الآية رقم (75) - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾: فالمرحلة الثّانية في الإيمان بعد الإيمان بالقمّة الإلهيّة الإيمان بالملائكة، والملائكة رسل من الله عزَّ وجلّ أرسلهم لبعض النّاس.

والاصطفاء: اختيار نخبة من كثير، واختيار القليل من الكثير دليل على أنّها الخلاصة والصّفوة، كما يختلف الاصطفاء باختلاف المصطفي، فإنْ كان المصطفِي هو الله سبحانه وتعالى فلا بُدَّ أنْ يختار خلاصة الخلاصة، والاصطفاء سائر في الكون كلّه، يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن النّاس رسلاً، ويصطفي من الزّمان، ويصطفي من المكان، كما اصطفى رمضان من الزّمان، والكعبة من المكان، ولم يجعل الحقّ سبحانه وتعالى الاصطفاء لتدليل المصطفى على غيره، إنّما ليُشيع اصطفاءَه على خَلْق الله سبحانه وتعالى، فقد اصطفى رمضان على سائر الزّمن لنأخذ منه شحنة تُقوِّي روحنا، وتُصفِّيها بقيّة الأيّام، وليستفيد الإنسان من صالح عمله فيها، وقد يتكرّر الاصطفاء مع اختلاف متعلّق الاصطفاء؛ لذلك وقف المستشرقون عند قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران: من الآية 42]، يقولون: ما فائدة تكرار الاصطفاء هنا؟ ولو تأمّلنا الآية لوجدنا فَرْقاً بين الاصطفاء الأوّل والآخر: الاصطفاء الأوّل اصطفاء أنْ تكون عابدة تقيّة متبتّلة منقطعة في محرابها لله سبحانه وتعالى، أمّا الاصطفاء الآخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعاً، بأن تكون أمّاً لمولود بلا أب، فمُتعلِّق الاصطفاء مختلف، وتنقسم الملائكة في مسألة الاصطفاء إلى ملائكة مُصْطفاة، وملائكة مُصْطَفىً منها، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ [فاطر: من الآية 1]، يعني: كلّهم لهم رسالة مع عوالم أخرى غيرنا، أمّا في الآية الّتي معنا، فالكلام عن الملائكة الّذين لهم صلة بالإنسان، أمثال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والحفظة الكاتبين والمكلّفين بحفظ الإنسان، فالله سبحانه وتعالى يصطفي هؤلاء، أمّا الباقون منهم، فالله سبحانه وتعالى مصطفيهم لعبادته، فهم لا يدرون عن هذا الخلق شيئاً، وهم الملائكة العالون الّذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم في الحديث عن إبليس: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ [ص: من الآية 75]، يعني: الّذين لم يشملهم الأمر بالسّجود؛ لأنّ لهم مهمّة أخرى.

﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾: السّمع يتعلّق بالأصوات، والبصر يتعلّق بالأفعال، وهما كما قلنا: عُمْدة الحواسِّ كلّها، والحقّ سبحانه وتعالى في قوله: ﴿سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ يُبيّن لنا أنّ رسله سيُوَاجَهُون بأقوال تؤذيهم واستهزاء، وسيُقَابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم، فليكُنْ هذا معلوماً حتّى لا يفُتّ في عَضُدهم، وأنا معهم سميع لما يُقال، بَصير بما يفعل، فهُمْ تحت سمعي وبصري وكلاءتي، والله سبحانه وتعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11]، فسمعه وبصره لا يشبه المخلوقين.

الآية رقم (76) - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: ما أمامهم، ويعلم أيضاً ما خلفهم، فليعمل الإنسان ما يشاء، فعِلْم الله سبحانه وتعالى محيط به.

﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾: فالمرجع في النّهاية إليه سبحانه وتعالى، فالحقّ جلَّ جلاله لم يخلق خَلْقه ليتركهم هَمَلاً، إنّما خلقهم لحكمة، وجعل لهم نهاية يُجازَي فيها كُلٌّ بعمله.

الآية رقم (77) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: النّداء في ضَرْب المثل السّابق كان للنّاس كافَّة؛ لأنّه يريد أنْ يَلفِت عُبَّاد الأصنام إلى هذا المثَل، ويُسْمعهم إيّاه، أمَّا هنا فالكلام عن منهج مُوجَّه إلى الّذين آمنوا؛ لأنّه لا يُكلَّف بالحكم إلّا مَنْ آمن بالله عزَّ وجلّ، أمّا مَنْ كفر فليس أَهْلاً لحمل هذه الأمانة.

﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾: يبدأ أوّل ما يبدأ في التّكليف بمسألة الصّلاة، فلقد جاء الرّسل من عند الله سبحانه وتعالى بتكاليف كثيرة، لكن خَصَّ هنا الصّلاة؛ لأنّها التّكليف الّذي يتكرّر كلّ يوم خمس مرّات، أمّا بقيّة التّكاليف فهي موسميّة: فالصّوم شهر في العام كلّه، والحجّ مرّة في العمر كلّه لمن استطاع، والــزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النّصاب أو عند حلول الحَوْل، فتختلف فريضة الصّلاة عن باقي الفرائض؛ لذلك خَصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ»([1])، وخصَّها الحقّ سبحانه وتعالى بظرف تشريعيّ خاصّ، حيث فُرِضت الصّلاة بالمباشرة، وفُرِضت باقي الفرائض بالوحي، فالصّلاة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض، إنّما جاءت مباشرة من الـمُوحِي سبحانه وتعالى؛ لأنّها ستكون صلة بين العبد وربّه، فشاء أن يُنزّهَها حتّى من هذه الواسطة، ثمّ ميَّزها على غيرها من التّكاليف، فجعلها الفريضة الّتي لا تسقط عن المسلم بحال من الأحوال، فقد تكون فقيراً فلا تلزمك الــزكاة، وغير مستطيع فلا يلزمك حجّ، ومريض أو مسافر فلا يلزمك صوم، أمّا الصّلاة فلا تسقط عن الإنسان مهما كان حاله، فإنْ كان غير قادر على القيام فله أنْ يُصلِّي قاعداً أو مضطجعاً أو راقداً، أو يُشير بطرفه لركوعه وسجوده، ولو حتّى يجري أفعال الصّلاة على قلبه، المهمّ أن يظلّ ذاكراً لربّه متّصلاً به، لا يمرّ عليه وقت إلّا والله سبحانه وتعالى في باله، وقلنا: إنّ ذكر الله سبحانه وتعالى في الأذان والإقامة والصّلاة ذِكْر دائم في كلّ الأوقات لا ينقطع أبداً، فحين تصلّي أنت الصّبح مثلاً غيرك يصلّي الظّهر، وحين تركع غيرك يسجد، وحين تقول: بسم الله الرّحمن الرحيم، غيرك يقول: الحمد لله ربّ العالمين.. إلخ، فهي عبادة متداخلة دائمة لا تنقطع أبداً؛ لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطباً الزّمن: “يا زمن فيك الزّمن كلّه”، يعني: في كلّ جزئيّة من الزّمن الزّمن كلّه، كأنّه قال: يا ظُهْر، وفيك العصر، وفيك المغرب، وفيك العشاء، وهكذا العالم كلّه يدور بعبادة لله سبحانه وتعالى لا تنتهي.

وفي هذه الآية ذكر من الصّلاة الرّكوع والسّجود؛ لأنّهما أظهر أعمال الصّلاة، لكنّ الرّكوع والسّجود حركات يؤدّيها المؤمن المخلص، ويؤدّيها المنافق، وقد كان المنافقون أسبق النّاس إلى الصّفوف الأولى؛ لذلك أراد الله سبحانه وتعالى أنْ يُميِّز هذا من هذا، فقال:

﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾: فليست العبرة في حركات الرّكوع والسّجود، إنّما العبرة في التّوجّه بها إلى الله عزَّ وجلّ، وإخلاص النّيّة فيها لله سبحانه وتعالى، وإلّا أصبحت الصّلاة مجرّد حركات لا تعدو أن تكون تمارين رياضيّة كما يحلو لبعضهم أن يقول: الصّلاة فيها تمارين رياضيّة تُحرِّك أجزاء الجسم كلّه، نعم هي كما تقولون رياضة، لكنّها ليست عبادة، العبادة أن تؤدّيها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أمرك بها.

﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾: والخير كلمة عامّة تشمل أوامر التّكليف كلّها، لكن جاءت مع الصّلاة على سبيل الإجمال؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، فالخير كلمة جامعة لما تؤدّيه وظائف المناهج كلّها من خير المجتمع؛ لأنّ المنهج الإيمانيّ ما جاء إلّا لينظّم حركة الحياة تنظيماً يتعاون ويتساند ولا يتعاند، فإنْ جاء الأمر على هذه الصّورة سَعِد المجتمع بأَسْره، ولا تنْسَ أنّ المنهج حين يُضيِّق عليك ويُقيِّد حركتك يفعل ذلك لمصلحتك، وأنت المستفيد من تقييد الحركة؛ لأنّ ربّك عزَّ وجلّ قيّد حركتك وضيَّق عليك حتّى لا تُلحِق الشّرّ بالآخرين، وفي الوقت نفسه ضيّق على الآخرين جميعاً أن يتحرّكوا بالشّرّ ناحيتك، وأنت واحد وهم كثر، فمن أجل تقييد حركتك قيّد لك حركة النّاس جميعاً، فمَنِ الكاسب في هذه المسألة؟ فالشّرع قال لك: لا تسرق، وأنت واحد، وقال للنّاس جميعاً: لا تسرقوا منه، وقال لك: غُضّ بصرك عن محارم غيرك، وأنت واحد، وقال للكلّ: غُضُّوا أبصاركم عن محارم فلان، فكلّ تكليف من الله سبحانه وتعالى للخَلْق يعود عليك، فالمعنى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾؛ أي: الّذي لا يأتي منه فساد أبداً، وما دامت الحركات صادرة عن مراد الله عزَّ وجلّ فإنّها تتساند وتتعاون، فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ الأهواء وتعاندت، والخير: كلّ ما تأمر به التّكاليف المنهجيّة الشّرعيّة من الله سبحانه وتعالى.

﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: لكن أين سيكون هذا الفَلَاح: في الدّنيا أم في الآخرة؟ الفلَاح يكون في الدّنيا لمن قام بشرع الله سبحانه وتعالى والتزم منهجه وفعل الخير، فالفَلاح ثمرة طبيعيّة لمنهج الله عزَّ وجلّ في أيِّ مجتمع يتحرّك أفرادُه في اتّجاه الخير لهم وللغير، مجتمع يعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([2])، وعندها لن نرى في المجتمع تزاحماً ولا تنافراً ولا ظلماً ولا رشوة.. إلخ، هذا الفلاح في الدّنيا، ثمّ يأتي زيادة على فلاح الدّنيا فلاح الآخرة، فلا تظنّوا التّكاليف الشّرعيّة عِبْئاً عليكم؛ لأنّها في مصلحتكم في الدّنيا، وبها فلاح دنياكم، ثمّ يكون ثوابها في الآخرة مَحْض الفضل من الله سبحانه وتعالى، وقد نبّهنا النّبيّ عليه السّلام إلى هذه المسألة فقال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»([3])؛ ذلك لأنّ الإنسان يفعل الخير في الدّنيا لمصلحته، ثمّ ينال الثّواب عليها في الآخرة من فضل الله سبحانه وتعالى، كما قال جلَّ جلاله: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾[النّساء: من الآية 173].

﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: لعلّ: أداة للتّرجّي، وهو درجات بعضها أرْجى من بعض، فمثلاً حين تقول: لعلّ فلاناً يعطيك، فأنت ترجو غيرك ولا تضمن عطاءه، فإنْ قلت: لعلِّي أعطيك، فالرّجاء في يدك، فهذه أرجى من سابقتها، لكن ما زلنا أنا وأنت متساويين، وربّما أعطيك أو لا أعطيك، بينما حين تقول: لعلّ الله عزَّ وجلّ يعطيك، فقد رجوْتَ الله سبحانه وتعالى، فهذه أرجى من سابقتها، فإذا قال الله سبحانه وتعالى بذاته: لعلّي أعطيك، فهذا أقوى درجات الرّجاء؛ لأنّ الوعد من الله سبحانه وتعالى والرّجاء فيه عزَّ وجلّ لا يخيب.

وفي تفسير هذه الآية الكريمة تتبيّن لنا حقيقة رسالة الإسلام ورسالة المسلم في هذه الحياة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النّبيّ عليه السّلام قال: «الخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، فَأَحَبُّ الخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ»([4])، فلنحبّ غيرنا، ونجتهد في إسعادهم، موافقين لنا أو مخالفين، فهذه أفضل طريقة لراحة النّفس وضمان سعادتها، وإنّ الله عزَّ وجلّ شرع لنا من التّعاليم ما يجنّبنا نقائصها وما يجعل من البشر جماعات متكافلة متعاونة على البرّ، متواصلة بالمرحمة ، فلنسمع إلى هدايات الله سبحانه وتعالى في هذا الشّأن على ما بها من روعة وجلال يغنينا عن الأقوال كلّها، إنّ المسلم الحقيقيّ يجب أن يكون عضواً نافعاً في وطنه لا يصدر عنه إلّا الخير، ولا يُتوقَّع منه إلّا الفضل والبرّ، فهو في حركته وهدأته شعاع من نور الحقّ، ومدد من روافد البركة واليمن، وعون على تقريب البعيد وتذليل الصّعب، يسعى في هذه الحياة وقلبه مفعم بالمحبّة، ولسانه رطب بالودّ والمسالمة للمواطنين كلّهم، ويده مبسوطة بالنّعمة يفيضها على من يلقاه، ويقدّمها من غير تكلّف إلى سواه، تلك هي طبيعة الإسلام ورسالة المسلم في هذه الحياة، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال النّبيّ عليه السّلام: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: فَإِنْ لَـمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ»، قَالُوا: فَإِنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَـمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ الـمَلْهُوفَ»، قَالُوا: فَإِنْ لَـمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَيَأْمُرُ بِالخَيْرِ»، أَوْ قَالَ: «بِالـمَعْرُوفِ»، قَالَ: فَإِنْ لَـمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ»([5])، هذا الحديث الكريم يقسّم  النّاس درجات حسب مواهبهم ومنازلهم، فالقويّ زكاة قوّته وجَلَده أن يزيد في إنتاج وطنه، وأن يُسهم في نهضة المجتمع، وأن يصل نشاطه بنشاط أنداده، فيتعاونون جميعاً على البرّ والتّقوى، لا على الإثم والعدوان، وهو بهذا العمل ينفع نفسه، ويؤدّي الضّريبة الّتي تجب عليه للوطن والمجتمع الّذي يحيا فيه، تلك الضّريبة الّتي عبّر عنها الحديث الشّريف بقوله عليه السّلام: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ»، فمن عجز عن هذا العمل الإيجابيّ الواسع فلن يعجز أن يكون عوناً للآخرين ومؤيّداً للعاملين، فإذا لم يرحم بنفسه أعان الرّاحمين، وإذا لم ينفع بقوّته ساعد النّافعين، وشدّ أزر المكافحين، ولم يثبّط الهمم ويحبط النّاس ويشكّك بكلّ فعل خير، وذلك ما عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ الـمَلْهُوفَ»، وإذا لم يستطع أن يعمل أعمال الخير هذه كلّها فليمسك عن الشّرّ، فمجرّد إمساكه عن الشّرّ صدقة، ولا يوجد في تاريخ البشريّة قول يعطي معنى الإنسانيّة والخيريّة أفضل من هذا الحديث النّبويّ الشّريف.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصّلاة، الحديث رقم (2621).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، بابٌ: من الإيمان أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه، الحديث رقم (13).

([3]) صحيح البخاريّ: كتاب المرضى، باب تـمنِّي الـمريض الـموت، الحديث رقم (5673).

([4]) شعب الإيمان: ج9، طاعة أولي الأمر بفصولها، الحديث رقم (7046).

([5]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، باب كلّ معروف صدقة، الحديث رقم (6022).

الآية رقم (78) - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾: كالّذي قلناه في: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾؛ لأنّ الجهاد أيضاً يحتاج إلى إخلاص، وكلمة الجهاد هي كلمة عامّة تشمل أنواع الجهاد كلّها، والجهاد القتاليّ هو الجهاد الّذي يكون دفاعاً عن النّفس، ولردّ الاعتداء، فما أُمرنا أن نُقاتل النّاس لنجبرهم على الدّين، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[البقرة: من الآية 256]، وإنّما تشريع الجهاد والقتال في الميدان هو عبارة عن دفاع عن الوطن والعرض والمال، قال سبحانه وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾، والجهاد الأكبر هو جهاد النّفس، قال عليه السّلام: «قَدِمْتُم مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إلى الجِهَادِ الأكبَرِ، مجاهدة العبد هواه»([1]).

﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾: يعني: اختاركم واصطفاكم؛ لتكونوا خير أمّة أُخرجت للنّاس، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلاً له، وعلى مستوى مسؤوليّته، وأنْ نحقّق ما أراده الله سبحانه وتعالى منّا.

﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾: يعني: ما اجتباكم ليُعنتكم، أو ليُضيِّق عليكم، أو ليُعسِّر عليكم الأمور، إنّما جعَل الأمر يُسْر كلّه، وشرعه على قَدْر الاستطاعة، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة: من الآية 286]، ورخَّص لكم ما يُخفِّف عنكم، ويُذهِب عنكم الحرج والضّيق، فمَنْ لم يستطع القيام صلّى قاعداً، ومَنْ كان مريضاً أفطر، والفقير لا زكاة عليه ولا حجّ.. إلخ، كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 220]، لكنّه سبحانه ما أعنتنا ولا ضَيَّق علينا، وما كلَّفنا إلّا ما نستطيع القيام به.

﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾: كلمة: ﴿مِلَّةَ﴾ جاءت هكذا بالنّصب؛ لأنّها مفعول به لفعل تقديره: (الزموا) مِلّة أبيكم إبراهيم؛ لأنّكم دعوته حين قال: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا﴾[البقرة: من الآية 128]، ومن دعوة إبراهيم عليه السّلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾[البقرة: من الآية 129]؛ لذلك كان النّبيّ عليه السّلام يقول: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَهُ»([2]).

﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾: الإسلام انقياد عَقَديٌّ للجميع، وفي أمّة الإسلام مَنْ ليس من ذرّيّة إبراهيم، لكنّ إبراهيم عليه السّلام أبٌ لرسول الله محمّد عليه السّلام، والرّسول أب لكلّ مَنْ آمن به؛ لأنّ أبوّة الرّسول أبوّة عمل واتّباع، كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى في قصّة نوح عن ابنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾[هود: من الآية 46]، ولـمّا كان النّبيّ عليه السّلام أباً لكلّ مَنْ آمن به سمَّى الله سبحانه وتعالى زوجاته أمّهات للمؤمنين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾[الأحزاب: من الآية 6]، وما دامت الأزواج أمّهات، فالزّوج أب، وبناءً على هذه الصّلة يكون إبراهيم عليه السّلام أباً لأمّة الإسلام، وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سلالته، ونجد بعضاً ممّن يحبّون الاعتراض على كلام الله عزَّ وجلّ يقولون في مسألة أبوّة الرّسول لأمّته: لكنّ القرآن الكريم قال غير ذلك، قال في قصّة زيد بن حارثة: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾[الأحزاب: من الآية 40]، فنفى أن يكون محمّد أباً لأحد، وفي هذا ما يناقض كلامكم، نقول: لو فهمتم عن الله سبحانه وتعالى ما اعترضتُم على كلامه، فالله عزَّ وجلّ يقول: ما كان محمّد أباً لأحدكم، بل هو أبٌ للجميع، فالمنفيّ أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أباً لواحد، لا أن يكون أباً لجميع أمّته، وقال بعدها: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾[الأحزاب: من الآية 40]، وما دام رسول الله، فهو أب للكلّ، ثمّ يقول سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السّلام: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾، يعني: إبراهيم عليه السّلام سمّاكم المسلمين، فكأنّ هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنّكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السّلام.

﴿وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾: لذلك من شرف أمّة محمّد عليه السّلام أنّه لا يأتي بعده رسول؛ لأنّ أمّة محمّد عليه السّلام مأمونة على منهج الله سبحانه وتعالى، وكأنّ الخير لا ينطفئ فيهم أبداً، وقلنا: إنّ الرّسل لا يأتون إلّا بعد أنْ يعُمَّ الفساد، ويفقد النّاس المناعة الطّبيعيّة الّتي تحجزهم عن الشّرّ، وكذلك يفقدها المجتمع كلّه فلا ينهى أحدٌ أحداً عن شرّ؛ عندها يتدخّل الحقّ سبحانه وتعالى برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد، فختام الرّسالات بمحمّد عليه السّلام شهادة أنّ الخير لا ينقطع من أمّته أبداً، ومهما انحرف النّاس سيبقى جماعة من أمّة محمّد عليه السّلام على الجادّة يحملون المنهج ويتمسّكون به ويكونون قدوة لغيرهم، فالخير والكمال كلّه في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنثورٌ في أمّته، ثمّ يعود السّياق إلى الأمر بالصّلاة:

﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: لأنّها الفريضة الملازمة للمؤمن، وفيها إعلان الولاء المكرّر في اليوم خمس مرّات، وبها يستمرّ ذِكْر الله سبحانه وتعالى على مدى الزّمن كلّه، لا ينقطع أبداً في لحظة من لحظات الزّمن حين ننظر إلى العالم كلّه، والمتأمّل في الزّمن بالنّسبة إلى الحقّ سبحانه وتعالى يجده دائماً لا ينقطع، فاليوم مثلاً عندنا أربع وعشرون ساعة، واليوم عند الله سبحانه وتعالى ألف سنة ممّا تعدُّون، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة، وهناك يوم اسمه يوم الآن؛ أي: اللّحظة الّتي نحن فيها، وهو يوم الله سبحانه وتعالى الّذي قال عنه: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرّحمن: من الآية 29]؛ لذلك قال عليه السّلام: «مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْباً، وَيُفَرِّجَ كَرْباً، وَيَرْفَعَ قَوْماً، وَيَخْفِضَ آخَرِينَ»([3])، فيوم الآن يوم عامّ، ففي كلّ لحظة يبدأ لله سبحانه وتعالى يوم ينتهي يوم، أمّا يومه جلَّ جلاله مستمرّ لا ينقطع، ونقرأ في الحديث النّبويّ الشّريف: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ»([4])، نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنّهار واللّيل في الزّمن دائم لا ينقطع، وفي كلّ لحظة من لحظات الزّمن ينتهي يوم ويبدأ يوم، وينتهي ليل ويبدأ ليل، فالله سبحانه وتعالى يده مبسوطة دائماً لا يقبضها أبداً، كما قال جلَّ جلاله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[المائدة: من الآية 64].

﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾: الجؤوا إليه في الشّدائد، وهذا يعني أنّكم ستُواجهون وتُضطهدون، فما من حامل لمنهج الله سبحانه وتعالى إلّا اضُطهد، فلا يؤثّر فيكم هذا ولا يفُتُّ في عَضُدكم، واجعلوا الله عزَّ وجلّ ملجأكم ومعتصمكم في كلّ شدّة تداهمكم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ [هود: من الآية 43]، واعتصامكم بالله سبحانه وتعالى أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنّما:

﴿هُوَ مَوْلَاكُمْ﴾: يعني: المتولّي لشأنكم، وما دام سبحانه وتعالى مولاكم، ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.

([1]) كنز العمّال: باب في لواحق الجهاد، الجهاد الأكبر والأصغر، الحديث رقم (11778).

([2]) مسند الشّاميّين للطّبرانيّ: ما انتهى إلينا من مُسند محمّد بن عبد الله بن الـمُهَاجِرِ الشُّعَيْثيّ ثُمّ النَّصرِيِّ، أبُو بكرٍ عن سَعِيدِ بنِ سُوَيْدٍ، الحديث رقم (1455).

([3]) سنن ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصّحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهميّة، الحديث رقم (202).

([4]) صحيح مسلم: كتاب التّوبة، باب قبول التّوبة من الذّنوب وإن تكرّرت الذّنوب والتّوبة، الحديث رقم (2759).

الآية رقم (73) - يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾: قُلنْا: الضّرب إيقاع شيء على شيء بقوّة، ومنه نقول: ضربنا الدّينار، يعني: بعد أن كان قطعة من الذّهب أو الفضّة مثلاً أصبح عملةً معروفة متداولة.

والمثل: تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم يَعْلَق في الذّهن، كما نصف لك إنساناً لم تَرَهُ بإنسان تعرفه، نقول: هو مثل فلان، وهكذا التّشبيهات كلّها: شيء تريد أن تُعلمه للمخاطب وهو لا يعلمه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾[البقرة]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: من الآية 176]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[العنكبوت]، فالأمثال: إعلام بشيء معلوم ليصل العلم فيه إلى شيء مجهول، والخطاب هنا مُوجَّه للنّاس كافّة، لم يخُصّ أحداً دون أحد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾، فلم يقُل: يا أيّها المؤمنون؛ لأنّ هذا المثَلَ مُوجَّه إلى الكفّار، فالمؤمنون ليسوا في حاجة إليه.

﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾: يعني: أنصتوا وتفهَّموا مراده ومرماه؛ لتسيروا في حركتكم على وَفْق ما جاء فيه، وعلى وَفْق ما فهمتم من مغزاه، فما هو هذا المثَل؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: أي: الّذين تعبدونهم وتتّجهون إليهم من دون الله سبحانه وتعالى:

﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾: وهو أصغر المخلوقات، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ جاءت بنفي المستقبل، فلم يقُلْ مثلاً: لم يخلقوا، فالنّفي هنا للتّأبيد، فهم ما استطاعوا في الماضي، ولن يستطيعوا أيضاً في مستقبل الأيّام.

﴿وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾: يعني: تضافرَتْ جهودهم، واجتمع أمرهم جميعاً لا واحداً واحداً، وهذا ترقٍّ في التّحدّي، حيث زاد في قوّة المعاند.

﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾: إنّ عمليّة الخَلْق هذه عمليّة صعبة لا يُتحدَّى بها، لذلك تحدّاهم بما هو أسهل من الخَلْق، وهل يستطيع أحد أن يُعيد ما أخذه الذّباب من طعامه على جناحيه أو رجله أو خرطومه؟ وقد كانوا يذبحون القرابين عند الأصنام، ويضعون أمامها الطّعام ليباركوه، فكانت الدّماء تسيل عندها وتتناثر عليها، فيحطّ عليها الذّباب، ويأخذ من هذه الدّماء على أَرْجُله النّحيفة، أو على أجنحته، أو على خرطومه، فتحدَّاهم أن يعيدوا من الذّباب ما أخذه، وهذه مسألة أسهل من مسألة الخَلْق، ولنا أنْ نُجرِّب هذه العمليّة، إذا وقع ذباب على العسل الّذي أمامنا، فلا بُدَّ أن يأخذ منه شيئاً ولو كان ضئيلاً لا يُدرَك ولا يُوزَن، لكن هل نستطيع أنْ نُمسِك الذّبابة ونردّ ما أخذتْ منا؟ لذلك يقول سبحانه وتعالى بعدها:

﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾: يعني: كلاهما ضعيف، فالذّباب في ذاته ضعيف وهم كذلك ضعفاء، بدليل أنّهم لن يقدروا على هذه المسألة، لكن هناك ضعيف يدَّعي القوّة، وضعيف قوّته في أنّه مُقِرٌّ بضعفه، فالذّباب وإنْ كان ضعيفاً إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى قال فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: من الآية 26]، يعني: ما فوقها في الصِّغر، ليس المراد ما فوقها في الكبر كالعصفور مثلاً.

الآية رقم (74) - مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

يعني: هؤلاء الكفّار الّذين عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى آلهة لا تستطيع أن تخلق ذباباً، ولا تستطيع حتّى أنْ تردَّ من الذّباب ما أخذه، هؤلاء ما عرفوا لله قدره، ولو عرفوا قَدْر الله سبحانه وتعالى ما عبدوا غيره.

والقَدْر: يعني مقدار الشّيء، وقلنا: إنّ مقادير الأشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير، فالطّول مثلاً له مقياس يُقَاس به، لكنّ هذا المقياس يختلف باختلاف المقيس، فإنْ أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين دمشق وطرطوس مثلاً لا تستخدم السّنتيمتر ولا حتّى المتر، إنّما تستخدم الكيلومتر، فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر، أمّا إنْ أردتَ صورة شخصيّة تقول سنتيمتر، فلكلّ شيء مقدار يُقدَّر به، ومعيار يُقاس به، فإنْ أردنا المسافة نقيس الطّول، وإنْ أردنا المساحة نقيس الطّول في العرض، فإنْ أردنا الحجم نقيس الطّول في العرض في الارتفاع، الطّول بالمتر والمساحة بالمتر المربّع، والحجم بالمتر المكعّب، كذلك في الوزن تُقدِّره بالكيلو أو الرّطل أو الغرام.. إلخ.

وقدّر: تأتي بمعنى: ضيَّق، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: من الآية 16]؛ أي: ضيّق عليه رزقه، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾[الطّلاق: من الآية 7].

والمقدار كما يكون في المادّيّات يكون أيضاً في المعنويّات، فمثلاً تعبّر عن الزّيادة المادّيّة تقول: فلان كبر يعني شَبَّ وزاد، أمّا في المعنويّات فيقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾[الكهف: من الآية 5]، يعني: عَظُمتْ.

والحقّ سبحانه وتعالى ليس مادّة؛ لأنّه سبحانه وتعالى فوق المادّة، فمعنى المقدار في حقّه جلَّ جلاله: عظمته في صفات الكمال فيه.

﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾: ما عظّموه حَقَّ التّعظيم الّذي ينبغي له، وما عرفوا قَدْره، ولو عرفوا ما عبدوا غيره، ولا عبدوا أحداً معه من هذه الآلهة الّتي لا تخلق ذباباً، ولا حتّى تستردّ ما أخذه منهم الذّباب، فكيف يُسَوُّون هؤلاء بالله عزَّ وجلّ ويقارنونهم به؟ إنّهم لو عرفوا لله سبحانه وتعالى قَدْره لاستحيوا من ذلك كلّه، والآية: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾  وردتْ في عدّة مواضع في كتاب الله عزَّ وجلّ، منها: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: من الآية 91]، فلم يعرفوا لله سبحانه وتعالى قَدْره، وله جلَّ جلاله كمال العدل.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾: فما مناسبة هاتين الصّفتين للسّياق الّذي نحن بصدده؟ قال العلماء: لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى تكلَّم في المثَل السّابق عن الّذين انصرفوا عن عبادته سبحانه وتعالى إلى عبادة الأصنام وقال: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾، فقال في مقابل هذا الضّعف: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾، وهو عزيز يستغني عن خلقه.

الآية رقم (64) - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: فما في السّموات وما في الأرض مِلْك لله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لا ينتفع منها الحقّ سبحانه وتعالى بشيء، إنّما خلقها لمنفعة خَلْقه، وهو سبحانه وتعالى غنيٌّ عنها وغنيٌّ عنهم، وبصفات الكمال فيه سبحانه وتعالى خلق ما في السّموات وما في الأرض؛ لذلك قال بعدها:

﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾: وصفات الكمال في الله سبحانه وتعالى موجودة قبل أنْ يخلق الخَلْق، وبصفات الكمال خلق، وملكيّته سبحانه وتعالى للسّموات وللأرض، ولما فيهما ملكيّة للظّرف وللمظروف، ونحن لا نملك السّموات، ولا نملك الأرض، إنّما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع ممّا ملّكنا الله سبحانه وتعالى له، فهو الغنيّ، المالك لكلّ شيء، وما ملَّكنا إلّا من باطن مُلْكه.

﴿الْحَمِيدُ﴾: يعني المحمود، فهو غنيّ محمود؛ لأنّ غنَاه لا يعود عليه سبحانه، إنّما يعود على خَلْقه، فيحمدونه لغنَاه، فإن احتاج غير القادر منك شيئاً، قال سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾[البقرة: من الآية 245]، فعدّه قرضاً، وهو ماله، لكنّه ملّكك إيّاه، فهو غنيٌّ حميد؛ أي: محمود، ولا يكون الغنى محموداً إلّا إذا كان غير الغنيّ مستفيداً من غِنَاه.

الآية رقم (65) - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾: هذه الآية امتداد للآية السّابقة، فما في السّماء وما في الأرض مِلْك له سبحانه وتعالى لكنّه سخَّره لمنفعة خَلْقه.

﴿وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾: الفُلْك: السّفن، تُطلق على المفرد وعلى الجمع، تجري في البحر بأمره سبحانه وتعالى، فتسير السّفن بالرّيح حيث أمرها الله سبحانه وتعالى، كما قال جلَّ جلاله: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾[البقرة: من الآية 164]، وهذه لا يملكها ولا يقدر عليها إلّا الله سبحانه وتعالى، وقال في آية أخرى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾[الشّورى: من الآية 33]، ولنتأمَّل دِقَّة الأداء القرآنيّ من الله سبحانه وتعالى الّذي يعلم ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، فلقائل الآن أنْ يقول: لم نَعُد في حاجة إلى الرّيح تُسيِّر السّفن، أو توجّهها؛ لأنّها أصبحت تسير الآن بآلات ومحرّكات، نعم السّفن الآن تسير بالمحرّكات، لكن للرّيح معنى أوسع من ذلك، فالرّيح ليست هذه القوّة الذّاتيّة الّتي تدفع السّفن على صفحة الماء، إنّما تعني القوّة في ذاتها، أيّاً كانت ريحاً أم بُخَاراً أم كهرباء أم ذرّة.. إلخ، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 46]، يعني: تذهب قوّتكم أيّاً كانت هذه القوّة، حتّى الصّيّاد الّذي يركب البحر بقارب صغير يُسيِّره بالمجاديف بقوّة يديه وعضلاته هي أيضاً قوّة، لا تخرج عن هذا المعنى، وهكذا يظلّ معنى الآية صالحاً لكلّ زمان ومكان، وإلى أن تقوم السّاعة.

والرّيح إنْ أُفردَتْ دلَّتْ على حدوث شَرٍّ وضرر، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾[الذّاريات]، وقوله: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 46]، وقوله: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[الأحقاف: من الآية 24]، وإنْ جاءت بصيغة الجمع دلَّت على الخير، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾[الحجر: من الآية 22]، وسبق أنْ تحدّثنا عن مهمّة الرّيح في تماسك الأشياء وقيامها بذاتها، فالجبل الأشمّ الّذي نراه ثابتاً راسخاً إنّما ثبتَ بأثر الرّيح عليه، وإحاطته به من كلّ جانب، بحيث لو فُرِّغ الهواء من أحد جوانب الجبل لانهار، وهذه هي الفكرة الّتي قامت عليها القنبلة، فالهواء هو الّذي يقيم المباني والعمارات ويثبّتها؛ لأنّه يحيطها من كلّ جانب، فيُحدِث لها هذا التّوازن، فإنْ فُرِّغ الهواء من أحد الجوانب ينهار المبنى.

﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾: فالسّماء مرفوعة فوقنا بلا عَمَد، لا يمسكها فوقنا إلّا الله سبحانه وتعالى بقدرته وقيّوميّته أنْ تقع على الأرض إلّا بإذنه سبحانه وتعالى، كما قال في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: من الآية 41].

﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: فمن صفاته سبحانه وتعالى الرّأفة والرّحمة، والفَهْم السّطحيّ لهاتين الصّفتين يرى أنّهما واحد، لكن هما صفتان مختلفتان، فالرّأفة تزيل الآلام، والرّحمة تزيد الإنعام، والقاعدة أنّ درْء المفسدة مُقدَّم دائماً على جَلْب المصلحة، فربّنا يرأف بنا فيزيل عنّا أسباب الألم قبل أن يجلب لنا نفعاً برحمته، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل: قلنا هَبْ أنّ واحداً يرميك بحجر، وآخر يرمي لك تفاحة، فأيُّهما يشغلك أوّلاً؟ لا شكَّ ستُشغل بالحجر، كيف تقي نفسك من ضرره، ثمّ تحاول أن تنال هذه التّفّاحة، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [النّحل: من الآية 61].

الآية رقم (66) - وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ

الحقّ سبحانه وتعالى يُذكّرنا ببعض نعمه وببعض العمليّات الّتي لو تتبّعناها لوقفنا بمقتضاها على نِعَم الله سبحانه وتعالى علينا، ولم نَنْسها أبداً، أوّلها:

﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾: الإحياء: أن يعطي المحيي ما يُحييه قوّة يؤدّي بها المهمّة المخلوق لها، والإحياء الأوّل في آدم عليه السّلام حين خلقه ربّه وسوّاه، ونفخ فيه من روحه، ثمّ أوجدنا نحن من ذرّيّته.

﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾: وكما أنّ الخَلْق آية من آيات الله عزَّ وجلّ، فكذلك الموت آية من آيات الله سبحانه وتعالى، نراها ونلمسها، وما دُمْتَ تُصدِّق بآية الخَلْق وآية الموت، وتراهما، ولا تشكّ فيهما، فحين نقول لك: إنّ بعد هذا حياة أخرى فصدِّق؛ لأنّ صاحب هذه الآيات واحد، والمقدّمات الّتي تحكم أنت بصدقها يجب أنْ تؤدّي إلى نتيجة تحكم أيضاً بصدقها، وها هي المقدّمات بين يديك صادقة، لذلك يقول سبحانه وتعالى بعدها:

﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾: والإحياء يُطلَق في القرآن الكريم على معانٍ متعدّدة، منها الحياة المادّيّة الّتي تتمثّل في الحركة والأكل والشّرب، ومنها الحياة في الآخرة الّتي قال الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[العنكبوت: من الآية 64]، وهذه الحياة الحقيقيّة؛ لأنّ حياة الدّنيا تعتريها الأغيار، ويتقلَّب فيها الإنسان بين القوّة والضّعف، والصّحّة والمرض، والغنى والفقر، والصِّغَر والكِبَر، وبعد ذلك يعتريها الزّوال، أمّا حياة الآخرة الّتي وصفها الله سبحانه وتعالى بأنّها الحيوان يعني: مبالغة في الحياة، فهي حياة لا أغيار فيها ولا زوالَ لها، إذن لدينا حياتان: حياة لِبنْية المادّة وبها تتحرّك وتُحِسّ وتعيش، وحياة أخرى باقية لا زوالَ لها، لذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 24]، كيف ونحن أحياء؟ قالوا: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ ليست حياة الدّنيا المادّيّة الّتي تعتريها الأغيار، إنّما يحييكم الحياةَ الحقيقيّة في الآخرة، الحياة الباقية الّتي لا تزول، الّتي قال الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: من الآية 64]، يعني: العلم الحقيقيّ الّذي يهدي صاحبه، فإن كانت الحياة المادّيّة الدّنيويّة بنفْخ الرّوح في الإنسان، فبِمَ تكون الحياة الثّانية ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾  [الأنفال: من الآية 24]؟ قالوا: هذه الحياة تكون بروح أيضاً، لكن غير الرّوح الأولى، إنّها بروح القرآن الكريم الّذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾[الشّورى: من الآية 52]، وسمَّى الـمَلك الّذي ينزل به روحاً: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾[الشّعراء]، فالرّوح الثّانية الّتي تُحييك الحياة الحقيقيّة الخالدة هي منهج الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، إن اتّبعته نِلْتَ هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتّعتَ فيها بما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وهي لا مقطوعة ولا ممنوعة.

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾: كفور: صيغة مبالغة من كافر، والكفور الّذي لم يعرف للمنعِم حَقّ النّعمة، مع أنّه لو تبيَّنها لما انفكَّ أبداً عن شكر المنعم سبحانه وتعالى، والإنسان يمرُّ بمراحل مختلفة بين الحياة والموت، كما جاء في قوله عزَّ وجلّ: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾[غافر]، فمتى سيقولون هذا الكلام؟ قالوا: هذا يوم القيامة، وقد أحياهم الله سبحانه وتعالى من موت العدم، فأحياهم في الدّنيا ثمّ أماتهم، ثمّ أحياهم في الآخرة، فهناك موت قبل إيجاد، وموت بعد إيجاد، ثمّ يأتي البعث في القيامة، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾، قضيّة قالها الخالق عزَّ وجلّ، ولم يدّعها أحد لنفسه مع كثرة الكفّار والملاحدة والأفّاقين في كلّ زمان ومكان، لم نسمع مَنِ ادَّعَى مسألة الخَلْق، وهذه قضيّة يجب أن نقف عندها وأن نبحث: لماذا لم يظهر مَنْ يدَّعي ذلك؟ وإذا لم يَدَّع الخَلْق أحدٌ، ولم يدَّع الإحياء أحد، فمَنْ صاحب الخَلْق والإحياء والإماتة؟ إنّه الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (67) - لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ

﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السّلام خليفة له في الأرض، وأجرى له تدريباً على مهمّته بالأمر الإلهيّ والنّهي الإلهيّ في جنّة التّجربة قبل أن يهبط إلى الأرض، وأخبره بعداوة الشّيطان له ولذرّيّته، وحذَّره أن يتّبع خطواته، وقد انتهت هذه التّجربة بنزول آدم من الجنّة إلى الأرض ليباشر مهمّته كخليفة لله سبحانه وتعالى في أرضه على أنْ يظلَّ على ذِكْر من تجربته مع الشّيطان، وقد سخَّر الله عزَّ وجلّ له كلّ شيء في الوجود يخدمه ويعمل من أجله، ثمّ أنزل الله سبحانه وتعالى عليه منهجاً، يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذرّيّته، وذكَّره بالمنهج التّدريبيّ السّابق الّذي كلَّفه به في الجنّة، وما حدث له لـمّا خالف منهج الله عزَّ وجلّ، حيث ظهرت عورته: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾[الأعراف: من الآية 22]، كذلك إنْ خالفتم هذا المنهج الإلهيّ في الدّنيا ستظهر عوراتكم، فإذا رأيت أيّ عورة في المجتمع في أيّ ناحية: في الاجتماع، في الاقتصاد، في التّربية، فقطعاً نكون قد خالفنا الله سبحانه وتعالى، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لأنّ منهج الله سبحانه وتعالى هو قانون الصّيانة الّذي يحمينا وينظّم حياتنا؛ لنؤدّي مهمّتنا في الحياة، لذلك كان النّبيّ عليه السّلام إذا حَزَبه أمر قام إلى الصّلاة، ومعنى: حَزَبه أمر: يعني: شيء فوق طاقته وأسبابه، فكان يُهرَع إلى الصّلاة ليعرض نفسه على ربّه عزَّ وجلّ، فإنْ وجدنا في أنفسنا خللاً في أيّ ناحية، فما علينا إلّا أنْ نتوضّأ، ونقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ليصلح ما تعطّل فينا، ومنهج الله سبحانه وتعالى الّذي وضعه لصيانة خَلْقه فيه أصول وفيه فروع، فالأصول: أن تؤمن بالإله الواحد الفاعل المختار، وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيٌّ من رسالات السّماء أبداً، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشّورى: من الآية 13]، فهذه أصول لا يختلف عليها دين من الأديان، لكن لـمّا كان النّاس منثورين في شتّى بقاع الأرض، تعيش كلّ جماعة منهم منعزلةً عن الأخرى لبُعْد المسافات وانعدام وسائل الاتّصال والمواصلات والالتقاء الّتي نراها اليوم الّتي جعلتْ العالم كلّه قرية واحدة، ما يحدث في أقصى الشّرق نراه ونسمع به في أقصى الغرب، وفي الوقت نفسه، عاش النّاس هذه العزلة لا يدري أحد بأحد لدرجة أنّهم كانوا منذ مئتي عام يكتشفون قارّات جديدة، وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعدّدت الأدواء بتعدّد الجماعات، فكان الله سبحانه وتعالى يرسل رسولاً أو نبيّاً ليعالجها في جماعة بعينها، ويُبعَث إلى قومه خاصّة، فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان، وهذا ليعالج طغيان المال، وهذا ليعالج انحراف الطّباع وشذوذها، وهذا ليعالج التّعصّب القبليّ، أمّا رسالة محمّد عليه السّلام، فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك، فكانت رسالته عليه السّلام عامّة للنّاس كافّة، وإلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها، ونجد أصول الرّسالات عند موسى وعيسى ومحمّد عليهم الصّلاة والسّلام أصولاً واحدة، أمّا الفروع فتختلف باختلاف البيئات، لكن لـمّا كان في علمه سبحانه وتعالى أنّ هذه العزلة ستنتهي، وأنّ هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر واحد وستتّحد فيها الأدواء؛ لذلك أرسل الرّسول الخاتم لهم جميعاً على امتداد الزّمان والمكان، وفي هذه الآية: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾؛ أي: أنّ الحقّ سبحانه وتعالى جعل لكلّ أمّة من الأمم الّتي بعث فيها الرّسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لأنّهم كانوا في عزلة بعضهم عن بعض، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: من الآية 48]، فالشّرائع تختلف في الفروع المناسبة للزّمان والمكان والبيئة، أمّا الأخلاق والعقائد فهي واحدة، فالله عزَّ وجلّ إله واحد في ديانات السّماء كلّها، والكذب مُحرَّم في ديانات السّماء كلّها، فلم يأْتِ نبيّ من الأنبياء ليبيح الكذب لقومه.

المنسك: المنهج التّعبديّ، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام].

﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾: يعني: فاعلوه.

﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ﴾: كأنْ يقولوا: أنت رسول ونحن أيضاً نتّبع رسولاً، له منهج وله شريعة، نعم: لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على الشّرائع كلّها قبلها، ومناسبة لمستجدّات الأمور، لذلك يُطمئن الحقّ سبحانه وتعالى رسوله عليه السّلام بعدها:

﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾: يعني: اطمئنّ، فأنت على الحقّ وادْعُ إلى ربّك؛ لأنّك على هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيماناً فسيكون إصلاحاً وتقنيناً بشريّاً تلجئهم إليه أحداث الحياة ومشكلاتها، فلن يجدوا أفضل من شرع الله عزَّ وجلّ يحكمون به، وإنْ لم يؤمنوا، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول لرسوله عليه السّلام: لا تنازعهم ولا ينازعونك، وخُذ ما أمرك الله به: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾[الحجر] الّذين يجادلونك وينازعونك في الرّسالة، وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور، ويلجؤون إلى شرعك ليحلّوا به مشكلاتهم.

﴿هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾: الهدى وُصِف بأنّه مستقيم؛ لأنّه من الله سبحانه وتعالى صنعه لك، هدى الخالق الّذي يعلم ملَكات النّفس الإنسانيّة كلّها، وشرع لكلّ ملكة ما يناسبها، وأحداث الحياة ستضطرّهم إلى ما قنّن الله سبحانه وتعالى لخلافته في الأرض.

الآية رقم (68) - وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ

﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ﴾: الجدل: مأخوذ من جَدْل الحبل بعضه على بعض لتقويته، وإنْ كانت خيطاً رفيعاً نبرمه فنعطيه سُمْكاً وقوّة؛ لذلك الخيط حين نبرمه يقلّ في الطّول؛ لأنّ أجزاءه تتداخل فيكون أقوى، فالجدْل من تمتين الشّيء وتقويته، وكذلك الجدال؛ هو محاولة تقوية الحجّة أمام الخَصْم، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النّحل: من الآية 125]، فالمعنى: إنْ جادلوك بعد الّتي هي أحسن، فقُلْ:

﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: يعني: ردّهم إلى الله سبحانه وتعالى واحتكم إليه؛ لذلك جاء بعدها:

الآية رقم (69) - اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

لاحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى لم يقُلْ: يحكم بيننا وبينكم كما يقتضي المعنى، وكأنّه جلّ وعلا يقول لرّسوله عليه السّلام: اتركهم فسوف يختلفون فيما بينهم، ولن يظلّ الخلاف معك؛ لأنّ الخلاف في شيء واحد ينشأ عن هوى النّفس، وهوى النّفس ينشأ من الحرص على المصالح، يعني: أرحْ نفسك، فربُّك سيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

الآية رقم (70) - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

هذه قضيّة حكم بها الحقّ سبحانه وتعالى لنفسه، ولم يدَّعِها أحد، فلا يعلم ما في السّماء والأرض إلّا الله عزَّ وجلّ، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة، فربّما اعترض أحد وقال: ما دام الأمر من الله سبحانه وتعالى أحكاماً تنظّم حركة الحياة، وقد جاء كلّ رسول بها، فما ضرورة أنْ يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاس كافّة؟ قلنا: إنّ الدّين لا يختلف باختلاف الرّسل والأمم والعصور، وهذا في القضايا العامّة الشّاملة الّتي لا تتغيّر، وهي العقائد والأصول والأخلاق، أمّا الشّرائع فتختلف باختلاف العصور والأمم، فيأتي الحكم مناسباً لكلّ عصر، ولكلّ أمّة، وما دام الله سبحانه وتعالى هو الّذي سيحكم بين الطّرفين، قال: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ ، أَعْلَم كلّ شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه، فهو يحكُم عن علم وعن خبرة.

﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾: والعلم شيء، والكتاب شيء آخر، فما دام الله سبحانه وتعالى يعلم كلّ شيء، وما دام سبحانه وتعالى لا يضلّ ولا ينسى، فما ضرورة الكتاب؟ قال العلماء: الكتاب يعني به اللّوح المحفوظ الّذي يحوي كلّ شيء، وفي آية أخرى قال جلَّ جلاله: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾[عبس]، حتّى القرآن الكريم نفسه في ذلك الكتاب: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرّعد]، ويقول جلَّ جلاله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام]، فضرورة الكتاب ليدلّنا، وليدلّ الملائكة المطَّلعين على أنّ الأشياء الّتي تحدث مستقبلاً كتبها الله سبحانه وتعالى أزلاً، فالّذي كتب الشّيء قبل أنْ يكون، ثمّ جاء الشّيء موافقاً لما كُتب أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته، فمجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء، إنّما ليكون حُجَّة علينا، فيقال لنا: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الإسراء]، ها هو تاريخك، وها هي قصّتك، ليس كلاماً من عندنا، وإنّما فعلْك والحجّة عليك، وعِلْم الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد، وهذا من عجائب الأداء القرآنيّ، أنْ يعطي الشّيء ونقيضه، كيف؟ هَبْ أنّ عندك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر في غَيبتك، فلمّا عُدْتَ أسرعا بالشّكوى، فقلتَ لهما: اسكتا لا أسمع لكما صوتاً، وقد عرفتُ ما حدث وسأرتّب لكلّ منكما ما يناسبه وما يستحقّه على وَفْق ما علمت، لا شكَّ عندها أنّ المظلوم سيفرح ويستبشر، وأنّ الظّالم سيخاف ويتغيّر لونه، فعلم الله سبحانه وتعالى بكلّ شيء في السّماء والأرض وإحاطته سبحانه وتعالى بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحقّ، ووعيد للمبطل.

الآية رقم (71) - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾: كأنّ العبادة -وهي: طاعة أمر واجتناب نهي- يجب أن تكون صادرة من أعلى منّا جميعاً، فليس لأحد منّا أن يُشرِّع للآخر، فيأمره أو ينهاه، فالدّين لا يأتي من المساوي لك، وإنّما يأتي ممّن هو أعلى منك، وهو الّذي يقول لك: افعل ولا تفعل، وهذا حلال وهذا حرام، وهنا لا تستطيع أن تعترض؛ لأنّها جاءت من الله سبحانه وتعالى الخالق، فكلّ دليل على حكم الفعل أو التّرك لا بُدَّ أنْ يكون مصدره من الحقّ سبحانه وتعالى، فهو الأعلى، فإذا انصعْنا لأمره ونهيه فلا ضرر؛ لأنّنا ننصاع للخالق سبحانه وتعالى.

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: يعني: يعبدون غيره سبحانه وتعالى.

﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾: السّلطان: إمّا سلطان قَهْر، أو سلطان حجّة، سلطان القهر أن يقهرك ويجبرك على ما لم تُرِدْ فِعْله، أمّا سلطان الحجّة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجّة أن تفعل باختيارك، وهذه الآلهة الّتي يعبدونها من دون الله عزَّ وجلّ ليس لها سلطان، لا قَهْر ولا حُجّة؛ لذلك في جدل إبليس يوم القيامة للّذين اتّبعوه يقول لهم: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: من الآية 22]، يعني: كنتم على إشارة فاستجبتم لي، وليس لي عليكم سلطان، لا قوّة أقهركم بها على المعصية، ولا حجّة أقنعكم بها.

﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾: يعني: علم الاجتهاد الّذي يستنبط الأحكام من الحكم الـمُجْمل الّذي يُنزله الحقّ سبحانه وتعالى، وهذه هي حجّة العلم الّتي قال الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النّساء: من الآية 83]، يعني: أهل العلم، فالعبادة لا بُدَّ أن تكون بسلطان من الله تعالى نصّاً قاطعاً وصريحاً لا يحتمل الجدل، وإمّا أنْ تكونَ باجتهاد أُولِي العلم.

﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾: لم يقُلْ سبحانه وتعالى: لن ينتصر الظّالمون، ولم ينْفِ عنهم النّصر؛ لأنّهم في الآخرة لن ينتصروا، ولن يستطيع أحد نصرتهم، ولا يمكن أن يفزع لهم أحد في الآخرة.

الآية رقم (72) - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

تصوّر هذه الآية حال الكفّار عند سماعهم لكتاب الله عزَّ وجلّ وآياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته، فإذا سمعوها: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ﴾؛ أي: الكراهية تراها في وجوههم عُبُوساً وتقطيباً وغضباً وانفعالاً، ينكرون ما يسمعون، ويكاد أن يتحوّل الانفعال إلى نزوع غضبيّ، يفتكون بمَنْ يقرأ القرآن الكريم لما بداخلهم من شرٍّ وكراهية لما يتلى عليهم، لذلك قال سبحانه وتعالى بعدها:

﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾: السَّطْو: الفَتْك والبطش؛ لأنّ العمل الوجدانيّ الّذي يشغل نفوسهم يظهر أوّلاً على وجوههم انفعالاً يُنبئ بشيء يريدون إيقاعه بالمؤمنين، ثمّ يتحوّل الوجدان إلى نزوع حركيّ هو الفتك والبطش.

﴿قُلْ﴾: في الرّدّ عليهم: ماذا يُغضِبكم حتّى تسطوا علينا، وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب الله عزَّ وجلّ؟ والغيظ والكراهية عند سماعهم القرآن الكريم دليل على عدم قدرتهم على الرّدّ بالحجّة، وعدم قدرتهم أيضاً على الإيمان؛ لذلك يخاطبهم بقوله:

﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: يعني: ما لي أراكم مغتاظين من آيات الله عزَّ وجلّ كارهين لها الآن، والأمر ما يزال هيِّناً؟ أمجرّد سماع الآيات يفعل بكم هذا كلّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النّار في الآخرة: ﴿النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.

﴿وَعَدَهَا﴾: الوعد دائماً يكون بالخير، أمّا هنا فاستُعملَتْ على سبيل الاستهزاء بهم والتّقليل من شأنهم، كما قال في آية أخرى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق]، فساعةَ أن يسمع البُشْرى يستشرف للخير، فيفاجئه العذاب، فيكون أنكَى له.

﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾: أي: ساءت نهايتكم ومرجعكم.

الآية رقم (56) - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾: لقائلٍ أنْ يقول: أليس الملْك لله سبحانه وتعالى يومئذ، وفي كلّ يوم؟ نعم، الملْك لله سبحانه وتعالى في الدّنيا وفي الآخرة، لكن في الدّنيا خلق الله عزَّ وجلّ خَلْقاً وملّكهم، وجعلهم ملوكاً من باطن مُلْكه جلَّ جلاله، لكنّه مُلْك لا يدوم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران]، ففي الدّنيا ملوك مَلّكهم الله سبحانه وتعالى أمراً من الأمور، ففيها ملك للغير، أمّا في الآخرة فالملْك لله سبحانه وتعالى وحده: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[غافر: من الآية 16]، وفي القيامة: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾، فقد رَدَّ الملْك كلّه إلى صاحبه، ورُدَّت الأسباب إلى مُسبِّبها.

﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾: معناها أنّ هناك خصومةً بين طرفين، أحدهما على حقّ، والآخر على باطل، والفَصْل في خصومات الدّنيا تحتاج إلى شهود، وإلى بيّنة، وإلى يمين، فيقولون في المحاكم: البيّنة على المدَّعي واليمين على مَنْ أنكر، هذا في خصومات الدّنيا، أمّا خصومات الآخرة فقاضيها الله سبحانه وتعالى الّذي يعلم السّرَّ وأخفى، فلا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود ولا سلطة تُنفِّذ ما حكم به، فمحكمة الآخرة لا تحتاج فيها إلى مُحامٍ، ولا تستطيع فيها أنْ تُدلِّس على القاضي، أو تُؤجِّر شاهد زور، لا تستطيع في محكمة الآخرة أن تستخدم سلطتك الزّمنيّة فتنقض الحكم، أو تُسقطه؛ لأنّ الملْك يومئذٍ لله وحده، والحكم يومئذٍ لله وحده، هو سبحانه وتعالى القاضي والشّاهد والمنفِّذ، الّذي لا يستدرك على حكمه أحد، ففي الدّنيا لا بُدَّ أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه، وفي الآخرة الحكم من الله عزَّ وجلّ، ويُوضِّحهما قوله سبحانه وتعالى:

﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: الّذين عملوا الصّالحات هم الفائزون، وهم الّذين عملوا في الدّنيا حتّى وصلوا إلى الفوز في الآخرة.

الآية رقم (57) - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

هؤلاء هم الجبابرة وأصحاب العناد والكفر، الّذين حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالعذاب الّذي يُهينهم بعد عِزَّتهم في الدّنيا، ونلحظ أنّ العذاب يُوصَف مرّة بأنّه أليم، ومرّة بأنّه عظيم، ومرّة بأنّه مُهين، فالعذاب الأليم الّذي يُؤلم صاحبه، لكنّه قد يكون لفترة ثمّ ينتهي، أمّا العذاب العظيم فهو الدّائم، والمهين هو الّذي يُذِّله ويدوس كرامته الّتي طالما اعتزّ بها.

الآية رقم (58) - وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا﴾: وفي موضع آخر يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحجّ: من الآية 40]، هؤلاء تحمّلوا الكثير، وتعبوا في سبيل عقيدتهم، فلا بُدَّ أنْ يُعوِّضهم الله سبحانه وتعالى عن هذه التّضحيات، لذلك يقول هنا: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾، وأوضحنا أنّ الموت غير القتل: الموت أن تخرج الرّوح دون نَقْضٍ للبنية، أمّا القتل فهو نَقْض للبِنْية يترتّب عليه خروج الرّوح.

﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾: تعويضاً لهم عَمَّا فاتوه في بلدهم من أهل ومال، فالله سبحانه وتعالى يعطيهم أكثر ممَّا تركوا؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في موضع آخر: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النّساء: من الآية 100]؛ لأنّ مَنْ قُتِل فقد فاز بالشّهادة ونال إحدى الحُسنْيين، أمّا مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشّرف؛ لذلك فقد وقع أجره على الله سبحانه وتعالى، وما بالنا بأجر مُؤدِّيه ربّنا سبحانه وتعالى؟

﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾: حين يصف الله سبحانه وتعالى ذاته بصفة، ثمّ تأتي بصيغة الجمع، فهذا يعني أنّ الله سبحانه وتعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصّفة، كما سبق أنْ تكلّمنا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 14]، فقد أثبت للخَلْق صفة الخَلْق، وأشركهم معه سبحانه وتعالى في هذه الصّفة؛ لأنّه جلَّ جلاله لا يبخس عباده شيئاً، ولا يحرمهم ثمرة مجهودهم، فكلّ مَنْ أوجد شيئاً فقد خلقه، حتّى في الكذب قال: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: من الآية 17]؛ لأنّ الخَلْق إيجاد من عدم، كذلك يقول سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ فهناك من يرزق، لكنّ خير الرّازقين هو الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (59) - لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ

﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ﴾: لأنّ الرّزق قد يكون حسناً، لكنّه لا يُرضِي صاحبه، أمّا رزق الله سبحانه وتعالى لهؤلاء فقد بلغ رضاهم، والرّضا: هو اقتناع النّفس بشيء تجد فيه متعة، بحيث لا تستشرف إلى أعلى منه، ولا تبغي أكثر من ذلك؛ لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنّة بنعيمها، مِمَّا لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، يتجلَّى الحقّ سبحانه وتعالى عليهم فيقول لعباده المؤمنين: يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيْتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين؟ قال: ألا أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا: وهل شيء أفضل ممّا نحن فيه؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى لنبيّه محمّد عليه السّلام: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾[الضّحى]، وقوله جلَّ جلاله: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[الفجر]، يبالغ في الرّضا، حيث يتعدّاك الرّضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية، وكأنّها تعشقك هي، وترضى بك، ثمّ يقول سبحانه وتعالى:

﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾: عليم: بما يستحقّه كلّ إنسان عند الحساب من النّعيم، ثمّ يزيد مَنْ يشاء من فضله، فليس حساب ربّنا في الآخرة كحسابنا في الدّنيا، إنّما حسابُه سبحانه وتعالى بالفضل لا بالعدل.

وحليم: يحلم على العبد إنْ أساء، ويتجاوز للصّالحين عن الـهَفَوات، فإنْ خالط عملك الصّالح سوء، وإنْ خالفت منهج الله عزَّ وجلّ في غفلة أو هفوة، فلا تجعل هذا يعكّر صفو علاقتك بربّك أو يُنغِّص عليك طمأنينة حياتك؛ لأنّ ربّك حليم سيتجاوز عن مثل هذا، لذلك عندما وَشَى أحد المؤمنين للكفّار في فتح مكّة، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الـمُنَافِقِ، قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»([1])، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[هود: من الآية 114]، ومَنِ ابتُلِي بشيء يضعف أمامه، فليكن قويّاً فيما يقدر عليه، وإنْ غلبك الشّيطان في باب من أبواب الشّرّ فشمِّر له في أبواب الخير، فإنّ هذا يُعوِّض ذاك.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجهاد والسّير، باب الجاسوس، الحديث رقم (3007).

الآية رقم (60) - ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

﴿ذَلِكَ﴾: يعني: هذا الأمر الّذي تحدّثنا فيه قد استقرّ، وإليك هذا الكلام الجديد:

﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدّي خلافته في الأرض بحركات متوازنة، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمّة، هذه العواطف لا يحكمها قانون، وخلق لنا أيضاً غرائز ولها مهمّة، لكنّها محكومة بقانون، فإيّاك أنْ تتعدّى بغريزتك إلى غير المهمّة الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى لها، فمثلاً غريزة حبّ الطّعام جعلها الله سبحانه وتعالى فينا لاستبقاء الحياة، فلا نجعلها غرضاً أصيلاً لذاتها، فنأكل لمجرّد أنْ نتلذَّذ بالأكل؛ لأنّها لذّة وقتيّة تعقبها آلام ومتاعب طويلة، وهذه الغريزة جعلها الله سبحانه وتعالى في النّفس البشريّة منضبطة تماماً كما تضبط المنبّه مثلاً، فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطّعام وطلبته، وإنْ عطشت مالتْ نفسك نحو الماء، وكأنّ بداخلك جرساً يُنبِّهك إلى ما تحتاجه بُنيَتُك من مُقوِّمات استبقائها، حبّ الاستطلاع غريزة جعلها الله سبحانه وتعالى فينا لننظر بها ونستطلع ما في الكون من أسرار دالّة على قدرة الله عزَّ وجلّ وعظمته، فلا تتعدّى هذا الغرض، ولا تحرِّك هذه الغريزة إلى التّجسُّس على الخَلْق والوقوف على أسرارهم، التّناسل غريزة جعلها الله سبحانه وتعالى لحِفْظ النّوع، فلا ينبغي أنْ تتعدّى ما جُعِلَت له إلى ما حرَّم الله سبحانه وتعالى، الغضب غريزة وانفعال قَسْريّ لا نختاره بعقولنا نغضب أو لا نغضب، إنّما إنْ تعرّضتَ لأسبابه فلا تملك إلّا أنْ تغضب، ومع ذلك جعل له حدوداً، وقنَّن له، وأمر فيه بضبط النّفس وعدم النّزوع، والحبّ والكُرْه غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون، ولا يحكمها العقل، فلنا أن نحبّ وأن نكره، لكن علينا ألّا نتعدَّى هذه العاطفة إلى عمل عقليٍّ ونزوع نعتدي به أو نظلم، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾[المائدة: من الآية 8]؛ لأنّ هذه المسألة لا يحكمها قانون، وليس بيدك الحبّ أو الكره؛ لذلك لـمّا قابل سيّدنا عمر رضي الله عنه قاتل أخيه زيد، قال له عمر: أَدِرْ وجهك عنّي فإنِّي لا أحبّك، وكان الرّجل عاقلاً فقال لسيّدنا عمر: أَوَ عَدمُ حبّك لي يمنعني حقّاً من حقوقي؟ قال عمر: لا، فقال الرّجل: إنّما يبكي على الحبّ النّساء، يعني أحبّ أو اكره كما شِئْتَ، لكن لا تحرمني حقّاً من حقوقي، فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأمّلنا مثلاً الغريزة الجنسيّة الّتي يصِفُها بعضهم بِمْلء فِيه أنّها: غريزة بهيميّة، سبحان الله ألَا يستحي هؤلاء أنْ يظلموا البهائم لمجرّد أنّها لا تتكلّم، وهي أفهم لهذه الغريزة منهم، ألَا يرون أنّه بمجرّد أن يُخصِّب الذّكَر أُنثاه لا يقربها أبداً، وهي لا تمكِّنه من نفسها إذا ما حملَتْ، في حين أنّ الإنسان يبالغ في هذه الغريزة، وينطلق فيها انطلاقاً يُخرِجها عن هدفها والحكمة منها؟ فمن النّاس -من خلال غريزته الجنسيّة- مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير، وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطّعام والشّراب، فالخالق سبحانه وتعالى خلق الغرائز فينا، ولم يكبتها، وجعل لها منافذ شرعيّة لتؤدّي مهمّتها في حياتنا؛ لذلك أحاطها بسياج من التّكليف يُنظِّمها ويحكمها حتّى لا تشرد بنا، فقال مثلاً في غريزة الطّعام والشّراب: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾[الأعراف: من الآية 31]، وقال في غريزة حبّ الاستطلاع: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾[الحجرات: من الآية 12]، وهكذا في غرائزنا كلّها نجد لها حدوداً يجب علينا ألّا نتعدّاها؛ لذلك قلنا في صفات الإيمان وفي صفات الكفر: إنّ الله سبحانه وتعالى يصف المؤمنين بأنّهم: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[الفتح: من الآية 29]؛ لأنّهم يضعون كلّ غريزة في موضعها، فالشّدّة مع الأعداء، والرّحمة مع إخوانهم المؤمنين، ويقف عند هذه الحدود لا يقلب المقاييس، ويلتزم بقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[المائدة: من الآية 54]، وكأنّ الخالق عزَّ وجلّ يُسوِّينا تسوية إيمانيّة، فالمؤمن لم يُخلَق عزيزاً ولا ذليلاً، إنّما الموقف هو الّذي يضعه في مكانه المناسب، فهو عزيز شامخ أمام العدوّ، وذليل مُنكسِر متواضع مع المؤمنين، ويتفرّع عن هذه المسألة مسألة ردِّ العقوبة إذا اعتُدِي علينا: ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾، الحقّ سبحانه وتعالى هو خالق النّفس البشريّة، وهو أعلم بنوازعها وخَلَجاتها؛ لذلك أباح لنا إن اعتَدى علينا أحد أنْ نردَّ الاعتداء بمثله، حتّى لا يختمر الغضب في نفوسنا، وقد ينتج عنه ما هو أشدّ وأبلغ في ردِّ العقوبة، يبيح لنا الرّدّ بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحدّ ولا تتفاقم، فمَنْ ضربنا ضربة فلنا أنْ نُنفِّس عن نفوسنا ونضربه مثلها، لكن لا بدّ أن نرى ما قاله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾[النّحل]، وهل تستطيع أن تضبط هذه المثليّة فتردّ الضّربة بمثلها؟ وهل قوّتك كقوّته، وحِدَّة انفعالك كحِدَّة انفعاله؟ والأفضل أن تصبر على الأذى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾[النّحل: من الآية 127]، فلنا في التّسامح سِعَة، وفي قول الله سبحانه وتعالى بعدها: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾[النّحل: من الآية 126]، مَخْرج من هذا الضّيق، وسبق أنْ حكينا قصّة المرابي اليهوديّ الّذي قال لطالب الدَّيْن: إن تأخّرت في السّداد أشترط عليك أنْ آخذ رطلاً من لحمك، وجاء وقت السّداد ولم يُوف المدين، فرفعه الدّائن إلى القاضي وأخبره بما اشترطه عليه، فقال القاضي: نعم، من حقّك أن تأخذ رطلاً من لحمه لكن بضربة واحدة بالسّكين تأخذ رطلاً، إنْ زاد أو نقص أخذناه منك، فمسألة المثليّة هنا عقبةٌ تحدُّ من ثورة الغضب، وتفتح باباً للارتقاءات الإيمانيّة للعفو، فإنْ كان الحقّ سبحانه وتعالى سمح لك أن تُنفِّس عن نفسك فقال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشّورى: من الآية 40]، فإنّه يقول لك: لا تنسَ العفو والتّسامح: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: من الآية 134]؛ لذلك فالآية الّتي معنا تلفتنا لَفْتةً إيمانيّة: ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾، واحدة بواحدة: ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾، يعني: زاده بعد أنْ ردَّ العدوان بمثله وظلمه واعتدى عليه: ﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾، ينصره على المعتدي الّذي لم يرض حكم الله عزَّ وجلّ في رَدِّ العقوبة بمثلها، وتلحظ في قوله سبحانه وتعالى مخايل النّصر بقوله:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾: مع أنّ الصّفة الّتي تناسب النُّصْرة تحتاج قوّة وتحتاج عزّة، لكنّه سبحانه وتعالى اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر مَنْ أراد أنْ يعاقب إلى هذه الارتقاءات الإيمانيّة: اغفر وارحم واعْفُ؛ لأنّ ربّك عفوّ غفور، فاختار الصّفة الّتي تُحنِّن قلب المؤمن على أخيه المؤمن، ثمّ أليس لك ذنب مع الله سبحانه وتعالى؟ ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النّور: من الآية 22]، فما دُمْت تحبّ أن يغفر الله سبحانه وتعالى لك فاغفر لعباده، وحين تغفر لـمَنْ يستحقّ العقوبة تأتي النّتيجة كما قال ربّك عزَّ وجلّ: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصّلت: من الآية 34]، فالحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يشيع بيننا الصّفاء النّفسيّ والتّلاحم الإيمانيّ، فأعطانا حقَّ رَدِّ العقوبة بمثلها لننفِّس عن أنفسنا الغيظ، ثمّ دعانا إلى العفو والمغفرة.