الآية رقم (20) - وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾: سبق أن تكلّمنا في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: من الآية 7]، وهذه صِفَة الرّسل كلّهم، وليس محمّد ﷺ بِدْعاً في ذلك، وإذا كان أكْل الطّعام يقدح في كونه ﷺ رسولاً، وكانوا يريدون رسولاً لا يأكل الطّعام، فنقول: بالله إذا كان أكْل الطّعام منعه عندكم أن يكون رسولاً، فكيف تقولون لمن أكل الطّعام: إنّه إله؟ كيف وأنتم ما رضيتم به رسولاً؟ وقد جعل الله تعالى الرّسل يأكلون الطّعام، ويمشون في الأسواق؛ لأنّ الرّسول يجب أن يكون قدوة وأُسوْة في كلّ شيء للخَلْق، ولذلك كان رسول الله ﷺ على أقلِّ حالات الكون المادّيّة من ناحية أمور الدّنيا من أكْل وشُرْب ولباس، ذلك ليكون أُسْوة للنّاس، وكذلك نجده ﷺ حريصاً على أن يكون أهل بيته مثله، لذلك لم يجعل لهم نصيباً في الزكاة الّتي يأخذها أمثالهم من الفقراء، ويقول ﷺ: «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»([1])، ومَنْ كان عليه دَيْن من المسلمين تحمّله عنه رسول الله ﷺ، وهذا كلّه إنْ دلَّ فإنّما يدلّ على أنّه ﷺ واثق من جزاء أُخْراه، فلا يُحبّ أن يناله منه شيء في الدّنيا.

﴿وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾: أي: يرتادونها لقضاء مصالحهم وشراء حاجاتهم، دليلٌ على تواضعهم وعدم تكبُّرهم على مثل هذه الأعمال؛ لذلك كان سيّدنا رسول الله ﷺ يحمل حاجته بنفسه، فإنْ عرض عليه أحدُ صحابته أنْ يحملها عنه يقول ﷺ: «صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ»([2]).

﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾: فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض؟ كما في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾[الزّخرف: من الآية 32]، أيُّ بعض مرفوع، وأيّ بعض مرفوع عليه؟ نلاحظ في مثل هذه المسائل أنّ النّاس لا تنظر إلّا إلى زاوية واحدة: أنّ هذا غنيٌّ وهذا فقير، لكنّهم لو أخذوا في المفاضلة بجوانب النّفس الإنسانيّة كلّها لوجدوا أنّه في كلّ إنسان موهبةً خَصّه الله تعالى بها، فكلٌّ مِنّا عنده ميزةٌ ليست عند أخيه؛ ذلك ليتكاتف النّاس ويتكامل الخَلْق؛ لأنّ العالم لو كان نسخة واحدة مكرّرة ما احتاجَ أحدٌ إلى أحد، وما سأل أحد عن أحد، أمّا حين تتعدّد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي، يترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التّفضّل.

فمعنى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾:  كلّ بعضٍ منّا فتنة للآخر، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير، والفقير فتنة للغنيّ.. إلخ، فحين يتعالى الغنيّ على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا فتنة للغنيّ، وحين يحقد الفقير على الغنيّ ويحسده، فالغنيّ هنا فتنة للفقير، وهكذا.. الصّحيح فتنة للمريض، والرّسل فتنة لمن كذّبوهم، والكفّار فتنة للرّسل، والنّاس يفرّون من الفتنة في ذاتها، وهذا لا يصحّ؛ لأنّ الفتنة تعني الاختبار، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت]، فالّذي ينبغي أن نفرّ منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطّلّاب، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر، ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ، فالفتنة في ذاتها غير مذمومة، لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذّهب حين يُصْهر، ومعلومٌ أنّ الذّهَب أفضل المعادن، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه، لماذا؟ لأنّ مِنْ ميزاته أنّه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره، وهو سهل السَّبْك؛ لذلك يقولون: المعدن النّفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره، سريعٌ جَبْره، فمثلاً حين يتكسّر الذّهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزّجاج مثلاً، فالفتنة اختبار، الماهر مَنْ يفوز فيه، فإنْ كان غنيّاً كان شاكراً مُؤدِّياً لحقِّ الغنى مُتواضعاً، يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم، والفقير هو العاجز عن الكسب، لا الفقير الّذي احترف أَكْل أموال النّاس بالباطل.

﴿أَتَصْبِرُونَ﴾: لـمّا كانت الفتنة تقتضي صَبْراً مِنَ المفتون، قال تعالى: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾، فكلّ فتنة تحتاج إلى صبر، فهل تصبرون عليها؟ ولأهمّـيّة الصّبر يقول تعالى في سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[العصر]، يعني: مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلّا أنْ يتّصف بهذه الصّفات: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر].

وتُختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾، لينبّهنا الحقّ تعالى أنّ كلّ حركة من حركاتنا في الفتنة يجب أن نكون واعين لها، ومُبصَرة لنا، وبصرنا للأعمال ليس لمجرّد العلم، إنّما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها، فالله تعالى بصير بأعمالنا مُطّلع على سرائرنا، يعلم ما فعلنا، فعندما نصبر فالصّبر ليس خطابات تُقال، وإنّما هو من أهمّ علائم الإيمان، وهو نصف الإيمان، لذلك قدّمه الله تعالى عندما قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾[البقرة: من الآية 45]، قدّم الاستعانة بالصّبر؛ لأنّ الإنسان قد يكون مصلّياً، لكنّه لا يستطيع أن يكون صابراً على بلاءات وامتحانات الحياة، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك]، فما دمنا سنُبتلى، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة]، فالحياة تحتاج إلى صبر.

([1]) السّنن الكبرى للنّسائيّ: كِتَابُ الفَرَائِضِ، ذِكْرُ مَوَارِيثِ الأنبيَاءِ، الحديث رقم (6275).

([2]) شعب الإيمان: الملابس والزّي والأواني وما يُكرَه منها، فصل فيما كان يلبسه رسول الله ﷺ، الحديث رقم (5830).

الآية رقم (19) - فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا

بعد أن سألهم الحقّ تعالى وهو أعلم بهم: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾ [الفرقان: من الآية 17]، وأجابوا: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: من الآية 18]، وقد هَزَّهم هذا السّؤال هِزَّة عنيفة أراد تعالى أنْ يُبرّئهم، فقال: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾: يعني: أنا أعرف أنّكم قلتم الحقّ، لكنّهم كذَّبوكم بما تقولون.

﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا﴾: الصّرف: أن تدفع بذاتك عن ذاتك الشّرّ إنْ تعرّض به أحد لك.

﴿وَلَا نَصْرًا﴾: النّصر: إذا لم تستطع أنت أنْ تدفع عن نفسك، فيأتي مَنْ يدفع عنك.

﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾: وقد يسأل سائل: لماذا يخاطب الله تعالى أولياءه بهذا العنف؟ قالوا: في الواقع ليس هذا العنف نَهْراً لأولياء الله عزَّ وجلَّ، إنّما زجر ولَفْتُ نظرٍ للآخرين، فإذا كان الحقّ تعالى يخاطب أهل طاعته بهذه الشّدّة، فما بالنا بأعدائه، والخارجين على منهجه؟ إنّهم حين يسمعون هذا الخطاب لا بُدَّ أن يقولوا: مع أنّ الله تعالى اصطفاهم وقرّبهم لم يمنعه ذلك أنْ يُوجِّههم إلى الحقّ وينهرهم، ألم يقل تعالى عن حبيبه ونبيّه محمّد ﷺ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقّة]، فالحقّ تعالى يتحدّث عن نبيّه بهذه الطّريقة ليخيف الآخرين ويرهبهم، وليس المقصود النّبيّ ﷺ.

والظّلم: أخْذُ حقِّ الغير، ما دام أنّ الله تعالى حرَّم ذلك، فهذا يعني أنّ الله تعالى يريد أنْ يتمتّع كلّ واحد بثمرة مجهوده؛ لأنّ أمور الحياة لا تستقيم إنْ أخذ الإنسان ثمرةَ غيره، وتعوَّد أن يعيش على دماء الآخرين وعَرقهم؛ لذلك نرى في المجتمع بعض المجرمين والمنحرفين الّذين يعيشون على عَرق الآخرين وهم لا يتعبون، وحين يُؤخَذ الحقّ من صاحبه، ثمّ لا يجد مَنْ يُنصِفه، ويُعيد له حقّه المسلوب يميل إلى الكسل، ويزهَد في العمل وبذْل المجهود، ومعلومٌ أنّ العمل لا تعود ثمرته على صاحبه فحسب، وإنّما على الآخرين حيث يُيسِّر للنّاس مصالحهم، ويُسهِم بحركته في حركة المجتمع، فالله تعالى يريد لصنعته، سواء المؤمن أم الكافر ألّا يظلم نفسه؛ لأنّ الله تعالى كرَّمه وخلق الكون كلّه لخدمته وسخَّره من أجله؛ لذلك يقول له: إنّك لا تستطيع أن تظلمني، إنّما تظلم نفسك، وحين يُضخِّم الحقّ تعالى العقوبة: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾، إنّما ليُنفِّر عباده منها، ويبتعد بهم عن أسبابها، فلا يقعون فيها، لذلك عندما بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذاً إِلَى اليَمَنِ، قَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الـمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»([1])، فلا شيء أصعب من الظّلم.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَاب الـمَظَالِـم وَالغَصْبِ، بَابُ الِاتِّقَاءِ وَالحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الـمَظْلُومِ، الحديث رقم (2448).

الآية رقم (18) - قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا

﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾: كلمة (سبحان)؛ أي: تنزيهاً لله عزَّ وجلَّ في ذاته عن مشابهة الذّوات، وتنزيهاً لله تعالى في صفاته وأفعاله عن مشابهة الصّفات والأفعال، فللّه تعالى سَمْع ولنا سمع، ولله عزَّ وجلَّ وجود ولنا وجود، ولله جلَّ جلاله حياة ولنا حياة، لكن أحياتنا كحياة الله تعالى؟ فهو: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، فهناك فَرْق بين الصّفات الذّاتيّة والصّفات الموهوبة الّتي يقبضها واهبها إنْ شاء، وقد تُقال: (سبحان الله) ويُقصَد بها التّعجّب، فحين تسمع كلاماً عجيباً، تقول: سبحان الله، يعني: أنا أنزّه أن يكون هذا الكلام حدث، لذلك يقولون هنا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾، يعني: عجيبة أنّنا نضلّ، كيف ونحن نعبد الله تعالى، والمعنى: أنّ هذا لا يصحّ مِنَّا، وليس من المعقول أنّنا ندعوهم إلى عبادتك ونتحوّل نحن لكي يعبدونا: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾.

ومعنى: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا﴾، نفي الانبغاء، نقول: ما ينبغي لفلان أن يفعل كذا، كما قال تعالى في حقّ رسوله ﷺ: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: من الآية 69]، والشّعر مَلكَة وموهبة بيان أدائيّة، وكان العرب يتفاضلون بهذه الموهبة، وإنْ نبغ فيهم شاعر افتخروا به، ولقد توفّرت لرسول الله ﷺ هذه الملَكة، ولم يكن ﷺ شاعراً، وما ينبغي له ذلك؛ لأنّ الشّعر مبنيٌّ على التّخيُّل؛ لذلك أبعده الله تعالى عن الشّعر حتّى لا يظنّ القوم أنّ ما يأتي به محمّد ﷺ من القرآن الكريم تخيّلات شاعر، فلم تكُنْ طبيعة رسول الله ﷺ جامدة لا تصلح للشّعر، إنّما كان ﷺ ذا إحساس مُرْهَفٍ.

فقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ ردٌّ على: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾، ثمّ يذكر الدّليل على: ﴿أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾، في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾، فلمّا متَّعتهم يا ربّ أترفهم النّعيم، وشغلتْهم النّعمة عن المنعِم، فانحرفوا عن الجادَّة.

والآية تنبّه المؤمن ألّا يَأْسَى على نعيم فاته، فربّما فتنك هذا النّعيم، وصرفك عن المنعِم عزَّ وجلَّ، فمن الخير أنْ يمنعه الله تعالى عنك؛ لأنّك لا تضمن نفسك حال النّعمة.

﴿حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾: أي: نسُوا الـمُنْعِم، وحَقُّ النّعمة ألّا تُنسِي المنعم، لذلك سبق أنْ قُلْنا: إنّ الصّحيح إنْ كان في نعمة العافية فمن المنعم تعالى، والمريض الّذي حُرِم منها ليس في نعمة المنعِم، إنّما في صحبته ومعيّته، ومن هنا لـمّا مرض أحد العارفين بالله عزَّ وجلَّ، كان يغضب إذا دُعِي له بالشّفاء، ويقول لعائده: لا تقطع عليَّ أُنْسي بربّي، وقد جاء في الحديث القدسيّ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟»([1])، فحينما يعلم المريض أنّه في معيّة الله تعالى يستحي أن يجزع.

﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾: البُور: الهلاك، ومنه أرض بُور، وهي الّتي لا تُنبت.

([1]) صحيح مسلم: كتاب البِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ فَضْلِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، الحديث رقم (2569).

الآية رقم (17) - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ

﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾: الحشر: جَمْع النّاس أجمعين من لَدُنْ آدم عليه السلام وإلى أنْ تقومَ السّاعة في مكان واحد، ولغاية واحدة، وإذا كنّا الآن نضجّ من الزّحام، ونشكو من ضيق الأرض بأهلها، ونحن في جيل واحد، فما بالنا بموقف يُجمَع فيه الخلائق كلّهم من آدم عليه السلام إلى قيام السّاعة؟

﴿وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: العبادة: أن يطيع العابدُ أوامرَ معبوده، فينبغي أن تنظر في كلّ مَنَ له أمر تطيعه: أهو أمر من ذاته؟ أم أمر مُبلَّغ من أعلى منه: رسول أو إله؟ فإنْ كان الأمر من ذاته فعليك أن تنظر أهو مُبَاح أم يتعارض مع نصٍّ شرعيّ؟ فإنْ كان مباحاً فلا بأسَ في إطاعته، أمّا إنْ كان مخالفاً للشّرع فإنْ أطعْتَه فكأنّك تعبده من غير الله عزَّ وجلَّ، فحينما يأمرك الآمر بالصّلاة أو الزكاة أو الصّوم فأنت قبل أن تطيعه أطعتَ مَنْ حَمَّله هذه الأمانة، والّذين يطيعون مَنْ يأمرونهم بأشياء مخالفة لمنهج الله تعالى عبدوهم من غير الله عزَّ وجلَّ، وجعلوهم آلهة مُطاعين، كما قال تعالى في الشّياطين: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾[الأنعام: من الآية 121]، وآخرون عبدوا الطّاغوت، أو عبدوا الشّمس، أو القمر، أو النّجوم، أو الأصنام والجماد، ومعلومٌ أنّ عبادة هذه الجمادات عبادة باطلة خاطئة، فالعبادة إطاعة أمر، وهل للجمادات أمر لأحد؟ فهي باطلة كلّها، أمّا العبادة الّتي أمر الله تعالى بها ففيها: افعل ولا تفعل، فيها حلال وفيها حرام، لذلك يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، يعني: يجمع العابد على الضّلال والمعبود على الضّلال في مكان واحد معاً، لماذا؟ لأنّ العابد إذا وجد نفسه في العذاب ربّما انتظر معبوده أنْ ينقذه من العذاب، لكن ها هو يسبقه إلى النّار، ويقطع عنه كلَّ أمل في النّجاة.

﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾: الخطاب هنا مُوجَّه لمن يعقل منهم، ولا مانعَ أن يكون للجميع، فنحن نتحدّث عن القانون الّذي نعرفه، وقد بيَّن لنا الحقّ تعالى أنّ لكلّ شيء لغةً، فلماذا نستبعد أن يكون الخطاب هنا للعاقل ولغير العاقل، بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء: من الآية 44]، فالحقّ تعالى يسأل المعبودين: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾، والله تعالى يعلم إنْ كانوا أضلُّوهم أم لا، وسؤال الله تعالى للمعبودين تقريع للعابدين أمام مَنْ عبدوهم، فهذا باطل كلّه، فقد أضلّوهم، وعليهم مسؤوليّة؛ لأنّهم اتّبعوهم، والاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي﴾ يقول فيه بعض غير المؤهَّلين للفَهْم عن الله عزَّ وجلَّ: أما كان يقول: (أأضللتم عبادي؟)، ونقول لهؤلاء: ليس لديكم الملَكَة اللّغويّة لفَهْمِ القرآن الكريم، فأنت تستفهم عن الفعل إذا لم يكن موجوداً أمامك، تقول: أبنيتَ البيت الّذي أخبرتني أنّك ستبنيه؟ فيخبرك: بنيتُه أو لم أَبْنِه، أمَّا حين تقول: أبنيتَ هذا البيت؟ فالسّؤال ليس عن البناء، إنّما عن فاعله، أنت أم غيرك؟ لأنّ البناء قائم أمامك، ففَرْقٌ بين السّؤال عن الحَدث، والسّؤال عن فاعل الحدث، والضّلال هنا موجود فعلاً، فالسّؤال عن الفاعل: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾.

الآية رقم (16) - لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا

في الآية السّابقة قال تعالى: ﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾، وهنا يقول: ﴿خَالِدِينَ﴾، وهذه من المواضع الّتي يرى فيها السّطحيّون تكراراً في كلام الله عزَّ وجلَّ، مع أنّ الفرق واضح بينهما، فالخُلْد الأوّل للجنّة، أمّا الثّاني فلأهلها، بحيث لا تزول عنهم ولا يزولون عنها.

﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾: كأنّ امتياز الجنّة أن يكون للّذي دخلها ما يشاء، وفي هذه المسألة بَحْث يجب أن نتنبّه إليه، ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾، يعني: إذا دخلتَ الجنّة فلك فيها ما تشاء، فلك فيها مشيئة من النّعيم، ولا تشاء إلّا ما تعرف من النّعيم المحدود، أمّا الجنّة فهي كما أخبرنا نبيّنا ﷺ: قَالَ اللَّهُ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾»([1])، وهذا الوعد لا يتحقّق للمؤمن إلّا في الجنّة، أمّا في الدّنيا فلا أحدَ ينال ما يشاء كلّه -حتّى الأنبياء- أَلا نرى أنّ نوحاً عليه السلام طلب من ربّه نجاة ولده، فقال: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾[هود: من الآية 45]، فلم يُجَبْ إلى ما يشاء، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[هود: من الآية 46]، وفي قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾ عطاءات أخرى، لكنّ ربّك يعطيك على قَدْر معرفتك بالنّعيم، فأنت تطلب وربُّكَ يعطيك، ويدّخر لك ما هو أفضل ممّا أعطاك، والمشيئة في الآخرة ستكون بمَلَكات أخرى غير مَلكات مشيئات الدّنيا، إنّها في الآخرة نفوس صفائيّة خالصة لا تشتهي غير الخير، على خلاف ما نرى في الدّنيا من ملَكات تشتهي السّوء؛ لأنّ الملَكات هنا محكومة بحكم الجبر في أشياء والاختيار في أشياء، الجبر في الأشياء الّتي لا تستطيع أن تتزحزح عنها، كالمرض والموت مثلاً، أمّا الاختيار ففي المسائل الأخرى.

﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾: الوعد -كما قلنا- البشارة بخير قبل أوانه، وبعض العلماء يرى أنّ وعداً هنا بمعنى: حقّ، لكن هل لأحد حقّ عند الله عزَّ وجلَّ؟ وفي موضعٍ آخر يُسمِّيه تعالى جزاءً، فهل هو وعد أو جزاء؟ نقول: حينما شرع الحقّ تعالى الوعد صار جزاءً؛ لأنّ الحقّ تعالى لا يرجع في وعده، ولا يحول شيء دون تحقيقه.

وكلمة: ﴿مَسْئُولًا﴾، مَن السّائل هنا؟ قالوا: الله تعالى علَّمنا أن نسأله، ولنقرأ قوله جلَّ جلاله: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾[آل عمران: من الآية 194]، فقد سألناها نحن، وكذلك سألتها الملائكة، كما جاء في قوله تعالى على لسان الملائكة: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾[غافر: من الآية 8]، فالجنّة مسؤولة من أصحاب الشّأن، ومسؤولة من الملائكة الّذين يستغفرون لنا.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، الحديث رقم (3244).

الآية رقم (5) - وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا

﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: الأساطير: جمع أسطورة، مثل: أعاجيب: جمع أعجوبة، وأحاديث: جمعُ أُحْدوثة، والمعنى: أنّهم قالوا عن القرآن الكريم: إنّه حكايات وأساطير السّابقين.

﴿اكْتَتَبَهَا﴾: يعني: أمر بكتابتها، وهذا من تردّدهم واضطراب أقوالهم، فالنّبيّ ﷺ أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب.

﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾: أي: باستمرار ليُكرِّرها ويحفظها.

﴿بُكْرَةً﴾: البكرة: أول النّهار.

﴿وَأَصِيلًا﴾: الأصيل: آخر النّهار.

ويردُّ القرآن الكريم عليهم قائلاً:

الآية رقم (4) - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: بعد أن تكلّم عن الفرقان وفرَق في مسألة القمّة والألوهيّة واتّخاذ الولد والشّركاء، وبيَّن الإله الحقّ، أراد تعالى أنْ يتكلّم عن الفرقان في الرّسالة، فيحكي ما قاله الكفّار عن القرآن الكريم:

﴿إِنْ هَذَا﴾: يعني: ما هذا -أي القرآن الكريم- الّذي يقوله سيّدنا محمّد ﷺ.

﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾: الإفك: تعمُّد الكذب الّذي يقلب الحقائق، وسبق أن قُلْنا: إنّ النّسبة الكلاميّة إنْ وافقت الواقع فهي صِدْق، وإنْ خالفتْه فهي كذب، والإفْك قَلْب للواقع يجعل الموجود غير موجود، وغير الموجود موجوداً، كما جاء في حادثة الإفك حين اتّهموا أُمَّنا السّيّدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها بما يخالف الواقع، ومن العجيب أنّ هؤلاء الّذين اتّهموا القرآن الكريم أنّه إفك هم أنفسهم الّذين قالوا عنه: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزّخرف: من الآية 31]، فهم يعترفون بالقرآن الكريم ويشهدون له، لكن يُتعبهم ويُنغِّص عليهم أن يُنزَل على محمّد ﷺ بالذّات، فلو نزل -فرضاً- على غير سيّدنا محمّد ﷺ لآمنوا به، ومن حُمْقهم أن يقولوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[الأنفال: من الآية 32]، والمنطق أن يقولوا: فاهْدنا إليه، لكنّه العناد والمكابرة.

﴿افْتَرَاهُ﴾: أي: ادّعاه، وعجيب أمر هؤلاء، يتّهمون القرآن الكريم بأنّه إفك مُفْترى، فلماذا لا يفترون هم أيضاً مِثْله، وهم أمّة بلاغة وبيان؟!

﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾: الّذي قال هذه المقولة هو النّضر بن الحارث، ولـمّا قالها ردّدها بعده آخرون، أمثال: عدَّاس، وأبي فكيهة الرّوميّ.. والقرآن الكريم يردّ على هذه الاتّهامات كلّها:

﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾: أي: حكموا به، والظّلم هو: الحكم بغير الحقّ، والزّور هو: عُدَّة الحكم ودليله، والظّلم يأتي بعد الزّور؛ لأنّ القاضي يستمع أوّلاً إلى الشّهادة، ثمّ يُرتِّب عليها الحكم، فإن كانت الشّهادةُ شهادةَ زور، كان الحكم حينئذ ظلماً، لكنّ الحقّ تعالى يقول: ﴿ظُلْمًا وَزُورًا﴾، وهذا دليل على أنّ الحكم جاء منهم مُسبقاً، ثمّ التمسوا له دليلاً.

الآية رقم (3) - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا

﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾: أي: أتوْا بآلهة غير الله عزَّ وجلَّ، هذه الآلهة بإقرارهم وشهادتهم وواقعهم لا تخلق شيئاً، ويا ليتها فقط لا تخلق شيئاً، ولكن هي أنفسها مخلوقة، فاجتمع فيها الأمران.

وهذه من الآيات الّتي وقف عندها المستشرقون، وقالوا: إنّ فيها شبهة تناقض؛ لأنّ الله تعالى قال: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[المؤمنون: من الآية 14]، فأثبت أنّ معه آخرين لهم صفة الخَلْق، بدليل أنّه جمعهم معه، وهو تعالى أحسنهم، وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: من الآية 49]، وللرّدِّ على هؤلاء، نقول: تعالوْا أوّلاً نفهم معنى الخَلْق، الخَلْق: إيجاد لمعدوم، كما مثّلْنا سابقاً بصناعة كوب الزّجاج من صَهْر بعض الموادّ، فالكوب كان معدوماً وهو أوجده، لكن من شيءٍ موجود، كما أنّ الكوب يجمد على حالته، لكنّ الحقّ تعالى يُوجِد من معدوم: معدوماً من معدوم، ويُوجده على هيئة فيها حياة ونموّ وتكاثر من ذاته، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الذّاريات]، ففي قوله تعالى: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [آل عمران: من الآية 49]، معلوم أنّه في مقدور كلّ إنسان أنْ يُصوِّر من الطّين طَيْراً، ويُصمِّمه على شكله، لكن أَيُقال له: إنّه خلق بهذا التّصوير طَيْراً؟ وهل العظمة في تصويره على هيئة الطّير؟ العظمة في أنْ تبعثَ فيه الحياة، وهذه لا تكون إلّا من عند الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك قال عيسى عليه السلام: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[آل عمران: من الآية 49]، فإنْ سلَّمْنا أنّهم يخلقون شيئاً فهم في ذات الوقت مخلوقون، والأدْهَى من هذا أنّ الأصنام الّتي يتّخذونها إلهاً لا تستطيع حتّى أن تحمي نفسها أو تقيمها إنْ أطاحتْ بها الرّيح، وإنْ كُسِر ذراع الإله أخذوه لِيُرمّموه، الإله في يد العامل ليصلحه!! شيء عجيب وعقليّات حمقاء، لذلك يقول تعالى عن آلهتهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحجّ].

﴿وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾: يعني: هذه الأصنام الّتي يعبدونها لا تنفعهم إنْ عبدوها، ولا تضرّهم إنْ كفروا بها.

﴿وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾: أي: موتاً أو حياة لغيرهم، فهم لا يملكون شيئاً من هذا كلّه؛ لأنّه من صفات الإله الحقّ الّذي يُحيي ويُميت، ثمّ ينشر النّاس في الآخرة، فللإنسان مراحل متعدّدة، فبعد أنْ كان عَدَماً أوجده الله تعالى، ثمّ يطرأ عليه الموت فيموت، ثمّ يبعثه الله عزَّ وجلَّ، ويُحييه حياة الآخرة.

الآية رقم (15) - قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا

﴿قُلْ﴾: أَمْر لرسول الله ﷺ بأن يقول، والمقول له هم الّذين اعترضوا على نبوّته ﷺ باعتراضات واهية من المعاصرين له، وإلى النّاس كلّهم الّذين يتخبّطون في هذه المسائل تخبُّط مَنْ لا يعرف فيها حقيقة، وإنّما غرضه فقط أنْ يتعرّض لرسول الله ﷺ في أمر دعوته، والتّعرُّض لأيِّ نبيٍّ في أمر دعوته من المعاصرين له أمر طبيعيّ؛ لأنّ الرّسل إنّما يجيئون حين يستشري الفساد.

وسبق أنْ قُلْنا: إنّ الحقّ تعالى جعل في كلّ نفس ملَكةً تجعل الإنسان يفعل شيئاً، ثمّ تأتي ملَكة أخرى فيه لتلومه على ذلك، حينئذ تكون المناعة في ذات الإنسان، ويُسمُّونها: (النّفس اللوَّامة)، لكن قد تنطمس فيه هذه الملَكة، فتتعاون مَلَكاته كلّها على الشّرّ، بحيث تكون النّفس بمَلَكاتها كلّها أمّارة بالسّوء، وهي أمَّارة بصيغة المبالغة لا آمرة؛ أي: أنّها أخذتْ هذا الأمر حِرْفةً لها، كما لو رأيت رجلاً يَنْجُر في قطعة من الخشب، تقول له: ناجر، فإنِ اتّخذها حرفةً له، لا يعمل إلّا فيها، تقول له: نجّار، فالمعنى: أمّارة، يعني: لم يَعُدْ لها عمل في أن تردع عن الشّرّ، بل دائماً تُقوِّي نوازع الشّرّ في النّفس، وتتأصّل فيها حتّى تصير لها حرفة، فماذا يكون الموقف؟ لا بُدَّ أنْ يجعل الحقّ تعالى في نفوس قوم آخرين مَلَكة الخير ليواجهوا أصحاب هذه الأنفس الأمّارة بالسّوء، يواجهونهم بالنّصح والإرشاد والموعظة، ويصرفونهم عن الشّرّ إلى الخير، فإذا ما فسد المجتمع كلّه، لا نفسٌ مانعة، ولا مجتمعٌ مانع، فلا بُدَّ أنْ تتدخّل السّماء برسول جديد، ومن رحمة الله تعالى بالعالم أنّه عزَّ وجلَّ ضمن لأمّة محمّد ﷺ أن تكون فيها النّفس اللّوّامة، وضمن لها أنْ يظلّ مجتمعها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر؛ لذلك لا حاجةَ إلى رسول بعد رسول الله ﷺ، فبه خُتمت النّبوّات والرّسالات، فالمناعة موجودة في الأمّة، ولو لم تكُنْ هذه المناعة موجودة في النّفس أوّلاً، وفي المجتمع ثانياً لتدخّلتْ السّماء لتعيد الخَلْق إلى رُشْدهم، ولا شكَّ أنّ في المجتمع مجموعة تنتفع بهذا الفساد، ويعيشون في ترف في ظلّه، فطبيعيّ أنْ يدافعوا عنه، وأنْ يتصدَّوْا لدعوة الرّسول ﷺ الّتي جاءتْ لتعدّل ميزان المجتمع، وأنْ يقفوا له بالمرصاد؛ لأنّه يهدِّد هذه النّفعيّة، ويقضي على مصلحتهم، وإنْ كان الرّسل السّابقون قد تعرّضوا لمثل هذا الاضطهاد، فقد تعرّض رسول الله ﷺ لأضعاف ما تعرَّضوا له؛ لأنّ اضطهاده ﷺ جاء مناسباً لضخامة مهمّته، فقد جاءتْ الرّسل قبله، كُلٌّ إلى أمّته خاصّة في زمن محدّد، أمّا رسالته ﷺ فقد جاءت للنّاس كافّة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبأ: 28]، تعمُّ الزّمان كلّه، والمكان كلّه إلى أن تقوم السّاعة، فلا بُدَّ أن تكون مهمّته أصعب، وهؤلاء الّذين ينتفعون بالفساد في المجتمع يظنّون أنّ رسول الله ﷺ إذا لُوِّح له بالمال والنّعيم يمكن أن يتنازل عن دعوته، ويترك لهم السّاحة؛ لذلك اجتمع صناديد قريش على رسول الله ﷺ، يُلوِّحون له بالمال والجاه والسّلطان، ليصدُّوه عن الدّعوة ويصرفوه عنها، هؤلاء دستة الشّرّ، وكانوا اثني عشر رجلاً، منهم: أبو البختريّ، وأبو جهل، وأبو سفيان، والأسود بن المطّلب، وأميّة بن خلف، والعاص بن وائل، وعتبة بن ربيعة، ومُنبِّه بن الحجّاج، والوليد بن المغيرة، والنّضر بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، ونُبيه بن الحجّاج، لقد ذهب هؤلاء إلى سيّدنا محمّد رسول الله ﷺ، يقولون: “يا محمّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنّا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثلما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدّين، وسببت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تطلب به الشّرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الّذى يأتيك رئيّاً تراه قد غلب عليك -وكانوا يُسمّون التّابع من الجنّ رئيّاً- بذلنا لك أموالنا فى طلب الطّبّ لك حتّى نبرّئك منه”، وفَرْق بين المال والشّرف: المال أن يكون الإنسان غنيّاً، لكن ربّما لا شرفَ له، ولا مكانةَ له بين النّاس، وهناك مَنْ له شرف وسيادة، وليس له مال، ونلحظ أنّهم ارتقوْا في مساومة رسول الله ﷺ من المال إلى الشّرف والسّيادة، ثمّ إلى الملْك، فماذا كان موقفه ﷺ؟ كان موقفه هو الموقف الّذي مهَّد الله تعالى له به، حينما عرض ربّه جلَّ جلاله أن يجعل له جبال مكّة ذهباً، فقال ﷺ: «لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً»، أَوْ قَالَ: «ثَلَاثاً»، أَوْ نَحْوَ هَذَا، «فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ»([1])، وفي موقف آخر، جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ، قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ: أَفَمَلِكاً نَبِيّاً يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْداً رَسُولاً؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «بَلْ عَبْداً رَسُولاً»([2])، فمسألة المال هذه عُرِضَتْ على رسول الله ﷺ قبل أن يقترحها كفّار مكّة، فإذا كان ﷺ قد رفضه مِمَّن يملكه، فكيف يقبله مِمَّنْ لا يملك شيئاً؟ لذلك قال لهم عندما عرضوا عليه المال والملك والسّيادة: «ما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشّرف فيكم، ولكن بعثني الله إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم، فإن تقبلوا منّي ما جئتكم به فهو حظّ لكم في الدّنيا والآخرة، وإن تردّوه أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم»([3])، فلجؤوا إلى عمّ النّبيّ ﷺ أبي طالب، لعلّه يستطيع أن يستميله، فلمّا كلَّمه عمّه، قال قولته المشهورة: «يَا عمّ، والله، لو وضعوا الشَّمْس فِي يَمِينِي، وَالقَمَر في يساري، على أن أترك هَذَا الأَمْرَ -حَتَّى يُظْهِرَهُ الله أو أهلك فيه- ما تركته»([4]).

﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾: أي: ما أنتم فيه الآن من العذاب خير، أم جنّة الخلد الّتي وُعِد المتّقون؟ احكموا أنتم في هذه المسألة وسنرضى بحكمكم، إنّها إغاظة لأهل النّار، حيث جمع الله تعالى عليهم مقاساة العذاب مع النّظر إلى أهل الجنّة وما هم فيه من النّعيم، ولو كانت الأُولى وحدها لكانت كافية، إنّما هو في العذاب ويأتيه أهل الجنّة لِيُبكّتوه: انظر ما فاتك من النّعيم!!

﴿خَيْرٌ﴾: كلمة خير في اللّغة تدور على معنيين: خير يقابله شَرٌّ، وخير يقابله خير أعظم منه، كما جاء في الحديث الشّريف: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»([5])، فكلاهما فيه خير، وإن زاد الخير في المؤمن القويّ، وعادة ما تأتي (من) في هذا الأسلوب: هذا خير من هذا، أمّا الخير الّذي يقابله شرّ، فمثل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾[البيّنة: من الآية 7].

﴿أَمْ جَنَّةُ﴾: الجنّة: هي المكان المملوء بالأشجار والمزروعات الّتي تستر السّائر فيها، أو تستر صاحبها أنْ ينتقلَ منها إلى خارجها؛ لأنّ بها متطلّبات حياته كلّها، بحيث يستغني بها عن غيرها، لذلك أردفها الحقّ تعالى بقوله:

﴿الْخُلْدِ﴾: فالجنّة الّتي تراها في الدّنيا مهما بلغت فليست هي جنّة الخلد؛ لأنّها لا بدّ إلى زوال، فعُمرها من عُمْر دُنْياها، كأنّه تعالى يقول لكلّ صاحب جنّة في الدّنيا: لا تغترّ بجنّتك؛ لأنّها ستؤول إلى زوال، وأشدّ الغمّ لصاحب السّرور أنْ يتيقّن زواله، لذلك يُطمئِن الله تعالى عباده المؤمنين بأنّ الجنّة الّتي وعدهم بها هي جنّة الخلد والبقاء، حيث لا يفنى نعيمها، ولا يُنغَّص سرورها، فلذَّاتها دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.

﴿الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾: الوعد هنا من الله تعالى الّذي يملك أسباب الوفاء كلّها، والوَعْد بشارة بخير قبل مجيئه، ويقابله الإنذار، وهو التّهديد بشرٍّ قبل مجيئه لتتلافاه، وتجتنب أسباب الوقوع فيه.

وكلمة (مُتَّقٍ) الأصل فيها مَنْ جعل بينه وبين الشّرّ وقاية، كما يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾[البقرة: من الآية 24]، يعني: اجعلوا بينكم وبينها وقاية، ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[البقرة: من الآية 194]، والمعنى: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله القهريّة وقايةً؛ لأنّكم لا تتحمّلون صفات قَهْره، والنّار جُنْد من جنود الله عزَّ وجلَّ في صفات جلاله، فكأنّه تعالى قال: اتّقوا جنود صفات الجلال من الله عزَّ وجلَّ.

﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾: أي: جزاءً لما قدَّموا، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾[الحاقّة]، فهذا تعليلُ ما هم فيه من النّعيم: لأنّهم تَعِبُوا، واضطهدوا وعُذِّبوا، وجزاء من عُذِّب في ديننا أن نُسعده في الآخرة.

﴿وَمَصِيرًا﴾: أي: يصيرون إليه، فلا تنظر إلى ما أنت فيه الآن، لكن انظر إلى ما تصير إليه حَتْماً، وتأمّل وجودك في الدّنيا، وأنّه موقوت مظنون، وأمّا وجودك في الآخرة، فهو باقٍ دائم لا ينتهي، لذلك يقولون: إيّاك أنْ تدخل مدخلاً لا تعرف كيفيّة الخروج منه.     

([1]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ الزُّهْدِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الكَفَافِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، الحديث رقم (2347).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ أَبِي هُرَيْرَةَ t، الحديث رقم (7160).

([3]) المسند الجامع: حرف العين، عبد الله بن عبّاس الهاشميّ، الحديث رقم (6899).

([4]) دلائل النّبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشّريعة للبيهقيّ: ص66.

([5]) صحيح مسلم: كتاب القَدَرِ، باب 8، الحديث رقم (2664).

الآية رقم (14) - لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا

يُوبِّخهم الحقّ تعالى: يا خيبتكم ويا ضياعكم، لن ينفعكم أنْ تدعوا ثُبوراً واحداً، بل ادعوا ثُبوراً وثبوراً وثبوراً؛ لأنّها مسألة لن تنتهي، فسوف يُسْلِمكم العذاب إلى عذاب، حتّى تنادوا: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزّخرف: من الآية 77]، وهو عذاب متجدّد: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النّساء: من الآية 56].

ثمّ يذكر الحقّ تعالى المقابل ليكون ذلك أنْكَى لأهل الشّرّ وأَغْيظ لهم، فيذكر بعد العذاب الثّوابَ على الخير وعِظَم الجزاء على الطّاعة، ومثل هذه المقابلات كثيرة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار]، ويقول تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التّوبة]، وهنا بعد أنْ ذكر النّار وما لها من شهيق وزفير، يقول تعالى:

الآية رقم (13) - وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا

فجمع الله تعالى عليهم من العذاب ألواناً، حتّى يقول الواحد منهم لمجرّد أن يرى العذاب: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾[النّبأ: من الآية 40]، وهنا يدعو بالويل والثّبور، يقول: يا ويلاه يا ثبوراه، يعني: يا هلاكي تعالَ احضر، فهذا أوانك لتُخلِّصني ممّا أنا فيه من العذاب، فلن يُنجيني من العذاب إلّا الهلاك؛ لذلك يقولون: أشدّ من الموت الّذي يطلب الموت.

الآية رقم (12) - إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا

﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾: يريد الحقّ تعالى أن يُشخِّص لنا النّار، فهي ترى أهلها من بعيد، وتتحرّش بهم تريد مِن غَيْظها أنْ تَثِبَ عليهم قبل أنْ يصلوا إليها.

﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾: التّغيُّظ: ألم وجدانيّ في النّفس يجعل الإنسان يضيق بما يجد، لذلك يقول تعالى عن النّار في موضع آخر: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: من الآية 8]، تميّز يعني: تكاد أبعاضها تنفصل بعضها عن بعض، لكن، لماذا تميَّز النّار من الغيظ؟ قالوا: لأنّ الكون كلّه مُسبِّح لله عزَّ وجلَّ حامد شاكر لربّه؛ ويُسَرُّ بالطّائع ويحبّه، ويكره العاصي ويبغضه، فالوجود كلّه قد فرح لمولد النّبيّ ﷺ، الجمادُ والنّباتُ والحيوانُ واستبشر؛ لأنّه ﷺ جاء ليعيد للإنسان انسجامه مع الكون المخلوق له، ويعدّل الميزان، ومع ذلك نرى من البشر أصحاب الاختيار مَنْ يكفر، لذلك تغتاظ النّار من هؤلاء الّذين شذُّوا عن منظومة التّسبيح والتّحميد، ورَضُوا لأنفسهم أن يكونوا أَدْنى من الجماد والنّبات والحيوان، لذلك يُنبِّهنا إلى هذه المسألة الإمام عليّ رضي الله عنه، فيقول: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السّماء، وموضع في الأرض، أمّا في الأرض فموضع مُصَلَّاه؛ لأنّه حُرِم من صلاته، وأمّا موضعه في السّماء فمصعد عمله الطّيّب، والحقّ تعالى يُظهر لنا هذه الصّورة في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق]، فالنّار تتشوّق لأهلها كالّذي يأكل ولا يشبع، فمهما أُلْقِي فيها من العصاة تقول: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾[ق: من الآية 30].

﴿وَزَفِيرًا﴾: النّفَس الخارج، وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ﴾ [الملك]، فذكر أنّ لها شهيقاً وزفيراً، وهي في المكان الضّيّق.

الآية رقم (11) - بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا

﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ﴾: يضرب السّياق عن الكلام السّابق، ويعود إلى مسألة تكذيبهم وعدم الإيمان بسيّدنا رسول الله ﷺ؛ لأنّ الإيمان ليس في مصلحتهم، فالإيمان يقتضي حساباً وجزاءً، وهم يريدون التّمادي في باطلهم وفسادهم، والاستمرار في لَغْوهم واستهتارهم ومعاصيهم؛ لذلك يُكذِّبون أنفسهم، ويخدعونها ليظلّوا على ما هم عليه، ولذلك ترى الّذين يُسرفون على أنفسهم في الدّنيا يتمنّون أنْ تكون قضيّة الدّين قضيّةً فاسدة كاذبة، فينكرونها بكلّ ما لديْهم من قوّة، فالدّين عندهم أمر غير معقول؛ لأنّهم لو أقرّوا به فمصيبتهم كبيرة؛ لأنّ هناك آخرة.

﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: هيّأنا وأعددْنا لهم سعيراً؛ لأنّ عدم إيمانهم بالسّاعة هو الّذي جَرَّ عليهم العذاب، ولو أنّهم آمنوا بها وبلقاء الله تعالى وبالحساب وبالجزاء لاهتَدوْا، واعتدلوا على الجادّة، ولَنجَوْا من هذا السّعير.

﴿سَعِيرًا﴾: السّعير: اسم للنّار المسعورة الّتي تلتهم كلّ ما أمامهم، كما نقول: كَلْب مسعور، ثمّ يقول تعالى في وصفها:

الآية رقم (10) - تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا

﴿تَبَارَكَ﴾: كما قلنا: تنزّه وعَظُم خيره؛ لأنّ الكلام هنا أيضاً فيه عطاء مُتمثِّل في الخير الّذي ساقه الله تعالى لرسوله ﷺ، فعطاؤه جلَّ جلاله دائم لا ينقطع، بحيث لا يقف خير عند عطائه، بل يظلّ عطاؤه خيراً موصولاً، فإذا أعطاك اليوم عرفتَ أنّ ما عنده في الغد خير ممّا أعطاك بالأمس.

الآية رقم (9) - انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا

﴿انْظُرْ﴾: خطاب لإيناس رسول الله ﷺ وطمأنته.

﴿كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾: أي: اتّهموك بشتّى التُّهم، فقالوا: ساحر، وقالوا: مسحور، وقالوا: مجنون، وقالوا: شاعر، وقالوا: كاهن.

﴿فَضَلُّوا﴾: لأنّهم يقولون كذباً وهُرَاءً وتناقضاً في القول، فقد ضلّوا عن المثل الّذي يصدُق فيك ليصرف عنك المؤمنين بك، ويجعل الّذين لم يؤمنوا يُصرُّون على كفرهم، فلم يصادفوا ولو مثلاً واحداً، فقالوا: ساحر وكذبوا وقالوا: مسحور وكذبوا…

﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾: أي: إلى ذلك.

الآية رقم (8) - أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا

نلحظ أنّهم ينزلون في جَدَلهم، فبعد أنْ طلبوا مَلَكاً يقولون:

﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ﴾: أي: ينزل عليه ليعيش منه.

﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾: أي: بستان.

﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾: والمسحور هو الّذي ذهب السِّحْر بعقله، والعقل هو الّذي يختار بين البدائل ويُرتِّب التّصرُّفات، ففاقد العقل لا يمكن أن يكونَ منطقيّاً في تصرّفاته ولا في كلامه، وسيّدنا محمّد ﷺ ليس كذلك، فأنتم تعرفون خُلقه وأمانته، وتُسمُّونه: “الصّادق الأمين”، وتعترفون بسلامة تصرّفاته وحكمته، كيف تقولون عنه: مجنون؟ لذلك يقول تعالى ردّاً عليهم: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم]، والخُلُق يسوّي تصرُّفات الإنسان فيجعلها مُسْعدة غير مفسدة، فكيف يكون ذو الخُلُق مجنوناً؟ فليس محمّد ﷺ مسحوراً، وفي موضع آخر قالوا: ساحر، وعلى فرض أنّه ﷺ ساحر، فلماذا لم يسحركم كما سَحَر المؤمنين به؟ إنّه لَجَج الباطل وتخبّطه واضطرابه في المجابهة.

الآية رقم (7) - وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا

﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾: عجيب أمر هؤلاء المعاندين: يعترضون على رسول الله ﷺ أنْ يأكل الطّعام، ويمشي في الأسواق لكسْب العيش، فهل سبق لهم أنْ رَأَوْا نبيّاً لا يأكل الطّعام، ولا يمشي في الأسواق؟ ولو أنّ الأمر كذلك لكان لاعتراضهم معنى، فقولهم: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ قولٌ بلا حجّة من الواقع، ليستدركوا بهذه المسألة على رسول الله ﷺ، فماذا يريدون؟ قالوا:

﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾: صحيح أنّ الملَك لا يأكل، لكن: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾، يعني: يسانده، وفي هذه الحالة لن يُغيِّر من الأمر شيئاً، وسيظلّ كلام محمّد ﷺ هو ذاته لا يتغيّر، فلن يضيف الملَك جديداً إلى الرّسالة، وعليه، فكلامهم هذا سفسطة وجَدَلٌ لا معنى له.

﴿فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾: لم يقولوا: بشيراً، ممّا يدلّ على اللّدَد واللّجاج، وأنّهم لن يؤمنوا؛ لذلك لن يفارقهم الإنذار.

الآية رقم (6) - قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا

﴿قُلْ أَنْزَلَهُ﴾: أي: القرآن الكريم، أنزله مرّة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل مُنَجّماً.

﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: فلا تظنّ أنّك بمجرّد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله تعالى في كونه، إنّما ستظلّ هناك أسرار إلى قيام السّاعة لا نعرفها، وكلّما اكتشفنا سرّاً وقفنا عند سرّ آخر؛ لأنّ الحقّ تعالى يريد أن يُبطل هذه المدّعيات، ويأتي بأشياء غيبيّة، لم تكن تخطر على بال المعاصرين لسيّدنا رسول الله ﷺ، ثمّ تتّضح هذه الأشياء على مَرِّ القرون، مع أنّ القرآن الكريم نزل في أُمّة أمّيّة، والرّسول الكريم الّذي نزل عليه القرآن الكريم رجل أمّيّ، ومع ذلك يكشف لنا القرآن الكريم كلّ يوم عن آية جديدة من آيات الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصّلت: من الآية 53]، والحقّ تعالى يكشف لرسوله ﷺ شيئاً من الغيبيّات، ليراها المعاصرون له، ليلقم الكفّارَ الّذين اتّهموه حجراً، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر، حيث وقف النّبيّ ﷺ في ساحة المعركة بعد أن عرف أنّ مكّة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفّار، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ، بِالأَمْسِ، يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَداً، إِنْ شَاءَ اللهُ»، قَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ([1])، ومَنِ الّذي يستطيع أن يحكم مسبقاً على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وضَرْب وانتقال وحركة، ثمّ يقول: سيموت فلان في هذا المكان، والوليد بن المغيرة الّذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾[القلم]، يعني: ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه، وبعد المعركة يتفقّده القوم فيجدونه كذلك، هذه كلّها أسرار من أسرار الكون، يُخبِر بها الله تعالى رسوله ﷺ، والرّسول ﷺ يُخبِر بها أمّته في غير مظنَّة العلم بها. فالمعنى: قل يا محمّد في الرّدّ عليهم ولإبطال دعواهم: ﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله ﷺ من قولكم: إفك وكذب وافتراء وأساطير الأوّلين، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ النّاس جميعاً، وعلى عهد رسول الله ﷺ قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الرّوم، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الرّوم]، فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدّة سنوات؟ لو أنّ المعركة ستحدث غداً لأمكن التّنبّؤ ببعض نتائجها، بناءً على حساب العَدد والعُدّة والإمكانات العسكريّة، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، فلو أنّ هذه المدّة مرَّت، ولم يحدث ما أخبر به رسول الله ﷺ لكفَر به مَنْ آمن، وانفضَّ عنه مَنْ حوله، فما قالها رسول الله ﷺ قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلّا وهو واثق من صِدْق ما يُخبر به؛ لأنّ الّذي يخبره ربّه عزَّ وجلَّ الّذي يعلم السّرَّ في السّموات والأرض؛ لذلك قال هنا الحقّ تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وما دام أنّ الّذي أنزل القرآن الكريم هو تعالى الّذي يعلم السِّرّ في السّموات والأرض، فلن يحدث تضارب أبداً بين منطوق القرآن الكريم ومنطوق الأكوان؛ لأنّ خالقهما واحد تعالى فمن أين يأتي الاختلاف أو التّضارب؟

﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾: فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرّحمة هنا؟ قالوا: لأنّ الله تعالى يريد أن يترك لهؤلاء القوم الّذين يقرّعهم مجالاً للتّوبة وطريقاً للعودة إليه عزَّ وجلَّ وإلى ساحة الإيمان، وفي الحديث الشّريف: فَنَادَاهُ مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَقد سمع قَول قَوْمك لَك وماردّوا عَلَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَلْ أَستَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»([2])، وكان الصّحابة يألمون أشدّ الألم، إنْ أفلتَ أحد رؤوس المشركين من القتل في المعركة، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما، وهم لا يدرون أنّ الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد، فقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ حتّى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بسيّدنا رسول الله ﷺ على مَنْ كان كافراً به، فيقول لهم: مع ما حدث منكم، إنْ عُدْتم إلى الجادّة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله تعالى ورحمته، ولـمّا قال أحدهم لسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: هذا قاتل أخيك -يشير إليه- والمراد زيد بن الخطّاب، فما كان من عمر رضي الله عنه إلّا أن قال: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟.

([1]) صحيح مسلم: كتاب الجَنَّةِ وَصِفَةِ نَعِيمِهَا وَأَهْلِهَا، باب 17، الحديث رقم (2873).

([2]) السّيرة النّبويّة لابن كثير: سنة 8 ه، ج 3، ص 666.

الآية رقم (2) - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا

﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾: الحقّ تعالى هو الحيُّ الباقي الّذي لا يموت، ولا يحتاج إلى مَن يُخلِّد ذِكْراه، وهو القويُّ الّذي لا يحتاج إلى غيره، فَلِمَ يتّخذ ولداً من الملائكة أو من البشر أو من أيٍّ من المخلوقات؟!

﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾: وهذا أمر يؤيّده الواقع، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾[الإسراء]، وهذا هو التّفصيل المنطقيّ العاقل الّذي نردُّ به على هؤلاء، فلو كان مع الله تعالى آلهة أخرى لَذهبَ كلّ منهم بجزء من الكون، وجعله إقطاعيّة خاصّة به، وعَلَا كلٌّ منهم على الآخر وحاربه، ولو كان معه تعالى آلهة أخرى لاجتمعوا على هذا الّذي أخذ الملْك منهم ليحاكموه أو ليتوسَّلوا إليه، وقلنا سابقاً: إنّ الدَّعْوى تثبُتُ لصاحبها إذا لم يَدّعِهَا أحد غيره لنفسه، وهذه المسألة، وهي خلق السّموات والأرض، لم يدَّعها أحد، فهي ثابتة لله تعالى إلى أنْ يُوجَد مَنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه، وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بجماعة في مجلس فَقَد أحدهم محفظته فيه، ولـمّا انصرفوا وجدها صاحب البيت، فسألهم عنها، فلم يدَّعِها أحد منهم، ثمّ اتّصل به أحدهم يقول: إنّها لي، فلا شكّ أنّها له حتّى يوجد مُدَّعٍ آخر، فنفصل بينهما.

﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾: فخَلْق الله تعالى ليس خَلْقاً كما اتّفق، إنّما خَلْقه تعالى بقَدَرٍ وحساب وحكمة، فيخلق الشّيء على قَدْر مهمّته الّتي يُؤدِّيها؛ لذلك قال في موضع آخر: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى].

الآية رقم (1) - تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا

﴿تَبَارَكَ﴾: مادّة الباء والرّاء والكاف عادةً تدلُّ على البركة، وهي أن يعطيك الشّيء من الخير فوق ما تظنّ فيه، ويزيد عن تقديرك، كما لو رأينا طعام الثّلاثة يكفي العشرة، فنقول: إنّ هذا الطّعام مُبَاركٌ أو فيه بركة.

ومن معاني ﴿تَبَارَكَ﴾:

1- تعالى قَدْره.

2- تنزّه عن شبه ما سواه.

3- عَظُم خَيْره وعطاؤه.

وهذه الثّلاثة نجدها مُكمِّلة لبعضها، ومن العجيب أنّ هذا اللّفظ ﴿تَبَارَكَ﴾، مُعجز في رَسْـمه ومُعْجز في اشتقاقه، فلو تتبّعنا القرآن الكريم لوجدنا أنّ هذه الكلمة وردتْ في القرآن الكريم تسْع مرات: سبع منها بالألف: ﴿تَبَارَكَ﴾، ومرّتان من غير الألف: ﴿تَبَارَكَ﴾ [الرّحمن: من الآية 78]، فلماذا لم تُكتب بالألف في الجميع، أو من غيرها في الجميع؟ يدلُّ ذلك على أنّ رَسْم القرآن الكريم رَسْم توقيفيّ، ليس أمراً (ميكانيكيّاً)، وكذلك في قوله تعالى في أوّل سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق]، فرَسْم كلمة اسم هنا بالألف، وفي مواضع أخرى في القرآن الكريم دون الألف، كقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾[هود: من الآية 41]، فالقرآن الكريم ليس عاديّاً في رَسْـمه وكتابته، وليس عاديّاً في قراءته، فأنت تقرأ في أيّ كتاب آخر على أيِّ حال كنتَ، إلّا في القرآن الكريم لا بُدَّ أن تكون على وضوء وتدخل عليه بطُهْر.. إلى آخر ما نعلم من آداب تلاوة القرآن الكريم، ومن حيث الاشتقاق نعلم أنّ الفعل يُشتَقُّ منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل.. إلخ، لكنّ ﴿تَبَارَكَ﴾ لم يَذكر منها القرآن الكريم إلّا هذه الصّيغة، وكأنّه يريد أنّْ يخصَّها بتنزيه الله تعالى، مثلها مثل كلمة: سبحان؛ ومع كثرة ما مرَّ في التّاريخ من الجبابرة والفراعنة والعظماء الّذين أرغموا النّاس على مدحهم والخضوع لهم، ما رأينا واحداً مهما كان، يقول لأحد هؤلاء: سبحانك، فسبحانك، لا تُقال إلّا لله جلَّ جلاله وفي تسبيحه، مهما اجترأ الملاحدة فإنّهم لا ينطقونها لغير الله عزَّ وجلَّ.

فـ: ﴿تَبَارَكَ﴾ تدور حول معَانٍ ثلاثة: تعالى قَدْره، وتنزَّه عن مشابهة ما سواه، وعَظُم خَيْره وعطاؤه، ومَنْ تعاظُم خَيْره تعالى أنّه لا مثيل له: في قَدْره، ولا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في فعله، وهذا كلّه من مصلحتنا نحن، فلا كبيرَ إلّا الله عزَّ وجلَّ، ولا جبّارَ إلّا الله جلَّ جلاله، ولا غنيَّ إلّا الله تعالى.

﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾: سُمِّي القرآن الكريم فرقاناً؛ لأنّه يُفرِّق بين الحقّ والباطل، وقد نزل القرآن الكريم ليُخرج النّاسَ من الظّلمات إلى النّور، فيسير النّاس على هُدىً وعلى بصيرة، فالقرآن الكريم فَرَق لهم مواضع الخير عن مواضع العطب، فالفرقان سائر في جهات الدّين كلّها، ففي الدّين قمّة هي الحقّ تعالى، ومُبلِّغ عن القمّة هو الرّسول ﷺ، ومُرْسَل إليه هم المؤمنون، فجاء القرآن الكريم ليفرُقَ بين الحقّ والباطل في هذه الثّلاثة، ففَرق القرآن الكريم في كلّ شيء: في الإله، وفي الرّسول، وفي قِوَام حياة المرسَل إليهم، وما دام قد فَرقَ في هذه المسائل كلّها فلا يوجد لفظ أفضل من أن نُسمِّيه: (الفرقان)، ولا شكَّ أنّ الألفاظ الّتي ينطق بها الحقّ تعالى لها إشعاعات، وفي طيّاتها معَانٍ يعلمها أهل النّظر والبصيرة ممَّنْ فتح الله تعالى عليهم، وما أشبهها بفصوص الماس! والّذي جعل الماس ثميناً أنّ به في كلّ ذرّة من ذرّاته تكسّراتٍ إشعاعيّة ليست في شيء غيره، فمن أيِّ ناحية نظرتَ إليه قابلك شعاع معكوس يُعطي بريقاً ولمعاناً يتلألأ من نواحيه كلّها، وكذلك ألفاظ القرآن الكريم.

ومن معاني الفرقان الّتي قال بها بعض العلماء أنّه نزل مُفَرَّقاً، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ﴾[الإسراء: من الآية 106]، يعني: أنزلناه مُفرَّقاً، لم ينزل مرّة واحدة كالكتب السّابقة عليه، وللحقّ تعالى حكمة في إنزال القرآن الكريم مُفرّقاً، حيث يعطي الفرصة لكلّ نَجْم ينزل من القرآن الكريم أنْ يستوعبه النّاس؛ لأنّه يرتبط بحادثة معيّنة، كذلك ليحدث التّدرّج المطلوب في التّشريعات، يقول تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾[الإسراء]، لقد كان المسلمون الأوائل في فترة نزول القرآن الكريم كثيري الأسئلة، يستفسرون من رسول الله ﷺ عن مسائل الدّين، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾[البقرة: من الآية 189]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: من الآية 219]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾[الأنفال: من الآية 1]، فكان النّجم من القرآن الكريم ينزل ليُجيب عليهم ويُشرِّع لهم، وما كان يتأتَّى ذلك لو نزل القرآن الكريم جملة واحدة، وجملة: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ تؤيّد هذا المعنى وتسانده؛ لأنّ ﴿نَزَّلَ﴾ تُفيد تكرار الفعل، غير: (أنزل) الّتي تُفيد تعدِّي الفعل مرّة واحدة.

﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾: كأنّ حيثيّة التّنزيل عليه هي العبوديّة لله تعالى، فهو العبد المأمون أن ينزل القرآن الكريم عليه، وسبق أن قلنا: إنّ العبوديّة لفظ بغيض إنِ استُعمِل في غير جانب الله تعالى، أمّا العبوديّة لله عزَّ وجلَّ فهي عِزٌّ وشرف ولفظ محبوب في عبوديّة الخَلْق للخالق، فالعبوديّة للبشر يأخذ السّيّد خير عبده، أمّا العبوديّة لله تعالى فيأخذ العبد خير سيّده، لذلك جعل الله تعالى العبوديّة له تعالى حيثيّة للارتقاء السّماويّ في رحلة الإسراء، فقال جلَّ جلاله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[الإسراء: من الآية 1]، فالرِّفْعة هنا جاءتْ من العبوديّة لله تعالى.

﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾: العالمين: جمع عَالَم، والعَالَم ما سوى الله تعالى، ومن العوالم: عالم الملائكة، عالم الإنس، وعالم الجنّ، وعالم الحيوان، وعالم النّبات، وعالم الجماد، إلّا أنّ بعض هذه العوالم لم يَأْتِها بشير ولا نذير؛ لأنّها ليست مُخيَّرة، والبشارة والنّذارة لا تكون إلّا للمخيّر، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب]، فإنْ عزلْنا من هذه العوالم مَنْ ليس له اختيار، فيتبقّى منها: الجنّ والإنس، وإليهما أُرسِل الرّسول ﷺ بشيراً ونذيراً، لكن لماذا قال هنا: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾، ولم يقل: بشيراً ونذيراً؟ قالوا: لأنّه تعالى سيتكلّم هنا عن الّذين خاضوا في الألوهيّة، وهؤلاء تناسبهم النِّذَارة لا البشارة؛ لذلك قال تعالى في الآية بعدها: