لقد رأوا كيف أحيا الله سبحانه وتعالى الميّت أمامهم، ووقف سيّدنا موسى عليه السَّلام أمامهم وقال: ميّت يحيي ميّتاً، ومع ذلك قست قلوبهم، وقد قال: ﴿قَسَتْ قُلُوبُكُم﴾ ولم يقل: قست نفوسكم؛ لأنّ القلب موضع الشّعور والرّأفة والإيمان والرّحمة، وهو منبع السّلوك ومصبّ الإيمان، جاء في الحديث: «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»([1]). قست قلوب بني إسرائيل بعد كلّ ما رأوه من آيات الله سبحانه وتعالى، مثل: المنّ والسّلوى، فَرْق البحر، إنجاؤهم من فرعون وآله، إحياء الميّت أمامهم في قضيّة البقرة.. لكن قلوبهم عادت جلفاً قاسية، معادية للحقّ والقيم والأخلاق والأنبياء عبر كلّ زمان، فهي كالحجارة، ونرى الحجارة ونعرف أنّها صلبة وقاسية، وفرق بين القلب والحجارة، فالقلب عضلة ليّنة، أمّا الحجارة فهي مادّة صلبة وقاسية، ومع ذلك: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، كذلك يذكّرهم بحادثة انفجار الماء من الحجر حين ضرب سيّدنا موسى عليه السَّلام بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
إنّ القرآن الكريم لم يسلّط الضّوء ويرصد قلوب وتفكير وحركات وسكنات شعب من الشّعوب إلّا شعب بني إسرائيل، ويقول لهم الله سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم﴾، فمن يخاطب بهذا الخطاب؟ والّذين قست قلوبهم ماتوا من أيّام سيّدنا موسى عليه السَّلام واليهود الّذين كانوا في المدينة المنوّرة زمن تنزيل القرآن الكريم ليسوا هم الّذين قست قلوبهم، واليهود الّذين يحتلّون فلسطين الآن وتعاني البشريّة من جرائمهم وعدوانهم وتآمرهم ومكرهم بالعرب والمسلمين لم يكونوا في زمن موسى عليه السَّلام، لكنّ الله سبحانه وتعالىحين يخاطب فإنّه يخاطب بعلمه، وهو يعلم أنّ هذا الخطاب، وإن كان موجّهاً إلى الّذين كانوا في زمن موسى، فإنّه يخاطب به المعاصرين لتنزيل القرآن الكريم، ويتوجّه به إلى بني إسرائيل عموماً إلى أن تقوم السّاعة، فخطاب الله سبحانه وتعالى خطاب عامّ، وهذا هو الخطاب القرآنيّ، وحين يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾]النّساء: من الآية 96[، لا يعني أنّه لم يعد غفوراً رحيماً الآن، مع أنّ (كان) فعل ماض ناقص؛ لأنّ الله سبحانه وتعالىلا يخضع للزّمان ولا للمكان، وهو الّذي خلق الزّمان والمكان، والله عزَّوجل كان ولا يزال وسيبقى غفوراً رحيماً، لا تنطبق عليه معايير الزّمن الّتي نعرفها، ولا تنطبق مقاييس ومعايير الكلام البشريّ على كلام الله جلَّ جلاله فعندما يكون الله سبحانه وتعالى هو القائل فإنّ الأمر يختلف، وفضل كلام الله على كلام النّاس كفضل الله على النّاس، فأنت لست كمثل الله، فأنت حيّ والله سبحانه وتعالى حيّ، لكنّ الله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾]الشّورى: من الآية 11[.
وهنا في هذه الآيات يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل، فقلوبهم صارت أشدّ قسوة من الحجارة؛ لأنّ الحجارة منها الّتي يتفجّر منها الأنهار، ومنها ما يشقّق فيخرج منها الماء، وهذا قد يبدو تكراراً، ولكنّه ليس تكراراً، والفارق بين الوصفين هو أنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾: يعني أنّ النّهر يأتي إليك، أمّا قوله جلّ وعلا: ﴿يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء﴾: فيعني أنّك أنت الّذي تأتي إلى الماء. فالأوّل نهر والثّاني نبع، وهذا من دقّة التّعبير القرآنيّ.
﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾: كما حدث مع موسى عليه السَّلام حين: ﴿تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا﴾]الأعراف[، وهكذا هبطت الحجارة من خشية الله، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾]الحشر: من الآية 21[، فالجبل مكوّن من حجارة قاسية لكنّها تهبط من خشية الله عزَّوجل.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾: الله سبحانه وتعالى يرى أعمال البشر لكنّه سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وكلّ شيء عنده بمقدار، ونحن حين نرى القاتل والمجرم والظّالم والسّارق من النّاس نستعجل له العقوبة؛ لأنّ موازيننا تخضع للزّمن ونرى أنّ الزّمن قد طال، أمّا الله عزَّوجل فلا يخضع لمقاييس الزّمن فهو الّذي خلق الزّمن، وهو سبحانه وتعالى القائل: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾]الإسراء: من الآية 11[، فالإنسان عجول؛ لأنّه يخضع لعوامل الزّمن، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾]الزّلزلة[، فهو ليس بغافل عمّا يعمل النّاس ولا يهمل شيئاً.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، الحديث رقم (52).