الآية رقم (1) - الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ

السّورة كما نرى قد افْتُتِحَتْ بالحروف التّوقيفيّة؛ وقد مرّت معنا في عدّة سور، بدايةً في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الم ﴾ [البقرة]، ونعود إلى التّذكير بهذه الحروف المقطّعة الّتي بدأت بها بعض سور القرآن الكريم؛ لأنّ سيّدنا جبريل عليه السلام قرأها هكذا، فحفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبلغها لنا، وهي نزلتْ أوَّل ما نزلت على قومٍ برعوا في اللّغة؛ وهم أهل فصاحةٍ وبيان، ولم نجد منهم مَنْ يستنكرها.

وهي حروفٌ تُنطَق بأسماء الحروف لا مُسمَّياتها، ونعلم أنّ لكلّ حرفٍ اسماً ومسمّىً، فحين نقول أو نكتب كلمة: (كتب)، فنحن نضع حروفاً هي: الكاف والتّاء والباء بجانب بعضها بعضاً، لتكون الكلمة كما ننطقها أو نقرؤها، ويقال عن ذلك: إنّها مُسمَّيات الحروف، أمّا أسماء الحروف فهي (كاف) و(باء) و(تاء)، ولا يعرف أسماء الحروف إلّا الـمُتعلِّم.

وهذه الحروف المقطّعة هي نوعٌ من الإعجاز في القرآن الكريم، وقد تكون مفاتيح روحيّة لهذه السّور، فلا يمكن أن يكون هناك كتابٌ يكتبه بشر ويضع فيه بعض الأمور الّتي لا يفهمها القارئ، وإنّما الكاتب حصراً، وهذا من إعجاز كتاب الله سبحانه وتعالى، وسبق أن قلنا: إنّ الأحرف المقطّعة في القرآن الكريم هي: ﴿الم ﴾، ﴿الۤـمۤـصۤ﴾، ﴿الۤر﴾، ﴿الۤـمۤـر﴾، ﴿كۤـهـيـعۤـصۤ  ﴾، ﴿طـه﴾، ﴿طـسۤـمۤ﴾، ﴿طـسۤ﴾ ، ﴿يـسۤ﴾، ﴿صۤ﴾، ﴿حـمۤ﴾، ﴿حـمۤ عۤـسۤـقۤ﴾، ﴿قۤ﴾، ﴿نۤ﴾، وهي سرٌّ من الأسرار، ونحن نؤمن بالآيات المتشابهات الّتي من ضمنها الأحرف المقطّعة، والآيات العلميّة الّتي لم تتوصّل الاكتشافات بعد إلى حقائقها، وكمثال: عندما تحدّث القرآن الكريم عن كرويّة الأرض بشكلٍ واضح، لم يكن قد اكتُشِفَ بعد أنّ الأرض كرويّة، فكانت آيةً متشابهةً، وعندما اكتشف العلم أنّ الأرض كرويّةٌ أصبحت الآية واضحة، كقوله سبحانه وتعالى : ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾[النّمل: من الآية 88]، وقوله عز وجل: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ [الزّمر: من الآية 5]، وقوله جل جلاله: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾  [الحجر: من الآية 19]، وكثيرٌ من الآيات الأخرى الّتي تشير إشارات واضحة إلى أنّ الأرض كرويّةٌ ولكن لم تكن مكتَشَفة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: من الآية 7]؛ أي: أنّ القرآن الكريم فيه آياتٌ مُحْكمات، هي آيات الأحكام الّتي يترتّب عليها الثّواب والعقاب، افعل ولا تفعل، حلال وحرام، أمّا الآيات المتشابهات فهي مثل تلك الآيات الّتي تبدأ بها فواتح بعض السّور، ومَنْ في قلوبهم زَيْغٌ يتساءلون: ما معناها؟ ولماذا وُضِعت هنا؟ وهم يقولون ذلك لا بَحْثاً عن معنى؛ ولكن رغبةً للفتنة، ولهؤلاء نقول: لماذا تريدون أنْ تفهموا كلّ شيءٍ في كتاب الله سبحانه وتعالى وفق المنظار البشريّ؟ إنّ العقل هو وسيلة إدراك، كالعين والأذن، فهل ترى عيناك كلّ ما يمكن أن يُرَى؟ بالتّأكيد لا؛ لأنّ للرّؤية بالعين قوانينَ وحدوداً، فإنْ كنتَ بعيداً بمسافة كبيرة عن الشّيء فلن تراه، ذلك أنّ العين لا ترى أبعد من حدود الأفق، فإذا كانت للعين -وهي وسيلة إدراك المرائي- حدود، وإذا كانت للأذن -وهي وسيلة إدراك الأصوات- حدّ بحدّ المسافة الموجيّة للصّوت، فلا بُدَّ أن تكون هناك حدودٌ للعقل، فهناك ما يمكن أن تفهمه، وهناك مَا هو غيبيّ، فلا يمكن إذا لم يُخبرك القرآن الكريم عن معناه أن تعرفه؛ لذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن آيات القرآن الكريم: «مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»([1])، وكلَّما ارتقى العقل البشريّ في العلوم والتّطوّر أَذِن الله سبحانه وتعالى بكشف سِرٍّ من أسرار القرآن الكريم، ولا أحد بقادرٍ على أن يجادل في آيات الأحكام، ويقول الله سبحانه وتعالى عن الآيات المتشابهة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: من الآية 7].

