إنّ الأذى والإفساد في الأرض والعصيان والاعتداء هي صفات متركّزة متأصّلة في نفوس بني إسرائيل عبر التّاريخ مع كلّ نعم الله سبحانه وتعالى عليهم.
وهنا في هذه الآية يرفضون الصّبر على طعام واحد، ويقصدون بالطّعام الواحد المنّ والسّلوى، وهما طعامان: (لحم وحلوى)، وليسا طعاماً واحداً، ولكنّهم اعتبروهما طعاماً واحداً؛ لأنّه يتكرّر كلّ يوم، وطلبوا أن يخرج الله لهم: ﴿مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ ]البقرة: من الآية 61[.
والبقل: ليس المقصود به البقول فقط، بل هو كلّ نبات لا ساق له، مثل الخسّ والملفوف والجرجير.
والقثّاء: هو صنف من الخيار.
والفوم: هو القمح أو الثّوم.
والعدس والبصل معروفان. وهذه الأطعمة كانوا قد اعتادوا عليها حين كانوا مسخّرين عند آل فرعون.
﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾: والباء تدخل على المتروك، فهل تتركون الّذي هو خير وتأخذون الأدنى؟ وليس المقصود أنّ ما طلبوه من بقل وقثّاء وفوم وعدس وبصل (وهو طعام الفقير) أدنى من اللّحم والحلوى (وهو طعام الغنيّ)، فالله سبحانه وتعالى لا يفرّق بين غنيّ وفقير في العطاء، بل المقصود هنا هو أنّهم فضّلوا ما يخرج من الأرض على ما كان ينزل عليهم من السّماء بكلمة: ﴿كُنْ﴾، فالمنّ والسّلوى خير؛ لأنّهما من السّماء وجاءا بأمر الله سبحانه وتعالى دون أسباب، ولذلك فهما خير، وهم مادّيّون يريدون ما تُخرجه الأرض ممّا يرونه ويلمسونه، وقد خافوا أن ينقطع عنهم هذا الخير، وطلبوا أن يزرعوا بأنفسهم ويحصدوا ويأكلوا، وهذا إمعان في المادّية، وقد قال لهم:
﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾: وقد وردت كلمة (مصر) في القرآن الكريم أربع مرّات ممنوعة من الصّرف، والمقصود بها بلاد مصر أي وادي النّيل، قال تعالى: ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ ]الزّخرف: من الآية 51[، وفي سورة (يوسف): ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ ]يوسف: من الآية 21[، وقال جلّ وعلا: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ ]يوسف: من الآية 99[، فإذا جاءت (مصر) ممنوعة من التّنوين فهي بلاد مصر المعروفة وهي وادي النّيل، وإذا جاءت منوّنة فهي أيّ بلاد فيها أناس وحاكم وزرع.. وغيرها، لا على التّعيين، أي اهبطوا مصراً من الأمصار.
﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾: كلّ هذه الأسباب أدّت إلى أن ضربت عليهم الذّلة والمسكنة، ولُعنوا من الله سبحانه وتعالى، وكلمة ﴿وَضُرِبَتْ﴾ توحي بأنّها سكّت سكّاً كالختم؛ لأنّهم استبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير؛ ولأنّهم جحدوا نعم الله عليهم وعبدوا العجل؛ ولأنّهم رفضوا أن يؤمنوا حتّى يروا الله جهرة… وكلّ هذه الأسباب أدّت إلى ضرب الذّلة والمسكنة عليهم.
﴿الذِّلَّةُ﴾: هي الانكسار والحاجة الدّائمة للآخرين، كما نرى الصّهاينة اليوم يلهثون وراء أمريكا وغيرها.
والمتأمّل في الآيات السّابقة الّتي تحدّثت عن بني إسرائيل يأخذ فكرة عن شعب بني إسرائيل عبر الأزمنة المتطاولة، وعن العوامل الّتي أدّت بهم إلى هذه النّتائج، مثل المادّيّة والجحود لنعم الله سبحانه وتعالى، وقتلهم الأنبياء، وعدم الرّضا بقضاء الله جلَّ جلاله والنّظر دائماً إلى المحسوس والملموس.