﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾: كالّذي قلناه في: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾؛ لأنّ الجهاد أيضاً يحتاج إلى إخلاص، وكلمة الجهاد هي كلمة عامّة تشمل أنواع الجهاد كلّها، والجهاد القتاليّ هو الجهاد الّذي يكون دفاعاً عن النّفس، ولردّ الاعتداء، فما أُمرنا أن نُقاتل النّاس لنجبرهم على الدّين، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[البقرة: من الآية 256]، وإنّما تشريع الجهاد والقتال في الميدان هو عبارة عن دفاع عن الوطن والعرض والمال، قال سبحانه وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾، والجهاد الأكبر هو جهاد النّفس، قال عليه السّلام: «قَدِمْتُم مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إلى الجِهَادِ الأكبَرِ، مجاهدة العبد هواه»([1]).
﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾: يعني: اختاركم واصطفاكم؛ لتكونوا خير أمّة أُخرجت للنّاس، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلاً له، وعلى مستوى مسؤوليّته، وأنْ نحقّق ما أراده الله سبحانه وتعالى منّا.
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾: يعني: ما اجتباكم ليُعنتكم، أو ليُضيِّق عليكم، أو ليُعسِّر عليكم الأمور، إنّما جعَل الأمر يُسْر كلّه، وشرعه على قَدْر الاستطاعة، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة: من الآية 286]، ورخَّص لكم ما يُخفِّف عنكم، ويُذهِب عنكم الحرج والضّيق، فمَنْ لم يستطع القيام صلّى قاعداً، ومَنْ كان مريضاً أفطر، والفقير لا زكاة عليه ولا حجّ.. إلخ، كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 220]، لكنّه سبحانه ما أعنتنا ولا ضَيَّق علينا، وما كلَّفنا إلّا ما نستطيع القيام به.
﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾: كلمة: ﴿مِلَّةَ﴾ جاءت هكذا بالنّصب؛ لأنّها مفعول به لفعل تقديره: (الزموا) مِلّة أبيكم إبراهيم؛ لأنّكم دعوته حين قال: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا﴾[البقرة: من الآية 128]، ومن دعوة إبراهيم عليه السّلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾[البقرة: من الآية 129]؛ لذلك كان النّبيّ عليه السّلام يقول: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَهُ»([2]).
﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾: الإسلام انقياد عَقَديٌّ للجميع، وفي أمّة الإسلام مَنْ ليس من ذرّيّة إبراهيم، لكنّ إبراهيم عليه السّلام أبٌ لرسول الله محمّد عليه السّلام، والرّسول أب لكلّ مَنْ آمن به؛ لأنّ أبوّة الرّسول أبوّة عمل واتّباع، كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى في قصّة نوح عن ابنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾[هود: من الآية 46]، ولـمّا كان النّبيّ عليه السّلام أباً لكلّ مَنْ آمن به سمَّى الله سبحانه وتعالى زوجاته أمّهات للمؤمنين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾[الأحزاب: من الآية 6]، وما دامت الأزواج أمّهات، فالزّوج أب، وبناءً على هذه الصّلة يكون إبراهيم عليه السّلام أباً لأمّة الإسلام، وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سلالته، ونجد بعضاً ممّن يحبّون الاعتراض على كلام الله عزَّ وجلّ يقولون في مسألة أبوّة الرّسول لأمّته: لكنّ القرآن الكريم قال غير ذلك، قال في قصّة زيد بن حارثة: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾[الأحزاب: من الآية 40]، فنفى أن يكون محمّد أباً لأحد، وفي هذا ما يناقض كلامكم، نقول: لو فهمتم عن الله سبحانه وتعالى ما اعترضتُم على كلامه، فالله عزَّ وجلّ يقول: ما كان محمّد أباً لأحدكم، بل هو أبٌ للجميع، فالمنفيّ أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أباً لواحد، لا أن يكون أباً لجميع أمّته، وقال بعدها: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾[الأحزاب: من الآية 40]، وما دام رسول الله، فهو أب للكلّ، ثمّ يقول سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السّلام: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾، يعني: إبراهيم عليه السّلام سمّاكم المسلمين، فكأنّ هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنّكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السّلام.
﴿وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾: لذلك من شرف أمّة محمّد عليه السّلام أنّه لا يأتي بعده رسول؛ لأنّ أمّة محمّد عليه السّلام مأمونة على منهج الله سبحانه وتعالى، وكأنّ الخير لا ينطفئ فيهم أبداً، وقلنا: إنّ الرّسل لا يأتون إلّا بعد أنْ يعُمَّ الفساد، ويفقد النّاس المناعة الطّبيعيّة الّتي تحجزهم عن الشّرّ، وكذلك يفقدها المجتمع كلّه فلا ينهى أحدٌ أحداً عن شرّ؛ عندها يتدخّل الحقّ سبحانه وتعالى برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد، فختام الرّسالات بمحمّد عليه السّلام شهادة أنّ الخير لا ينقطع من أمّته أبداً، ومهما انحرف النّاس سيبقى جماعة من أمّة محمّد عليه السّلام على الجادّة يحملون المنهج ويتمسّكون به ويكونون قدوة لغيرهم، فالخير والكمال كلّه في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنثورٌ في أمّته، ثمّ يعود السّياق إلى الأمر بالصّلاة:
﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: لأنّها الفريضة الملازمة للمؤمن، وفيها إعلان الولاء المكرّر في اليوم خمس مرّات، وبها يستمرّ ذِكْر الله سبحانه وتعالى على مدى الزّمن كلّه، لا ينقطع أبداً في لحظة من لحظات الزّمن حين ننظر إلى العالم كلّه، والمتأمّل في الزّمن بالنّسبة إلى الحقّ سبحانه وتعالى يجده دائماً لا ينقطع، فاليوم مثلاً عندنا أربع وعشرون ساعة، واليوم عند الله سبحانه وتعالى ألف سنة ممّا تعدُّون، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة، وهناك يوم اسمه يوم الآن؛ أي: اللّحظة الّتي نحن فيها، وهو يوم الله سبحانه وتعالى الّذي قال عنه: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرّحمن: من الآية 29]؛ لذلك قال عليه السّلام: «مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْباً، وَيُفَرِّجَ كَرْباً، وَيَرْفَعَ قَوْماً، وَيَخْفِضَ آخَرِينَ»([3])، فيوم الآن يوم عامّ، ففي كلّ لحظة يبدأ لله سبحانه وتعالى يوم ينتهي يوم، أمّا يومه جلَّ جلاله مستمرّ لا ينقطع، ونقرأ في الحديث النّبويّ الشّريف: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ»([4])، نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنّهار واللّيل في الزّمن دائم لا ينقطع، وفي كلّ لحظة من لحظات الزّمن ينتهي يوم ويبدأ يوم، وينتهي ليل ويبدأ ليل، فالله سبحانه وتعالى يده مبسوطة دائماً لا يقبضها أبداً، كما قال جلَّ جلاله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[المائدة: من الآية 64].
﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾: الجؤوا إليه في الشّدائد، وهذا يعني أنّكم ستُواجهون وتُضطهدون، فما من حامل لمنهج الله سبحانه وتعالى إلّا اضُطهد، فلا يؤثّر فيكم هذا ولا يفُتُّ في عَضُدكم، واجعلوا الله عزَّ وجلّ ملجأكم ومعتصمكم في كلّ شدّة تداهمكم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ [هود: من الآية 43]، واعتصامكم بالله سبحانه وتعالى أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنّما:
﴿هُوَ مَوْلَاكُمْ﴾: يعني: المتولّي لشأنكم، وما دام سبحانه وتعالى مولاكم، ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.
([1]) كنز العمّال: باب في لواحق الجهاد، الجهاد الأكبر والأصغر، الحديث رقم (11778).
([2]) مسند الشّاميّين للطّبرانيّ: ما انتهى إلينا من مُسند محمّد بن عبد الله بن الـمُهَاجِرِ الشُّعَيْثيّ ثُمّ النَّصرِيِّ، أبُو بكرٍ عن سَعِيدِ بنِ سُوَيْدٍ، الحديث رقم (1455).
([3]) سنن ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصّحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهميّة، الحديث رقم (202).
([4]) صحيح مسلم: كتاب التّوبة، باب قبول التّوبة من الذّنوب وإن تكرّرت الذّنوب والتّوبة، الحديث رقم (2759).