الآية رقم (5) - هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾: بعد أن بيّن الحقّ سبحانه وتعالى  أنّه خلق السّماء والأرض والكون كلّه وسخّره للإنسان، جاء لنا بنِعَمٍ من آياته الّتي خلقها وجعلها سبحانه وتعالى  سبباً لقوام حياتنا، فالشّمس هي الّتي تنضج لنا كلّ شيءٍ في الوجود، وتعطي لكلّ كائنٍ الإشعاع الخاصّ به، كما أنّها تبخّر المياه، لينزل بعد ذلك عذباً فراتاً يرتوي منه الإنسان، وتشرب منه الأنعام، وتروى به الزّروع، وهي الأمّ لمجموعةٍ من الكواكب الّتي تدور حولها، فدورة الأرض حول الشّمس تمثّل السّنة، ودورة الأرض حول نفسها تمثّل اليوم، ولو نظرنا إلى المعنى السّطحيّ للشّمس والقمر لقلنا: إنّ الشّمس تعطي نوراً وكذلك القمر، ولكنّ النّظرة العلميّة والعميقة تتطلّب أن نفرّق، فالشّمس تعطي ضياءً وليس نوراً، وهناك فارقٌ بين الضّياء والنّور، فالضّياء يكون ذاتيّاً من المضيء، تصحبه الحرارة والدّفء، أمّا النّور فهو ضوءٌ ليس فيه حرارةٌ، كنور القمر الّذي هو انعكاسٌ لضوء الشّمس، ونوره حليمٌ فلا نحتاج إلى ظلٍّ لنستظلّ من حرارته، قال الحقّ سبحانه وتعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾، وكلمة (ضياء) إمّا أن نعتبرها مصدراً؛ مثل صام صياماً قام قياماً ضاء ضياءً، وإمّا أن نعتبرها جمعاً مثل حوض جمعه حياض، روض جمعه رياض.. فكلمة (ضياء) تصلح أن تكون جمعاً وتصلح أن تكون مفرداً، وحين يجيء اللّفظ صالحاً للجمع والإفراد لا بدّ أن يكون له عند البليغ في اللّغة مَلحظٌ؛ لأنّه يحتمل هذه المعاني كلّها، وقبل معرفتنا أسرار ضوء الشّمس لننظر لماذا كلمة ضياء جمع؟ بعد تقدّم العلم حلّل ضوء الشّمس فوجد أنّ ألوان الطّيف سبعةٌ؛ منها ضوءٌ أحمرٌ وأخضرٌ وأصفرٌ… فضياء تعبّر عن تعدّد الألوان المخزونة في ضياء الشّمس انظروا إلى الإعجاز القرآنيّ، وإن قلت: ضياء مثل قيام وصيام فهذا يصلح في المعنى العامّ لاستيعاب العقول في زمن النّزول، لذلك قلنا وما زلنا نقول: كان القرآن الكريم ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لنزوله، وإن كانت لا تعرف المعاني العلميّة للظّواهر، لكن عندما يأتي العلم ويكتشفها نجد أنّها موجودةٌ ومكتنزةٌ بالقرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى  في آياتٍ أخرى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا﴾ ]الفرقان[، والسّراج هو الّذي يعطي الضّوء والحرارة، وهو وصفٌ دقيقٌ ومناسبٌ للشّمس.

﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾: كلمة قدّره تعود في ظاهر الأمر إلى القمر؛ لأنّه آخر مذكورٍ، لكن في الواقع الشّمس لها منازل أيضاً، لماذا قال قدّره؟ لأنّ هناك شيءٌ اسمه (الجعل) فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ ، فالجعل جاء في أمرين اثنين، هذا الجعل ذاته جعله الله سبحانه وتعالى  يقدّر به الزّمن، فهو صالحٌ للاثنين: للشّمس وللقمر.

﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾: في العبادات نحتاج إلى تحديدٍ، كتحديد بداية شهر رمضان لنمارس عبادة الصّوم، وتحديد أشهر الحجّ، كذلك تحتاج المرأة إلى حساب شهور العدّة، هذه التّقديرات كلّها تخضع للهلال، فهو علامةٌ واضحةٌ يبدأ صغيراً ثمّ يكبر ثمّ يصغر، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ {يس}، والعرجون هو ما نسمّيه السّباطة، شكله كشمروخ البلح الّذي كانوا يصنعون منه قديماً المكانس الّتي يكنسون بها البيوت في الرّيف، وهكذا أعطانا الحقّ سبحانه وتعالى  تشبيهاً من البيئة الّتي عاش فيها العربيّ القديم، وفي أوّل الشّهر نرى الهلال علامةً مُخبرةً عن بدايته، وهكذا تعلّم الإنسان أن يحسب الشّهور بتقدير منازل القمر بالنّسبة للسّنة، فالحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ]  التّوبة: من الآية 36[، والتّقدير هنا اثنا عشر شهراً هلاليّاً، أمّا اليوم فيقدّر بالشّمس، لذلك تدخل الشّمس في تقدير المنازل.

﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾: الحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر، وحين نتأمّل مسار الأفلاك ومسار الشّمس والقمر لا نجد فيها خلافاً، بل نجد مراصد الغرب وغيره تُعلن مواعيد وجود القمر والأرض والشّمس، وتُحدّد مواعيد ظاهرتي الكسوف للشّمس والخسوف للقمر، وتكون غايةً في الدّقّة من خلال الحسابات العلميّة، وهذا ما سبق به القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ] يس[، وهذا القول للحكيم العليم أثبت حكماً للنّاس كانوا يعتقدونه سابقاً، ونفى حكماً آخر، فالنّاس في ذلك الوقت كانوا يعتقدون أنّ اللّيل قبل النّهار بدليل أنّ تحديد اللّيلة الأولى في رمضان هو الميعاد ليبدأ به شهر الصّوم، وما داموا قد حكموا بأنّ اللّيل يسبق النّهار، فلا بدّ من حكمٍ مقابلٍ وهو أنّ النّهار لا يسبق اللّيل، وجاء القرآن الكريم إلى القضيّة المتّفق عليها وتركها وهي أنّ النّهار لا يسبق اللّيل مثل ما اعتقد النّاس في ذلك الوقت، ونفى أن يسبق اللّيل النّهار، فصحَّح الله سبحانه وتعالى المفاهيم، هكذا يعرض الحقّ سبحانه وتعالى  الكونيّات عرضاً رمزيّاً في القرآن الكريم؛ لأنّه لو جاء التّوضيح العلميّ وقت النّزول لكذّب النّاس القرآن الكريم، فلم يكشف الحقّ سبحانه وتعالى  الحقائق الكونيّة كلّها، بل أشار إليها بما يحتمل قبول الإنسان بمعلوماته البسيطة في ذلك الوقت لها، فما دام النّهار لا يسبق اللّيل، ولا اللّيل يسبق النّهار، فكيف جاء هذا الأمر إذاً؟ إنّ الحقّ سبحانه وتعالى خلق الشّمس والأرض على هيئةٍ يوجد فيها اللّيل والنّهار معاً، ولا يكون ذلك إلّا إذا كانت الأرض كرويّةً، نصفها مواجهٌ للشّمس ويكون الوقت فيه نهاراً، والنّصف غير المواجه لها يكون الوقت فيه ليلاً، ثمّ تدور الأرض فيأتي النّهار إلى القسم الّذي كان ليلاً، ويأتي اللّيل للقسم الّذي كان نهاراً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ ]الفرقان[، فبيّن الحقّ سبحانه وتعالى أنّ اللّيل والنّهار خلفةً؛ أي أنّ كلّاً منهما كان موجوداً من البدء؛ ولأنّ الأرض تدور جاء النّهار في البلاد الّتي تشرق فيها الشّمس وجاء اللّيل في البلاد الّتي تغيب عنها الشّمس، وتتابع اللّيل والنّهار، فالحقّ سبحانه وتعالى حكى في القرآن الكريم عن الأمور الكونيّة الّتي سوف تكتشفها العقول بعد نزول القرآن الكريم بألف عامٍ، وعالجها بحكمةٍ ودقّةٍ لا مثيل لها.

﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾: فصّل الحقّ سبحانه وتعالى  لنا آياته.

«هُوَ»: مبتدأ.

«الَّذِي»: اسم موصول خبر والجملة مستأنفة.

«جَعَلَ الشَّمْسَ»: ماض ومفعوله الأول والفاعل مستتر والجملة صلة.

«ضِياءً»: مفعول به ثان.

«وَالْقَمَرَ نُوراً»: معطوف على الشمس.

«وَقَدَّرَهُ»: الواو عاطفة وماض ومفعوله الأول وفاعله مستتر والجملة معطوفة.

«مَنازِلَ»: مفعول به ثان.

«لِتَعْلَمُوا»: اللام لام التعليل ومضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل واللام وما بعدها متعلقان بجعل.

«عَدَدَ»: مفعول به.

«السِّنِينَ»: مضاف إليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.

«وَالْحِسابَ»: معطوف على السنين.

«ما»: نافية.

«خَلَقَ اللَّهُ»: ماض وفاعله والجملة مستأنفة.

«ذلِكَ»: اسم إشارة مفعول به واللام للبعد والكاف للخطاب.

«إِلَّا»: أداة حصر.

«بِالْحَقِّ»: متعلقان بحال محذوفة.

«يُفَصِّلُ»: مضارع فاعله مستتر.

«الْآياتِ»: مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم والجملة مستأنفة.

«لِقَوْمٍ»: متعلقان بيفصل.

«يَعْلَمُونَ»: مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صفة لقوم.

ضِياءً: ذات ضياء أي نور نُوراً أي ذا نور، وسمي نورا للمبالغة، وهو أعم من الضوء. وقيل: ما بالذات ضوء، وما بالاكتساب من غيره نور، وقد نبه تعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيّرة في ذاتها، والقمر نيرا بالاكتساب من الشمس.

وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ: الضمير لكل واحد من الشمس والقمر، أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدر القمر ذا منازل.

والتقدير: جعل الأشياء على مقادير مخصوصة.

والمنازل: مكان النزول.

لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ: أى لتعلموا بذلك حساب الأوقات من السنين والأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم.

ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ: المذكور إلا خلقا ملتبسا بالحق، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثا.

لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: يتدبرون، فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها.