل ويعزّ عليه ويحزّ في نفسه أن ينصرف العباد عن الله عزَّ وجلَّ المنْعِم.

الآية رقم (21) - لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ

معاقبة المخالف أمر ضروريّ؛ لأنّ أيَّ مخالفة لا تُقابل بالجزاء المناسب لا بُدَّ أن تثمر مخالفات أخرى متعدّدة أعظم منها، ومن أَمِنَ العقوبة أساء الأدب، فحين نرى موظّفاً مُقَصِّراً في عمله لا يحاسبه أحد، يستمرّ ويصبح النّاس مثله وتنتشر اللّا مبالاة والفوضى، وتحدث الطَّامّة الكبرى حينما يُثاب المقصِّر ويُرَقَّى مَنْ لا يستحقّ، لذلك يقول الإمام عليّ كرّم الله وجهه: “ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فيطمع المسيء في إساءته، ويزهد المحسن في إحسانه”، لذلك توعَّد سليمان عليه السّلام الهدهد:

﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾: يعذّبه عذاباً شديداً، ثمّ رقّى الأمر، أو يمكن أن يذبحه، وطبعاً هذه المسألة أثار حولها المتمرّدون على منهج الله تعالى، والّذين يريدون أن يعدّلوا على الله عزَّ وجلَّ، ويتدخّلوا في أحكامه، إشكالاً أنّها حرام، ولماذا يريد أن يذبحه؟ لكنّ الله عزَّ وجلَّ عندما يُعطي الحكم فهذا الحكم يقاس الصّحّ من الخطأ على أساسه، فإذا حكم الله عزَّ وجلَّ فهنا يكون المجال الصّحيح والسّليم.

﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾: أي: يعطيني حجّة واضحة تبرّر غيابه، فنفهم من الآية أنّ المرؤوس يجوز له أنْ يتصرّف برأيه، ودون أن يأخذ الإذن من مديره أو من رئيسه، إذا كان هناك مصلحة للمجموع لا تستدعي التّأخير، وهناك خطر، وهنا يقدّر المدير أو المسؤول لمرؤوسه هذا الاجتهاد ويلتمس له عذراً، فلعلّه عنده حجّة، وهذه الحجّة هي الّتي أدّت لذلك، فقدّم الخير وخدم المصلحة العامّة هنا.

الآية رقم (20) - وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ

﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾: مادّة: فَقَدَ، الفاء والقاف والدّال، وكلّ ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى: ضاع منه الشّيء، ومنه قوله عزَّ وجلَّ في قصّة إخوة يوسف: ﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾[يوسف]، فإنْ جاءت بصيغة: (تفقَّد) بالتّضعيف دلَّتْ على أنّ الشّيء موجود، وأنا أبحث عنه في مظانّه، وقوله: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾؛ أي: أنّ المسؤول أو المهيمن على شيء لا بُدَّ له من متابعته، وسليمان عليه السّلام ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر إلى الحاضرين من مملكته، كأنّه المسؤول عن الجميع ويستعرض جنوده، وفي هذا إشارة إلى أنّه عليه السّلام مع أنّ هذا ملكه ومُسخَّر له ومُنقَاد لأمره، إلّا أنّه لم يتركه هَمَلاً دون متابعة.

لكن، لماذا تفقَّد الطّير بالذّات؟ قال العلماء: لأنّه أراد أنْ يقوم برحلة في الصّحراء، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة؛ لأنّه يعلم المجاهيل، ويرى حتّى الماء في باطن الأرض، يقولون: كما يرى أحدكم الزّيت في وعائه، لذلك نرى أنّ من مميّزات الهدهد أنّ الله عزَّ وجلَّ جعل له منقاراً طويلاً؛ لأنّه لا يأكل ممّا على سطح الأرض، إنّما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الأرض، ألَا تراه حين كلَّم سليمان عليه السّلام في دقائق العقيدة والإيمان بالله تعالى يقول عن أهل سبأ: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾[النّمل]، فاختار هذه المسألة بالذّات؛ لأنّه الخبير بها ورزقه منها، ولـمّا لم يجد سيّدنا سليمان عليه السّلام الهدهد في الحاضرين قال:

﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾: فساعةَ يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته، فإنّه لا يقصد الاستفهام، إنّما هو يستبعد أنْ يتخلَّف الهدهد عن مجلسه، لذلك قال:

﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾، يعني: ربّما هو موجود، لكنِّي لا أراه، فلمّا دَقّق النّظر وتأكّد من خُلوِّ مكانه بين الطّيور، قال: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾؟!

الآية رقم (19) - فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ

﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾: تبسَّم سليمان عليه السّلام بالبسمة الّتي تتّصل بالضّحك، لأنّه سمعها قبل أنْ يصل إليها، ولأنّها رأتْ قبل أن يأتي المرئيّ، وقد تكلّم العلماء في هذه المسألة، فقالوا: إنّ الرّيح نقلتْ إليه مقالة النّملة، وهو ما يزال بعيداً عنها، وهذا الكلام يُقبَل لو أنّ المسألة (ميكانيكا)، إنّما هي عمل ربّ وقدرة خالق مُنعِم ينعم بما يشاء، فنطق قائلاً:

﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾: أوزعني: أي: امنعني أنْ أغفل، أو أنْ أنسى هذه النِّعم، فأظلّ شاكراً حامداً لك على الدّوام؛ لأنّ هذه النّعَم فاقتْ ما أنعمت به على الخَلْق كلّهم، وفوق ما أنعمت به على إخواني من الأنبياء السّابقين، وعلى ملوك الدّنيا كلّهم؛ لأنّه عليه السّلام جمع بين الملْك والنُّبوّة، وإنْ كان سيّدنا رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم عُرض عليه الملْك فرفضه، وآثر أن يكون عبداً رسولاً.

لذلك وجب على كلّ صاحب نعمة أنْ يستقبلها بحمد الله عزَّ وجلَّ وشكْره، وقد شُرح هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 7]، ألَا ترى أنّ مَنْ علم علماً فعمل به أورثه الله عزَّ وجلَّ عِلْم ما لم يعلم؟! لماذا؟ لأنّه ما دام عمل بعلمه، فهو مُؤْتَمن على العلم؛ لذلك يزيده الله عزَّ وجلَّ منه ويفتح له مغاليقه، على خلاف مَنْ عَلِم علماً ولم يعمل به، فإنَّ الله تعالى يسلبه نور العلم، فيغلق عليه، وتصدأ ذاكرته، وينسى ما تعلَّمه، والحقّ عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾[لقمان: من الآية 12]؛ أي: تعود عليه ثمرة شُكْره؛ لأنّه إنْ شكر الله تعالى بالحمد شكره الله عزَّ وجلَّ بالزّيادة؛ لذلك من أسمائه تعالى: الشّكور.

وقوله: ﴿عَلَيَّ﴾ هذه خصوصيّة.

﴿وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾: لأنّه ورث عنهما الملْك والنّبوّة.

﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾: وهذا ثمن النّعمة أن نؤدّي خدمات الصّلاح في المجتمع لنكون مُؤْتمنين على النّعمة أهْلاً للمزيد منها.

﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾: وذكر الرّحمة والفضل؛ لأنّهما وسيلة النّجاة، وبهما ندخل الجنّة، ومن غيرهما لن ينجو أحد، ولنقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»([1])، ويقول سبحانه في هذا المعنى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس]، فالمؤمن الحقّ لا يفرح بعمله، إنّما يفرح إنْ نال فَضْلَ الله ورحمته، كأنّه يقول لربّه تعالى: لن أتّكل على عملي، بل على فضلك ورحمتك، فهنا تكون العبادة الحقّ لله عزَّ وجلَّ بأنّنا نقوم بالعمل ونطمع بالفضل والأجر والكرم من الله عزَّ وجلَّ.

وقول سليمان عليه السّلام: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ يدلّ على تواضعه، فهو عليه السّلام مع مكانته ومنزلته يطلب أن يدخله الله عزَّ وجلَّ في الصّالحين، وأن يجعله في زمرتهم، كما كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»([2])، فلم يجعل في نفسه الميزة ولا الصّدارة، ولا ادّعى الخيريّة على غيره من عباد الله تعالى، وهنا سليمان عليه السّلام مع ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعده جعل نفسه مع العباد الصّالحين.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المرضى، باب تـمنِّي الـمريض الـموت، الحديث رقم (5673).

([2]) سنن ابن ماجه: كِتَابُ الزُّهْدِ، بَابُ مُجَالَسَةِ الفُقَرَاءِ، الحديث رقم (4126).

الآية رقم (18) - حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا﴾: الضّمير في: ﴿أَتَوْا﴾ يعود على جنود سليمان من الإِنس والجنّ والطّير؛ أي: جاؤوا جميعاً صَفَّاً واحداً ومرُّوا.

