الآية رقم (61) - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

﴿ذَلِكَ﴾: يعني ما قُلْته لك سابقاً له دليل، فما هو؟ أنّ الله سبحانه وتعالى يأخذ من القويّ ويعطي للضّعيف، ويأخذ من الطّويل ويعطي للقصير، فالمسألة ليست ثابتة، وإنّما خلقها الله سبحانه وتعالى بقدر، واللّيل والنّهار هما ظرفا الأحداث الّتي تفعلونها، والحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾.

﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾: يعني: يُدخِل اللّيل على النّهار، فيأخذ منه جزءاً جزءاً فيُطوِّل اللّيل، ويُقصِّر النّهار.

﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾: ثمّ يُدخِل النّهار على اللّيل فيأخذ منه جزءاً جزءاً، فيُطوِّل النّهار، ويُقصِّر اللّيل؛ لذلك نراهما لا يتساويان، فمرّة يطول اللّيل في الشّتاء مثلاً، ويقصر النّهار، ومرّة يطول النّهار في الصّيف، ويقصر اللّيل، فزيادة أحدهما ونَقْص الآخر أمرٌ مستمرّ، وأغيار متداولة بينهما، وإذا كانت الأغيار في ظرف الأحداث، فلا بُدَّ أن تتغيّر الأحداث نفسها، فعندما يتّسع الظّرف يتّسع كذلك الخير فيه، فمثلاً عندنا في المكاييل: الكَيْلة والقدح..، وكلّ منهما يسَعُ من المحتوى على قدر سعته، وهكذا كما نزيد وننقص في ظرف الأحداث نزيد وننقص في الأحداث نفسها.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾: سميعٌ لما يُقَال، بصيرٌ بما يُفعَل، فالقول يقابله الفعل، وكلاهما عمل، وبعضهم يظنّ أنّ العمل شيء والقول شيء آخر، لا؛ لأنّ العمل وظيفة الجارحة، فكلّ جارحة تؤدّي مهمّتها فهي تعمل، عمل العَيْن أن ترى، وعمل الأذن أنْ تسمع، وعمل اليد أن تلمس، وعمل الأنف أن يشُمّ، وكذلك عمل اللّسان القول، فالقول للّسان وحده، والعمل لباقي الجوارح وكلاهما عمل، فدائماً نضع القول مقابل الفعل، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[الصّفّ]، والسّمع والبصر هما الجارحتان الرّئيسيّتان في الإنسان، وهما عمدة الحواسّ كلّها، حيث تعملان باستمرار على خلاف الشَّمّ مثلاً، أو التّذوّق الّذي لا يعمل إلّا عدّة مرّات في اليوم كلّه.

الآية رقم (62) - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ

﴿ذَلِكَ﴾: أي: الكلام السّابق أمر معلوم انتهينا منه.

﴿بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾: والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر أبداً، فكُلُّ ما سِوى الله عزَّ وجلّ يتغيّر، وهو سبحانه وتعالى الّذي يُغيِّر ولا يتغيّر؛ ولذلك أهل المعرفة يقولون: إنّ الله سبحانه وتعالى لا يتغيّر من أجلكم، لكن يجب عليكم أنْ تتغيّروا من أجل الله سبحانه وتعالى، وما دام ربّك عزَّ وجلّ هو الحقّ الثّابت الّذي لا يتغيّر، وما عداه يتغيّر، فلا تحزن، ويا غضبان ارْضَ، ويا مَنْ تبكي اضحك واطمئنّ؛ لأنّك ابن أغيار، وفي دنيا أغيار لا تثبت على حال، فالإنسان يغضب إذا أُصيب بعقبة في حياته، يقول: لو لم تكُنْ هذه!! نقول له: وهل تريدها كاملة؟ لا بُدَّ أنْ يصيبك شيء؛ لأنّك ابن أغيار، فماذا تنتظر إنْ وصلْت القمّة؟ لا بُدَّ أنْ تتراجع؛ لأنّك ابن أغيار دائم التّقلُّب في الأحوال، وربّك وحده هو الثّابت الّذي لا يتغيّر.

﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾: كلّ مَا يُدعَى أو يُعبد من دون الله عزَّ وجلّ هو الباطل، قال سبحانه وتعالى: ﲏ ﲐ ﲑ ﲒﲓ [الإسراء: من الآية 81]، يعني: يزول ولا يثبت أبداً.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾: يعني: كلّ خَلْقه دونه.

﴿الْكَبِيرُ﴾: يعني: خَلْقه صغير كلّه.

ومن أسمائه سبحانه وتعالى: ﴿الْكَبِيرُ﴾، ولا نقول: أكبر، إلّا في الأذان، وفي افتتاح الصّلاة، وبعضهم يظنّ أنّ (أكبر) أبلغ في الوصف من (كبير)، لكنّ هذا غير صحيح؛ لأنّ (أكبر) مضمونه (كبير)، إنّما (كبير) مقابله صغير، فهو سبحانه وتعالى الكبير؛ لأنّ ما دونه وما عداه صغير، أمّا حين يناديك ويستدعيك لأداء فريضة الله سبحانه وتعالى، يقول: الله أكبر؛ لأنّ حركة الحياة وضروريّات العيش عند الله سبحانه وتعالى أمر كبير وأمر مهمّ لا يُغفَل، لكن إنْ كانت حركة الحياة والسّعي فيها أمراً كبيراً فالله أكبر، فربُّك يُخرجك للصّلاة من عمل، ويدعوك بعدها إلى العمل: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الجمعة].

الآية رقم (63) - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ

﴿أَلَمْ تَرَ﴾: إنْ كانت للأمر الحِسِّيّ الّذي تراه العين، فأنت لم تَرَهُ ونُنبّهك إليه، وإنْ كانت للأمر الّذي لا يُدرَك بالعين، فهي بمعنى: ألم تعلم؟ ونحن نقول دوماً: ما يخبرك الله سبحانه وتعالى به أوثق ممّا تراه عَيْناك، فالمعنى: ألم تعلم، وألم تنظر؟

﴿أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾: فهذه آية تراها، لكن ترى منها الظّاهر فقط، فنرى الماء ينهمر من السّماء، إنّما كيف تكَّون هذا الماء في طبقات الجوّ؟ ولماذا نزل في هذا المكان بالذّات؟ هذه عمليّات لم تَرَها، وقدرة الله سبحانه وتعالى واسعة، ولنا أن نتأمّل لو أردنا أنْ نجمع كوب ماء واحد من ماء البخار، كم يأخذ منّا من جهد ووقت وعمليّات تسخين وتبخير وتكثيف، فهل رأينا هذه العمليّات في تكوين المطر؟ لا، رأينا من المطر ظاهره، لذلك يلفتنا ربّنا إلى ما وراء هذا الظّاهر لنتأمّله؛ لذلك جعل الخالق عزَّ وجلّ مسطّح الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة، فاتّساع مُسطَّح الماء يزيد من البَخْر الّذي ينشره الله سبحانه وتعالى على اليابس، كما لو وضعتَ مثلاً كوبَ ماء في غرفتك، وتركتَه مدّة شهر أو شهرين، ستجد أنّه ينقص مثلاً سنتيمتراً، أمّا لو نثرتَ الكوب على أرض الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق، فاتّساع رقعة الماء يزيد من كمّيّة البخار المتصاعد منها، ونحن على اليابس نحتاج كمّيّة كبيرة من الماء العَذْب الصّالح للزّراعة وللشّرب.. إلخ، ولا يتوفّر هذا إلّا بكثرة كمّيّة الأمطار، ثمّ يُبيِّن الله سبحانه وتعالى نتيجة إنزال الماء من السّماء:

﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾: يعني: تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية، دون أن يذكر شيئاً عن تدخُّل الإنسان في هذه العمليّة، فالإنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو، إنّما المسألة كلّها بقدرة الله سبحانه وتعالى، لكن من أين أتت البذور الّتي كوَّنَتْ هذا النّبات؟ ومَنْ بذرها ووزَّعها؟ البُذور كانت موجودة في التّربة حيَّة كامنة لم يُصِبْها شيء، وإنْ مَرَّ عليها الزّمن؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفَّر لها عوامل الإنبات فتنبت؛ لذلك نُسمِّي هذا النّبات (العِذْى)؛ لأنّه خرج بقدرة الله عزَّ وجلّ لا دَخْل لأحد فيه، وتولَّتْ الرّياح نَقْل هذه البذور من مكان لآخر، كما قال سبحانه وتعالى: ﱸ ﱹ ﱺ [الحجر: من الآية 22]، ولو سلسلْنا هذه البذرة سنجدها من شجرة إلى شجرة حتّى نصل إلى شجرة أُمٍّ، خلقها الخالق سبحانه وتعالى لا شجرةَ قبلها ولا بذرة.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾: اللّطْف: هو دِقَّة التّناول للأشياء.

لكن، ما علاقة قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ بعد قوله: ﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾؟ قال العلماء: لأنّ عمليّة الإنبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من البذرة بعد الإنبات، وتمتصّ الغذاء من التّربة، هذه الشّعيرات الجذريّة تحتاج إلى لُطْف، وامتصاص الغذاء المناسب لكلّ نوع يحتاج إلى خبرة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ [الرّعد: من الآية 4]، فالأرض تصبح مُخضَرَّة من لُطْف الله سبحانه وتعالى، ومن خبرته في مداخل الأشياء، لذلك قال بعدها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾، ولدِقّة الشّعيرات الجذريّة نحرص ألَّا تعلو المياه الجوفيّة في التّربة؛ لأنّها تفسد هذه الشّعيرات فتتعطّن وتموت فيصفرُّ النّبات ويموت.

الآية رقم (54) - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾: يعني: يتأكّدوا تأكيداً واضحاً أنّ هذا هو الحقّ، مهما شوَّشَ عليه المشوِّشُون، ومهما قالوا عنه: إنّه سحر، أو كذب، أو أساطير الأوّلين؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى سيُبطل هذا كلّه، وسيقف أهل العلم والنّظر على صِدْق القرآن الكريم بما لديهم من حقائق ومقدّمات واستدلالات يعرفون بها أنّه الحقّ، وما دام هو الحقّ الّذي لم تزعزعه هذه الرّياح الكاذبة فلا بُدّ أن يؤمنوا به.

﴿فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾: ثمّ يتبع هذا الإيمان عملٌ وتطبيق.

﴿فَتُخْبِتَ لَهُ﴾: يعني: تخشع وتخضع وتلين وتستكين.

﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: فمسألة كيد الشّيطان وإلقائه لم تنته بموت الرّسول، بل هو قاعد لأمّته من بعده، ولكلّ مَنْ حمل عنه الدّعوة، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام]، يعني: دعهم جانباً فالله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد، فلماذا فعلوه؟ وما الحكمة؟ يقول جلَّ جلاله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: من الآية 141]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ [الأنعام: من الآية 113]، فمهمّة الشّيطان أنْ يستغلّ ضعاف الإيمان، ومَنْ يعبدون الله سبحانه وتعالى على حرف من أصحاب الاحتجاجات التّبريريّة الّذين يريدون أنْ يبرّروا لأنفسهم الانغماس في الشّهوة والسّير في طريق الشّيطان، وهؤلاء يحلو لهم الطّعن في الدّين، ويتمنّون أن يكون الدّين والقيامة والرّبّ أوهاماً لا حقيقة لها؛ لأنّهم يخافون أن يتورّطوا بأعمالهم السّيّئة ونهايتهم المؤلمة، فهم يستبعدون القيامة ويقولون: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾[الصّافّات]، فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يسود هذا المنهج حركة الحياة، لكن لن يدَعَه الشّيطان يُحقِّق هذه الأمنية، كما لم يدع رسوله عليه السّلام من قبل، فكيْده وإلقاؤه لم ينتهِ بموت الرّسول، وإنّما هو بَاقٍ، وإلى أنْ تقومَ السّاعة.

الآية رقم (55) - وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

﴿فِي مِرْيَةٍ﴾: يعني: في شكّ من هذا، لذلك قلنا: إنّ أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكلَّفون من الله سبحانه وتعالى بأنْ يكونوا امتداداً لرسالته، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: من الآية 143]، شهداء أنّكم بلَّغتم كما كان الرّسول عليه السّلام شهيداً عليكم، فكلٌّ مِنَّا كأنّه مبعوث من الله عزَّ وجلّ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»([1])؛ لذلك جاءت هذه الآية للأمرين ليكون الرّسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على النّاس، والحقّ سبحانه وتعالى حينما حمَّلنا هذه الرّسالة، قال: ما دُمْتم امتداداً لرسالة الرّسول، فلا بُدَّ أنْ تتعرَّضوا لما تعرَّض له الرّسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم، فإنْ صمدتم فإنّ الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يُلقي الشّيطان، وينصر في النّهاية أولياءه، وسيظلّ الإسلام إلى أنْ تقوم السّاعة، وسيظلّ هناك أناس يُعَادُون الدّين ويُشكِّكون فيه، وسيظلّ الملحدون الّذين يُشكِّكون النّاس في وجود الله سبحانه وتعالى يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين الله سبحانه وتعالى، كقولهم: إنّ هذا الكون خُلِق بالطّبيعة، وترى وتسمع هذا الكلام في كتاباتهم ومقالاتهم، ولم يَسْلم العلم التّجريبيّ من خرافاتهم هذه، فإنْ رأوا الحيوان منسجماً مع بيئته قالوا: لقد أمدّته الطّبيعة بلون مناسب وتكوين مناسب لبيئته، وفي النّبات حينما يقفون عند آية من آياته مثلاً: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ [الرّعد: من الآية 4]، يقولون: إنّ النّبات يتغذّى بعمليّة الانتخاب، يعني النّبات هو الّذي ينتخب ويختار غذاءه، ففي التّربة الواحدة وبالماء الواحد ينمو النّبات الحلو والمرّ والحمضيّ، فبدل أنْ يعترفوا لله سبحانه وتعالى بالفضل والقدرة يقولون: الطّبيعة وعمليّة الانتخاب، وعندما نتحدّث مع بعض هؤلاء، ونحاول إبطال ما قالوا بالحجج وأبسطها أنّ عمليّة الانتخاب تحتاج إلى إرادة واعية تُميِّز بين الأشياء المنتخبة، فهل عند النّبات إرادة تُمكِّنه من اختيار الحلو أو الحامض؟ وهل يُميّز بين المرِّ والحلو؟ إنّهم يحاولون إقناع النّاس بدور الطّبيعة ليبعدوا عن الأذهان قدرة الله عزَّ وجلّ، فيقولون: إنّ النّبات يتغذّى بخاصّيّة الأنابيب الشّعريّة، يعني: أنابيب ضيّقة جدّاً تشبه الشّعرة فسمّيت بها، ونحن نعرف أنّ الشّعرة عبارة عن أنبوبة مجوّفة، وحين تضع هذه الأنبوبة الضّيّقة في الماء، فإنّ الماء يرتفع فيها إلى مستوى أعلى؛ لأنّ ضغط الهواء داخل هذه الأنبوبة لضيقها أقلّ من الضّغط خارجها لذا يرتفع فيها الماء، أمّا إنْ كانت هذه الأنبوبة واسعة فإنّ الضّغط بداخلها سيساوي الضّغط خارجها، ولن يرتفع فيها الماء، فقُلْنا لهم: لو أحضرنا حوضاً به سوائل مختلفة، مُذَاب بعضها في بعض، ثمّ وضعنا به الأنابيب الشَّعْريّة، هل سنجد في كلّ أنبوبة سائلاً معيّناً دون غيره من السّوائل، أم سنجد بها السّائل المخلوط بعناصره كلّها؟ لو قمنا بهذه التّجربة فستجد السّائل يرتفع في الأنابيب بهذه الخاصّيّة، لكنّها لا تُميِّز بين عنصر وآخر، فالسّائل واحد في الأنابيب كلّها، وما أبعد هذا عن نموّ النّبات وتغذيته، وصدق الله سبحانه وتعالى حين قال: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[الأعلى]، فما أبعدَ هذه التّفسيرات عن الواقع، وما أجهلَ القائلين بها والمروِّجين لها، خاصّة في عصر ارتقى فيه العلم، وتقدّم البحث، وتنوَّعت وسائله في عصر استنارتْ فيه العقول، واكتُشِفت أسرار الكون الدّالّة على قدرة خالقه عزَّ وجلّ، ومع ذلك لا يزال هناك مبطلون، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾، فهم موجودون في أمّة محمّد عليه السّلام إلى أنْ تقومَ السّاعة، وسنواجههم نحن كما واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيظلّ الشّيطان يُلقِي في نفوس هؤلاء، ويوسوس لهم، ويوحي إلى أوليائه من الإنس والجنّ، ويضع العقبات والعراقيل ليصدَّ النّاس عن دين الله عزَّ وجلّ، هذا نموذج من إلقاء الشّيطان في مسألة القمّة، وهي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ونعجب لهجوم هؤلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، طالما هم لا يؤمنون به، فإنّ هذا الهجوم يحمل في طيّاته إيماناً بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلّا لَمَا استكثروا عليه ولَمَا انتقدوه، فلو كان شخصاً عاديّاً ما تعرَّض لهذه الانتقادات؛ لذلك نحن لا نناقش أمثال هؤلاء في مسألة الرّسول عليه السّلام، إنّما في مسألة القمّة، ووجود الإله، ثمّ الرّسول المبلِّغ عن هذا الإله، أمّا أنْ نخوض معهم في قضيّة الرّسول بدايةً فلن نصلَ معهم إلى حَلٍّ؛ لأنّهم يضعون مقاييس الكمال من عندهم، ثمّ يقيسون عليها سلوكيّات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وَضْع مقلوب، فالكمال نأخذه من الرّسول عليه السّلام ومن فِعْله، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: من الآية 21]، لا نضع له نحن مقاييس الكمال، ثمّ يُشكِّكون بعد ذلك في الأحكام، فيعترضون على التّشريع الإسلاميّ فيما يتعلّق بالمرأة وغيرها، مثلاً على الطّلاق في الإسلام، وكيف نفرّق بين زوجين؟ وهذا أمر عجيب منهم، فكيف نجبر زوجين كارهين على معاشرة لا يَبْغُونها، وكأنّهما مقترنان في سلسلة من حديد؟ كيف ونحن لا نستطيع أنْ نربط صديقاً بصديق لا يريده، وهو لا يراه إلّا مرّة واحدة في اليوم مثلاً؟ فهل نستطيع أن نربط زوجين في مكان واحد، وهما مأمونان على بعض في حال الكراهية؟ ويُخيِّب الله سبحانه وتعالى سَعْيهم، ويُظهر بطلان هذه الأفكار، وتُلجِئهم أحداث الحياة ومشكلاتها إلى تشريع الطّلاق، حيث لا بديلَ عنه لحلِّ مثل هذه المشكلات، ونحن عندما نتحدّث عن الطّلاق نعلم أنّه أبغض الحلال إلى الله عزَّ وجلّ، والله سبحانه وتعالى أمر بالصّلح والإصلاح بين الزّوجين، ووضع حلولاً كثيرة قبل أن نلجأ إلى الطّلاق، فإذا تعطّلت هذه الحلول كلّها فالطّلاق لا بدّ منه لاستمرار الحياة، وقد ناقش هؤلاء كثيراً في قوله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[التّوبة: من الآية 33]، وفي قوله جلَّ جلاله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصّفّ]، وفي آية أخرى: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصّفّ: من الآية 9]، يقولون: ومع ذلك لم يتمّ الدّين، ولا يزال الجمهرة العالميّة في الدّنيا غَيْر مؤمنين بالإسلام، وهذا القول منهم ناشئ عن عدم فَهْم للآية، ولمعنى: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾[التّوبة: من الآية 33]، فهي لا تعني أنّ العالم كلّه سيُسلم، وأنّ الإسلام سيمحو المخالفين له، إنّما يُظهِره يعني: يكتب له الغلبة بصدق حُجَجه وقضاياه على كُرْهٍ من الكافرين والمشركين، فهم موجودون، لكن يظهر عليهم، ويعلو تشريع الإسلام، ويضطرّون هم للأخذ بقوانينه وتشريعاته حَلّاً لمشكلاتهم، وكَوْنهم يتّخذون منه حلّاً لمشكلاتهم وهم كافرون به أبلغ في الرّدِّ عليهم لو آمنوا به، فلو آمنوا بالإسلام ما كان ليظهر عليهم ويعلوهم، فما كنتم تُشكِّكون فيه وتقولون: إنّه ما كان يصدر من إله ولا رسول، فها هي الأيّام قد عضّتكم بأحداثها وتجاربها وألجأتكم إلى هذا الحكم الّذي تعارضونه، وها أنتم تُشرِّعون بتشريع الإسلام وأنتم كافرون به، وهذا دليل ظهوره عليكم.

﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾: يعني: فجأة، وقد تكلَّم العلماء في معنى السّاعة: أهي يوم القيامة، أم يوم يموت الإنسان؟ السّاعة تشمل المعنيين معاً، على اعتبار أنّ مَنْ مات فقد قامت قيامته، حيث انقطع عمله، وموت الإنسان يأتي فجأة، كما أنّ القيامة تأتي فجأة، فهما يستويان، لكن إنْ كانت السّاعة تفجؤهم بغتة بأهوالها، فما العلامات الصُّغْرى؟ وما العلامات الكبرى؟ أليست مقدّمات تأذن بحلول السّاعة، وحينئذ لا تُعَدُّ بغتة؟ قال العلماء: علامات الشّيء لا تعني وجوده، العلامة تعني: قُرْب موعده فانتبهوا واستعِدُّوا، أمّا وقت حدوثه فلا يعلمه أحد، ولا بُدَّ أنْ يأتي بغتة مع هذه المقدّمات.

﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾: قال بعضهم: إنّ اليوم العقيم يعني القيامة، وبالتّالي فالسّاعة تعني الموت، وآخرون قالوا: إنّ اليوم العقيم المراد به يوم بدر الّذي فصل الله سبحانه وتعالى فيه بين الحقّ والباطل، وهذا اجتهادٌ يُشْكَرون عليه، لكن عندما نتأمّل الآية: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾، يعني: المريّة مستمرّة، لكنّ بدراً انتهت، والمريّة ستظلّ إلى أن تقوم السّاعة، ولا مانعَ أن تكون السّاعة بمعنى القيامة، واليوم العقيم أيضاً هو يوم القيامة، فيكون المدلول واحداً؛ لأنّ هناك فرقاً بين زمن الحدث والحدث نفسه، فالسّاعة هي زمن يوجد فيه الحدث وهو العذاب، فالسّاعة أوّلاً ثمّ يأتي العذاب، مع أنّ مجرّد قيام السّاعة في حَدِّ ذاته عذاب.

﴿يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾: العقيم: الّذي لا يلد، رجل كان أو امرأة، فلا يأتي بشيء بعده، ومنه قوله سبحانه وتعالى عن سارة امرأة إبراهيم عليه السّلام: ﴿عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ [الذّاريات: من الآية 29]، وكذلك يوم القيامة يوم عقيم، حيث لا يوم بعده أبداً، فهو نهاية المطاف على حَدِّ قول أحدهم: حَبَتْهُم به الدّنيا وأدركَها العُقْم، أو: ﴿عَقِيمٍ﴾، بمعنى: أنّها لا تأتي بخير، بل بشرٍّ، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾[الذّاريات]؛ ذلك لأنّ الرّيح حين تهبُّ ينتظر منها الخير، إمّا بسحابة مُمطرة، أو تحريك لقاح الذّكورة بالأنوثة: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾[الحجر: من الآية 22]، أمّا هذه فلا خَيْر فيها، ولا طائل منها، وتجلْب الضّرر: ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ [الذّاريات]، فهي تدمّر كلّ شيء تمرُّ عليه، وكما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف]، فيكون معنى ﴿عَقِيمٍ﴾: لا خيرَ فيها ولا نفع، بل فيها الشّرّ والعذاب، أو ﴿عَقِيمٍ﴾: لا يأتي يوم بعده؛ لأنّكم تركتم دنيا الأغيار، وتقلّب الأحوال حال بعد حال، فالدّنيا تتقلَّب من فقر إلى غنى، ومن صحّة إلى مرض، ومن صِغَر إلى كِبَر، ومن أَمْن إلى خوف، وتتحوّل من صيف إلى شتاء، ومن حرّ إلى برد، ومن ليل إلى نهار، ومن حياة إلى موت، أمّا في الآخرة فقد انتقلتم مِن عالم الأغيار الّذي نعيش فيه بالأسباب إلى عالم آخر نعيش مع المسبِّب سبحانه وتعالى، وإلى يوم آخر لا يومَ بعده، كأنّه عَقِم أن يكون له عَقِب من بعده أو مثيل له.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، الحديث رقم (3461).

الآية رقم (48) - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ

﴿وَكَأَيِّنْ﴾: قلنا: تدلّ على الكثرة، يعني: كثير من القرى.

﴿أَمْلَيْتُ لَهَا﴾: أمهلتُ، لكن طول الإمهال لا يعني الإهمال؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يُملي للكافر ويُمهله لأَجَل، فإذا جاء الأَجَل والعقاب أخذه.

فالإملاء: تأخير العذاب إلى أجلٍ معيّن، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾[الطّارق]، هذا الأجل قد يكون لمدّة، ثمّ يقع بهم العذاب، كما حدث في الأمم السّابقة الّتي أهلكها الله سبحانه وتعالى بالخسْف أو بالغرق.. إلخ، أمّا في أمّة محمّد عليه السّلام، فيكون الإملاء بأحداث سطحيّة في الدّنيا، كالّذي حَلَّ بكفّار قريش من الخِزْي والهوان والهزيمة وانكسار شوكتهم، أمّا العذاب الحقيقيّ فينتظرهم في الآخرة، لذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى لنبيّه عليه السّلام: لا تستبطئ عذابهم والانتقام منهم في الدّنيا، فما لم تَرَهُ فيهم من العذاب في الدّنيا ستراه في الآخرة: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ [غافر: من الآية 77].

﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾: وأخْذُ الشّيء يتناسب مع قوّة الآخذ وقدرته وعنف الانتقام بحسب المنتقم، فإذا كان الآخذ هو الله عزَّ وجلّ، فكيف سيكون أَخْذه؟ في آية أخرى يوضّح ذلك فيقول: ﴿أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر: من الآية 42]، لا يُغَالب، ولا يمتنع منه أحد، وكلمة الأَخْذ فيها معنى الشّدّة والعنف والقَهْر.

﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾: يعني: المرجع والمآب، فلن يستطيعوا أنْ يُفلِتوا.

الآية رقم (49) - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾: فالنّبيّ عليه السّلام مبعوث للنّاس كلّهم.

﴿إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾: الإنذار نوع من الرّحمة؛ لأنّك تخبر بشرٍّ قبل أوانه، ليحذره المنذَر، ويحاول أنْ يُنجي نفسه منه، ويبتعد عن أسبابه.

﴿مُبِينٌ﴾: محيط، لا يترك صغيرة ولا كبيرة.

الآية رقم (50) - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: طالما آمنوا وعملوا الصّالحات فقد انتفعوا بالنّذراة، وأثمرتْ فيهم، فآمنوا بالله عزَّ وجلّ إلهاً فاعلاً مختاراً له صفات الكمال المطلق، ثمّ عملوا على مقتضى أوامره؛ لذلك يكون لهم مغفرة إنْ كانت ألَمَّتْ نفوسهم بشيء من المعاصي، ويكون لهم رزق كريم، ولا بدّ من ربط الإيمان دوماً بالعمل الصّالح، فالعمل الصّالح هو ترجمان الإيمان، فلا نقول: نحن نؤمن بالله عزَّ وجلّ، ولا نترجم هذا الإيمان بعمل صالح للمجتمع وللنّاس جميعاً، يبدأ بالبرّ بالوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وبعد ذلك تتّسع الدّوائر لتشمل المجتمع والناس كلّهم، فالمؤمن الحقيقيّ بالله سبحانه وتعالى خيره لغيره.

﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾: فالله سبحانه وتعالى يغفر ذنوبهم.

﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾: والكريم هو الّذي يبذل، كأنّ الرّزق نفسه وصل إليهم بكرم وزيادة، كما أنّ الكريم هو الّذي تظلّ يده مبسوطة دائماً بالعطاء، فالرّزق نفسه كريم؛ لأنّه ممدود لا ينقطع، كما لو أخذنا كوب ماء من ماء جارٍ، فإنّه يحلُّ محلَّه غيره على الفور، وهكذا هو عطاء الكرم لمن رزقهم الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (51) - وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾: السّعي: عمل يذهب إلى غاية، فإنْ كان قطع مسافة نقول: سِرنْا من كذا إلى كذا، وإنْ كان في قضيّة علميّة فكريّة، فيعني: أنّ الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية، والسَّعْيُ لا يُحمد على إطلاقه، ولا يُذَمُّ على إطلاقه، فإنْ كان في خير فهو محمود ممدوح، كالسّعي الّذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾[الإسراء: من الآية 19]، وإنْ كان في شَرٍّ فهو قبيح مذموم، كالسّعي الّذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة]، أمّا السّعاية فعادة تأخذ جانب الشّرّ، وتعني: الوشاية والسّعي بين النّاس بالنّميمة، تقول: فلان سَعَّاء بين الخلق، يعني: بالشّرّ ينقله بين النّاس بقصْد الأذى، وهؤلاء إنْ عَلِموا الخير أخفَوْه، وإنْ علموا الشّرّ أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا؛ لذلك نقول عَمَّا ينتج من هذه السّعاية من الشّرّ بين النّاس: هذا آفة الآخِذ، يعني: الّذي سمع الشّرَّ ونقله وسعى به، وكان عليه أنْ يحبسه ويُخفِيَه، حتّى لا تنتشر هذه الرّذيلة بين الخَلْق.

﴿فِي آيَاتِنَا﴾: والآيات إمّا كونيّة، كالشّمس والقمر، وإمّا معجزات، وإمّا آيات الأحكام، وسَعَوْا فيها، يعني: قالوا فيها قوْلاً باطلاً غير الحقّ، كما يسعى الواشي بالباطل بين النّاس، فهؤلاء إنْ نظروا في آيات الكون قالوا: مَن صنع الطّبيعة، وإنْ شاهدوا معجزة على يد نبيٍّ قالوا: سحر وأساطير الأوّلين، وإنْ سمعوا آيات الأحكام تُتْلى قالوا: شعر، وهم بذلك كلّه يريدون أنْ يُفسِدوا على أهل الإيمان إيمانهم، ويصدُّوا عن سبيل الله عزَّ وجلّ.

﴿مُعَاجِزِينَ﴾: جمع لاسم الفاعل معاجز، مثل: مقاتل، وهي من عَاجَزَ غير عجز عن كذا، يعني: لم يقدر عليه، عَاجَزَ فلانٌ فلاناً يعني باراه أيُّهما يعجز قبل الآخر، فعاجزه مثل باراه ليثبتَ أنّه الأفضل، ومثل: سابقه ونافسه، فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة، وكلمة نافسه الأصل فيها من النّفَس الّذي نأخذه في الشّهيق، ونُخرِجه في الزّفير، والّذي به يتأكسد الدّم، وتستمرّ حركة الإنسان، فإن امتنع التّنفّس يموت؛ لأنّ الإنسان يصبر على الطّعام ويصبر على الماء، لكنّه لا يصبر على الهواء ولو لنفَس واحد.

فمعنى: ﴿سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾؛ أي: يظنّون أنّهم قادرون أن يُعجزونا، فحين نأتي إليهم بكلام بليغ مُعْجز يختلقون كلاماً فارغاً ليعجزونا به، فأنّى يكون لهم ذلك؟ وأنّى لهم أنْ يطعنوا بكلامهم على كلام الله عزَّ وجلّ؟ ثمّ يُبيّن جزاء هذا الفعل وهذه المكابرة:

﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾: فهذا حُكْم الله سبحانه وتعالى فيهم قضيّة واضحة من أقصر الطّرق، فمَنْ ذَا الّذي يُعجِز الله عزَّ وجلّ؟

الآية رقم (52) - وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

أثارت هذه الآية جَدلاً طويلاً بين العلماء، ودخل فيه كثير من الحشْو والإسرائيليّات، خاصّة حول معنى: ﴿تَمَنَّى﴾، وهي تَرد في اللّغة بمعنيين، وما دام اللّفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أَوْلَى من الآخر إلّا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربيّة، ويأتي التّمنّي في اللّغة بمعنى القراءة، أو بمعنى: أحبّ أن يكون الشّيء، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب، أمّا بمعنى: قرأ، فهو غير شائع، ويُردّ هذا القول، وينقضه نَقْضاً أوّلياً مبدئيّاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾، فالّذين فهموا التّمنّي في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أنّه بمعنى: قرأ، سواء أكانوا من العلماء المتعمِّقين أم السّطحيّين، قالوا: المعنى إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ الكريم تدخّل الشّيطان في القراءة، حتّى يُدخِل فيها ما ليس منها، وذكروا دليلاً على ذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النّجم]، ثمّ أضافوا: (والغرانيق العلا، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى)، وكأنّ الشّيطان أدخل في القرآن الكريم هذا الكلام، ثمّ نسخه الله عزَّ وجلّ بعد ذلك، وأحكم الله سبحانه وتعالى آياته، لكنّ هذا القول باطل وغير صحيح على الإطلاق؛ لأنّه يُشكِّك في قضيّة القرآن الكريم، وكيف نقول به بعد أن قال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشّعراء]، وقال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾[الحاقّة]، فالحقّ سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث، ولا يمكن أن يُدخَل في القرآن الكريم ما ليس فيه من كفريّات، وكيف تستقيم عبارتهم: (والغرانيق العلا، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى)؟ هذا قول المرجفين وقول الجهلة من كفّار مكّة، هذا لا ينسجم، فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم، ولا يمكن للشّيطان أنْ يُدخِل في القرآن الكريم ما ليس منه، لكن يحتمل تدخُّل الشّيطان على وجه آخر: فحين يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وفيه هداية للنّاس، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات، أننتظر من عدوّ الله أنْ يُخلِي الجوّ للنّاس حتّى يسمعوا هذا الكلام دون أنْ يُشوِّش عليهم، ويُبلبل أفكارهم، ويَحُول بينهم وبين سماعه؟ فإذا تمنّى الرّسول يعني: قرأ ألقى الشّيطان في أُمنيّته، وسلَّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن الكريم: سِحْر وشِعْر وإفْك وأساطير الأوّلين: فدَوْر الشّيطان لا أنْ يُدخِلَ في كلام الله سبحانه وتعالى ما ليس منه، فهذا أمر محال لا يقدر عليه، ولا يُمكِّنه الله عزَّ وجلّ من كتابه أبداً، إنّما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن الكريم وفَهْمه والتّأثّر به العقبات والعراقيل الّتي تصدُّ النّاس عن فَهْمه والتّأثّر به، وتُفسِد على النّاس نظرهم وتأمّلهم في القرآن الكريم، هذه المحاولة في التّشويش على القرآن الكريم وصَدّ النّاس عنه جاءت منذ نزل القرآن الكريم، ولكن هل صرفت النّاس عن القرآن الكريم؟ لا، لقد خيَّبَ الله سبحانه وتعالى سَعيْه، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن الكريم والتّأثّر به؛ لأنّ القرآن الكريم وجد قلوباً وآذاناً استمعتْ وتأمّلتْ فآمنت وانهارتْ لجلاله وعظمته وخضعتْ لأسلوبه وبلاغته، فآمنوا به واحداً بعد الآخر.

﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾: يعني: ألغى وأبطل ما ألقاه الشّيطان من الأباطيل والعقبات الّتي أراد بها صدّ النّاس عن القرآن الكريم، وأحكمَ الله سبحانه وتعالى آياته، وأوضح أنّها منه سبحانه وتعالى، وأنّه كلام الله عزَّ وجلّ المعْجز الّذي لو اجتمعتْ الإنس والجنُّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، هذا على قول مَنِ اعتبر أنّ ﴿تَمَنَّى﴾ بمعنى: قرأ.

أمّا على معنى أنّها الشّيء المحبوب الّذي نتمنّاه، فنقول: الرّسول الّذي أرسله الله سبحانه وتعالى بمنهج الحقّ إلى الخَلْق، فإنْ كان قادراً على تطبيق المنهج في نفسه فإنَّ أُمنيّته أنْ يُصدَّق وأنْ يُطاع فيما جاء به، أمنيّته أنْ يسود منهج الله عزَّ وجلّ ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في النّاس، والنّبيّ أو الرّسول هو أَوْلى النّاس بقومه، وهو أحرصهم على نَفْعهم وهدايتهم، والقرآن الكريم خير يحبّ للنّاس أن يأخذوا به عملاً بقوله عليه السّلام: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([1])، لكن هل يترك الشّيطان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تتحقّق أُمنيّته في قومه أَو أنّه يضع في طريقه العقبات، ويُحرِّك ضدّه النّفوس، فيتمرّد عليه كفّار قريش من قومه حيث يُذكِّرهم الشّيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام؟ وهكذا يُلْقي الشّيطان في أُمنية الرّسول: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾، وما كان الشّيطان ليدع القرآن الكريم ينفذ إلى قلوب النّاس أو حتّى آذانهم، أليس هو صاحب فكرة: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[فصّلت: من الآية 26]؟ إنّ الشّيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن الكريم ويُشكّك فيه لآمن به كلّ مَنْ سمعه؛ لأنّ للقرآن الكريم حلاوةً لا تُقَاوم، وأثراً ينفذ إلى القلوب مباشرة، ومع ذلك لم يَفُتّ ما ألقى الشّيطان في عَضُد القرآن الكريم، ولا في عَضُد الدّعوة إلى الله عزَّ وجلّ، فأخذت تزداد يوماً بعد يوم، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن الكريم المصدِّقين به، المهمّ أن نتنبّه: كيف نستقبل القرآن الكريم، وكيف نتلقّاه، لا بدّ أن نستقبله استقبالَ الخالي من هوى، فالّذي يفسد الأحكام أنْ تُستقبل وتدخل على هوى سابق. وفي آية أخرى يقول الحقّ سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصّلت: من الآية 44]، فالقرآن الكريم واحد، فالفاعل واحد، لكنّ المستقبِل للفعل مختلف.

﴿مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾: (من) هنا للدّلالة على العموم وشمول الأنبياء والرّسل السّابقين كلّهم، فكلّ نبيّ أو رسول يتمنّى؛ يعني: يودّ ويحبّ ويرغب أن ينتشر دينه ويُطبَّق منهجه، ويؤمن به قومه جميعهم، لكن هيهات أنْ يتركه الشّيطان وما أحبَّ، بل لا بُدَّ أنْ يقف له بطريق دعوته ليصدَّ النّاس عنه ويصرفهم عن دعوته ومنهجه، لكن في النّهاية ينصر الله سبحانه وتعالى رسُله وأنبياءه، وينسخ عقبات الشّيطان الّتي ألقاها في طريق الدّعوة، ثمّ يُحكِم الله سبحانه وتعالى آياته، ويؤكّدها ويظهرها، فتصير مُحْكَمة لا ينكرها أحد.

وساعةَ نسمع كلمة: ﴿أَلْقَى﴾ فلنعلم أنّ بعدها عقبات وشروراً، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[المائدة: من الآية 64].

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: عليم بكيد الشّيطان، وتدبيره، حكيم في علاج هذا الكيد.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، بابٌ: مِنَ الإيمان أن يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفْسِهِ، الحديث رقم (13).

الآية رقم (53) - لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

ولسائل أن يقول: إذا كان الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يُلقي الشّيطان، فلماذا كان الإلقاءُ بدايةً؟ جعل الله سبحانه وتعالى الإلقاء فتنةً ليختبر النّاس، وليُميِّز مَنْ ينهض بأعباء الرّسالة، فهي مسؤوليّة لا يقوم بها إلّا مَنْ يُنقَذ من الفتن، وينجو من إغراءات الشّيطان، ويتخطّى عقباته وعراقيله.

﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾: مرض؛ أي: نفاق، فإنْ تعرَّض لفتنة انقلب على وجهه، يقول كما يقولون: سحر وكذب وأساطير الأوّلين، وكذلك فتنة:

﴿وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾: وهم الّذين فقدوا لين القلب، فلم ينظروا إلى الجميل عليهم في الكون خَلْقاً وإيجاداً وإمداداً، ولم يعترفوا بفضل الله سبحانه وتعالى عليهم، ولم يستبشروا به ويأتوا إليه.

﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾: فهم ظالمون أوّلاً لأنفسهم حين نظروا إلى منفعة عاجلة قليلة، وتركوا منفعة كبيرة دائمة.

الشِّقاق: الخلاف، ومنه قولنا: هذا في شِقٍّ، وهذا في شِقٍّ، يعني: غير ملتئمين، وليْته شِقَاق هَيِّن يكون له اجتماع والتئام، ليته كشِقَاق الدّنيا بين النّاس على عَرَضٍ من أعراض الحياة، إنّما هم في شقاق بعيد، يعني: أثره دائم.

الآية رقم (42) - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ

﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾: الخطاب للنّبيّ عليه السّلام، فإن يكذّبوك في دعوتك ويقفون في سبيلها ليبطلوها، فاعلم أنّك لست في ذلك بِدْعاً من الرّسل، فقد كُذِّب كثير من الرّسل قبلك، ومسألة التّكذيب منفصلة عن العاقبة، كذّب القوم لكن كيف كانت العاقبة؟ أتركناهم أم أخذناهم أَخْذ عزيز مقتدر؟ فلا تحزن، فسوف يحلُّ بهم ما حَلَّ بسابقيهم من المكذِّبين والمعاندين، وقلنا: إنّ الرّسول عليه السّلام يتحمّل من مشقّة الرّسالة وعناء الدّعوة على قَدْر رسالته، فكلُّ رسل الله عزَّ وجلّ قبل محمّد عليه السّلام كانوا يُرْسَلون كلٌّ إلى قومه خاصّة، وفي مدّة محدودة، وزمان محدود، ومع ذلك تعبوا كثيراً في سبيل دعوتهم، فما بالنا برسولٍ بُعِثَ إلى النّاس كافّة في كلّ زمان ومكان، لا شَكَّ أنّه سيتحمّل من التّعب والعناء أضعاف ما تحمَّله إخوانه من الرّسل السّابقين، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُعدّ رسوله عليه السّلام ويُوطِّنه على تحمُّل المشاقِّ من بداية الطّريق حتّى لا تفتّ في عَضُده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدّعوة، فبدأ بذكر قوم نوح وعاد وثمود.

الآية رقم (43-44) - وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ

﴿وَكُذِّبَ مُوسَى﴾: نلحظ هنا أنّ الحقّ سبحانه وتعالى ذكر المكذّبين، إلّا في قصّة موسى عليه السّلام فذكر المكذَّب، فلم يَقُل: وقوم موسى، بل قال: وكُذِّب موسى، لماذا؟ قالوا: لأنّ مهمّته كانت الأصعب، حيث تعرَّض في دعوته إلى ما لم يتعرّض له أحد من شعب بني إسرائيل.

﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾: أمليت: أمهلْتُ حتّى ظنّوه إهمالاً، وهو إمهال بأنْ يمدّ الله سبحانه وتعالى لهم، ويطيل في مدّتهم، لا إكراماً لهم، ولكن ليأخذهم بعد هذا أخْذ عزيز مقتدر، وفي آية أخرى يُوضِّح لنا هذه البرقيّة المختصرة، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران: من الآية 178]، وفي هذا المعنى يقول أيضاً: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التّوبة]، فلا تغترّ بما في أيديهم؛ لأنّه فتنة، حتّى إذا أخذهم الله سبحانه وتعالى كانت حسرتهم أكبر.

﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يُلقِي الخبر في صورة استفهام لتقول أنت ما حدث وتشهد به، والمراد: أعاقبناهم بما يستحقّون؟

والنّكير: هو الإنكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة، كالّذي يُكرمك ويُواسيك ويُغدق عليك، ثمّ يقطع عنك هذا كلّه، فتقول: لماذا تنكَّر لي فلان؟ يعني: قطع عنّي نعمته، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُريد أن ينتزع مِنَّا الإقرار بقدرته جلَّ جلاله على عقاب أعدائه ومُكذِّبي رسله، وهذا المعنى جاء أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾[المطفّفين]، يعني: هل جُوزي الكفّار بما عملوا؟ وهل عاقبناهم بما يستحقّون؟

﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾: أي: إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النّعمة فبدَّلها الله سبحانه وتعالى عليهم نقمة.

الآية رقم (45) - فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ

﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾: (كأيِّن): أداة تدلّ على الكَثْرة، مثل: كم الخبريّة حين تقول: كَمْ أحسنتُ إليك، تعني مرّات عديدة تفوق الحصر، فهي تدلّ على المبالغة في العدد والكمّيّة، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران: من الآية 146].

والقرية: اسم للمكان، وحين يُهلِك الله سبحانه وتعالى القرية لا يُهلك المكان، إنّما يهلك المكين فيه، فالمراد بالقرية أهلها، كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾[يوسف: من الآية 82]؛ أي: اسأل أهل القرية.

﴿أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾: أي: بسبب ظُلْمها، ولا يُغيِّر الله سبحانه وتعالى ما بقوم حتّى يُغيِّروا ما بأنفسهم، وفي آية أخرى يقول جلَّ جلاله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[النّحل]، فهلاك البلاد والقُرَى لا بُدَّ أن يكون له سبب، فلمّا وقع عليها الهلاك أصبحت:

﴿خَاوِيَةٌ﴾: الشّيء الخاوي، يعني: الّذي سقط وتهدَّم على غيره.

﴿عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾: يدلّ على عِظَم ما حَلَّ بها من هلاك، حيث سقط السّقف أوّلاً، ثمّ انهارت الجدران، أو: أنّ الله سبحانه وتعالى قَلَبها رأساً على عَقِب، وجعل عاليها سافلها.

﴿وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾: البئر: هو الفجوة العميقة في الأرض، بحيث تصل إلى مستوى الماء الجوفيّ، ومنه يُخرجون الماء للشُّرْب والزّراعة.. إلخ، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾[القصص: من الآية 23]؛ أي: البئر الّذي يشربون منه، والبئر حين تكون عاملة ومُسْتفاداً منها نلحظ حولها مظاهر حياة، حيث ينتشر النّاس حولها، وينمو النّبات على بقايا المياه المستخرجة منها، ويحوم حولها الطّير ليرتوي منها، أمّا البئر المعطّلة غير المستعملة فتجدها خَرِبة ليس بها علامات حياة، وربّما تسفو عليها الرّياح، وتطمسها فتُعطَّل وتُهجَر، فالمراد معطّلة عن أداء مهمّتها، ومهمّة البئر السُّقيا.

﴿وَقَصْرٍ﴾: القصر: اسم للمأوى الفَخْم؛ لأنّ المأوى قد يكون خيمة، أو فسطاطاً، أو عريشة، أو بيتاً، أو عمارة، أمّا القصر فيعني مكان السّكن الّذي تتوفّر بداخله مُقوِّمات الحياة كلّها.

﴿مَشِيدٍ﴾: من الشّيد، وهي مادّة للصق الحجارة، وجَعْلها على مستوى واحد، وقديماً كان البناء بالطّوب اللَّبن، أمّا في القصور والمساكن الفخمة الرّاقية فالبناء بالحجر، والمشيد أيضاً العالي المرتفع، ومنه قولهم: أشاد به، يعني: رفعه وأعْلى من مكانته، والارتفاع من مَيّزات القصور، وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾: دليل على أنّ هؤلاء المهلْكين كانوا من أصحاب الغِنَى والنّعيم، ومن سكّان القصور ومِنْ عِلْيَة القوم.

الآية رقم (46) - أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾: السَّيْر: قَطْع مسافات من مكان إلى آخر، ويسمّونه السّياحة، والحقّ سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى السّياحة في أنحاء الأرض؛ لأنّ للسّياحة فائدتين: فإمّا أنْ تكون سياحة استثماريّة لاستنباط الرّزق إنْ كان الإنسان في مكان يضيق به العيش فيه، كهؤلاء الّذين يسافرون للبلاد الأخرى للعمل وطلب الرّزق، وإمّا أن تكون سياحة لأَخْذ العبرة والتّأمّل في مخلوقات الله عزَّ وجلّ في مُلْكه الواسع ليستدلّ بخَلْق الله سبحانه وتعالى وآياته على قدرته جلَّ جلاله، فالسّير في الأرض هو عبارة عن نظر في الأرض، وفي آيات الله عزَّ وجلّ، في اختلاف الأماكن، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ [النّمل: من الآية 69]، العطف هنا بالفاء الّتي تفيد التّرتيب، يعني: سيروا في الأرض لتنظروا آيات الله عزَّ وجلّ، فهي خاصّة بالاعتبار والتّأمّل، لا سياحة الاستثمار وطلب الرّزق، فكلّما تعدّدتْ الأماكن تعدّدت الآيات والعجائب الدّالّة على قدرة الله سبحانه وتعالى.

﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾: لقد ساروا ورحلوا في البلاد، فكيف لا يعقلون آيات الله سبحانه وتعالى؟ وكيف لا تُحرِّك قلوبهم؟ ولنا وقفة عند قوله سبحانه وتعالى﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾، وهل يعقِل الإنسانُ بقلبه؟ معلوم أنّ العقل في المخّ، والقلب في الصّدر، نعم، للإنسان وسائل إدراك هي الحواسّ الّتي تلتقط المحسَّات، يُسمُّونها تأدُّباً مع العلم: الحواسّ الخمس الظّاهرة؛ لأنّ العلم أثبت للإنسان في وظائف الأعضاء حواسّاً أخرى غير ظاهرة، فحين تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميِّز أيّهما أثقل من الآخر، فبأيِّ حاسّة من الحواسّ الخمس المعروفة توصّلْتَ إلى هذه النّتيجة؟ إنْ قُلْتَ: بالعين، فدعْها على الأرض وانظر إليها، وإنْ قُلْتَ: باللّمس، فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها من مكانها، فأنت لا تدرك الثّقل بهذه الحواسّ، إنّما بشيء آخر، وبآلة إدراك أخرى هي حاسّة العَضَلِ الّذي يُميِّز لك الخفيف من الثّقيل، وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك، فتستطيع أنْ تُميِّز الغليظ من الرّقيق، مع أنّ الفارق بينهما لا يكاد يُذْكَر، فبأيِّ حاسّة أدركْتَه؟ إنّها حاسّة البَيْن، كذلك هناك حاسّة البُعْد وغيرها من الحواسّ الّتي يكتشفها العلم الحديث في الإنسان، فعندما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخَّل العقل ليغربل هذه المدركات، ويختار من البدائل ما يناسبه، فإنْ كان سيختار ثوباً، يقول: هذا أنعم وأرقّ من هذا، وإنْ كان سيختار رائحة، يقول: هذه ألطف من هذه، وإنْ كان في الصّيف اختار الخفيف، وإنْ كان في الشّتاء اختار السّميك، وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضيّة تستقرّ في الذِّهْن وتقتنع بها، ولا تحتاج إلى إدراك بعد ذلك، ولا لاختيار بين البدائل، وعندها تنفّذ ما استقرّ في نفسك، وارتحْتَ إليه بقلبك، فإدراك بالحواسّ وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب، وما دام استقرّ المبدأ في قلبك فقد أصبح دستوراً لحياتك، وجوارحك كلّها تخدم هذا المبدأ الّذي انتهيتَ إليه، واستقرّ في قلبك ووجدانك، لكن لماذا القلب بالذّات؟ قالوا: لأنّ القلب هو الّذي يقوم بعمليّة ضَخِّ سائل الحياة، وهو الدّم في جميع أجزاء الجسم وجوارحه، وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقرّ في الوجدان؛ لذلك قالوا: الإيمان محلّه القلب، كيف؟ قالوا: لأنّك غربلْتَ المسائل وصفَّيْت القضايا في العقل إلى أن استقرّت العقيدة والإيمان في القلب، والإيمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرَّ فيه، ومن القلب تمتدّ العقيدة إلى جميع الأعضاء والحواسّ الّتي تقوم بالعمل بمقتضى هذا الإيمان، وما دُمْتَ قد انتهيتَ إلى مبدأ وعقيدة، فإيّاك أنْ تخالفه إلى غيره، وإلّا فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه.

﴿يَعْقِلُونَ بِهَا﴾: تدلّ على أنّ للعقل مهامّاً أخرى غير أنّه يختار ويفاضل بين البدائل، فالعقل من مهامّه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ، ويعقله أنْ يشرد في المتاهات، فالعقل من عِقَال النّاقة الّذي يمنعها ويحجزها أنْ تشرُدَ منك.

﴿أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾: كيف ولهؤلاء القوم آذان تسمع؟ نعم، لهم آذان تسمع، لكن سماع لا فائدة منه، فكأنّ الحاسَّة غير موجودة، وإلّا ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم تستفد به، ولم تُوظِّفه في حركة حياتك، إنّه سماع كعدمه، بل إنّ عدمه أفضل منه؛ لأنّ سماعك يُقيم عليك الحجّة.

﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾: فعمى الأبصار شيء هيِّن إذا ما قِيسَ بعمى القلوب؛ لأنّ الإنسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع، وأنْ يُعمل عقله، وأنْ يهتدي، ومَا لا يراه يمكن أنْ يخبره به غيره، ويَصِفه له وَصْفاً دقيقاً وكأنّه يراه، لكن ما العمل إذا عَميَتْ القلوب، والأنظار مبصرة؟ وإذا كان لعمى الأبصار بديل وعِوَض، فما البديل إذا عَمي القلب؟

﴿الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾: معلومٌ أنّ القلوب في الصّدور، فلماذا جاء التّعبير هكذا؟ قالوا: ليؤكّد لنا على أنّ المراد القلب الحقيقيّ، حتّى لا نظنّ أنّه القلب التّفكيريّ التّعقّليّ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ [آل عمران: من الآية 167]، ومعلوم أنّ القَوْل من الأفواه، لكنّه أراد أن يؤكّد على القول والكلام؛ لأنّ القول قد يكون بالإشارة والدّلالة، فالقول بالكلام هو أبلغ أنواع القول.

الآية رقم (47) - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ

﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾: ألم يقولوا في استعجال العذاب: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: من الآية 32]؟ وقالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأعراف: من الآية 70]، ولا يستعجل الإنسانُ العذابَ إلّا إذا كان غَيْرَ مؤمن به، المؤمن بالعذاب -حقيقةً- يخاف منه، ولا يريد أنْ يراه، ويريد أنْ ينجوَ منه.

والمعنى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾: أنّهم يظنّون أنَّه إنْ توعّدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب فإنّه سيقع لِتَوِّه، لذلك الحقّ جلَّ جلاله يصحّح لهم هذا الفهم، فيقول:

﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾: فلا تتعجّلوا توعّدكم به، فهو واقع بكم لا محالة؛ لأنّه وَعْد من الله عزَّ وجلّ، والله سبحانه وتعالى لا يُخلِف وعده، لكن اعلموا أنّ اليوم عند الله سبحانه وتعالى ليس كيومكم، اليوم عندكم أربع وعشرون ساعة، أمّا عند الله سبحانه وتعالى فهو كألف سنة من حسابكم أنتم للأيّام، واليوم زمن يتّسع لبعض الأحداث، ولا يسع أكثر ممّا قدِّر أن يُفعل فيه من الأحداث، أمّا اليوم عند الله عزَّ وجلّ فيسع أحداثاً كثيرة تملأ من الزّمن ألف سنة من أيّامكم؛ ذلك لأنّكم تزاولون الأعمال وتعالجونها، أمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه لا يزاول الأفعال بعلاج، وإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُنْ فيكون، ففِعْلُنا يحتاج إلى وقت، أمّا فِعْل ربّنا فبكلمة: كُنْ، وقد شاء الحقّ سبحانه وتعالى أنْ يعيشَ هؤلاء في عذاب التّفكير في هذا الوعيد طول عمرهم، فيُعذّبون به قبل حدوثه، فلا تظنّ أنّ العذاب الّذي توعّدكم به سيحدث اليوم أو غداً، لا؛ لأنّ حساب الوقت مختلف، ألم تقرأ قول الله عزَّ وجلّ لنبيّه موسى عليه السّلام لـمَّا دعا على قومه: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: من الآية 88]، قال له ربّه: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾[يونس: من الآية 89]، ويقول المفسّرون: حدثتْ هذه الإجابة لموسى عليه السّلام بعد أربعين سنة من دعوته عليهم، وفي موضع آخر يقول جلَّ جلاله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾[السّجدة]، وتزيد هذه المدّة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج]، لماذا؟ لأنّ الزّمن عندكم في هذه الحالة مُعطَّل، فأنتم من هَوْل ما تروْنَ تستطيلون القصير، ويمرّ عليكم الوقت ثقيلاً؛ لذلك تتمنّون الانصراف ولو إلى النّار.

الآية رقم (39) - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ

هذه الآية هي أوّل أذن بالقتال، ونقول لأولئك الّذين يتّهمون الإسلام بالإرهاب والعنف بأنّه لم يؤذن بالقتال إلّا بعد أن وقع الظّلم والاعتداء على المسلمين لفترة طويلة، ودفاع الحقّ سبحانه وتعالى عن الحقّ يأخذ صوراً متعدّدة، فأوّل هذا الدّفاع: أنْ أَذِن لهم بعد طول انتظار أنْ يقاتلوا ويردّوا العدوان، فأمرهم بإعداد القوّة للقتال، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: من الآية 60]، والمراد أنْ يأخذوا بأسباب النّصر على عدوّهم، وأن يستنفدوا كلّ ما لديهم من وسائل لدفع العدوان، فإنِ استنفدوا وسائلهم، يتدخَّل الله سبحانه وتعالى بجنودٍ من عنده لا يرونها، فليس معنى أنّ الله سبحانه وتعالى يدافع عن الّذين آمنوا أن تدخُلَ السّماء لحمايتهم وهم جالسون في بيوتهم، لا، إنّما يأخذون بأسباب القوّة ويسعَوْنَ ويبادرون هم أوّلاً لردّ الاعتداء، وبعد ذلك يؤذن بالنّصر.

﴿أُذِنَ﴾: معناها أنّهم كانوا ينتظرون الأمر بالقتال، لكن لم يُؤذَن لهم في ذلك، فلمّا أراد الله سبحانه وتعالى لهم أنْ يقاتلوا ويردّوا العدوان أَذن لهم فيه، فقال جلَّ جلاله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، وعِلّة القتال أنّهم ظُلِموا، لذلك أمرهم ربّهم سبحانه وتعالى أنْ يقاتلوا، لا أن يعتدوا، فلم تكن غزوة للمسلمين إلّا وكانت دفاعاً عن الأرض والعرض والدّين والمعتقد والمنازل والأموال، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: الآية 190 – ومن الآية 191]، هذه هي العلّة، فأمرهم أوّلاً بالصّبر في المرحلة الأولى، بعد ذلك أنْ يقاتلوا لِردِّ العدوان، وللدّفاع عن أنفسِهم دون أنْ يعتدوا، وفي المرحلة التّالية سيقول لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التّوبة].

﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾: بأسباب يُمكِّنهم منها، أو بغير أسباب فتأتيهم قوّة خفيّة لا يروْنها، وقد رأوا نماذج من ذلك فعلاً.

الآية رقم (40) - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾: فلو أنّهم أُخْرِجوا بحقٍّ، لفعلهم شيئاً يستدعي إخراجهم من ديارهم، كأنْ خدشوا الحياء، أو هدّدوا الأمْن، أو أجرموا، أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقٍّ، إنّما الواقع أنّهم ما فعلوا شيئاً، وليس لهم ذَنْب: ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، هذه المقولة عدّها المشركون جريمة تستحقّ أنْ يخرجوهم بها من ديارهم، كما قال سبحانه وتعالى في أهل الأخدود: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾[البروج]، وفي آية أخرى: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾[المائدة: من الآية 59]، وفي قصّة لوط عليه السّلام: ﴿قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النّمل: من الآية 56]، فهم أخرجوهم، لا لأنّهم أهل نجاسة ومعصية، إنّما لأنّهم أناسٌ يتطهَّرون، فالطّهارة والعفّة جريمتهم الّتي يُخْرَجُون من أجلها!! كما تقول: لا عيْبَ في فلان إلّا أنّه كريم، فهذه صفة تُمدَح لا تُذَمّ، لقد قلب هؤلاء الموازين، وخالفوا الطّبيعة السّويّة بهذه الأحكام الفاسدة الّتي تدلّ على فساد الطّباع، وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير، فكرهوا ما يجب أنْ يُحبّ، وأحبّوا ما يجب أن يُكره؟ ولا أدلَّ على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر، وترْكهِم عبادة خالق السّموات والأرض.

﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾: وفي آية أخرى يُبيِّن الحقّ سبحانه وتعالى نتيجة انعدام هذا التّدافع: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾[البقرة: من الآية 251]، والفساد إنْ حدث بين النّاس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوَّض ويُتدارك، أمّا إنْ تعدّى الفساد إلى مُقوِّمات اليقين الإيمانيّ في الأرض فَكرِه النّاس ما يربطهم بالسّماء، وهدموا أماكن العبادة، فهذه الطّامّة والفساد الّذي لا صلاحَ بعده، فكأنّ الآيتين تصوّران نوعاً من الإيغال في الفساد، والغلوّ في الجرائم.

ولكن كيف تفسد الأرض حين ينعدم التّدافع؟ هَبْ أنّ ظالماً مُسْتبدّاً يمتصّ خيرات جيرانه ودماءهم دون أنْ يردَّه أحد، لا شكَّ أنّ هذا سيُحدث في المجتمع تهاوناً وفوضى، ولن يجتهد أحد فوق طاقته، ولمن سيعمل وخيره لغيره؟ فهذا بداية الفساد في الأرض، فإنْ قُلْنا: هذا فساد بين النّاس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد، فما بالنا إن امتدَّ الفساد إلى أماكن الطّاعات والعبادات، وقطع بين النّاس الرّباط الّذي يربطهم بالسّماء؟ إنْ كان الفساد الأوّل قابلاً للإصلاح، ففساد الدّين لا يصلح؛ لأنّه قد خُرِّبَت الموازين الّتي كانت تُنظِّم حركة الحياة، فأصبح المجتمع بلا ميزان وبلا ضوابط يرجع إليها، والضّوابط الأخلاقيّة مرتبطة بالدّين، فلا يمكن أن نقول: نضع أخلاقاً ولا علاقة للدّين بالموضوع؛ لأنّ القيم الأخلاقيّة الموضوعة بعيداً عن الدّين تسقط مباشرة في أوّل محطّة، فالآداب العامّة والسّلوكيّات والأخلاقيّات في المجتمعات الغربيّة عندما يهتزّ الوضع القائم، ويتحوّل الإنسان من الرّفاه ومن حالة الرّكون إلى حالة الفقر والضّعف يدوس عليها وعلى كلّ شيء، ولا تبقى موازين ولا ضوابط؛ لأنّ هذه الأخلاق لا ترتبط بالآخرة، ولا ترتبط بحساب وعقاب، ولا ترتبط برقابة، رقابة الضّمير بأن يشعر الإنسان أنّ الله سبحانه وتعالى يراه، وأنّه مراقب، ويشعر بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار]، يشعر بهذه الرّقابة الإلهيّة؛ لأنّ هناك فساداً وأموراً لا يمكن أن يطالها القانون الوضعيّ، من الحقد والكراهية والحسد.. إلخ.

﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾: جاءت قضيّة عامّة للنّاس كلّهم، فلم يخصّ مجموعة دون أخرى، فلم يَقُلْ مثلاً: (لولا دَفْع الله الكافرين بالمؤمنين)، إنّما قال: مُطلْق النّاس؛ لأنّها قضيّة عامّة يستوي فيها الجميع في المجتمعات كلّها، كذلك جاءت كلمة: (بعض) عامّة؛ لتدلّ على أنّ كِلَا الطّرفين صالح أن يكون مدفوعاً مرّة، ومدفوعاً عنه أخرى، فَهُمْ لبعض بالمرصاد: مَنْ أفسد يتصدّى له الآخر لِيُوقِفه عند حَدِّه، فليس المراد أنّ مجموعة تدفع مجموعة على طول الخطّ، ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزّخرف: من الآية 32]، دون أنْ يُحدِّد أيّهما مرفوع، وأيّهما مرفوع عليه؛ لأنّ كلّاً منهما مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر؛ ذلك لأنّ العباد كلّهم عيال الله سبحانه وتعالى، لا يُحابي منهم أحداً على أحد، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالمؤمنين أنْ يكيد الظّالمين بالظّالمين بألوانهم وفنونهم كلّها، ويؤدِّب الظّالم بمَنْ هو أشدّ منه ظُلماً؛ ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة، لا يدخلون طَرَفاً فيها؛ لأنّ الأخيار لا يصمدون أمام هذه العمليّات؛ لأنّهم قوم رِقَاق القلوب، لا تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في الانتقام، فلنقرأ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام]، وهكذا يُوفِّر الله سبحانه وتعالى أهل الخير، ويحْقِن دماءهم، ويُريح أولياءه من مثل هذه الصّراعات الباطلة. فكيف دخل النّبيّ عليه السّلام مكّة بعد أنْ أخرجه قومه منها، وبعد أنْ فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل؟ كيف دخلها وهو القائد المنتصر الّذي تمكَّن من رقاب أعدائه؟ دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مُطأطىء الرّأس، حتّى لتكاد رأسه تلمس قربوس السّرج الّذي يجلس عليه، تواضعاً منه عليه السّلام، ومع ذلك قال أبو سفيان لـمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، قال للعبّاس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً، وبعد أن تمكَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفّار مكّة، وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم، قال: «مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟»، قَالُوا: خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»([1])، فأيُّ رحمة هذه؟ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: من الآية 159]، وأيُّ لين هذا الّذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلوب المؤمنين؟ وهل مِثْل هذا الدّين يُعارَض ويُنْصَرف عنه؟ فالحقّ سبحانه وتعالى يُسلِّط الأشرار بعضهم على بعض، وهذه آية نراها في الظّالمين في كلّ زمان ومكان.

﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ﴾: صوامع: جمع صومعة، وهي مكان خاصٌّ للعبادة عند النّصارى، وعندهم مُتعبَّد عامّ يدخله الجميع هو الكنائس، أمّا الصَّومعة فهي مكان خاصّ لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة، ولا تكون الصَّوْمعة في حضر، إنّما تكون في الجبال والأودية، بعيداً عن العمران ينقطع فيها الرّاهب عن حركة حياة النّاس، وهي الّتي تُسمّى الأديرة.

﴿وَبِيَعٌ﴾: البِيَع: هي الكنائس.

وقد أباح الإسلام التّرهُّب والانقطاع للعبادة، لكن شريطة أن تكون في جَلْوة، يعني: بين النّاس، لا تعتزل حركة الحياة.

﴿وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾: وهذه لليهود يُسمُّون مكان التّعبّد: صَالوتاً، لكن لماذا لم يرتّبها القرآن الكريم ترتيباً زمنيّاً، فيقول: لهدّمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا: لأنّ القرآن الكريم يُؤرِّخ للقريب منه فالأبعد.

﴿وَمَسَاجِدُ﴾: وهذه للمسلمين، وما دام الحقّ سبحانه وتعالى ذكر المساجد بعد الفعل: ﴿لَهُدِّمَتْ﴾ فهذا دليل على أنّه لا بُدَّ أن يكون للمسلمين مكان يُحيَّز للعبادة، وإنْ جُعِلَتْ الأرض كلّها لهم مسجداً وطَهُوراً، ومعنى ذلك أنْ تصلّي في أيِّ بقعة من الأرض، وإنْ عُدِم الماء تتطهّر بترابها، وبذلك تكون الأرض مَحَلّاً للعبادة ومَحَلّاً لحركة الحياة وللعمل والسَّعْي، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك، وفي مزرعتك، وفي حقلك، وفي وظيفتك مثلاً وتُصلِّي، لكنّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نُخصِّص بعض أرضه ليكون بيتاً له تنقطع منه حركة الحياة كلّها، ويُوقَف فقط لأمور العبادة، وهذه هي المساجد؛ لذلك قال عليه السّلام: «مَنْ بَنَى مَسْجِداً لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الـجَنَّةِ»([2])، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ تدلّ على مكان خاصّ للعبادة، وإلَّا لو اعتُبرَتْ الأرضُ كلّها مسجداً، فإنّها لا تُهدَم، فالمساجد هي الأماكن الّتي تُزاوَل فيها الصّلاة، الّتي تتّخذ حيّزاً في المسجديّة، وبيت الله الحرام هو البيت الأوّل الّذي جُعل قبلة لبيوت الله سبحانه وتعالى كلّها في الأرض.

﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾: المساجد هي لذكر الله عزَّ وجلّ، من صلاة وقراءة قرآن كريم.. إلخ؛ لأنّ ذكر الله عزَّ وجلّ في المساجد دائم لا ينقطع، ونحن لا نتحدّث عن مسجد، ولا عن مساجد بلد من البلدان، إنّما المراد مساجد الدّنيا كلّها من أقصى الشّرق إلى أقصى الغرب، ومن الشّمال إلى الجنوب، ولو نظرنا إلى أوقات الصّلوات لرأينا أنّها مرتبطة بحركة الفلك وبالشّمس في الشّروق، وفي الزّوال، وفي الغروب، وباعتبار فارق التّوقيت في بلاد الله سبحانه وتعالى كلّها تجد أنّ ذِكْر الله عزَّ وجلّ دائمٌ لا ينقطع أبداً في ليلٍ أو نهار، فأنت تُؤذِّن للصّلاة، وغيرُك يُقيم، وغيركما يُصلّي، أنت تصلّي الظّهر، وغيرك ببلد آخر يصلّي الصّبح أو العصر، بل أنت في الرّكعة الأولى من الصّبح، وغيرك في الرّكعة الثّانية، أنت تركع وغيرك يسجد، فهي منظومة عباديّة دائمة في كلّ وقت، ودائرة في كلّ مكان من الأرض، فلا ينفكّ الكون ذاكراً لله جلَّ جلاله، أليس هذا ذِكْراً كثيراً؟ فكلمة: (الله أكبرُ) دائرة على ألسنة الخلق لا تنتهي أبداً، يُرفَع الأذان هنا، ويُرفَع هناك بعد دقيقة.. وهكذا، ثمّ لـمّا كان دَفْع الله سبحانه وتعالى النّاسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة بين الحقّ والباطل جاءت نهاية الآية:

﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾: فإنْ كان التّدافع بين المشركين فإنّه لا ينتهي، وإنْ كان بين حقٍّ لله سبحانه وتعالى وباطل حكم الله عزَّ وجلّ بأنّه باطل لا بُدَّ أن تنتهي بنُصْرة الحقّ، وغالباً لا تطول هذه المعركة؛ لأنّ الحقّ دائماً في حصانة الله جلَّ جلاله.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾: يختم الله سبحانه وتعالى بأنه قادر على كل شيء، عزيز: يعني لا يُغلب، والعزيز أيضاً هو المستغني عن خلقه وعن غيره، فالله سبحانه وتعالى قويّ عزيز يُعطي النّصر لمن يشاء، ويشفي صدور قوم مؤمنين.

([1]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جماع أبواب السّير، باب فتح مكّة حرسها الله تعالى، الحديث رقم (18275).

([2]) سنن ابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات، باب من بنى للَّه مسجداً، الحديث رقم (738).

الآية رقم (41) - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ

﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾: جعلنا لهم قوّة وغَلَبة، فلا يَجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أنْ يعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى ما مكَّنهم ونصرهم لذاتهم، وإنّما لصلاحهم، ولينقّوا الإنسانيّة في الأرض من كُلِّ ما يُضعِف صلاحها أو يفسده، فسيّدنا سليمان عليه السّلام كان يركب بساط الرّيح يحمله حيث أراد، فداخَله شيء من الزّهو -كما جاء في بعض الرّوايات-، فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه، ثمّ سمع من البساط مَنْ يقول له: أُمِرْنا أن نُطيعك ما أطعتَ الله سبحانه وتعالى، والممكَّن في الأرض الّذي أعطاه الله عزَّ وجلّ القوّة، يستطيع أنْ يفرض ما يشاء إنْ مكّنه الله سبحانه وتعالى لكن بالحقّ، وإن فرضه بباطل يتخلّى الله سبحانه وتعالى عنه.

﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: ليكونوا دائماً على ذكْر وولاء من ربّهم الّذي وهبهم هذا التّمكين؛ ذلك لأنّهم يتردّدون عليه سبحانه وتعالى خَمْس مرّات في اليوم واللّيلة.

﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: هذه أسس الصّلاح في المجتمع والميزان الّذي يسعد به الجميع، الــزكاة والعطاء، المعونة والمساعدة، ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[التّوبة: من الآية 103]، وقال عليه السّلام: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ»([1])، فهذا صلاح المجتمع، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليس كما يصوّره بعضهم، وإنّما هو أن يمنع الإنسان انتشار الجريمة والشّرّ والبغضاء والفساد في القيم الأخلاقيّة.

﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾: يعني: النّهاية إلينا، وآخر المطاف عندنا، فمَن التزم هذه التّوجيهات وأدَّى دوره المنُوط في مجتمعه، فبها ونِعْمَتْ، ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة.

([1]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب الألف، أنس بن مالك الأنصاريّ، الحديث رقم (751).

الآية رقم (31) - حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ

﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾: اكتفتْ الآية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الإجمال، وهما: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾، ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾.

﴿حُنَفَاءَ﴾: جمع حنيف، مأخوذة من حنيف الرِّجل، يعني: تقوُّسها وعدم استقامتها، فيقال: فيه حَنَف؛ أي: ميْل عن الاستقامة، وليس الوصف هنا بأنّهم مُعْوجّون، إنّما المراد أنّ الاعوجاج عن الاعوجاج استقامة، لذلك وُصِف إبراهيم عليه السّلام بأنّه: ﴿كَانَ حَنِيفًا﴾[آل عمران: من الآية 67]، يعني: مائلاً عن عبادة الأصنام، وهذه الصّفة هي مقياس الاستقامة على أوامر الله عزَّ وجلّ لا على أوامر البشر، فنحن لا نضع لأنفسنا أسبابَ الكمال، ثمّ نقول: ينبغي أن يكون كذا وكذا، لا، إنّما الّذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو الخالق.

﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾: وهي الصّفة الثّانية الّتي وصف الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين، فالشّرك أمر عظيم؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى أغنى الشّركاء عن الشّرك، فكيف تلجأ إلى غير الله سبحانه وتعالى والله موجود؟ لذلك يقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسيّ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»([1])، ويعطينا الحقّ سبحانه وتعالى بعدها صورة توضيحيّة لعاقبة الشّرك:

﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾: خرَّ: يعني سقط من السّماء لا يُمسكه شيء، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾[النّحل: من الآية 26]، وفي الإنسان جماديّة؛ لأنّ قانون الجاذبيّة يتحكّم فيه، فإنْ صعد إلى أعلى لا بُدَّ أنْ يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبيّة، لا يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلَّقاً في الهواء، فهذا أمر لا يملكه وخارج عن استطاعته، وفي الإنسان نباتيّة تتمثّل في النّمو، وفيه حيوانيّة تتمثّل في الغرائز، وفيه إنسانيّة تتمثّل في العقل والتّفكير والاختيار بين البدائل، وبهذه كُرِّم عن سائر الأجناس.

وتلحظ أنّ ﴿خَرَّ﴾ ترتبط بارتفاع بعيد، ﴿خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ﴾ بحيث لا تستطيع قوّة أنْ تحميه أو تمنعه، لا بذاته ولا بغيره، وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطّفه الطّير، فإنْ لم تتخطّفه تهوي به الرّيح في مكان بعيد وتتلاعب به، فهو هالك لا محالةَ، ولو كانت واحدة من هذه الثّلاثة لكانت كافية، وعلى العاقل أنْ يتأمّل مغزى هذا التّصوير القرآنيّ فيحذر هذا المصير، فهذه حال مَنْ أشرك بالله عزَّ وجلّ، فإنْ أخذنا الصّورة على أنّها تشبيه حالة بحالة، فها هي الصّورة أمامنا واضحة، وإنْ أردنا تفسيراً آخر يُوضِّح أجزاءها: فالسّماء هي الإسلام، والطّير هي الشّهوات، والرّيح هي ريح الشّيطان، يتلاعب به هنا وهناك، فأيُّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ينقذه من هذا المصير؟

([1]) صحيح مسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، الحديث رقم (2985).