﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ : هذا إعلامٌ للخلق أنّ الأمور معلومةٌ له سبحانه، فقد أنزل جل جلاله التّكليف الّذي قد يُطاع وقد يُعصى، فمن أطاع سيفرح بقوله سبحانه وتعالى : ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ ، ومن عصى سيحزن؛ لأنّه سيلقى عقاب العصاة حين يرجع إلى الله عز وجل.
﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: وقد جاء هنا قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ ؛ ليفيد بأنّ الخروج إلى الوجود بالميلاد، ثمّ بعد ذلك الخروج عن الحياة إلى الموت، ومن بعد ذلك البعث، فإن قال قائلٌ: كيف يكون ذلك؟ يأتي قول الحقّ سبحانه وتعالى : ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، فالّذي قدر على أن يخلق من عدمٍ أيعجز عليه أن يعيد من وجودٍ؟ إنّه الحقّ سبحانه وتعالى القائل: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ ]مريم: من الآية 9[، فإذا شاء أن يعيدكم فلا تتساءلوا كيف؟ لأنّ ذرّاتكم موجودةٌ، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ]ق[، فجاء هذا القول مُطَمئناً للملتزمين بالمنهج بأنّ هناك بعثاً وحساباً.
﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾: يضيف الله سبحانه وتعالى لوصفه هذا الوعد بأنّه حقٌّ، قد يقول قائلٌ: أليس كلّ وعدٍ من الله جل جلاله هو حقٌّ؟ نقول: نعم، كلّ وعدٍ من الله سبحانه وتعالى هو حقٌّ، لكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يصف هذا الوعد بأنّه حقٌّ ليذكّرنا بأنّ الحقّ هو الشّيء الثّابت، فإن خُيّل إليك في بعض الأوقات أنّ الباطل هو السّائد والسّيّد، فلتعلم أنّ الباطل لا ثبات له ولا سيادة، وأنّه سيزول، وإن أفلت الإنسان من عدالة الأرض فلن يفلت من عدالة السّماء، والله تعالى يقول: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ ] الرّعد[، فحين ينزل المطر نجد كلّ وادٍ يأخذ من الماء على قدر حاجته، فينظّف المكان الّذي ينزل عليه، فتطفو الأشياء الخفيفة وغير المفيدة، كذلك الباطل يطفو على السّطح، لكنّه لا يفيد ولا يزعزع الحقّ الّذي يستقرّ وينفع النّاس والأرض، وبما أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾، فلا بدّ أنّه الوعد الحقّ؛ لأنّه سبحانه يملك ما يَعِد به، وهو سبحانه وتعالى أقوى ممّا خلق وممّن خلق، فلا تخونه إمكاناته؛ لأنّه يملك الكون كلّه.
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾: المؤمن المطيع لا بدّ أن ينال حُسن الثّواب، والعاصي الشّرير الّذي شقيت الدّنيا به وبعصيانه لا بدّ أن ينال العقاب، لذلك لا بدّ من الإعادة ليجزي الله سبحانه وتعالى كلّ واحدٍ بعمله بالقسط.
القسط: كما أوضحنا سابقاً معناه: العدل، والمادّة هي القاف والسّين والطّاء، تُقرأ بفتح القاف وكسر القاف، قَسَط بالفتح تعني الظّلم، لذلك نجد قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ ]الجنّ[، القاسطون: أي الظّالمون الجائرون على حقوق غيرهم، ونجد قول الحقّ سبحانه وتعالى : ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ] المائدة: من الآية 42[، بالكسر؛ أي العادلين بين النّاس.
﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: لا تأتي الّذين ﴿ آمَنُوا ﴾ إلّا وتأتي معها ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، فهي ليست أقوالاً إنّما عملٌ صالحٌ، فالمولى سبحانه وتعالى يجزيهم؛ لأنّهم عدلوا في العقيدة والاستقامة والمنهج والحياة، فالقرآن الكريم يحكم بين النّاس في قضايا العقائد وقضايا الاختيار في الأفعال، قال سبحانه وتعالى : ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴾ ] النّجم[، فإن كان الإنسان لا يأخذ إلّا جزاء ما سعى، فسيقول بعضهم: فكيف يُجزى عن الحسنة بعشر أمثالها؟ وكذلك ماذا تُفيد صلاة الجنازة للميّت؟ وهل ينتفع بها الـميّت حين ندعو له بالمغفرة؟ ولماذا كُلّفنا من قِبل الحقّ سبحانه وتعالى بصلاة الجنازة كفرض كفايةٍ مع أنّ الميّت ليس له إلّا جزاء سعيه؟ الجواب: كُلّفنا بها؛ لأنّ الدّعاء للميّت يعود عليه، وإنّ فعل الميّت في الحياة قبل موته سببٌ ليكون هناك من يدعو له، فهي من فِعله، ونعلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمةٍ وفضلٍ»([1])، فهذه من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحسنة بعشر أمثالها، ومن رحمته عز وجل أنّ الدّعاء يعود على الـميّت، خاصّةً من الأولاد لآبائهم وأمّهاتهم.
﴿ بِالْقِسْطِ ۚ ﴾: أي جزاء منه بالعدل.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾: كلمة: ﴿ شَرَابٌ﴾ تفيد الارتواء، وقد وصف سبحانه وتعالى شراب أهل النّار: ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ ] الكهف: من الآية 29[، وهم يستغيثون للنّجاة فيأتيهم الغوث بما يُنَاسب عذابهم: ﴿ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾.
﴿ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾: هذا العقاب نتيجة عملهم وجحودهم وكفرهم بآيات الله سبحانه وتعالى، فكان جزاؤهم العذاب الأليم والشّراب الحميم.
([1]) مسند أحمد بن حنبل: مسند أبي هريرة رضي الله عنه، الحديث رقم (7473).