﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾: يجب ألّا يتعجّب أحدٌ؛ لأنّه سبحانه وتعالى أرسل رسولاً من البشر، ولو أراد أن يُرسل رسولاً من الملائكة لأرسل، لكنّه يُريده من البشر، وعندما قال مشركو مكّة: ينزل القرآن على يتيم أبي طالب؟ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ ]الزّخرف[، فهم ينظرون إلى العظمة من خلال المال والجاه والسّلطان، ولذلك تعجّبوا من نزول القرآن الكريم على بشرٍ وليس على مَلَكٍ.
ومن المنطقيّ ألّا يتعجّبوا؛ لأنّه يُتَعَجّب من الشّيء إذا بلغ من الحُسن مبلغاً فوق مستوى ما تعرفه البشر، فكيف يتعجّبون، وقد جاءهم رسولٌ من أنفسهم؟﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ]التّوبة[، أليس هذا هو المطلوب في النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ كيف تتعجّبون؟ إنّ إيحاءنا لرجلٍ منكم كان عجيباً عندكم، وما كان يصحّ أن يكون أمراً عجيباً؛ لأنّه أمرٌ منطقيٌّ.
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا﴾: الوحي: هو الإعلام بخفاءٍ، هناك إعلامٌ واضحٌ وإعلامٌ بخفاءٍ، الإعلام الواضح كأن تقول لابنك: يا بنيّ، اسمع كذا وافعل كذا، المولى سبحانه وتعالى يوحي لمن شاء بما يشاء وكيفما يشاء، مثلاً: يوحي إلى الأرض كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ ]الزّلزلة[، ويوحي إلى الحيوان: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ ]النّحل[، المولى سبحانه وتعالى يوحي إلى غير الأنبياء أيضاً، قال سبحانه وتعالى : ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ]القصص[، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى الأنبياء بالرّسالات، وبيّن لهم أنّه يجب أن يُجنّبوا النّاس الإنذار، لذلك قدّم الإنذار هنا على البشارة فقال:
﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: إنذارٌ بالعذاب وبشرى للّذين آمنوا.
الإنذار أوّلاً؛ لأنّ دفع المضرّة أولى من جلب المنفعة.
﴿النَّاسَ﴾ : النّاس هم الجنس المنحدر من آدم u إلى أن تقوم السّاعة، الله سبحانه وتعالى نزّل القرآن الكريم باللّغة العربيّة الّتي فيها أسرارٌ وفقهٌ وفيها العامّ والخاصّ، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى :﴿النَّاسَ﴾ فقد يكون المقصود المعنى الخاصّ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ ]آل عمران: من الآية 173[، ليس البشر كلّهم الّذين قالوا، وإنّما هو شخصٌ أو بضعة أشخاصٍ، وكقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ]النّساء: من الآية 54[، المقصود بالنّاس النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فيجب علينا فهم فقه اللّغة العربيّة، وقد قال بعضهم: إنّ الإسلام دين تطرّفٍ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أمرتُ أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويُقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله»([1])، فهل يقاتل النّاس جميعهم؟ كيف ترك أهل الكتاب؟ كيف ترك المشركين؟ كيف هناك حريّة اعتقاد؟ بالتّأكيد لم يقصد النّاس كلّهم، فالمقصود من النّاس هنا المعنى الخاصّ؛ أي مشركي العرب الّذين قاتلوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعندما يقول كلمة: النّاس، يجب علينا أن نفهم أنّها لا تُطلق على النّاس كلّهم إلّا إذا كانت عامّةً، مثل قوله سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ ]آل عمران[، وهنا في هذه الآية الّتي يقول فيها عز وجل: ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾؛ أي النّاس كلّهم على الإطلاق.
﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: أي مكانةً ومنزلةً رفيعةً من عملهم.
كلّ جارحةٍ لها ظاهرٌ في الحركة والأعمال، فالقدم تسعى إلى الأشياء، واليد تتحرّك في العطاء، والأُذُن في السّمع، والعين في الرّؤية..، وهكذا يكون معنى: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ هو سابقةٌ في الفضل أهّلتهم بأن يكونوا موضع البشارة.
والصّدق: هو جماع الخير، وعليه تدور الحركة النّافعة في الكون، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ ]يونس: من الآية 93[، فكلمة الصّدق نجدها في القرآن الكريم: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾،﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾،﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ ]الإسراء: من الآية 80[، فأمور الحياة كلّها وفضائلها وخيراتها وما ينتظر النّاس من سعادةٍ كلّ ذلك قائمٌ على كلمة الصّدق؛ أي أنّ لهم سابقة فضلٍ عند ربّهم يجازيهم بها بالتّصديق.
﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾: لم يستطيعوا مواجهة الحقائق والأدلّة والبراهين والرّوحانيّات إلّا بالافتراء والكذب والدّجل والادّعاء بأنّ النّبيّ ﷺ ساحرٌ مبينٌ، وهذا ما جرى حتّى اضطرّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكّة إلى المدينة.
هكذا نفهم كيف كان موقفهم من سياق الآية، بأنّهم رفضوا واستكبروا، وقالوا: إنّه ساحرٌ، والسّاحر هو الّذي يصنع أشياء توهمك أنّها حقيقةٌ وهي ليست بحقيقةٍ، كسحرة فرعون الّذين أوهموا المسحورين بغير الواقع، فالسّاحر يرى الشّيء على حقيقته، أمّا المسحور فهو الّذي تتغيّر رؤيته إلى الشّيء فيُخيّل إليه أنّه شيءٌ آخر.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، بابباب ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ ، الحديث رقم (25).