الآية رقم (18) - إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ

﴿اسْتَرَقَ﴾: تُحدِّد المعنى بدقّة، فهناك مَنْ سرق، وهناك مَنْ استرق، فالّذي سرق هو مَنْ دخل بيتاً على سبيل المثال، وأخذ يُعبّئ ما فيه في حقائب، ونزل من المنزل على راحته لينقلها حيث يريد، لكن إنْ كان هناك أحدٌ في المنزل، فاللّصّ يتحرّك في استخفاء، خوفاً من أن يضبطه مَنْ يوجد في المنزل، وهكذا يكون معنى ﴿اسْتَرَقَ﴾ الحصول على السّرقة مقرونة بالخوف.

وقد كان العاصون من الجِنِّ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترقون السّمع للمنهج الـمُنزّل على الرُّسُل السّابقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف الأمر بعد رسالته الكريمة، حيث شاء الحقّ سبحانه وتعالى أنْ يحرسَ السّماء، وما إنْ يقترب منها شيطانٌ حتّى يتبعه شهابٌ ثاقبٌ.

والشّهاب: النّار المرتفعة، وهو عبارة عن جَذْوة تشبه قطعة الفحم المشتعلة، ويخرج منه اللّهب، أمّا إذا كان اللّهب بلا ذؤابة من دخان، فهذا اسمه (السَّمُوم)، وإنْ كان الدّخان مُلْتوياً، ويخرج منه اللّهب، ويموج في الجوّ فيُسمى (مارج) حيث قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرّحمن: من الآية 15]، وهكذا نجد السّماء محروسة بالشّهب والسَّمُوم ومارج من نار.

وهنا نتوقّف قليلاً عند موضوع الجنّ والشّيطان -وهو العاصي من الجنّ- واستراق السّمع والشّهب الّتي تنزل.. سيقول قائلٌ: ما هذا الكلام الّذي تردّدونه كمسلمين: شياطين وجنّ وشهب ثاقبة تتبع الشّياطين إذا استرقوا السّمع…. إلخ، نُجيب: إنّنا إذا أردنا أن نتحدّث فبالعلم والمنطق والعقل، وليس خارج حدود العقل البشريّ كما يدّعي أعداء الإسلام، فالإسلام بنى أحكامه كلّها وما يتعلق بالرّسالة على العقل البشريّ، فهو يخاطب العقول، حتّى أنّ التّكليف لا يكون إلّا لأولي الألباب، ولا يكون إلّا للإنسان الّذي اكتمل عقله؛ أي: أصبح في سنّ الرّشد، ويستطيع أن يعي المعاني، فعندما يقول الإسلام: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  [البقرة: من الآية 256]، وعندما يقول الإسلام: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: من الآية 221]، فهذه النّقاشات والحوارات الرّائعة الموجودة في كتاب الله عز وجل إنّما تخاطب العقل البشريّ، لكن الإيمان بالله سبحانه وتعالى والغيب بُني على الدّليل العلميّ، وعندما يُبنَى الإيمان على الدّليل العلميّ وتناقش هذا الأمر في العقل وتقتنع بوجود الله سبحانه وتعالى تأتي موجبات الإيمان، وهي طالما أنّك آمنت بالله سبحانه وتعالى فإنّك تتلقّى عن الله جل جلاله، فنحن لا نقول لغير المؤمن: بأنّك يجب أن تؤمن بالملائكة والجنّ، بل نقول له أوّلاً: يجب أن تؤمن بالله عز وجل، وتؤمن بأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنّ القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى، وتناقش في هذه الأدلّة وتعرضها على العقل، وبعد أن يأخذ النّقاش الحدّ المطلوب بالنّواحي كلّها، الاستقراء العلميّ والمنطقيّ والعقليّ، وتؤمن بوجود إله، وتُثبت بأنّ القرآن الكريم من عند الله جل جلاله، وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك بعض الأمور الغيبيّة الّتي لا يمكن أن تخضع لمقاييس العقل البشريّ، فمثلاً هناك حدودٌ للعين لا ترى إلّا ضمنها، لكن هل هذا يعني بأنّه بعد هذا الحدّ لا يوجد شيء؟! بالتّأكيد يوجد، فقد كنّا لا نعرف أنّ هناك جراثيم، وكثير من الأمور العلميّة الّتي لم تكن مكتشفةً، هل عدم معرفتها يعني أنّها غير موجودة؟! بالتّأكيد لا يعني ذلك، فهذه الأمور الغيبيّة نأخذها كما يقولها المولى سبحانه وتعالى؛ لأنّنا آمنّا به جل جلاله، فالّذي يريد أن يُناقش في هذه القضايا نعود به إلى النّقاش بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، أمّا إن كان غير مؤمن بالله عز وجل فما الفائدة في أن يؤمن بوجود جنّ أو شيطان، وأنّه استرق السّمع.. إلخ، فلا فائدة من هذا الكلام إذا كان لا يؤمن بوجود إله أصلاً، ولا يؤمن أنّ القرآن الكريم من عند الله جل جلاله، فالنّقاش لا يكون هنا وإنّما بأصل الإيمان، فلا يقولنّ أحدٌ: أنا مؤمنٌ لكن عليك أن تقنعني بوجود الجنّ.. فإن كنت مؤمناً بالله سبحانه وتعالى وقد أخبرك جل جلاله عنهم في القرآن الكريم، فعليك أن تؤمن، إلّا إذا كنت تشكّك في القرآن الكريم، فعندها نعود للنّقاش حول القرآن الكريم ولا نعود للنّقاش حول الجنّ والشّياطين.

«إِلَّا» أداة استثناء

«مَنِ» اسم موصول في محل نصب على الاستثناء

«اسْتَرَقَ السَّمْعَ» ماض ومفعوله وفاعله مستتر والجملة صلة

«فَأَتْبَعَهُ» الفاء عاطفة وماض ومفعوله المقدم

«شِهابٌ» فاعل والجملة معطوفة

«مُبِينٌ» صفة