﴿عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾: يعني: قرية النّمل، وقيل: إنّها في بلاد الشّام، وقوله: ﴿عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ يدلُّ على أنّهم جاؤوا من أعلى الجبل، أو أنّهم قطعوا الوادي كلّه، كما نقول: فلان أتى على الطّعام كلّه، عندها:

﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾: لماذا هذا التّحذير؟

﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾: الحَطْم: هو التّكسير، ومنه قوله عزَّ وجلَّ عن النّار: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾[الهمزة]؛ لأنّها تحطم ما يُلْقى فيها، ثمّ احتاطتْ النّملة للأمر، فقالت:

﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾: فما كان سليمان عليه السّلام وجنوده ليُحطِّموا بيوت النّمل عن قَصْد منهم، والمعنى: حالة كونهم لا يشعرون بكم، وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان عليه السّلام، وأنّه ليس جبّاراً ولا عاتياً، فالنّملة رأتْ عن بُعْد، ونطقتْ عن حقّ، وحكمتْ بعدل، لهذا تبسَّم سليمان ضاحكاً، وواضح في هذا القول ما تتميّز به مملكة النّمل من نظام يعرف فيه كُلٌّ مهمّته، ويؤدّيها على أكمل وجه، فهذه النّملة لا بُدَّ أنّها كانت تقوم بمهمّة الحراسة وتقف كالدَّرَك، ترقب الجوّ من حولها، وكأنّها جنديّ الدّوريّة اليقظ، وسبق أن قُلْنا: لو أنّنا جلسنا في مكان، وتركنا فيه بعض فضلات الطّعام مثلاً أو الحلوى، لرأينا بعض النّمل يدور حولها دون أنْ يقربها، ثمّ ينصرف عنها، وبعد مدّة ترى جماعة منهم جاءت وحملت هذه القطعة، وكأنّ الجماعة الأولى أفراد الاستطلاع الّذين يكتشفون أماكن الطّعام، ويُقدِّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشّيء، بدليل أنّك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النّمل الّذي جاء لحملها قد تضاعف هو أيضاً، ولو قتلنا النّمل الأوّل الّذي جاء للاستطلاع نلاحظ أنّ النّمل امتنع عن هذا المكان، لماذا؟ لأنّ النّملة الّتي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها، وحذَّرتهم من هذا المكان، وفي مملكة النّمل عجائب وآيات، سبحان خالقها، وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة بالغريزة.

ومن عجائب النّمل أنّنا نرى في عُشِّ النّمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتّى لا تُنبِت، فإنّها إذا نبتت ستهدم عليهم عُشَّهم، لكنّ حبَّة الكُزبرة مثلاً تنبت حتّى لو انفلقتْ نصفين، حيث ينبت كلّ نصف على حِدَة، لذلك لاحظوا أنّ النّمل يفلق هذه الحبّة بالذّات إلى أربعة أقسام، كما لاحظ المهتمّون بدراسة النّمل وجود حبّات بيضاء صغيرة مثل رأس الدّبوس أمام أعشاش النّمل، وبفحصها تبيَّن أنّها زريعة النّبات الّتي تحمل خلايا الإنبات، فأخرجوها كي لا تنبت، وصدق الله العظيم القائل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: من الآية 38]، وقد سمَّى الله تعالى ما قالت النّملة قولاً: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾، ولا بُدَّ أنّ هذا التّحذير: ﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾  جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده، وهم على مشارف الوادي، وكلمة: ﴿مَسَاكِنَكُمْ﴾ تدلّ على أنّ لهم بُيوتاً ومساكنَ، ومجالَ معيشة، وكسْبَ أرزاق من هنا ومن هناك؛ لذلك نجد النّمل يتتبّع مواضع الطّعام والفضلات، ويدخل إليها من أضيق الأماكن، لكن نرى مثلاً محلّات الحلوى مليئة بالسّكّر الّذي يعشقه النّمل، ومع ذلك لا نجد في هذه المحلّات نملة واحدة، لماذا؟ الجواب: لـمّا تتبَّع العلماء هذه الظّاهرة بالدّراسة وجدوا أنّ النّمل لا يدخل المكان إذا كان به سِمْسم، وهذه من عجائب النّمل أيضاً.

