وانظر إلى جمال وعظمة القرآن، والبديع يعني إتقاناً ليس له مثيل، خلق السّماوات والأرض وخلق النّاس على غير مثال سابق. وأيّ خلق وأيّ صناعة على وجه الأرض فإنّما تصنع وفق مثال سابق، فلو أردت مثلاً أن أصنع آنية من زجاج لا بدّ لي من مثال أصنع مثله وفق قالب معيّن كي أصنع مثله. والبديع سبحانه وتعالى يخلق من غير قالب، يخلق بكلمة ﴿كُن﴾، وأكبر دليل على ذلك خلق سيّدنا آدم، فهو لم يخلقه على قالب، وقد خلق المليارات من ذرّيته كلّهم لهم وجه ورأس ويدان ورجلان… ولكن ليس هناك إنسان يشبه الآخر.
وقد نقول: إنّ البشر متشابهون، ولكن هناك اختلاف في الجينات الوراثيّة، في بصمة الإصبع، في بحّة الصّوت، في بصمة العين.. فلا يوجد إنسان يشبه الآخر على الإطلاق، فهو مخلوق بكلمة ﴿كُن﴾ وليس بالقالب، وهذا هو البديع، ولو كان الخلق بالقالب لكان البشر مثل بعضهم بعضاً.
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾: اللّغة العربيّة وعاء لكلام الله سبحانه وتعالى، وفيها كلمات لها معان متعدّدة ومنها كلمة: ﴿قَضَى﴾ لها معنى جامع وهو أنّه أمر مبرم، مأخوذ من القضاء، والقضاء حكم قاطع. وتأتي كلمة قضى بمعنى انتهى، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ [البقرة: من الآية 200]، وبمعنى حكم وأمر وقضى قضاءً مبرماً: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: من الآية 23]، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس]، أي حكم بأمر، ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزّخرف: من الآية 77]، أي ليهلكنا، ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ﴾ [طه: من الآية 72]، أي افعل ما تريد حين قال سحرة فرعون له ذلك.
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾: وكيف يقول له ﴿كُن﴾ قبل أن يُخلق؟! كأن يقول له: يا أحمد كن، فكان أحمد، فهو مخلوق في علم الله، أنت لا تعلمه وهي أمور يبديها ولا يبتديها، وكلّ شيء في علم الله، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف، وكلّ شيء موجود فهو معلوم في علم الله، وكلّ شيء كائن في علمه، وإنّما له وقت. سئل سيّدنا الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يا أبا الحسن، كيف يحاسب الله النّاس في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم في وقت واحد.