﴿تِلْكَ﴾: إشارة لما سبق ولِمَا هو قادمٌ من الكتاب.

﴿آيَاتُ﴾: جمع آية، وهي الشّيء العجيب الّذي يُلْتَفت إليه، والآيات إمّا أن تكونَ كونيّة كاللّيل والنّهار والشّمس والقمر لتثبت الوجود الأعلى، وإمّا أنْ تكونَ الآيات الـمُعْجزة الدّالّة على صِدْق البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، وهي معجزات الرّسل -عليهم السّلام-؛ كعصا موسى عليه السلام، وإمّا أن تكونَ آيات القرآن الكريم الّتي تحمل المنهج للنّاس كافّة.

﴿وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾: وهنا وقفةٌ مهمّةٌ، فبعض الّذين حاولوا تناول تفسير القرآن الكريم بأسلوبٍ خرج عن علوم القرآن كلّها، وعن المنطق والعقل، وعن المعطيات كلّها، وعن ما قاله النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فسّروا بأنّ الكتاب شيءٌ والقرآن الكريم شيءٌ آخر، والآن نبيّن بشكلٍ واضح، ونقول: إنّ الكتاب إذا أُطلِق فهو ينصرف إلى كلّ ما نزل من الله سبحانه وتعالى على الرّسل -عليهم السّلام-، كصحف إبراهيم عليه السلام، وزبور داود عليه السلام، وتوراة موسى عليه السلام، وإنجيل عيسى عليه السلام، كلّ تلك كتب؛ ولذلك يسمّونهم: (أهل الكتاب)، أمّا إذا جاءت كلمة: (الكتاب) مُعرَّفة بالألف واللّام، فلا ينصرف إلّا للقرآن الكريم؛ لأنّه نزل كتاباً خاتماً، ومُهيْمناً على الكتب الأخرى، وكلمة كتاب؛ أي: مكتوب؛ لأنّه مكتوبٌ في اللّوح المحفوظ قبل أن يكتب من قبل كتبة الوحي، وهو (قرآن)، وبذلك يكون قد عطف خاصّاً على عامٍّ، فالكتاب هو القرآن، ودلَّ بهذا على أنّه سيُكتَب، وإن قيل: إنّ الكتب السّابقة قد كُتِبت أيضاً، فالرّدّ هو أنّ تلك الكتب قد كُتِبت بعد أن نزلتْ بفترةٍ طويلة، ولم تُكتب مِثْل القرآن الكريم ساعة التّلقِّي من جبريل عليه السلام، وسمّي قرآناً؛ لأنّه مقروء، قرآن مصدر قراءة، قال سبحانه وتعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق]، فهو محفوظٌ في الصّدور، مكتوبٌ في السّطور، ويُوصف القرآن الكريم بأنّه مُبِينٌ في ذاته وبيّن لغيره؛ وهو مُحيط بكلّ شيء، وسبحانه القائل: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأنعام: من الآية 38]، وهنا يتبيّن الفارق بين كلمة الكتاب والقرآن، وسبب التّسميتين.

(([1] صحيح ابن حبّان: كتاب العلم، ذِكْرُ الزّجر عن تتبّع المتشابه من القرآن للمرء المسلم، الحديث رقم (74).

«الر» هذه الحروف لا إعراب لها

«تِلْكَ» اسم إشارة مبتدأ واللام للبعد والكاف للخطاب

«آياتُ» خبر والجملة ابتدائية

«الْكِتابِ» مضاف إليه

«وَقُرْآنٍ» معطوف على الكتاب

«مُبِينٍ» صفة