الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة الفرقان

بعدما خُتِمَت سورة النّور بآية تبيّن ما لله تعالى من ملك وقهر وجبروت، وأنّ العودة إليه يوم القيامة، بدأت سورة الفرقان، تبيّن أنّ هذا الملك ليس ملك استعباد، وإنّما هو ملك رحمة، وهذه السّورة هي سورة مكّيّة كلّها في قول الجمهور، وقال ابن عبّاس وقتادة: إلّا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾..، إلى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، فهذه هي الآيات الّتي قالوا عنها: إنّها مدنيّة، وهي السّورة الخامسة والعشرون في ترتيب سور المصحف، أمّا في ترتيب النّزول فهي السّورة (42)، نزلت بعد سورة يس، وقبل سورة فاطر.

الآية رقم (54) - قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾: وكأنّه تعالى لا يريد أنْ يُغلق الباب دونهم، فيعطيهم الفرصة: جَدِّدوا طاعة الله تعالى، وجَدِّدوا طاعة رسوله ﷺ، واستدركوا الأمر؛ ذلك لأنّهم عباده وخَلْقه، وكما ورد في الحديث الشّريف: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالفَلَاةِ»([1]).

ونلحظ في هذه الآية تكرار الأمر أطيعوا: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وفي آيات أخرى يأتي الأمر مرّة واحدة، كما في الآية قبل السّابقة: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، وفي: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[الأنفال: من الآية 20]، وفي: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾[النّساء: من الآية 80]؛ أي: أنّ طاعتهما واحدة، قال العلماء: لأنّ القرآن الكريم ليس كتابَ أحكام فحسب كالكتب السّابقة، إنّما هو كتاب إعجاز، والأصل فيه أنّه مُعْجز، ومع ذلك أدخل فيه بعض الأصول والأحكام، وترك بعضها الآخر لبيان الرّسول وتوضيحه في الحديث الشّريف، وجعل الله تعالى لرسوله ﷺ حقّاً في التّشريع بنصِّ القرآن الكريم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: من الآية 7]، وهذا ردّ على من يسمّون أنفسهم: قرآنيّين، الّذين ينكرون السّنّة النّبويّة، كما قال ﷺ: «أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ»([2])، والقرآن الكريم حين يُورد الأحكام يوردها إجمالاً ثمّ يُفصِّلها رسول الله ﷺ، فالصّلاة مثلاً أمر بها الحقّ تعالى وفرضها، لكنّ تفصيلها جاء في السّنّة النّبويّة المطهّرة، فإذا أردتَ التّفصيل فانظر في السّنّة، فالأمر الّذي يصدر فيه حكم من الله تعالى وحكم من رسول الله ﷺ، كالصّلاة مثلاً: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[النّساء: من الآية 103]، وفي الحديث: «وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ»([3])، ففي مثل هذه المسألة نقول: أطيعوا الله تعالى والرّسول ﷺ؛ لأنّهما متواردان على أمرٍ واحد، فجاء الأمر بالطّاعة واحداً، أمّا في مسائل عدد الرّكعات، وما يُقَال في كلّ ركعة، وكوْنها سِرّاً أو جهراً، كلّها مسائل بيَّنها رسول الله ﷺ، فهناك طاعة لله تعالى في إجمال التّشريع أنّ الصّلاة مفروضة، وهناك طاعة خاصّة بالرّسول ﷺ في تفصيل هذا التّشريع، لذلك يأتي الأمر مرّتين، ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، كما نلحظ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﲉ ﲊ [النّور: من الآية 56]، هكذا فحسب، قالوا: هذه في المسائل الّتي لم يَرِدْ فيها تشريع ونَصٌّ، فالرّسول ﷺ في هذه الحالة هو المشرِّع، وهذه من مميّزات النّبيّ ﷺ عن جميع الرّسل، فقد جاؤوا جميعاً لاستقبال التّشريع وتبليغه للنّاس، وكان ﷺ هو الوحيد الّذي فُوِّض من الله تعالى في التّشريع.

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾: لأنّه تعالى أعلم بحِرْص النّبيّ ﷺ على هداية القوم، وكيف أنّه يجهد نفسه في دعوتهم، كما خاطبه في موضع آخر بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[الشّعراء]، وكأنّ الحقّ تعالى يقول لنبيّه ﷺ: قُلْ لهم وادْعُهم مرّة ثانية لتريح نفسك، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وإنْ كنت غير مكلَّف بالتّكرار، فما عليك إلّا البلاغ مرّة واحدة، ومعنى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾؛ أي: من الله تعالى، فالرّسول ﷺ حُمِّل الدّعوة والبلاغ، وأنتم حُمِّلْتم الطّاعة والأداء، فعليكم أن تُؤدُّوا ما كلَّفكم الله تعالى به.

﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾: نلحظ أنّ المفعول في: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ﴾ مفرد، فلم يقل: تطيعوهما؛ أي: الله تعالى ورسوله ﷺ، لتناسب صدر الآية: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾؛ ذلك لأنّ الطّاعة هنا غير منقسمة، بل هي طاعة واحدة.

وقوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ﴾ هو تكليفٌ من الله تعالى.

﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾: المحيط بتفصيلات المنهج التّشريعيّ كلّه لتنظيم حركة الحياة.

([1]) صحيح مسلم: كتاب التّوبة، بَابٌ فِي الحَضِّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالفَرَحِ بِهَا، الحديث رقم (2675).

([2]) سنن التّرمذيّ: أبواب العلم، بَابُ مَا نُهيَ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، الحديث رقم (2664).

([3]) شعب الإيمان: 21- الصّلاة، الحديث رقم (2550).

الآية رقم (53) - وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾: القَسَم: هو اليمين والحلف، والإنسان يُقسِم ليؤكّد المقسَم عليه، يريد أن يطمئن المخاطب على أنّ المقسَم عليه حَقٌّ، وهؤلاء لم يقسموا بالله تعالى سِرّاً في أنفسهم، إنّما:

﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: يعني: بَالَغوا وأتَوْا بمنتهى الجهد في القسم، فأقسموا بالله عزَّ وجلَّ، وليس هناك قَسَم أبلغ من هذا القسم، لذلك يقول النّبيّ ﷺ: «مَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»([1])، فلمّا أقسموا بالله تعالى للرّسول ﷺ أنْ يخرجوا من بيوتهم وأولادهم وأموالهم إلى الجهاد مع رسول الله ﷺ فضح الله عزَّ وجلَّ سرائرهم، وكشف سترهم، وأبان عن زيف نيّاتهم، كما قال في آية أخرى: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾[النّساء: من الآية 81]، ولنتأمّل دقَّة الأداء القرآنيّ في: ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾  [النّساء: من الآية 81]، وهذا احتياط؛ لأنّ منهم أُنَاساً يراود الإيمان قلوبهم ويفكّرون في أنْ يُخلِصوا إيمانهم ونواياهم لله تعالى، ويعودوا إلى الإسلام الصّحيح.

﴿لَا تُقْسِمُوا﴾: يفضح القرآن الكريم أمر هؤلاء الّذين يُقسِمون عن غير صِدْق في القَسَم.

وقوله تعالى: ﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾: يُشعِر بتوبيخهم، كأنّه يقول لهم: طاعتكم معروفة لدينا ولها سوابق واضحة، فهي طاعة باللّسان فحسب، ثمّ يؤكّد هذا المعنى، فيقول:

﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: والّذي يؤكّد هذه الخبرة أنّه يفضح قلوبهم ويفضح نيّاتهم.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الشّهادات، بَابٌ: كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ، الحديث رقم (2679).

الآية رقم (64) - أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

﴿أَلَا﴾: أداة تنبيه لشيء مهمّ بعدها، والتّنبيه يأتي؛ لأنّ الكلام سفارة بين المتكلِّم والمخاطَب، المتكلِّم عادة يُعِدّ كلامَه، ولديْه أُنْسٌ بما سيقول، لكنّ المخاطَب قد لا يكون خالي الذِّهْن فيفاجئه القول، وربّما شغله ذلك عن الكلام، فيضيع منه بعضه، والحقّ تعالى يريد ألَّا يضيع منّا حرف واحد من كلامه، فينبّهنا بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها، إلّا أنّها تنبّهنا وتُذهِب ما عندنا من دهشة أو غفلة، فنعي ما يُقال لنا، وهذا أسلوبٌ عربيٌّ عَرَفَتْه العرب، وتحدّثتْ به قبل نزول القرآن الكريم، وبعد ﴿أَلَا﴾ التّنبيهيّة يقول تعالى:

﴿إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: فكلّ ما في السّموات والأرض خاضعٌ لملكيّة الله عزَّ وجلَّ، والسّموات والأرض هي الّتي نعيش في ظلالها، نحيا على الأرض وتُظلّنا السّماء، وكلّ ما نجد من كواكب وشمس وقمر هي ضمن السّموات والأرض، والله تعالى له الملكيّة المطلقة لما في السّموات والأرض، ثمّ يقول تعالى:

﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾: ﴿قَدْ﴾: تأتي للتّحقيق، ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، فهل المراد: قد يعلم؟ بالتّأكيد لا، ليس المراد بـ ﴿قَدْ﴾ هنا: الشّكّ، ولفهم هذه الآية لا بُدَّ أن نعلم أنّ علاقة الحقّ تعالى بالأحداث ليستْ كعلاقتنا نحن؛ لأنّ البشر يعيشون ضمن زمان ومكان، فنحن نعرف من علم النّحو أنّ الأفعال ماضٍ، وهو ما وقع بالفعل قبل أن نتكلّم به، مثل: جاء محمّد، ومضارع وهو إمّا للحال، مثل: يأكل محمّد، أو للاستقبال، مثل: سيأكل محمّد، أمّا بالنّسبة إلى الله تعالى، فالأحداث سواء كلّها، مَاضٍ وواقع، كلّها حال واحد، فعندما تأتي الآيات المتعلّقة بالله تعالى، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[النّساء: من الآية 96]، كان: فعل ماض ناقص، فهل ينطبق الماضي والحاضر والمستقبل على المولى تعالى؟ بالتّأكيد لا؛ لأنّ الله تعالى هو خالق الزّمان والمكان، فلا تنطبق عليه المعايير اللّغويّة الّتي نعتبرها نحن، كقوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾[النّحل: من الآية 1]، ومعلوم أنّ الاستعجال يكون للأمر الّذي لم يأْتِ بَعْد، والقيامة لم تأتِ بعد، لكن عبَّر تعالى عنها بالماضي: ﴿أَتَى﴾؛ لأنّه تعالى لا يعوقه ولا يُخرجه شيء عن مراده، فكأنّها أتتْ بالفعل، فقوله تعالى: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ليست منطقيّة مع كلامنا، إنّما هي منطقيّة مع كلام الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّه بالنّسبة إلى الله تعالى أتى وانتهى، أمّا بالنّسبة إليكم فلم يأت.