الآية رقم (17) - وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ

﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ﴾: حُشِروا: جُمِعوا من كلّ مكان، ومنه قوله تعالى: ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾[الشّعراء: من الآية 36]، والحشْر: جَمْع النّاس للحساب يوم القيامة، وسُمِّي الجمع حَشْراً؛ لأنّه تجمع النّاس من أماكن متفرّقة في مكان واحد، حتّى يضيق بهم ويزدحم، وهذا معنى الحشْر المتعارف عليه عندنا.

﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾: حُشِر لسليمان جنوده، إذاً سُخِّرَت له جنود من الجنّ والإنس والطّير.

﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾: يعني: يُمنعون، وقد ورد عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنّه قال: “إنّ الله ليزع بالسُّلْطان ما لا يزع بالقرآن”، يعني: أنّ السّلطان والقوّة تمنع ما لا يستطيع القرآن الكريم منعه؛ ذلك لأنّهم يستبعدون القيامة والعذاب، أمّا السّلطان فرادع حاضر الآن، لكن، مِمَّ يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان؟ قال العلماء: يُمنعون أن يَسبق بعضهم بعضاً إلى سليمان، فالمنع هنا حتّى يتمّ ترتيب هؤلاء ولا يدخلون مرّة واحدة على سليمان عليه السّلام، ويكون هناك توازن بين الرّعيّة، لكن في ضوء هذا المعنى لمادّة (وزع) كيف نفهم قوله عزَّ وجلَّ: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النّمل: من الآية 19]؟ الجواب: أوزعني هنا يعني: أقْدِرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك، لأظلَّ شاكراً لك.

الآية رقم (16) - وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ

﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾: لا تعني أنّه جاء بعده، إنّما هما متعاصران، وورثه في العلم والنّبوّة والحكمة، لا في الملْك والمال؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ يريد أن يكون الرّسول بعيداً في رسالته وتبليغه عن الله عزَّ وجلَّ عن أيِّ نفع يجيء له، أو لذرّيّته، فالأنبياء لا تورث، كما جاء في الحديث الشّريف: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ »([1])، وقد ورث عنه النّبوّة مع أنّهما متعاصران، بدليل قوله عزَّ وجلَّ في موضع آخر: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾[الأنبياء]، فكان سليمان مع داوود في هذه الحكومة وفي العلم، لكنّ الحقّ عزَّ وجلَّ جعل العلم منازل، بدليل أنّه قال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾[الأنبياء: من الآية 79]، مع أنّ أباه موجود، وحكم في القضيّة بأن يأخذ صاحبُ الزّرع الغنم الّتي أكلت، فلمّا خرجوا من عند داوود سألهم سليمان عن حكم أبيه، فأخبروه بما قال، فقال سليمان عليه السّلام: بل يأخذ صاحب الزّرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزّرع يصلحه حتّى يعود كما كان، وعندها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزّرع زرعه، والحقّ عزَّ وجلَّ يعطينا هذا المثل مع نبيّ وأبيه، لا مع نبيّين مختلفين بعيدين، وفي هذا إشارة أنّ حقّ الأبوّة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ قال عنهما: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾[الأنبياء: من الآية 79]، فكلٌّ منهما يحكم على مقتضى علمه الّذي منحه الله عزَّ وجلَّ، ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعيّة الاستئناف والنّقض في أحكام المحاكم، فقاضي الاستئناف حينما يُعدِّل حكم القاضي الابتدائيّ لا يُعَدُّ هذا طعْناً فيه، إنّما كلٌّ منهما حَكَم بناءً على علمه، وعلى ما توفّر له من أدلّة ووقائع، وربّما فطِن القاضي الثّاني لما لم يفطِنْ له القاضي الأوّل، فلاحظوا أدب سليمان مع أبيه بأنّه ربّما رأى هو الأمر مختلف بوجهة نظر مختلفة فصحّح الحكم.

﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾: فالطّير له منطق ولغة؛ لأنّه كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾[الأنعام: من الآية 38]، والآن ومع تقدُّم العلم يتحدّث العلماء عن لغة للنّمل، ولغة للنّحل، ولغة للسّمك.. إلخ، وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقَّة تفاهم غريزيّ، لكنّنا لا نفهم هذا المنطق، والله عزَّ وجلَّ علّمنا أنّه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء: من الآية 44]، فإنْ قلنا كمَنْ قال: هو تسبيح دلالة لا منطقَ ومقال، نقول: طالما أنّ الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾  [الإسراء: من الآية 44]، فلا بُدَّ أنّه مقال وكلام، ولكن نحن لا نفهمه، وعلماء اللّغة يقولون: إنّ النّطق خاصٌّ بالإنسان، أمّا ما تُحدثه الحيوانات والطّيور فأصوات تُحدِثها في كلّ وقت، مثل مواء القطّة، ونُباح الكلب، وخُوَار البقر، ونقيق الضّفادع، لكنّ هذه الأصوات لها معنى، فصوت القطّة حين تجوع غير صوتها حين تخاف، فهي تُعبِّر، لكنّنا لا نعرف هذه التّعبيرات، كيف ونحن البشر لا يعرف بعضنا لغات بعض؛ لأنّنا لم نتعلّمها؟! وللّغة ضرورة اجتماعيّة نتواضع عليها؛ أي: نتّفق أنّ هذا اللّفظ يعني كذا، فإذا نطق به الإنسان أمامي أفهم، وإن نطقتُ به يفهمني، فاللّغة بنت الاستماع، فاللّفظ الّذي نسمعه نستطيع نُطْقه، والّذي لم نسمعه لا نستطيع نُطْقه، حتّى لو كان لفظاً عربيّاً من لغتنا، ولا نعرف أيضاً معناه، فلو قلتُ لك: (إنّما الحيزبون والدّردبيس والطّخا والنّخالح والعصلبيص)، فلا شكَّ أنّك لا تعرف لهذا معنى؛ لأنّنا لم نتواضع على معناه، والطّفل الّذي نشأ في بيئة عربيّة يتكلّم العربيّة؛ لأنّه سمعها، ولا يتكلّم الإنجليزيّة مثلاً، لأنّه لم يسمعها، ولو وضعنا الطّفل نفسه في بيئة إنجليزيّة لتكلّم الإنجليزيّة؛ لأنّ اللّغة لا ترتبط بجنس ولا دم ولا عرق، اللّغة سماع.

﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾: أي: من النِّعَم على الإطلاق، وبعد قليل سنسمع هذه العبارة نفسها يقولها الهدهد عن ملكة سبأ: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾، فهي مثله فيما يناسب أمثالها من الملوك، لا في النّبوّة وحَمْل المنهج.

﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾: الفضل المحيط بالفضائل كلّها، الفضل الواضح العظيم.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ فَرْضِ الخُمُسِ، الحديث رقم (3093).

الآية رقم (15) - وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾: لقد أعطى الله عزَّ وجلَّ داوود وسليمان عليهما  السّلام نِعَماً كثيرة غير العلم، فقد ألَان لداوود الحديد، وأعطى سليمان مُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وسخَّر له الرّيح والجنّ، وعلَّمه منطق الطّير.. إلخ، ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إلّا بالعلم، وهو منهج الدّين؟ قال العلماء: لأنّ العلم هو النّعمة الحقيقيّة الّتي يجب أن يفرح بها المؤمن، لا الملْك ولا المال، ولا الدّنيا كلّها، فلم يعتدّ بشيء من هذا كلّه؛ لذلك حمدا الله عزَّ وجلَّ على أن آتاهما العلم.

﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: فالحمد هنا على نعمة العلم وحِفْظ منهج الله عزَّ وجلَّ، وفي الآية مظهر من مظاهر أدب النّبوّة، حيث قالا: ﴿فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فكأنّ هناك مَنْ هم أفضل مِنّا، وليس التّفضيل حجْراً علينا، وهذا من تواضعهما عليهما  السّلام.

الآية رقم (14) - وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

﴿وَجَحَدُوا﴾: أي: باللّسان.

﴿بِهَا﴾: بالآيات.

﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾: أي: إيماناً بها، فالمسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال عزَّ وجلَّ بعدها:

﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾: أي: استكباراً عن الحقّ.

﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾: وترْك عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها.

فهذه لقطة من ما كان من موسى عليه السّلام مع فرعون، بعد ذلك نجد أنّ القرآن الكريم ينتقل إلى قصّة أُخرى من موكب الأنبياء من أجل العبرة والتّثبيت، ولم يعطِ كلّ ما ورد عن قصّة موسى عليه السّلام، وإنّما بعض المشاهد الّتي تُضاف إلى المشاهد السّابقة في سور أخرى من القرآن الكريم، ليأتي الآن إلى نبيّين من الأنبياء داوود وسليمان عليهما  السّلام.