الآية رقم (94) - يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

قابل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إساءة هؤلاء الّذين آذوه من المشركين والمنافقين بخُلُق العفو والإحسان، «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»([1])، وعندما دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكّة وأعطى الأمان للنّاس بقي عكرمة بن أبي جهل حتّى اللّحظات الأخيرة يُناوش ويُقاتل ويَصدّ عن سبيل الله سبحانه وتعالى ، ثمّ فرّ باتّجاه اليمن عندما انحسمت الأمور، فجاءت زوجته إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورجته أن يؤمّنه لكي يعود، فلم يقابل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإساءة بالحقد، وسمح له بالعودة، وعندما عاد عكرمة قال : لأصحابه: «يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبّوا أباه، فإنّ سبّ الميّت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميّت»([2])، ما هذه العظمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذه هي الرّسالات السّماويّة، وهكذا هم الأنبياء u، فقد شتم رجلٌ عُمر بن ذَرٍّ، فلقيه عُمَرُ، فقال: “يا هذا، لا تُفرِط في شَتمِنا، وأَبقِ لِلصُّلح موضعاً، فإنّا لا نُكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه”([3])، ويقول الإمام الشّافعيّ:

الـمَرء يُعرَفُ في الأنامِ بِفِعلِهِ
اصبِر على حُلوِ الزَّمانِ ومُرِّهِ
لَا تسْتَغِبْ فَتُستَغابُ وربَّما
وتَجنّبِ الفَحشَاءَ لا تَنْطِقْ بها
وإذا الصَّديقُ أسى عَلَيكَ بِجَهلِهِ
كَم عالِمٍ مُتَفَضِّلٍ قد سبَّهُ
البَحرُ تَعلُو فَوقَهُ جِيَفُ الفَلا
وأَعجبُ لِعصفُورٍ يُزاحِمُ باشِقاً
إيّاكَ تجني سُكّراً مِن حَنظَلٍ
في الجَوِّ مكتُوبٌ على صُحُفِ الهوى                     .
وَخَصائِلُ الـمَرءِ الكَرِيمِ كَأصلِهِ
واعلمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
مَنْ قَالَ شَيئاً قِيلَ فِيهِ بِمِثْلِهِ
ما دُمتَ في جَدِّ الكَلامِ وهَزلِهِ
فاصْفَح لأجلِ الودِّ لَيسَ لِأَجلِهِ
من لا يساويْ غِرزةً في نَعلِهِ
والدُّرُّ مطمُورٌ بِأسفَلِ رَملِهِ
إِلّا لِطيشَتِهِ وخِفّةِ عَقلِهِ
فالشَّيءُ يرجِعُ بِالمذاق لأَصلِهِ
من يَعمَلِ المعرُوفَ يُجزَ بِمِثلِهِ
.

ونجد الآيات الكريمة كلّها تكرّس هذه المعاني العظيمة فيما يتعلّق بأخلاق رسول الله : وأخلاق المؤمنين معه.

﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾: يعتذر؛ أي يُبدي عذراً يُخرجه من اللّوم أو التّوبيخ.

﴿إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾: إذا رجعتم من المعركة.

هذا ردٌّ حاسمٌ، فحين يعتذر إليك إنسانٌ فقد تستمع لعُذره ولكنّك لا تقبله، ولكن مجرّد سماع العذر معناه أنّ هناك احتمالاً بأن يكون هذا العذر مقبولاً أو مرفوضاً، ولكن حين يكون مجرّد سماع العذر مرفوضاً فمعنى ذلك ألّا وجه للمعذرة، فانظروا إلى دقّة القرآن الكريم وعظمته.

﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا ﴾: هم لم يعتذروا بعد، فقد رفض مجرّد إبدائهم العذر، ثمّ فاجأهم بالحُكم بقوله سبحانه وتعالى :

﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ﴾: أي لن نصدّقكم، مادّة (آمن) تتضمّن عدّة معانٍ منها: آمن؛ أي اعتقد وصدّق، قال سبحانه وتعالى : ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾  ]يونس: من الآية 83[، وهنا﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾؛ أي لن نصدّقكم، فقد جاء المنافقون يعتذرون بأعذارٍ كاذبةٍ، ورفض رسول الله  صلى الله عليه وسلم مجرّد سماعهم.

﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى  من أخباركم, وأَعْلَمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم.

وقد شاء الله سبحانه وتعالى  ألّا يُغلق أمامهم باب المرجِع إليه ففتح لهم باب التّوبة، وكان واجباً عليهم من بعد ذلك أن يرتدعوا ويتيّقنوا أنّ ربّ محمّد صلى الله عليه وسلم عالمٌ بالسّرائر، ولا تخفى عليه النّيّات، فعليهم أن ينتهزوا ذلك؛ لأنّه سبحانه وتعالى  قال:

﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾: يرى عملكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرّؤية يُرتّب لكم الجزاء على ما كان منكم؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى:

﴿ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾: وما دام سبحانه عالِم الغيب فمن بابٍ أولى أنّه عليمٌ بعالم الشّهادة، والغيب هو ما غاب عنك فلم تعرف عنه شيئاً، لكن إن غاب عنك ولم يغب عن غيرك فهو غيبٌ نسبيٌّ؛ لأنّ هناك حُجُباً منعت عنك العلم، أمّا الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، ولا يعلم الغيب المطلق إلّا الله سبحانه وتعالى .

﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: يُخبركم بما كنتم تعملون ويُجازيكم به.

([1]) سنن البيهقيّ الكبرى: كتاب السّير، باب فتح مكّة حرسها الله تعالى، الحديث رقم (18055).

([2]) المستدرك على الصّحيحين: ج 3، ص 269، الحديث رقم (5055).

([3]) سير أعلام النّبلاء: ج 6، ص 389.

«يَعْتَذِرُونَ»: مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله والجملة مستأنفة.

«إِلَيْكُمْ»: متعلقان بالفعل قبلهما.

«إِذا»: ظرفية شرطية غير جازمة.

«رَجَعْتُمْ»: ماض وفاعله والجملة في محل جر بالإضافة.

«إِلَيْهِمْ»: متعلقان بالفعل قبلهما.

«قُلْ»: أمر فاعله مستتر.

«لا»: ناهية جازمة.

«تَعْتَذِرُوا»: مضارع مجزوم بحذف النون والواو فاعله.

«لَنْ»: حرف ناصب.

«نُؤْمِنَ»: مضارع منصوب والفاعل مستتر.

«لَكُمْ»: متعلقان بنؤمن والجملة مقول القول.

«قَدْ»: حرف تحقيق.

«نَبَّأَنَا»: ماض ومفعوله الأول .

«اللَّهُ»: لفظ الجلالة فاعل مؤخر.

«مِنْ أَخْبارِكُمْ»: متعلقان بصفة للمفعول الثاني المحذوف.

«وَسَيَرَى اللَّهُ»: حرف عطف والسين للاستقبال والفعل مضارع ولفظ الجلالة فاعله.

«عَمَلَكُمْ»: مفعول به أول.

«وَرَسُولُهُ»: عطف على لفظ الجلالة.

«ثُمَّ»: حرف عطف.

«تُرَدُّونَ»: مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.

«إِلى عالِمِ»: متعلقان بالفعل.

«الْغَيْبِ»: مضاف إليه.

«وَالشَّهادَةِ»: عطف على الغيب.

«فَيُنَبِّئُكُمْ»: الفاء عاطفة ومضارع ومفعوله الأول والفاعل مستتر.

«بِما»: متعلقان بالمفعول الثاني المحذوف.

«كُنْتُمْ»: كان واسمها والجملة صلة.

«تَعْمَلُونَ»: مضارع وفاعله والجملة خبر كنتم.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ: في التخلف.

إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ: من الجهاد أو من هذه السفرة.

لا تَعْتَذِرُوا: بالمعاذير الكاذبة.

لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم لأنه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ: أي أخبرنا بأحوالكم، وأعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد.

وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ: هل تتوبون عن الكفر أم تبقون عليه، وكأنه إعطاء فرصة للتوبة.

ثُمَّ تُرَدُّونَ بالبعث إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ: أي إلى الله.

والغيب: كل ما غاب عنك علمه.

والشهادة: كل ما تشهده وتعرفه من عالم الحس.

فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: فيجازيكم عليه بالتوبيخ والعقاب عليه.