وفي الآية: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، فما في السّموات كلُّه، وما في الأرض كلّه مِلْكٌ لله تعالى وحده، لا يشاركه فيه أحد، وعلى كثرة المفترين في الألوهيّة والفرعونيّة لم يَدَّعِ أحد منهم أنّ له مُلْكَ شيء منها، وعندما قدّم بهذه الحيثيّة قدّم أيضاً بموضوع علميّ، فليس ملكه فقط، إنّما هو المتصرّف في كونه، وإرادة الله تعالى لا تعدلها إرادة، لذلك عندما جاءت الجملة بعدها: ﴿يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾، فـ: ﴿قَد ﴾: للتّحقيق، و﴿يَعْلَمُ﴾ بالنّسبة إلى الله تعالى تعني: عَلِم.

﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾: وجاء في آية أخرى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[يونس: من الآية 61]، فإيّانا أن نفهم أنّ نظر الله تعالى ورؤيته للأبعاض المختلفة في الأماكن المختلفة رؤية جزئيّة، تتّجه إلى شيء فلا ترى الآخر، إنّما هي رؤية شاملة، كأنّ لكلّ شيء رؤية وحده، وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾[الرّعد: من الآية 33]، فسبحانه لا يشغله سَمْع عن سمع، ولا بَصَر عن بصر، فبصره جلَّ جلاله محيط، واطّلاعه دقيق؛ لذلك يأتي جزاؤه حقّاً يناسب دِقّة اطّلاعه، فإيّانا أن نغفل عن هذه الحقيقة، فربُّنا قائم علينا، ناظر إلينا، لا تَخْفى عليه منّا خافية، فيا مَنْ تتسلّل لِواذاً احذر، فلا شيء أهمّ من مجلس مع رسول الله ﷺ، وكن حريصاً على الأدب مع رسول الله ﷺ، وهذا الأدب لا يكفي أن نقول: إنّه كان سابقاً حال وجود رسول الله ﷺ، أمّا الآن فلا.

وهكذا تكون سورة النّور قد انتهت بفضل الله تعالى، وقد تبيّنت لنا أهمّــيّة هذه السّورة، وأهمّـيّة الآية المركزيّة فيها، وهي قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾، هذا النّور الإيمانيّ هو نور القيم الّتي تضبط العلاقات، وتضبط المجتمعات، وتضبط الأسر، ومن ثمّ تضبط الأفراد، وهذه حقيقة الإسلام، فحقيقة الإسلام ليست فقط: افعل ولا تفعل، وإنّما هذا الفعل وهذا التّحريم وهذا المطلوب وغير المطلوب، وهذا النّهي إنّما هو لمصلحة الأسرة، ولمصلحة الجماعة، ولمصلحة الفرد، ويعود بالخير العميم على المجتمع، بدليل أنّ الله تعالى عندما أمر بالرّكوع والسّجود قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحجّ]، ففعل الخير للغير وليس فقط للنّفس، والإنسان الّذي يقرأ ويستوعب سورة النّور يُدرِك أنّنا نختلف عن الغرب، وهذه قيمنا الّتي يجب أن نتمسّك بها، وهي الّتي تحافظ على المجتمع من الانحلال الأخلاقيّ، فتفلّتهم من القيم هو الّذي أدّى بهم إلى المثليّة الجنسيّة وإلى هتك الأعراض والعلاقات الأسريّة، بين الآباء والأولاد والأمّهات، فعلينا أن نعلم أنّهم يختلفون عنّا، فهم يبحثون عن عبادة النّفس، يعبدون ذواتهم، ونحن نعبد الله عزَّ وجلَّ، ونعلم أنّ الذّات يجب أن نخالفها في هواها، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشّمس]، فليست الإنسانيّة أن نجعل المحور بالنّسبة إلينا هو الإنسان، المحور هو ربّ الإنسان، وما يفعله الإنسان من خير أو شرّ، وليس المحور إرضاء شهوات الإنسان، فنحن لا يمكن أن نتوافق مع الرّؤية الغربيّة، أو نتوافق مع هذه الطّروحات؛ لأنّ المنطلق مختلف تماماً، نحن ننطلق بأنّ هناك جزاء وعقاب بعد هذه الدّنيا، وأنّ النّفس أمّارة بالسّوء، فلا نعبد أنفسنا وشهواتنا ومصالحنا وأموالنا، وإنّما نعبد ربّنا تعالى بما أمرنا أن نتعبّد به، وطالما أنّ المنطلق يختلف فضبط الشّهوات هو أحد أهمّ العناصر الأساسيّة للأديان والقيم الّتي تضبط الشّهوات، فكيف نضبطها؟ لا نطلق العنان للغريزة الجنسيّة بل نضبطها من خلال الأسرة، ومن خلال مؤسّسة الزّواج، من خلال العلاقة العفيفة، والحفاظ على الأنساب والأعراض، وهذا هو الفارق بيننا وبين الغرب، ولا يمكن أن يلتقي فكر من يعبد ذاته، مع من يعبد ربّه جلَّ جلاله.

الآية رقم (63) - لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾: فأنتم تدعون بعضكم بعضاً في مسألة خاصّة، لكنّ الرّسول ﷺ يدعوكم لمسألة عامّة تتعلّق بحركة حياة النّاس جميعاً، أو: أنّ الدّعاء هنا بمعنى النّداء، يعني: يناديكم الرّسول أو تنادونه؛ لأنّ لنداء الرّسول ﷺ آداباً يجب مراعاتها، فهو ليس كأحدكم تنادونه: يا محمّد، وقد عاب القرآن الكريم على جماعة لم يلتزموا أدب النّداء مع رسول الله ﷺ، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات]، فأساؤوا حين قالوا: يا محمّد، ولو قالوا حتّى: يا أيّها الرّسول، فقد أساؤوا؛ لأنّه لا يصحّ أنْ يتعجّلوا رسول الله ﷺ، ويجب أنْ يتركوه بحيث إنْ وجد فراغاً للقائهم خرج إليهم، فأساؤوا من وجهين، ولا يليق أن نناديه ﷺ باسمه: يا محمّد؛ لأنّ الجامع بين الرّسول ﷺ وأمّته ليس أنّه محمّد، إنّما الجامع أنّه رسول الله ﷺ، فلا بُدَّ أنْ نناديه بهذا الوصف، ولِـمَ لا وربّه عزَّ وجلَّ وهو خالقه ومصطفيه قد ميّزه عن سائر إخوانه من الرّسل، ومن أولي العزم، فناداهم تعالى بأسمائهم: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: من الآية 35]، وقال جلَّ جلاله: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا﴾ [هود: من الآية 48]، وقال تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصّافّات: من الآيتين 104-105]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[القصص: من الآية 30]، وقال: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: من الآية 116]، وقال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾[ص: من الآية 26]، لكن لم يُنَادِ رسولَ الله ﷺ باسمه أبداً، إنّما يناديه جلَّ جلاله بـ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: من الآية 41]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾[الأنفال: من الآية 64]، فإذا كان الحقّ تعالى لم يجعل دعاءه للرّسول ﷺ كدعائه لباقي رسله، أفندعوه نحن باسمه؟ ينبغي أن نقول: يا أيّها الرّسول، يا أيّها النّبيّ، يا رسول الله، يا نبيّ الله، فهذا هو الوصف اللّائق المشرِّف، حتّى في هذه الأيّام بعض النّاس يكتبون عنه، فيقولون: محمّد بن عبد الله، ما هذا الكلام؟! إنّه إساءة أدب، يجب أن يقولوا: نبيّ الله، أو رسول الله ﷺ، وكما نُميِّز دعاء رسول الله ﷺ حين نناديه، كذلك حين ينادينا يجب أن نُقدِّر هذا النّداء، ونعلم أنّ هذا النّداء لخير عامّ يعود نفعه على الجميع.

﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾: لا شكَّ أنّ الّذين يستأذنون رسول الله ﷺ فيهم إيمان، فهم مضطرّون للخروج من المجلس، ولا يقومون إلّا بإذنه، لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان، ﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾: والتّسلّل: هو الخروج بتدريج وخُفْية، كأنْ يتزحزح من مكان لآخر حتّى يخرج، أو يُوهِمك أنّه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم من المجلس خُفْية، وهذا معنى: ﴿يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾؛ أي: يلوذ بآخر ليخرج بسببه.

﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: يحذِّر الله تعالى هؤلاء: والتّحذير إنذار بالعاقبة السّيّئة الّتي تترتّب على الانسحاب من مجلس رسول الله ﷺ، كأنّه يقول لهم: قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرّسول ﷺ وبين ما ينتظركم من العقاب عليه.

﴿الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾: لا يخالفون أمره، فجعل في المخالفة معنى الإعراض، لا مجرّد المخالفة، فالمعنى: يُعرِضون عنه، والأمر: يُراد به فعل الأمر أو النّهي أو الموضوع الّذي نحن بصدده، يعني: ليس طلباً، وهذا المعنى هو المراد هنا؛ أي: الموضوع الّذي نبحثه ونتحدّث فيه، فانظروا ماذا قال رسول الله ﷺ ولا تخالفوه ولا تعارضوه؛ لأنّه وإنْ كان بشراً مثلكم إلّا أنّه يُوحَى إليه، لذلك يحدّد الرّسول ﷺ مركزه كبشر وكرسول، فيقول: «إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ»([1])، لذلك كان الصّحابة يفهمون هذه المسألة، ويتأدّبون فيها مع رسول الله ﷺ، ويسألونه في الأمر: أهو من عند الله تعالى قد نزل فيه وَحْي، أم هو الرّأْي والمشورة؟ فإنْ كان الأمر فيه وَحْيٌ من الله عزَّ وجلَّ فلا كلامَ لأحد مع كلام الله جلَّ جلاله، وإنْ كان لم يرد فيه من الله تعالى شيء أدْلَى كُلٌّ منهم برأيه ومشورته، حسب طلب الرّسول ﷺ، وهذا حدث فعلاً في غزوة بدر حين نزل رسول الله ﷺ منزلاً رأى بعض الصّحابة أنّ غيره خير منه، فسألوا رسول الله ﷺ: أهذا منزل أنزلكَهُ الله، أم هو الرّأْيُ والمشورة؟ فعندما أخبرهم أنّه الرّأي والمشورة أخبروه أنّه غير مناسب، وأنّ المكان المناسب كذا وكذا.

﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾: أي: في الدّنيا.

﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي: في الآخرة، فإنْ أفلتوا من فتنة الدّنيا فلنْ يُفلتوا من عذاب الآخرة.

ثمّ تختم السّورة بقوله تعالى:

([1]) سنن التّرمذيّ: أَبوَابُ الصَّومِ، بَابُ مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الوِصَالِ لِلصَّائمِ، الحديث رقم (778).

الآية رقم (62) - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

هذه الآيات تضع الآداب، وكما قلنا: إنّ سورة النّور هي سورة آداب، آداب اجتماعيّة، آداب مع المجتمع الخارجيّ، آداب داخل الأسرة، آداب في العلاقات، وأهمّ هذه الآداب المتعلّقة بالعلاقة مع سيّدنا رسول الله ﷺ، والله تعالى قال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[الأحزاب]، فالعلاقة مع رسول الله ﷺ هي علاقة مع وحي يوحى، هي علاقة مع من اختاره الله تعالى لهداية البشريّة، وهناك آداب في التّعاطي والجلوس والنّداء والكلام مع رسولنا ﷺ.

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾: المؤمن: مَنْ آمن بإله وآمن بالرّسول المبلِّغ عن الإله، وما دُمْنا قد آمنّا بالرّسول المبلِّغ عن الله تعالى، فلا بُدَّ أن تكون حركتنا خاضعةً لأوامره، ويجب ألّا تكون لذاتنا، فإذا رأى الرّسول ﷺ أمراً جامعاً يجمع المسلمين في خَطْب أو حدث أو حرب، ثمّ دعاهم إلى التّشاور لِيُدلي كلّ منهم برأيه وتجربته، فعليهم ألّا يقوموا من مجلسه حتّى يستأذنوه ﷺ، وليس إلزاماً أنْ يأذن رسول الله ﷺ؛ لأنّ أمر المسلمين الجامع لهم، قد يكون أهمّ من الأمر الّذي يشغلهم.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: فالاستئذان هنا من علامات الإيمان، فلا يقوم أحد خِلْسة من المجلس، بل لا بُدَّ من أن يستأذن رسول الله ﷺ حتّى لا يُفوّت مصلحة على المؤمنين، ولربّما كان له رَأْيٌ يُنتَفع به، والرّسول ﷺ إنّما يستشير أصحابه ليستنير برأيهم وتجاربهم، فحين يدعوهم إلى أمر جامع يجب أن يُفهم هذا الأمر على نطاق منزلة الرّسول ﷺ من بلاغه عن الله تعالى للأمّة، فإذا دعا نفرٌ نفراً للتّشاور، فإنّهما يتشاوران في أمر شخصيّ، لكن حين يدعوهم رسول الله ﷺ لا يدعو لخصوصيّة واحدة، وإنّما لخصوصيّة أمّة، شاء الله تعالى أن تكون خير أمّة أُخْرِجَتْ للنّاس، وسوف يستفيد الفرد أيضاً من هذه الدّعوة، وربّما كانت استفادته من الاستجابة للدّعوة العامّة الّتي تنتظم النّاس كلّهم خَيْراً من استفادته من دعوته الخاصّة، فيجب أنْ يُقدِّر المدعو هذا الفارق، ومع وجود هذا الفارق لم يَحرِم اللهُ تعالى بعضَ النّاس الّذين لهم مشاغل أنْ يستأذنوا فيها رسول الله ﷺ وينصرفوا؛ لذا شرع لهم الاستئذان، لكن يجب أنْ يضعوا هذا الفارق في بالهم، وأنْ يذكروا أنّهم انصرفوا لبعض شأنهم، والرّسول ﷺ قائم في أمر لشؤون الدّنيا كلّها إلى أنْ تقوم السّاعة، فكأنّه إنْ شارك الإنسان في هذا الاجتماع فسيستفيد كفرد، وستستفيد أمّته: المعاصرون منهم والآتُون إلى أنْ تقومَ السّاعة، والمؤمن عليه أن يمتثل لأمر الرّسول ﷺ، وللرّسول ﷺ أن يأذن لمن شاء، ثمّ يستغفر له الله عزَّ وجلَّ.

﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾: معناها شأن خاصّ.

﴿فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾: فالأمر متروك لرسول الله ﷺ يُقدِّره حَسْب مصلحة المسلمين العامّة، فَلَهُ أن يأذنَ أو لا يأذنَ، لكن لا بُدَّ من استئذان رسول الله ﷺ، فيأذن لـمَنْ يشاء منهم.

﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ﴾: وكأنّ مسألة الاستئذان والقيام من مجلس رسول الله ﷺ أمر لا يريده الله عزَّ وجلَّ، حتّى إن استأذنتَ لأمر يهمّك، وحتّى إنْ أَذِن لك رسول الله ﷺ، فالأفضل ألَّا تستأذن؛ بدليل أنّ الله تعالى طلب من النّبيّ ﷺ أن يستغفر لهم، وألّا يقدّموا المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة.

الآية رقم (61) - لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون

﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾: الحرج: هو الضّيق، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: من الآية 125].

أو الحرج بمعنى: الإثم، فالحرج المرفوع عن هؤلاء هو الضِّيق أو الإثم الّذي يتعلّق بالحكم الآتي في مسألة الأكل، بدليل أنّه تعالى يقول: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾.

والأعمى يتحرَّج أنْ يأكل مع النّاس؛ لأنّه لا يرى طعامه، وربّما امتدّتْ يده إلى أطيب الطّعام فيأكله ويترك أدناه، والأعرج يحتاج إلى راحة خاصّة في جلْسته، وربّما ضايق بذلك الآخرين، والمريض قد يتأفّف منه النّاس، فرفَع الله تعالى عن عباده هذا الحرج، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾، فيصحّ أن تأكلوا معاً؛ لأنّ الحقّ تعالى يريد أنْ يجعل التّكامل في الذّوات لا في الأعراض، وأيضاً إنْ رأيتَ شابّاً به آفة، وعاملته معاملة خاصّة فربّما جرحْتَ شعوره، حتّى إنْ كان ما به أمراً خَلْقيّاً من الله تعالى لا يتأبّاه، وكأنّ الحقّ تعالى يريد لأصحاب هذه الآفات أن يتوافقوا مع المجتمع، لا يأخذون منه موقفاً، ولا يأخذ المجتمع منهم موقفاً؛ لذلك يعطف على: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾، ثمّ يقول تعالى: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، يعني: هم مثلكم تماماً، فلا حرجَ بينكم في شيء.

﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾: وكان مِن الأنصار مَنْ إذا جلس في بيت لا يأكل منه إلّا إذا أَذِنَ له صاحب البيت، وقد يسافر الرّجل منهم ويترك التّابع عنده في البيت دون أنْ يأذنَ له في الأكل من طعام بيته ويعود، فيجد الطّعام كما هو، أو يجده قد فسد دون أنْ يأكل منه التّابع شيئاً، فأراد الحقّ تعالى أنْ يرفع هذا الحرج عن النّاس، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾، إلى آخر هذه المعطوفات، ولقائل أنْ يقول: وأيّ حرج في أنْ يأكل المرء من بيته؟ وهل كان يخطر على البال أنْ تجد حَرَجاً، وأنت تأكل من بيتك؟ نقول: لو حاولنا استقصاء هؤلاء الأقارب المذكورين في الآية لتبيّن لنا الجواب، فقد ذكرتْ الآية آباءكم وأمّهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعمّاتكم وأخوالكم وخالاتكم، ولم تذكر شيئاً عن الأبناء وهم في مقدّمة هذا التّرتيب، لماذا؟ قالوا: لأنّ بيوت الأبناء هي بيوت الآباء، وحين تأكل من بيت ولدك كأنّك تأكل من بيتك، على اعتبار أنّ الولد وما ملكتْ يداه مِلْك لأبيه، لقوله ﷺ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»([1])، فالحقّ تعالى لم يُرِدْ أنْ يجعل للأبناء بيوتاً مع الآباء؛ لأنّهما شيء واحد، فلا حرجَ عليك أن تأكل من بيت ابنك أو أبيك أو أمّك أو أخيك أو أختك أو عمّك أو عمّتِك، أو خالك أو خالتك.

﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾: يعني: يُعطيك صاحب البيت مفتاح بيته، وفي هذا إذْنٌ لك بالتّصرُّف والأكل من طعامه إنْ أردتَ.

﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾: ونلحظ في هذه أنّها الوحيدة الّتي وردتْ بصيغة المفرد في هذه الآية، فقبلها جاء بالجمع: بيوتكم، آباءكم، أمّهاتكم .. إلخ، إلّا في الصّديق، فقال: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾، ولم يقل: (أصدقائكم)؛ ذلك لأنّ كلمة: صديق، مثل كلمة: عدوّ، تُستعمل للجميع بصيغة المفرد، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ [الشّعراء: من الآية 77]؛ لأنّهم حتّى إنْ كانوا جماعة لا بُدَّ أنْ يكونوا على قلب رجل واحد، وإلّا ما كانوا أصدقاء، وكذلك في حالة العداوة نقول: عدوّ، وهم جمع؛ لأنّ الأعداء تجمعهم الكراهية، فكأنّهم واحد.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾: سويّاً بعضكم مع بعض.

﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾: متفرّقين، كُلٌّ وحده.

﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾: على أنفسكم؛ لأنّك حين تُسلِّم على غيرك كأنّك تُسلِّم على نفسك؛ لأنّ غيرك هو أيضاً سيسلّم عليك، فالإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيمانيّ وحدة متماسكة، فحين تقول لغيرك: السّلام عليكم، سيردّ: وعليكم السّلام.

﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾: وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النّساء: من الآية 86]، والتّحيّة فوق أنّها من عند الله تعالى فقد وصفها بأنّها: ﴿مُبَارَكَةً﴾، والشّيء المبارك: الّذي يُعطي فوق ما يُنتَظر منه.

﴿كَذَلِكَ﴾: أي: كما بيَّن لكم الأحكام السّابقة، يُبيِّن لكم ﴿الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: أنّ الّذي كلّفكم بهذه الأحكام رَبٌّ يحبّ الخير لكم، وهو غنيٌّ عن هذه، إنّما يأمركم بأشياء ليعود نَفْعها عليكم، فإنْ أطعتموه فيما أمركم به انتفعتُم بأوامره في الدّنيا، ثمّ ينتظركم جزاؤه وثوابه في الآخرة، لذلك يجب أن ننتبه إلى أنّ الأحكام الّتي ترد في القرآن الكريم فيما يتعلّق بالمجتمع، بالأسرة، ببرّ الوالدين، بصلة الأرحام، بالجار، بالعلاقة مع المجتمع، بالقيم الأخلاقيّة، بإزالة الأذى عن الطّريق، كلّها وحدة متكاملة، فالإيمان كما قال ﷺ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»([2])، فإماطة الأذى عن الطّريق هي علامة من علائم الإيمان، فليس الإيمان بالتّمنّي ولا بالتّحلّي، إِنَّمَا الإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي القَلْبِ، وَصَدَّقَهُ العَمَلُ.

([1]) سنن ابن ماجه: كِتَابُ التِّجَارَاتِ، بَابُ مَا لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، الحديث رقم (2291).

([2]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب الميم، مَنِ اسْـمُهُ: مِقْدَامٌ، الحديث رقم (9004).

الآية رقم (60) - وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾: نعلم أنّ الشّارع الحكيم وضع للمرأة المسلمة قواعد تسير عليها في زِيِّها وسلوكها ومِشْيتها، حمايةً لها وصيانةً للمجتمع من الفتنة، وحتّى لا يطمع فيها أصحاب النّفوس المريضة، فجعل لها حجاباً يسترها، يُخفي زينتها لا يكون شفّافاً ولا واصفاً، وقال تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ[الأحزاب: من الآية 59]، لكنّ القواعد من النّساء والكبيرات منهنّ لَهُنَّ حكم آخر.

والقواعد: جمع قاعد لا قاعدة، فقاعدة تدلّ على الجلوس، أمّا القاعد سواء كان ذكراً أم أنثى فهو الّذي قعد عن دورة الحياة، ولم يَعُدْ له مهمّة الإنجاب، ومثل هؤلاء لم يَعُدْ فيهنَّ إِرْبة ولا مطمع؛ لذلك لا مانعَ أن يتخفَّفْنَ بعض الشّيء من اللّباس الّذي فُرِض عليهنّ حال وجود الفتنة، لكن هذه مسألة مقولة بالتّشكيك: نسبيّة، يعني: فمِن النّساء مَنْ ينقطع حَيْضها ويدركها الكِبَر، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربّنا تعالى وضع لنا الحكم الاحتياطيّ:

﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾: ثمّ يدلُّهُنّ على ما هو خير من ذلك: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾.

والمقصود بوَضْع الثّياب: التّخفّف بعض الشّيء من الثّياب الخارجيّة شريطة: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾، فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أَخْذاً بهذه الرّخصة، ثمّ تضع الزّينة وتتبرّج، فلا بدّ أن يكون الأمر واضحاً.

﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾: أي: يحتفظْنَ بملابسهنّ لا يضعْنَ منها شيئاً، فهذا أَدْعى للعفّة.

الآية رقم (59) - وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾: الطّفل حين كان طفلاً لم يبلغ الحُلُم كان يدخل دون استئذان في غير هذه الأوقات، فإنْ بلغ الحُلُم فعليه أنْ يستأذن، لا نقول: إنّه تعوَّد الاستئذان في هذه الأوقات فقط، لا، إنّما عليه أنْ يستأذن في الأوقات جميعها فقد شَبَّ وكَبِر، وانتهتْ بالنّسبة إليه هذه الحالة، وبلوغ الحلم أن ينضج الإنسان نُضْجاً يجعله صالحاً لإنجاب مثله، فهذه علامة اكتمال تكوينه، وهذا لا يتأتّى إلّا باستكمال الغريزة الجنسيّة الّتي هي سَبَب النَّسْل والإنجاب، ونقول له: انتهتْ الرّخصة الّتي منحها لك الشّرع، وعليك أن تستأذن في الأوقات جميعها، لذلك يقول تعالى في موضع آخر: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾[النّور: من الآية 31]، وجاء بالطّفل بصيغة المفرد؛ لأنّ الأطفال في هذه السِّنِّ لم تتكوّن لديهم الغريزة، وليست لهم هذه الميول أو المآرب، فكأنّهم واحد، أمّا بعد البلوغ وتكوُّن الميول الغريزيّة، قال: ﴿الْأَطْفَالُ﴾؛ لأنّ لكلّ منهم بعد البلوغ ميوله وشخصيّته.

﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: أي: من الكبار الّذين يستأذنون في الأوقات كلّها.

﴿كَذَلِكَ﴾: أي: مثل ما بيَّنَّا في الاستئذان الأوّل.

﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾؛ لأنّه تعالى:

﴿عَلِيمٌ﴾: بما يُصلِحكم.

﴿حَكِيمٌ﴾: لا يُشرِّع لكم إلّا بحكمة.

الآية رقم (58) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء، ثمّ الأتباع، مثل الخدم وغيرهم، والحقّ تعالى يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون، وهنا يخصّ بالنّداء الّذين آمنوا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: يعني: يا من آمنتم بي ربّاً حكيماً، مُشرِّعاً لكم، حريصاً على مصلحتكم، استمعوا إلى هذا الأدب:

﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾: معلوم أنّ طلب المتكلّم من المخاطب يأتي على صورتين: فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر، فقوله تعالى: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ﴾، يعني: عَلِّموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم، مثل قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ [النّور: من الآية 33]، يعني: استعفّوا؛ لأنّ اللّام هنا لام الأمر، ومثل: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾[الطّلاق: من الآية 7]، وأدب الاستئذان تكليفٌ من الله تعالى، يُكلِّف به كلّ مؤمن داخل الأسرة، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصّغار، فأمر الله تعالى الكبارَ أن يُعلِّموا الصّغار، كما ورد في الحديث الشّريف: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ»([1])، فلم يُكلِّف بهذا الصّغار، إنّما كُلِّف الكبار؛ لأنّ الأطفال لم يبلغوا بَعْد مبلغ التّكليف من ربّهم، إنّما بلغوا مبلغ التّكليف عندكم أنتم، لذلك عليكم أن تأمروا وتتابعوا وتعاقبوا، فتأمروا الصّغير بالصّلاة أو بالاستئذان لِتُربّوا فيه الدّربة والتّعوّد على أمر قد يشقُّ عليه عندما يكبر، إنّما إنْ تعوَّد عليها الآن، فإنّها تسهل عليه عند سِنِّ التّكليف، وتتحوّل العادة في حقّه إلى عبادة يسير عليها.

وشرع الله تعالى لنا آداب الاستئذان؛ لأنّ للإنسان ظاهراً يراه النّاس جميعاً، ويكثر ظاهره للخاصّة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين، فَرُقْعة الأهل والملاصقين لنا أوسع، وهناك ضوابط اجتماعيّة للمجتمع العامّ، وضوابط اجتماعيّة للمجتمع الخاصّ وهو الأسرة، وحرّيّة المرء في أسرته أوسع من حرّيّته في المجتمع العامّ، فإنْ كان في حجرته الخاصّة كانت حرّيّته أوسعَ من حرّيّته مع الأسرة، فلا بُدَّ من ضوابط تحمي هذه الخصوصيّات، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة.

﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: هم العبيد والإماء الّذين يقومون على خدمة بعض النّاس، وكان لها مصرف ووقت، والآن انتهت، فهذا المعنى معطّل الآن، ولكنّه لم يُلغَ، فلا نعلم بعد ألف سنة ما يحدث؟! وليس هو الأجير؛ لأنّ الأجير حرّ يستطيع أن يتركك في أيّ وقت، أمَّا العبد فليس كذلك؛ لأنّه مملوك الرّقبة لا حرّيّةَ له، فالمملوكيّة راجحة في هؤلاء، وللسّيّد السّيطرة والمهابة، فلا يستطيع أن يُفْلت منه.

﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾: هم الأطفال الصّغار الّذين لم يبلغوا مبْلَغ التّكليف، ويقضون المصالح؛ فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضابط، وكذلك الخدم في البيت لهم طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا، لذلك هناك أوقات ثلاثة لا يُسْمح لهم فيها بالدّخول إلّا بعد الاستئذان:

﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾: لأنّه وقت متّصل بالنّوم، والإنسان في النّوم يكون حُرَّ الحركة واللّباس.

﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾: وهو وقت القيلولة، وهو وقت راحة يتخفّف فيه المرء من ملابسه.

﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾: وبعد العشاء النّوم.

هذه أوقات ثلاثة، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلّا بإذنك.

وانظر إلى هذا التّحفّظ الّذي يوفّره لك ربّك عزَّ وجلَّ حتّى لا تُقيّد حرّيّتك في أمورك الشّخصيّة ومسائلك الخاصّة، وكأنّ هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيّها المؤمن، تأخذ فيها راحتك وتتمتّع بخصوصيّاتك، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيّأ لمقابلة المستأذِن.

وسبب نزول هذه الآية: أنّ رسول الله ﷺ أراد سيّدنا عمر رضي الله عنه في أمرٍ من الأمور، فأرسل إليه غلاماً من الأنصار، فلمّا ذهب الغلام دفع الباب ونادى: يا عمر، فلم يردّ؛ لأنّه كان نائماً، فخرج الغلام، وجلس في الخارج، ودَقَّ الباب، فلم يستيقظ عمر، فماذا يفعل الغلام؟ رفع الغلام يديه إلى السّماء، وقال: يا ربّ أيقظه، ثمّ دفع الباب ودخل عليه، وكان عمر نائماً على وضع لا يصحّ أن يراه عليه أحد، واستيقظ عمر رضي الله عنه ولحظ أنّ الغلام قد رآه على هذا الوضع، فلمّا ذهب إلى النّبيّ ﷺ قال: يا رسول الله نريد أن يستأذن علينا أبناؤنا ونساؤنا وموالينا وخدمنا، فقد حدث من الغلام كيت وكيت، فنزلت هذه الآية.

﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾: يُسمِّي الله تعالى هذه الأوقات عورة، والعورة: هي ما يحبّ الإنسان ألّا يراها أحد، أو يراه عليها؛ لأنّها نوع من الخلل والخصوصيّة، والله تعالى لا يريد أنْ يراك أحد على شيء تكرهه، لذلك يقولون لمن به خَلَل في عينه مثلاً: أعور، والعرب تقول للكلمة القبيحة: عوراء.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾: يعني: بعد هذه الأوقات: لا إثمَ ولا حرجَ عليكم، ولا على المماليك، أو الصّغار أنْ يدخلوا عليكم، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مُسْتعدّاً لممارسة حياته العاديّة، ولا مانع لديه من استقبال الخَدَم أو الأطفال الصّغار دون استئذان؛ لأنّ طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار، لذلك قال تعالى بعدها:

﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾: يعني: حركتهم في البيت دائمة، دخولاً وخروجاً، فكيف نُقيِّدها في غير هذه الأوقات؟

﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾: أي: بياناً واضحاً، حتّى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد.

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: بكلّ ما يُصلح الخلافة في الأرض.

﴿حَكِيمٌ﴾: في تشريعاته وأوامره، لا يضع الحكم إلّا بحكمة.

([1]) سنن أبي داود: كِتَاب الصَّلَاةِ، بَابُ مَتَى يُؤْمَرُ الْغُلَامُ بِالصَّلَاةِ، الحديث رقم (495).

الآية رقم (57) - لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ

يعود السّياق للحديث عن الكافرين:

﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾: يعني: لا تظننّ، والشّيء المعجز هو الّذي يثبت العجز للمقابل، نقول: عملنا شيئاً مُعْجزاً لفلان، يعني: لا يستطيع الإتيان بمثله.

فإيّانا أنْ نظنّ أنّ الكافرين مهما عَلَتْ مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يُفْلِتون من عقاب الله عزَّ وجلَّ، فالله تعالى لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء، إنّما يُملي لهم ويمهلهم حتّى إذا أخذهم، أخذهم أَخْذ عزيز مقتدر، وهو تعالى مُدرِكهم لا محالة.

﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾: نلحظ أنّ قوله تعالى: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ عطفتْ هذه الجملة على سابقتها، وهي منفية: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾، فهل يعني هذا أنّ معناها: ولا تحسبنّ مأواهم النّار؟ قالوا: لا، إنّما المعنى: ولا تحسبنّ الّذين كفروا معجزين في الأرض؛ لأنّ مأواهم النّار.

﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾: أي: المرجع والمآب.

ثمّ ينتقل السّياق إلى سلوك يمسُّ المجتمع من داخله والأسرة في أدقِّ خصوصيّاتها، بعد أنْ ذكر في أوّل السّورة الأحكام الخاصّة بالمجتمع الخارجيّ، فيقول تعالى:

الآية رقم (56) - وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: دائماً ما يقرن القرآن الكريم بين هذيْن الرّكنين، وتأتي الزكاة بعد الصّلاة؛ لأنّ الصّلاة هي الرّكن الوحيد الّذي فُرِض من الله تعالى مباشرة، أمّا بقيّة الأركان فقد فُرِضَتْ بالوحي، فالصّلاة فرضها الله تعالى على رسوله ﷺ بعد أن استدعاه إلى رحلة المعراج، فكلّفه بها مشافهةً دون واسطة، ولما يعلمه الله جلَّ جلاله من محبّة النّبيّ ﷺ لأمّته، فكانت الصّلاة معراج القلوب إلى حضرة الله تعالى علّام الغيوب، فكما فرض على نبيّه ﷺ الصّلاة بالقرب، وكذلك جعلها للمصلّي في الأرض بالقرب، فإنْ دخل المسجد وجد ربّ المسجد، وإنْ كانت أركان الإسلام خمسة، فإنّ الشّهادة والصّلاة هما الرّكنان الدّائمان اللّذان لا ينحلّان عن المؤمن بحال من الأحوال، فقد لا تتوفّر لك شروط الصّوم أو الزكاة أو الحجّ فلا تجب عليك، بينما الصّلاة هي الفريضة المكرّرة على مدار اليوم واللّيلة خمس مرّات، وبها يتمّ إعلان الولاء لله عزَّ وجلَّ دائماً، وقد وزَّعها الحقّ تعالى على الزّمن ليظلّ المؤمن على صلة دائمة بربّه كلّما شغلتْه الدّنيا وجد (الله أكبر) تناديه، أكبر من عمله، أكبر من همّه، أكبر من ماله، أكبر من ولده، (الله أكبر، حيّ على الصّلاة)، فلننظر إلى عظمة الخالق عزَّ وجلَّ حين يطلب من صنعته أن تقابله، وتُعرَض عليه كلّ يوم خمس مرات، وهو تعالى الّذي يطلب هذا اللّقاء ويفرضه علينا لمصلحتنا، ولنا أن نتصوّر صنعة تُعرَض على صانعها كلّ يوم خمس مرّات أيصيبها عَطَب؟! وربّنا هو الّذي ينادينا ويدعونا للقائه، ويقول: “لا أملّ حتّى تملَّوا” ومن رحمته بنا ومحبّته لنا تركَ لنا حرّيّة اختيار الزّمان والمكان، وترك لنا حرّيّة إنهاء المقابلة متى شئنا، فإنْ أردنا أنْ نظلّ في بيته وفي معيّته فعلى الرَّحْب والسَّعَة، ولأهمّــيّة الصّلاة ومكانتها في الإسلام اجتمع فيها أركان الإسلام كلّها، ففي الصّلاة تتكرّر الشّهادة: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، وفي الصّلاة زكاة؛ لأنّ الزكاة فرع العمل، والعمل فرع الوقت، والصّلاة تأخذ الوقت نفسه، وفيها صيام حيث تمتنع في الصّلاة عمّا تمتنع عنه في الصّوم بل وأكثر، وفيها حجّ؛ لأنّك تتّجه في صلاتك إلى الكعبة، فالصّلاة نائبة عن الأركان جميعها في الاستبقاء، لذلك كانت هي عماد الدّين، ولا تسقط عن المؤمن بحال من الأحوال حتّى إنْ لم يستطع الصّلاة قائماً صلّى جالساً أو مضطجعاً، ولو أن يُشير بأصبعه أو بطرفه أو حتّى يخطرها على باله؛ ذلك لاستدامة الولاء بالعبوديّة لله عزَّ وجلَّ المعبود، والصّلاة تحفظ القيم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: من الآية 45]، فتُسوِّي بين النّاس، فيقف الغنيّ والفقير والرّئيس والمرؤوس في صَفٍّ واحد، كلّهم يجلس حَسْب قدومه، وقد ترك قيمته ومكانته مع نعله خارج المسجد، وهذا يُحدِث استطراقاً عبوديّاً في المجتمع، وإنْ كانت الصّلاة قوامَ القيم، فالزكاة قوام المادّة لمنْ ليستْ له قدرة على الكسب والعمل، فلدينا قوانين للحياة، ولاستدامة الخلافة على الأرض قوام القيم في الصّلاة، وقوام المادّة في الزكاة، والزكاة هي إخراج جزء من المال، وتؤدّي إلى التّكافل الاجتماعيّ، وهي شعور الإنسان بحاجة الفقير والمسكين والمحتاج والأرملة واليتيم، والزكاة قرض لله تعالى، قال تعالى: ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾[المزّمل: من الآية 20]، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾[البقرة: من الآية 245]، وهي تطهّر النّفس، وتطهّر الغنيّ، وتطهّر الفقير أيضاً، قال جلَّ جلاله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[التّوبة: من الآية 103]، فهي عمليّة تكامليّة في المجتمع، وقد قال ﷺ: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بالزَّكاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ البَلَاءِ بِالدُّعَاءِ»([1])، ما أجمل هذا الحديث، وما أعظم هذا الحديث، الّذي يدلّنا على الطّريق، حتّى المرض، إذا دفعت مالاً للفقير يُصرَف عنك، حيث تذهب للطّبيب وتأخذ الدّواء، والشّفاء بيد الله عزَّ وجلَّ، وحصّنوا أموالكم بالزكاة، فأنت تعتقد أنّ الزكاة تُنقِص المال بمقدار (2.5) بالمئة، وفي الحقيقة هي تضاعف المال، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة].

﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: وهنا في الصّلاة والزكاة خَصَّ الرّسول بالإطاعة؛ لأنّه صاحب البيان والتّفصيل لما أجمله الله تعالى في فرضيّة الصّلاة والزكاة، حيث تفصيل كلّ منهما في السُّنّة المطهّرة، فقال: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.

([1]) شعب الإيمان: الزكاة، فصل فيمن آتاه الله مالاً من غير مسألة، الحديث رقم (3279).

الآية رقم (55) - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

في أوّل الحديث عن سورة النّور قلنا: إنّها سُـمِّيَتْ بالنّور؛ لأنّها تبيّن للنّاس النّور الحسّيّ في الكون، ونقيس عليه النّور المعنويّ في القيم، وما دُمْنا نُطفىء أنوارنا الحسّيّة حين يظهر نور الله عزَّ وجلَّ في الشّمس، يجب كذلك أن نُطفىء أنوارنا المعنويّة حين يأتينا شرع من الله تعالى، فليس لأحد رَأْيٌ مع شرع الله عزَّ وجلَّ؛ ذلك لأنّ الخالق تعالى يريد لخليفته في الأرض أن يكون في نور حِسِّيٍّ ومعنويّ، ثمّ ضمن له مقوّمات بقاء حياته بالطّعام والشّراب شريطةَ أنْ يكون من حلال حتّى تُبنى خلاياه، وتتكوّن من الحلال، فيَسلم له جهاز الاستقبال عن الله تعالى وجهاز الإرسال إنْ أراد الدّعاء، وفي الحديث الشّريف: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون]، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾[البقرة: من الآية 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»([1])، فهذه أجهزة مُعطَّلة خَرِبة أشبه ما تكون بالرّاديو الّذي لا يُحسن استقبال ما تذيعه محطّات الإذاعة، فالإرسال قائم يستقبله غيره، أمّا هو فجهاز استقباله غير سليم، فإذا ضمنتَ سلامة تكوينك بلقمة الحلال ضَمِنَ الله تعالى لك إجابة الدّعاء، وفي الحديث يقول النّبيّ ﷺ لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ»([2]).

ثمّ ضَمِنَ الله تعالى للإنسان مُقوِّمات بقاء نوعه بالزّواج لاستمرار الذّرّيّة ولتستمرّ الخلافة في الأرض طاهرة نظيفة، ثمّ تحدّثتْ السّورة مُحذِّرة: إيّاكم أنْ تجترؤوا على أعراض النّاس، أو ترْمُوا المحصنات، أو تدخلوا البيوت دون استئذان، حتّى لا تطّلعوا على عورات النّاس.. إلخ، فالحقّ تعالى يريد سلامة المجتمع وسلامة خلافة الإنسان في الأرض، وهذه الأحكام والمعاني كلّها تصبُّ في هذه الآية:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾: وليس خلافة الإرهابيّين، الاستخلاف؛ أي: الإنسان الخليفة لله تعالى في الأرض، فمَنْ فعل ذلك كان أَهْلاً للخلافة عن الله عزَّ وجلَّ، إنّها معركة ابتلاءات وتمحيص تُبيِّن الغَثَّ من السَّمين، ألَا ترى المسلمين الأوائل كيف كانوا يُعذَّبون ويُضطهدون، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتّى اضطرّوا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وقد قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت]، وهؤلاء الصّحابة الكرام رضي الله عنهم هم الّذين حملوا للدّنيا مشاعلَ الهداية، فكيف يأتي مَنْ يُريد أن يتكلّم عنهم بسوء؟!، وقد ساحوا بدعوة الله تعالى في أنحاء الأرض، فلا بُدَّ أن يُربّوا هذه التّربية القاسية، وأن يُمتَحنوا هذا الامتحان كلّه، وهم يعلمون جيّداً ثمن هذه التّضحية وينتظرون ثوابها من الله عزَّ وجلَّ، فأهل الحقّ يدفعون الثّمن أوّلاً، أمّا أهل المبادىء الباطلة فيقبضون الثّمن أوّلاً قبل أنْ يتحرّكوا في اتّجاه مبادئهم، وهذا الابتلاء الّذي عاشه المسلمون الأوائل هو من تنقية خليفة الله تعالى في الأرض لتكون الخلافة عن الله عزَّ وجلَّ صحيحة، لذلك قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾، والوَعْد: بشارة بخير لم يَأْتِ زمنُه بعد، حتّى يستعدّ النّاس، وضِدّه الوعيد أو الإنذار بشرٍّ لم يأتِ زمنه بعد، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافي الوقوع في أسبابه، وما دام الوعد من الله تعالى فهو صِدْق، كما قال جلَّ جلاله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾[النّساء: من الآية 122]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾[التّوبة: من الآية 111].

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: قلنا: إنّ الإيمان الّذي يقوم على صفاء الينبوع والعقيدة ليس مطلوباً لذاته، إنّما لا بُدَّ أن تكون له ثمرة، وأن يُرى أثره طاعة وتنفيذاً لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فطالما آمنتَ بالله تعالى فنفِّذ ما يأمرك به، وهناك من النّاس مَنْ يفعل الخير، لكن ليس من منطلق إيمانيّ مثل المنافقين الّذين قال الله تعالى فيهم: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ [الحجرات: من الآية 14]، فَردَّ الله تعالى عليهم: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: من الآية 14]، يعني: خضعنا للأوامر، لكن عن غير إيمان، فقيمة الإيمان أن تُنفِّذ مطلوبه، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر]، فبماذا وعد الله تعالى الّذين آمنوا؟

﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾: وهذه ليست جديدة، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل:

﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: فاستخلاف الّذين آمنوا ليس بدْعاً، إنّما هو أمرٌ مُشاهد في مواكب الرّسل والنّبوّة، ومُشَاهد في المسلمين الأوائل من الصّحابة الّذين أُوذُوا وعُذِّبوا واضطهدوا، وأُخْرِجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم، ولم يُؤمَروا بردِّ العدوان، وقد قال ﷺ في ذاك الوقت العصيب: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»([3])، ومعنى: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ»، معلوم أنّ للإنسان مجالَ رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق، أمّا الأرض ذاتها فواسعة، فَزُويَتْ الأرض لرسول الله ﷺ، يعني: جُمعت في زاوية، فصار ينظر إليها كلّها.

فهم في هذه المرحلة يشتهون الأمن وهدوء البال، وقد قال تعالى عنهم في هذه الفترة: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾[البقرة: من الآية 214]، وفي قمّة هذا الضّيق يُنزِل تعالى على رسوله: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر]، حتّى إنّ الصّحابة ليتعجّبون، يقول عمر رضي الله عنه: أيُّ جمع هذا؟ وقد نزلت الآية وهم في مكّة في أشدّ الخوف لا يستطيعون حماية أنفسهم، لكن بعد غزوة بدر، وبعد أنْ رأى ما نزل بالكفّار، قال: صدق الله: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر]، حتّى إنّ أبا سفيان لـمّا رأى رسول الله ﷺ في موكب الفتح قال للعبّاس رضي الله عنه: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً، فيقول العبّاس رضي الله عنه: إنّها النّبوّة يا أبا سفيان، يعني: المسألة ليست مُلْكاً، إنّما هي بشائر النّصر لدين الله عزَّ وجلَّ وظهوره على معقل الأصنام والأوثان في مكّة، ثمّ يذهب ﷺ إلى خيبر معقل اليهود من بني قَيْنُقَاع وبني النّضير وبني قريظة وينتصر عليهم، ثمّ تسقط في يده البحرين ومجوس هَجَر، بعد ذلك يُرسِل ﷺ كُتبه إلى الملوك والرّؤساء يدعوهم إلى الإسلام، فيرسل إلى النّجاشيّ مَلِك الحبشة، وإلى المقوقِس، وإلى هرقل، وإلى كسرى، وتأتيه الهدايا من كُلِّ هؤلاء، ويستمرّ المدُّ الإسلاميّ والوفاء بوعد الله تعالى لخليفة رسول الله، فإنْ كان المدّ الإسلاميّ قد شمل الجزيرة العربيّة على عهد رسول الله ﷺ، فإنّه تعدّاها إلى شتّى أنحاء العالم في عهد الخلفاء الرّاشدين، حتّى ساد الإسلامُ العالمَ كلّه، وأظهره الله تعالى على أكبر حضارتين في ذلك الوقت: حضارة فارس في الشّرق، وحضارة الرّوم في الغرب في وقت واحد، ويتحقّق وعد الله للّذين آمنوا بأنْ يستخلفهم في الأرض، وبعد وفاة رسول الله ﷺ تتحقّق النّبوءات الّتي أخبر بها ﷺ، ومنها ما كان من أمر سراقة بن مالك الّذي خرج خلف رسول الله ﷺ في رحلة الهجرة يريد طلبه والفوز بجائزة قريش، وبعد أن تاب سُرَاقة وعاد إلى الجادّة كان الصّحابة يعجبون لدقّة ساعديْه ويصفونهما بما يدعو إلى الضّحك، فكان ﷺ يقول عن ساعدَي سُراقة: «كَأَنِّي بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سُوَارَيْ كِسْرَى»([4])، ويفتح المسلمون بعد ذلك مُلْك كسرى، ويكون سِوَارا كسرى من نصيب سُرَاقة، فيلبسهما، ويراهما النّاس في يديه، هذه كلّها بشائر ومقدّمات لوعد الله تعالى يراها المؤمنون في أنفسهم، لا فيمن يأتي بعد، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾، يعني المسألة لن تطول، كذلك أمّ حرام بنت ملحان الّتي خرجت في غزوة ذات الصّواري، وركبت البحر، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، قَالَتْ: نَامَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْماً قَرِيباً مِنِّي، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ، فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ»، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ، فَفَعَلَ مِثْلَهَا، فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ»، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِياً أَوَّلَ مَا رَكِبَ الـمُسْلِمُونَ البَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ، فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا، فَصَرَعَتْهَا، فَمَاتَتْ([5])، فالبشارة في هذه الآية ليست بشارة لفظيّة، إنّما هي بشارة واقعيّة لها واقع يؤيّدها، قد حدث فعلاً، لكن، ما المراد بالأرض في قوله تعالى: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؟ إذا جاءت الأرض هكذا مُفْردةً غير مضافة لشيء فتعني الأرض كلّها، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ﴾[الإسراء: من الآية 104]، يعني: تقطّعوا في أنحائها كلّها، ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾[الإسراء: من الآية 104] الّذي وعد الله تعالى به: ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾[الإسراء: من الآية 104]، يعني: جمعناكم من الأراضي كلّها، وهذا هو الأمل القويّ الّذي نعيش عليه، وننتظر من الله تعالى أنْ يتحقّق، وندخل المسجد الأقصى، ونحرّر فلسطين والجولان.

﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾: ففوق الاستخلاف في الأرض يُمكِّن الله تعالى لهم الدّين، ومعنى تمكين الدّين: هيمنته على حركة الحياة، فعلى ضوئه وعلى هَدْيه يسير النّاس، فيؤدّي الدّين وظيفته في الأخلاق وفي القيم وفي المجتمع، وفي المحبّة وفي الإيثار وفي العطاء، ولا يكون ديناً مُعطّلاً.

﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾: وهم الّذين قالوا: نبيت في السّلاح، ونصبح في السّلاح، فيبدّلهم الله تعالى بعد هذا الخوف أَمْناً، فإذا ما حدث ذلك فعليهم أنْ يحافظوا على هذه الخلافة في الأرض، وأنْ يقوموا بحقّها.

﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: فمن كفر بعد أن استخلفه الله تعالى، ومكّن له الدّين وأمَّنه وأزال عنه أسباب الخوف، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

وفَرْق بين تمكين الإسلام وتمكين مَنْ يُنسب إلى الإسلام، فبعضهم يدَّعي الإسلام، ويركب موجته كالحركات الإرهابيّة، حتّى يحكم ويستتبّ له الأمر وتنتهي المسألة، لا؛ لأنّ التّمكين ليس هكذا، إنّما التّمكين لدين الله عزَّ وجلَّ أن يكون الإسلام بقيمه، بأخلاقه، بعدالته، بإيثاره، بمحبّته، برحمته، بعطائه، بهذه القيم الّتي تجعل مِن المجتمعات مجتمعات في أعلى قمم الإنسانيّة.

([1]) صحيح مسلم: كِتَاب الزكاةِ، بَابُ قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَتَرْبِيَتِهَا، الحديث رقم (1015).

([2]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب الميم، مَن اسمه محمّد، الحديث رقم (6495).

([3]) صحيح مسلم: كتاب الفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، بَابُ هَلَاكِ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، الحديث رقم (2889).

([4]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جُمَّاعُ أَبْوَابِ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرَبْعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ غَيْرِ الْمُوجَفِ عَلَيْهِ، بَابُ الِاخْتِيَارِ فِي التَّعْجِيلِ بِقِسْمَةِ مَالِ الْفَيْءِ إِذَا اجْتَمَعَ، الحديث رقم (13033).

([5]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ، الحديث رقم (2799).

الآية رقم (52) - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ

هذه برقيّة من الله تعالى، فلم تَدَع هذه الآية حُكْماً من أحكام الإسلام إلّا جاءتْ به في هذه البرقيّة الموجزة الّتي جمعتْ المنهج كلّه.

﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: آمن بالله تعالى وأطاعه وصدَّق رسوله ﷺ وأطاعه فيما أمر ونهى.

﴿وَيَخْشَ اللَّهَ﴾: أي: يخافه.

﴿وَيَتَّقْهِ﴾: أي: يجعل بينه وبين عذاب الله تعالى حاجزاً.

﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾: وهكذا جمعتْ الآيةُ المعانيَ الكثيرة في اللّفظ القليل الموجز، ومعلوم أنّ التّعبير الموجز أصعب من الإطناب والتّطويل، وسبق أنْ ذكرنا قصّة الخطيب الإنجليزيّ المشهور حين قالوا له: إذا طُلِب منك إعداد خطاب تُلقيه في ربع ساعة في كم تُعِدّه؟ قال: في أسبوع، قالوا: فإنْ كان في نصف ساعة؟ قال: أُعِدُّه في ثلاثة أيّام، قالوا: فإذا كان في ساعة؟ قال: أُعِدّه في يومين، قالوا: فإنْ كان في ثلاث ساعات؟ قال: أُعِدّه الآن، وقالوا: إنّ سعد باشا زغلول رحمه الله أرسل من فرنسا خطاباً لصديق في أربع صفحات قال فيه: أمّا بعد، فإنّي أعتذر إليك عن الإطناب (الإطالة)؛ لأنّه لا وقت عندي للإيجاز، إذن: فالإيجاز إعجاز.

وبعد أنْ تحدّث القرآن الكريم عن قَوْل المنافقين وعن ما يقابله من قول المؤمنين وما ترتّب عليه من حكم: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾؛ ذلك لأنّ ذِكْر المقابل يُظهِر المقابل، كما قالوا: والضّدّ يُظهِر حُسْنَه الضِّدُّ، بعدها عاد إلى الحديث عن النّفاق والمنافقين، فقال تعالى:

الآية رقم (51) - إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

فما دُمْت قد آمنتَ، والإيمان لا يكون إلّا عن رغبة واختيار لا يجبرك أحد عليه، فعليك أن تحترم اختيار نفسك بأنْ تطيعَ هذا الاختيار، لذلك كان حال المؤمنين إذا دعوا إلى الله تعالى ورسوله الكريم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.

ولو تأمّلنا الكون من حولنا لوجدناهُ يسير على هذه القاعدة، فما دون الإنسان في كَوْن الله تعالى مُسيَّر لا مُخيَّر، وإنْ كان الأصل أنّه خُيِّر أوّلاً، فاختار أن يكون مُسيّراً من البداية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: من الآية 72]، وتصدير الآية الكريمة بـ ﴿إِنَّمَا﴾ يدلّ على أنّه قد سبقها مقابل، هذا المقابل على النّقيض لما يجيء بعدها، فالمنافقون أعرضوا وردُّوا حكم الله تعالى ورسوله ﷺ، والمؤمنون قالوا: سمعنا وأطعنا، كما تقول: فلان كسول إنّما أخوه مُجِدٌّ، فقول المنافقين أنّهم لا يقبلون حكم الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ، أمّا المؤمنون فيقبلون حكْم الله تعالى ورسوله ﷺ، ومعنى: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾؛ أي: سمعنا سمعاً واعياً يليه إجابة وطاعة، لا مجرّد أنْ يصل الصّوت إلى أُذُن السّامع دون أن يُؤثّر فيه شيء.

﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: المفلحون: الفائزون الّذين بلغوا درجة الفلاح، ومن العجيب أن يستخدم الحقّ تعالى كلمة الفلاح، وهي من فلاحة الأرض؛ لأنّ مَنْ أتقن فلاحة أرضه جاءت عليه بالثّمرة الطّيّبة، وزاد خيره، وتضاعف محصوله، حتّى إنّ حبّة القمح تعطي سبعمئة حبّة، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تُعطي من يزرعها هذا العطاء كلّه، فما بالك بخالق الأرض كيف يكون عطاؤه؟

الآية رقم (50) - أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾: المرض: خروج الشّيء عن استقامة سلامته، فكلّ عضو من الأعضاء له سلامة: العين لها سلامة، والأذن لها سلامة.. إلخ، والعجيب أن نعيش بالجارحة لا ندري بها طالما هي سليمة صحيحة، فإذا أصابها مرض تنبّهنا إليها، وأحسسنا بنعمة الله تعالى علينا فيها حال سلامتها.

﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: يعني: شكُّوا في رسول الله ﷺ.

﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾: يعني: يجور ويظلم.

﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: أي: لأنفسهم أوّلاً، وذلك منتهى الحُمْق أن يظلم الإنسان نفسه، لو ظلم غيره لَقُلْنا: اعتقد أنّه يجلب خيراً لنفسه، لكن ما الخير في ظلم الإنسان لنفسه؟! والحقّ تعالى حينما يعاقب الظّالم، فذلك لمصلحته حتّى لا يتمادى في ظُلْمه، ويجرُّ على نفسه جزاء شرّ بعد أن كان الحقّ تعالى يُمنّيه بجزاء خير. ثمّ يأتي السّياق بالمقابل:

الآية رقم (48 , 49) - وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ - وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ

المراد ما كان من أمر بشر المنافق واليهوديّ، وقد أعرضا عن حكم الله ورسوله، وإنْ كان إعراض المنافق واضحاً فالآية لا تريد تبرئة ساحة اليهوديّ؛ لأنّه ما رضي بحكم الله عزَّ وجلَّ إلّا لأنّه واثق أنّ الحقّ له، وواثق أنّ رسول الله عليه الصّلاة والسّلام لن يحكم إلّا بالحقّ، حتّى وإنْ كان ليهوديّ، فما أذعن لحكم الله تعالى ورسوله ﷺ محبّةً فيه أو إيماناً به، إنّما لمصلحته الشّخصيّة، لذلك يقول تعالى بعدها:

الآية رقم (47) - وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ

وفي آية أخرى يقول الحقّ تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾[النّساء]، وهؤلاء هم المنافقون، وخَيْبة المنافق أنّه متضارب الملكات النّفسيّة؛ ذلك لأنّ للإنسان مَلَكات متعدّدة تتساند حال الاستقامة، وتتعاند حال المعصية، فالإنسان تراه طبيعيّاً حين ينظر إلى ابنته أو زوجته؛ لأنّ مَلَكاته منسجمة مع هذا الفعل، أمّا حين ينظر إلى محارم الغير فتراه يختلس النّظرة، يخاف أنْ يراه أحد يتلصّص ويحتاط؛ لأنّ مَلَكاته مضطربة غير منسجمة مع هذا الفعل، لذلك يقولون: الاستقامة استسامة؛ أي: وسام، فملكات النّفس بطبيعتها متساندة لا تتعارض أبداً، لكنّ المنافق فضلاً عن كذبه، فهو متضارب الملَكات في نفسه؛ لأنّ القلب كافر واللّسان مؤمن، لذلك فكرامة الإنسان تكون بينه وبين نفسه قبل أن تكون بينه وبين النّاس، فقد يصنع الإنسان أمام النّاس صنائع خير تُعجب الآخرين، لكنّه يعلم من نفسه الشّرّ، فهو وإن كسب ثقة المجتمع من حوله، إلّا أنّه خسر رَأْي نفسه في نفسه، وإذا خسر الإنسان نفسه فلن يُعوِّضه عنها شيء حتّى إنْ كسب العالم كلّه؛ لأنّ المجتمع لا يكون معك طول الوقت، أمّا نفسك فملازمة لك الوقت كلّه لا تنفكّ عنها، فأنا كبير أمام النّاس ما دُمْت معهم، أمّا حين أختلي بنفسي أجدها حقيرة: فعلتْ كذا، وفعلت كذا، فأنت حكمتَ أنّ رأي النّاس أنفَسُ من رأيك، ولو كان لرأيك عندك قيمة لحاولت أن يكون رأيك في نفسك صحيحاً، لكن أنت تريد أن يكون رأي النّاس فيك صحيحاً، وإنْ كان رأيك عند نفسك غير ذلك، ويقول تعالى في هؤلاء: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾[النّساء]، فقد حكم عليهم أنّهم يزعمون، والزّعم مطيّة الكذب، والدّليل على أنّهم يزعمون أنّهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت، ولو كانوا مؤمنين بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك ما تحاكموا إلى الطّاغوت، وهكذا فضحوا أنفسهم، والمشرك على الأقلّ يقول: بأنّه مشرك، فقلبه موافق للسانه، أمّا المنافق ففي الدَّرْك الأسفل من النّار؛ لأنّه يقول غير ما يعتقد، والحقّ تعالى يعطينا صورة ونموذجاً يحذّرنا ألَّا نحكم على القول وحده، فيقول تعالى عن المنافقين: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾[المنافقون]، وهذه المقولة: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾[المنافقون: من الآية 1]، مقولة صادقة، لكنّ القرآن الكريم يُكذِّبهم في أنّهم شَهدوا بها.

وقد نزلتْ هذه الآية في أحد المنافقين وهو بشر، وكانت له خصومة مع رجل يهوديّ، فطلب اليهوديّ أن يتحاكما عند رسول الله ﷺ، وطلب المنافق أنْ يتحاكما عند كعب بن الأشرف، لكن رَدَّ اليهوديّ حكومة كعب لما يعلمه من تزييفه وعدم أمانته، وفعلاً تغلّب اليهوديّ، وذهبا إلى رسول الله ﷺ فحكم لليهوديّ، وفي هذا دلالة على أنّ اليهوديّ كان ذكيّاً فَطِناً، يعرف الحقّ ويعرف مكانة رسول الله ﷺ، لكنّ المنافق لم يَرْضَ حكم رسول الله ﷺ، وانتهى بهما الأمر إلى عمر رضي الله عنه وقَصَّا عليه ما كان، ولـمّا علم أنّ المنافق رَدَّ حكم رسول الله ﷺ قام عمر وجاء بالسّيف يُشْهِره في وجه المنافق، وهو يقول: مَنْ لم يَرْضَ بقضاء رسول الله فذلك قضائي فيه، فهؤلاء يقولون:

﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾: كلام جميل، لكنّ هذا قول فقط، لا يسانده تطبيق عمليّ، والإيمان يقتضي أن تجيء الأعمال على وَفْق منطوق الإيمان،فهذا منهم مجرّد كلام، أمّا التّطبيق، فهو كما قال تعالى عنهم:

﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: التّولِّي: الانصراف عن شيء كان موجوداً إلى شيء مناقض.

﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: فما داموا قد تولّوا، فهم لم يطيعوا، ولم يؤمنوا.

الآية رقم (46) - لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾: يعني: مَنْ ملك هذا الملْك وحده، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بيّنات تحمل إليكم الأحكام، فكما فعل لكم الجميل، ووفّر لكم ما يخدمكم في الكون، سمائه وأرضه، فأدُّوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه، واتّبعوا هذه الآيات البيّنات.

﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾: أي: لاستقامة حركة الحياة؛ لأنّ حركة الحياة تحتاج أنْ يتحرّك الجميع ويؤدّي كُلٌّ مهمّته حتّى تتساند الحركات ولا تتعاند، فالّذي يُتعب الدّنيا أن تبني وغيرك يهدم، كما قال الشّاعر:

مَتى يَبلُغُ البُنيانُ يَوماً تَمامَهُ                     .   إِذا كُنتَ تَبنيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ
.

فلا بُدَّ من ضابط قيميّ يضبط الحركات كلّها، ويحثّ كلّ صانع أنْ يتقن صَنْعته ويُخلِص فيها، والإنسان غالباً لا يُحسِن إلّا زاوية واحدة في حياته، هي حرفته وتخصّصه، وربّما لا يحسنها لنفسه.

﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: ولقائل أنْ يسأل: وما ذنب مَنْ لم يدخل في هذه المشيئة فلم يَهْتد؟ وسبق أن قلنا: إنّ الهداية نوعان: هداية الدّلالة وهداية المعونة، فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدّلالة، ويبيّن للكلّ أسباب الخير وسُبل النّجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة، فمَنْ سمع كلام الله تعالى ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدّلالة أعانه تعالى بهداية المعونة، فساعة تسمع: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[المائدة: من الآية 108]، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: من الآية 258]، فاعلم أنّهم امتنعوا عن هداية الدّلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة، لا هداية الدّلالة والإرشاد والبيان.

وقلنا: إنّ كلمة: ﴿أَنْزَلْنَا﴾ تُشعر باحترام الشّيء المنزّل؛ لأنّ الإنزال لا يكون إلّا من العُلُوّ إلى الأدنى، فكأنّ ربّنا عزَّ وجلَّ حين كلّفنا يقول لنا: أريد أن أرتفع بكم من مستوى الأرض إلى عُلوّ السّماء؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾[الأنعام: من الآية 151]؛ أي: لا تضعوا لأنفسكم المنهج حسب آرائكم، وإنّما خذوه من ربّكم تعالى، وتعالوا في ذلك حتّى تعلوا في شأن حياتكم.

الآية رقم (45) - وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾: الدّابّة: كلّ ما يدبُّ على الأرض، سواء أكان إنساناً أم أنعاماً أم وحشاً، فكُلُّ ما له دبيب على الأرض خلقه الله تعالى من ماء حتّى النّملة لها على الأرض دبيب، ومن عجائب الخَلْق أنّ النّملة أو النّاموسة فيها أجهزة الحياة ومُقوِّماتها كلّها، وفيها حياة كحياة الفيل الضّخم، ومن عظمة الخالق تعالى أن يخلق الشّيء الضّخم الّذي يفوق الإدراك لضخامته، ويخلق الشّيء الضّئيل الّذي يفوق الإدراك لضآلته، ولـمّا كان الماء هو الأصل في خِلْقة كلّ شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتّى الميكروب الصّغير الدّقيق بأنْ يحجبوا عنه المائيّة فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنّه يمتصّ المائيّة أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطاً مائيّاً يعيش فيه، وهذه الخِلْقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة، إنّما هي ألوان وأشكال:

﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾: والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حَيِّز مكانيّ إلى حَيِّز مكانيّ آخر، والنّاس تفهم أنّ المشي ما كان بالقدمين، لكن يُوضِّح لنا تعالى أنّ المشْي أنواع: فمن الدّوابِّ مَنْ يمشي على بطنه، ومنهم مَنْ يمشي على رِجْلين، ومنهم مَنْ يمشي على أربع، وربّنا تعالى بسط لنا هذه المسألة بَسْطاً يتناسب وإعجاز القرآن الكريم وإيجازه، فلم يذكر مثلاً أنّ من الدّوابّ مَنْ له أربع وأربعون، وفي تنوّع طُرق المشي في الدّوابّ عجائب تدلّنا على قدرته تعالى وبديع خَلْقه، لذلك قال بعدها:

﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾: لأنّ الآية لم تستقْص ألوان المشي كلّها، إنّما أعطتنا نماذج، وتحت قوله تعالى: ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ تندرج أنواع كثيرة من الدّوابّ، والآية تدلّ على طلاقة قدرته تعالى.

وكما سخّر الله تعالى الإنسان لخدمة الإنسان، كذلك سخَّر الحيوان لخدمة الحيوان ليُوفِّر له مُقوِّمات حياته، ألَا ترى الطّير يقتات على فضلات الطّعام بين أسنان التّمساح مثلاً فينظّفها له، فما في فم التّمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطّيور، ويحدث بينها توافق وانسجام وتعاون، حتّى إنّ الطّير إنْ رأى الصّيّاد الّذي يريد أن يصطاد التّمساح فإنّها تُحدِث صوتاً لتنبّه التّمساح حتّى ينجو.

ومن المشْيِ أيضاً السَّعْي بين النّاس بالنّميمة، كما قال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم].

وبعد أن أعطانا الحقّ تعالى الأدلّة على أن الـمْلك له وحده، وأنّ كلّ شيء يُسبِّح بحمده تعالى وإليه تُرجَع الأمور، وأنّه عزَّ وجلَّ خلق كُلَّ دابّة من ماء، قال جلَّ جلاله: