الآية رقم (1) - الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

نبدأ قراءة سور القرآن كلّها باستثناء سورة (التّوبة) ببسم الله الرّحمن الرّحيم، فهذه القراءة تكون باسم الله I، وكما قال النّبيّ ﷺ: «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم أقطع»([1])؛ أي مقطوع النّتيجة، وحتّى تكون القراءة خالصةً وصافيةً من الأغراض الدّنيويّة، فلا بدّ أن تبدأ ببسم الله I، والنّبيّ : عندما نزل عليه جبريل u قال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ]العلق[.

﴿الر﴾ : الأحرف المقطّعة من ضمن أهمّ أسرار القرآن الكريم الّتي فيها إعجازٌ وتحدٍّ للبشر جميعاً، فهذا النّبيّ الكريم جاء إلى قومٍ هم سدنة اللّغة وسدنة البلاغة والشّعر، فتحدّاهم الله I:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ]الإسراء[.

وعندما سمع العرب هذه الأحرف المقطّعة لم يناقشوا النّبيّ ﷺ في المراد منها، وقيل في تفسيرها: إنّها للتّنبيه، وقيل: إنّها حروف اللّغة العربيّة الّتي أُخذ منها القرآن الكريم، فلا يمكن تأليف مثله، ولا حتّى تأليف سورةٍ أو آيةٍ من هذه الحروف، ولذلك ضُرِب فيها المثل، فهي للتّحدّي والإعجاز، وهذه الأقوال كلّها صحيحةٌ، ولكن تبقى هناك معجزةٌ روحيّةٌ وأسرارٌ لا نعلمها.

وقد جاءت الحروف المقطّعة في القرآن الكريم بدءاً من سورة (البقرة): ﴿الم﴾،﴿المص﴾،﴿الر﴾،﴿المر﴾،﴿كهيعص﴾،﴿طه﴾،﴿طسم﴾،﴿طس﴾، ﴿يس﴾،﴿ص﴾،﴿حم﴾،﴿حم (1) عسق﴾،﴿ق﴾،﴿ن﴾، وكلّها موجودةٌ في حروف الهجاء الّتي يبلغ عددها في لغتنا العربيّة ثمانيةً وعشرين حرفاً، وعدد الحروف الّتي تأتي مقطّعةً في فواتح السّور أربعة عشر حرفاً؛ أي نصف الحروف الأبجديّة، وهذا ليس أمراً عشوائيّاً، وإذا جمعنا هذه الحروف تُعطينا عبارة: (نصّ حكيمٍ له سرٌّ قاطعٌ)، ونحن نقرأ القرآن الكريم بسرّ الله I فيه، فهو ليس كلام بشرٍ، وهذه الأحرف المقطّعة هي مفاتيح روحيّةٌ لأسرار كلام الله I، وهي من الآيات المتشابهة، فهناك آياتٌ محكمةٌ وأخرى متشابهةٌ في القرآن الكريم، قال I:﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ]آل عمران[، أمّا المحكمة فهي واضحة المعنى، تتعلّق بالعقيدة والعبادات، أمّا المتشابهة فهي الّتي يشتبه معناها على النّاس، فهذه الآيات من حروف اللّغة العربيّة، وهي من جنس الكلام الّذي نُسج وصيغ بأرقى وأعظم أسلوبٍ يمكن أن تسمعه الأذن، لذلك قال الكافرون: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ ]فصِّلت[، لا تسمعوا؛ أي أنّ الأذن عندما تستمع إلى القرآن الكريم ستتأثّر وستتجاوب، والدّليل على ذلك أنّه ما سمع أحدٌ القرآن الكريم وهو لا ينوي اللّغو فيه إلّا وتأثّر فيه.

﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾: هناك آياتٌ كونيّةٌ تثبت صحّة آيات القرآن الكريم، وكلّ ما جاء من آياتٍ كونيّةٍ في القرآن الكريم ثبتت من خلال العلم والحجّة والدّليل والبرهان العقليّ، فالقرآن الكريم لا يمكن أن يصادم العقل البشريّ لا في وقت النّزول ولا في أيّ وقتٍ من الأوقات حسب تقدّم الأزمان وتطوّر العصور، وضربنا أمثلةً كثيرةً تتعلّق بمراحل تطوّر الجنين والأرض والسّماء والماء والهواء والنّبات وكرويّة الأرض وغيرها.

فآيات القرآن الكريم آياتٌ معجزةٌ، يقول الله I:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ]آل عمران[، فالّذي يستنتج ويستنبط ويأخذ الدّليل على وجود الله I هم أولو العقول، أمّا الّذين غيّبوا عقولهم فهؤلاء لا يمكن أن يؤمنوا بالله I، ومع الأسف هناك الكثير من النّاس الّذين يحاولون أن يشوّشوا على الإيمان وعلى القرآن الكريم، ويدّعون بأنّ أهل القرآن وأهل الإيمان وأهل الإسلام يلغون العقل، والقرآن الكريم جاء ليناقش ويحاجج ويدحض ويبيّن ويثبت بالدّليل والبرهان، فهو يتعامل مع العقل، وبما أنّه يتعامل مع العقل فلا يقولنّ قائلٌ ويدّعي -وليست القضيّة قضيّة دعوة-: إنّي صاحب عقلٍ… إلى ما هنالك، فالله تعالى نزّل القرآن الكريم، وهو خالق الكون، وخالق العقل والعلم، فلا تصادم ولا تعارض بين القرآن الكريم وبين العلم والعقل، وهذا واضحٌ لا يقبل الجدل الّذي لا يغني ولا يسمن من جوعٍ.

﴿الْكِتَابِ﴾: نحن هنا ما بين الآيات الكونيّة والآيات القرآنيّة، فآيات الكتاب هي معجزاتٌ، الآية تعني المعجزة، كقوله I:﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ]الشّعراء[، فالقرآن الكريم كلّه معجزٌ من أوّله إلى آخره بكلّ حرفٍ فيه وبكلّ حركةٍ إعرابيّةٍ، ففيه إعجازٌ علميٌّ وبلاغيٌّ وأخلاقيٌّ ونفسيٌّ وروحيٌّ.

﴿الْحَكِيمِ﴾: الله I حكيمٌ، ووصف كتابه بالحكيم، والحكمة: أن تضع الشّيء في مكانه المناسب في الوقت المناسب، فالقرآن الكريم هو منتهى الحكمة والدّقّة والعظمة والعلم والعقل والعطاء والفكر والرّوح والرّحمة.

([1]) كنز العمّال: ج 1، ص 555، الحديث رقم (2491).

«الر» هذه الحروف وأمثالها لا محل لها من الإعراب

«تِلْكَ» اسم إشارة مبتدأ

«آياتُ» خبر والجملة استئنافية

«الْكِتابِ» مضاف إليه

«الْحَكِيمِ» صفة

الر تقرأ هكذا: ألف، لام، را. والحروف المقطعة في أوائل السور وتعديدها يقصد به التحدي، والإشارة إلى أن هذا القرآن كلام مكون من الحروف العربية المألوفة غير الغريبة على العرب، فما لهم عجزوا عن محاكاته؟ مما يدل على كونه كلام الله. أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها.

تِلْكَ أي هذه الآيات آياتُ الْكِتابِ: القرآن العظيم، والإضافة بمعنى من الْحَكِيمِ المحكم، أي هذه آيات القرآن المحكم المبين.