الآية رقم (36) - سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ

﴿ سُبْحَانَ ﴾: تعني التّنزيه المطلق لواجب الوجود الأعلى عن أنْ تحكمه قوانين الموجود نفسه.

فالتّسبيح هو التّنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته وفي أقواله وأفعاله وصفاته سبحانه وتعالى، لذلك نقول عند كلّ أمرٍ عجيب: سبحان الله، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11]، فإيّاك أن تقول: أين الله سبحانه وتعالى؟ ما هو الله جل جلاله؟ أين عرش الله عز وجل؟ أين يد الله سبحانه وتعالى؟ فإنّه سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: من الآية 10]، ويقول جل جلاله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، فتأتي كلمة: ﴿سُبْحَانَ﴾ عندما نتحدّث عن أيّ شيءٍ يتعلّق بصفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله.

وقبل طلوع الشّمس وقبل غروبها وأدبار السّجود؛ أي الصّلوات، نحن مأمورون أن نسبّح الله عز وجل، فنتذكّر من خلال التّسبيح أنّنا ننزّهه، فالله سبحانه وتعالى عندما يتحدّث عن شيٍء عظيم يقول: ﴿سُبْحَانَ﴾، كما في قصّة الإسراء والمعراج، فقد استهلَّ القرآنُ الكريم سورة الإسراء بقوله سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: من الآية 1]، فالإسراء بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى بيت المقدس، ثمّ الصّعود به إلى السّماء السّابعة في جزءٍ من اللّيل يُعَدُّ أمراً عجيباً، فالله سبحانه وتعالى أسرى به صلى الله عليه وسلم بلا زمنٍ، فلم يقل: (أسرى)، إنّما قال: ﴿سُبْحَانَ﴾، حتّى نتذكّر أنّه لا يخضع للقوانين، وأنّ فعل الله سبحانه وتعالى يختلف عن فعل البشر وإن تشابهت الكلمات؛ كما تقول: الله سبحانه وتعالى قويّ، وأنت قويّ، لكنّه سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، فيجب أن ننزّه الله سبحانه وتعالى في ذاته وفي صفاته، فأنت تُوصف بالغِنى، لكن غناك ليس كغِنَى الحقّ سبحانه وتعالى، فكلّ أمرٍ يتعلّق بصفةٍ من صفات الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون معها: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ ﴾.

نقول: سبحان الله؛ لأنّه منزّهٌ عن صفات الخلق، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 44]، فالتّسبيح هو أنشودة الكون بمجمله، والله سبحانه وتعالى منزّه قبل أن ينزهه أحدٌ من خلقه، فالمخلوقات كلّها تسبّح، قال سبحانه وتعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحشر: من الآية 1]، فهل سبّحَتْ وانتهَتْ؟ بالتّأكيد لا، وقد قال الله سبحانه وتعالى بآيةٍ أخرى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: من الآية 1]، فما دام الكون كلّه مُسبِّحاً فلا تخرج أنت عن هذه المنظومة، وسبِّح معها: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى]، يناديك المؤذّن فتقوم إلى الصّلاة وتقول فيها: سبحان ربّي العظيم، سبحان ربّي الأعلى.

﴿خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾: فإيّاك أن تقول: إنّ فلاناً يخلق، وإن كان بشكلٍ مباشرٍ، كالأمّ والأب، أو طفل أنبوب، فالخلق لله سبحانه وتعالى.

وهناك نعمةٌ مستمرّةٌ فكلّ ما في هذا الكون مخلوقٌ بشكل زوجٍ لاستبقاء النّوع، فالزّوجيّة موجودةٌ في كلّ شيءٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الذّاريات].

﴿ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾: عندما نزل القرآن الكريم على قلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان النّاس يعرفون في ذلك الوقت أنّ النّبات فيه ذكرٌ وأنثى، زوج، لكن يا ترى هل كانوا يعرفون في النّباتات كلّها الّتي نراها أين هو الذّكر وأين هي الأنثى؟ الجواب: لا، لكنّ الله سبحانه وتعالى يُطلع النّاس على الغيب بالتّدريج، وقد قال سبحانه وتعالى في آياتٍ أخرى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾[الحجر: من الآية 22]، فهي تحمل حبّ الطّلع، وفي العصور المتقدّمة وبعد مئات السّنين عرفنا أموراً غريبة في المزروعات الضّروريّة للأقوات، كالذّرة والقمح، فليس فيهما عود ذكر وآخر أنثى، إنّما في العود الواحد كعود الذّرة مثلاً نجد في أعلى العود سنبلة تحمل حبَّات لقاح الذّكورة وتحتها كوز الذّرة الّذي تخرج منه شعيرات تمثّل الأنوثة، وتتلقّى حبّات اللّقاح الّتي تبعثرها الرّياح من أعلى، سبحان الله لذلك بدأ بالآية بقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾، فنحن نكتشف يوماً بعد يوم هذه الحقائق الّتي قالها الله سبحانه وتعالى وغابت عن النّاس، فلا يوجد نباتٌ إلّا وفيه ذكرٌ وأنثى، وفيه عمليّة تلقيحٍ، فسبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض.

﴿ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾: قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾[النّساء: من الآية 1]، فمن نفسٍ واحدةٍ خلق منها زوجها، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الرّوم: من الآية 21]، فالبشر خلقهم أيضاً من ذكرٍ وأنثى.

وذكر الحقّ سبحانه وتعالى الزّوجيّة في: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾، ولم يذكر الحيوان؛ لأنّه سبحانه وتعالى ذكر الأعلى وهو الإنسان.

﴿ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾: كلّما تقدّم العلم اكتشف أنّ كلّ شيءٍ في الوجود فيه ذكرٌ وأنثى، ففي الكون أشياء كثيرة لا نعلم وجه الزّوجيّة فيها، وقد نعلمها مستقبلاً مع تَقدُّم العلوم التّجريبيّة، كما حدث مثلاً في الكهرباء، وعرفنا أنّها سالب وموجب، ولا نستفيد من الكهرباء إلّا إذا التقى السّالب بالموجب، كذلك الحال في الذّرَّة وغيرها ممّا اكتشفه العلم الحديث، وهناك أمورٌ أخرى، ترك الله سبحانه وتعالى لنا رصيداً في ذلك، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي ستعلمون لاحقاً، وإذا نظرتَ إلى هذا الوجود كلّه بعين العلم الفاحصة المجرِّبة المدقِّقة لوجدتَ لكلّ شيءٍ في الوجود زوجين لاستدامة الصّنف، وقد تبيّن أنّ القرآن الكريم قد سبق العلم بهذه الإشارات العلميّة، والقرآن الكريم كتاب هدايةٍ وليس كتاب كيمياء وفيزياء وفضاء، ولكنّ القرآن الكريم لا يقول إلّا الحقّ؛ لأنّ قوانين الكون وضعها الخالق سبحانه وتعالى.

«سُبْحانَ» مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة استئنافية لا محل لها

«الَّذِي» مضاف إليه

«خَلَقَ» ماض فاعله مستتر

«الْأَزْواجَ» مفعوله والجملة صلة لا محل لها

«كُلَّها» توكيد

«مِمَّا» متعلقان بحال محذوفة

«تُنْبِتُ» مضارع

«الْأَرْضُ» فاعل والجملة صلة

«وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ» الواو حرف عطف والجار والمجرور معطوفان على مما

«وَمِمَّا» عطف على مما السابقة

«لا» نافية

«يَعْلَمُونَ» مضارع مرفوع بثبوت النون وفاعله والجملة صلة لا محل لها.

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأجناس كلها