الآية رقم (86) - وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ

﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا﴾: الرّحمة هنا بمعنى النّبوّة، وهي أمر عظيم وعطاء كبير، فإنْ تحمّلوا في سبيله بعض المتاعب، فلا غضاضةَ في ذلك.

﴿إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: فعنوان النّبوّات والرّسالات هو الصّلاح والإصلاح، ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾[هود: من الآية 88]، فيأتي الأنبياء لإصلاح العقائد والانحرافات والأخلاق، فالأنبياء ليسوا فقط صالحين بذاتهم، إنّما مصلحين لغيرهم أيضاً.

الآية رقم (87) - وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

﴿وَذَا النُّونِ﴾: هو سيّدنا يونس بن متّى صاحب الحوت، والنّون من أسماء الحوت، وجمعه (نينان) كحوت وحيتان؛ لذلك سُـمِّيَ به، وقد أُرسل يونس عليه السّلام إلى أهل (نِينَوى) من أرض الموصل بالعراق، وقد قال النّبيّ عليه السّلام لعدّاس: «مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»([1]).

والنّون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر، كما في (ق) وهو اسم جبل، وكذلك السّين، فهناك نهر اسمه نهر السّين.

﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾: مادّة (غضب) نأخذ منها الوصف للمفرد، نقول: غاضب وغضبان، أمّا (مغاضِب) فتعطي معنى آخر؛ لأنّها تدلّ على المفاعلة، فلا بُدَّ أنّ أمامك شخصاً آخر، أنت غاضب وهو غاضب، مثل: شارك فلان فلاناً، لكن في أصول اللّغة رجّحنا جانب الفاعليّة في أحدهما، والمفعُوليّة في الآخر، كما نقول: شارك زيدٌ عَمْراً، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً، لكن جانب الفاعليّة أزيد من ناحية زيد، فكلُّ واحد منهما فاعل مرّة ومفعول أخرى، واللّغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة؛ فتُحمِّل اللّفظ المعنيين معاً: الفاعل والمفعول.

فَلماذا غضب ذو النّون؟ غضب لأنّ قومه كذّبوه، فتوعّدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزل بهم العذاب، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعّدهم به، فخاف أنْ يُكذِّبوه، وأن يتجرَّؤوا عليه، فخرج من بينهم مغاضِباً إلى مكان آخر، وهو لا يعلم أنّهم تابوا فأخّر الله سبحانه وتعالى عذابهم، وأجّل عقوبتهم، وفي آية أخرى يُوضِّح الحقّ سبحانه وتعالى هذا الموقف: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس]؛ أي: لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلّا قرية واحدة هي قوم يونس، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله سبحانه وتعالى عذابهم، فخرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً؛ لأنّ قومه شاركوه، وكانوا سبب غضبه.

﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾: بعضهم ينظر في الآية نظرةً سطحيّة، فيقول: كيف يظنّ يونس عليه السّلام أنّ الله عزَّ وجلّ لن يقدر عليه؟ وهذا الفَهْم ناشئ عن جَهْل باستعمالات اللّغة، فليس المعنى هنا من القدرة على الشّيء والسّيطرة، ولو استوعبتَ هذه المادّة في القرآن الكريم (قَدَرَ) لوجدت لها معنى آخر، كما في قوله جلَّ جلاله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾[الطّلاق: من الآية 7]، معنى قُدِر عليه رزقه: ضُيِّق عليه، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾[الإسراء: من الآية 30]، ومنها قوله جلَّ جلاله: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر]، فقدر؛ أي: ضيّق، فقوله: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أنّ يونس عليه السّلام لـمّا خرج من بلده مُغاضباً لقومه ظنَّ أنّ الله سبحانه وتعالى لن يُضيِّق عليه، بل سيُوسِّع عليه ويُبدله مكاناً أفضل منها، بدليل أنّه قال بعدها: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، يريد منه سبحانه وتعالى تنفيس كربته، وتنفيس الكربة لا يكون إلّا بصفة القدرة لله عزَّ وجلّ، فالمعنى: لن يُضيِّق عليه؛ لأنّه يعلم أنّه رسول من الله عزَّ وجلّ، وأنّ ربّه لن يُسلْمه، ولن يخذله، ولن يتركه في هذا الكرب. وقد وُجدَتْ شبهة في قصّة يونس عليه السّلام في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الصّافّات]، فكيف يلبث في بطن الحوت إلى يوم يُبعثون، مع أنّ يونس عليه السّلام سيموت، وسيأتي أجَل الحوت ويموت هو أيضاً، أم أنّ الحوت سيظلّ إلى يوم القيامة يحمل يونس عليه السّلام في بطنه؟ انظروا إلى هذه الأسئلة الّتي لا معنى لها، وفات هؤلاء نظريّة الاحتواء في الأمزجة، كما لو أذبتَ قالباً من السّكر في كوب ماء، فسوف تحتوي جزئيّات الماء جزئيّات السّكر، والأكثر يحتوي الأقلّ، فقالب السّكر لا يحتوي الماء، إنّما الماء يحتوي السّكر، فلو مات الحوت، ومات في بطنه يونس عليه السّلام وتفاعلت ذرّاتهما وتداخلتْ، فقد احتوى الحوتُ يونسَ إلى أن تقوم السّاعة، وعلى هذا يظلّ المعنى صحيحاً، فهو في بطنه مع تناثر ذرّاتهما.

([1]) الرّحيق المختوم: ج1، ص100.

الآية رقم (88) - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ

﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾: استجاب الله عزَّ وجلّ نداء يونس عليه السّلام ونجَّاه من الكرب، من الظّلمات الثّلاث.

﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾: فهذه ليست خاصّة بيونس عليه السّلام، بل بكلّ مؤمن يدعو الله سبحانه وتعالى بهذا الدّعاء.

﴿وَكَذَلِكَ﴾: أي: مثل هذا الإنجاء، نُنْجي المؤمنين الّذين يفزعون إلى الله عزَّ وجلّ بهذه الكلمة: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: من الآية 87]، فيُذهِب الله سبحانه وتعالى غَمَّه، ويُفرِّج كَرْبه، لذلك يقول عبد الله بن مسعود t: “ثوِّروا القرآن”؛ أي: أثيروه ونقِّبوا في آياته لتستخرجوا كنوزه وأسراره، وكان سيّدنا جعفر الصّادق t من المثوِّرين للقرآن الكريم المتأمّلين فيه، وكان يُخرِج من آياته الدّواء لكلّ داء، ويكون كما نقول: (وصفة) للمؤمن الّذي يتقلّب بين أحوال عدّة منها: الخوف ومنها النّعيم ومنها ضيق في الصّدر ومنها الغَمُّ، ومنها المكر، ومنها الكَيْد، ومنها تدبير أهل الشّرّ، وهذه كلّها أحوال تعتري الإنسان، ويحتاج فيها إلى مَنْ يسانده ويُخرجه ممّا يعانيه، فليس له حَوْل ولا قوّة، ولا يستطيع الاحتياط لهذه المسائل كلّها، فيحتاج أن يأخذ هذه القوّة من الله عزَّ وجلّ، فقال الإمام جعفر الصّادق: “عجبت لمن خاف، ولم يفزع إلى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: من الآية 173]، فإنِّي سمعت الله سبحانه وتعالى بعقبها يقول: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾[آل عمران: من الآية 174]، وعجبتُ لـمَنْ اغتمَّ، ولم يفزع إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾  [الأنبياء: من الآية 87]، فإنّي سمعت الله سبحانه وتعالى بعقبها يقول: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: من الآية 88]، وعجبتُ لمن مُكِرَ به، ولم يفزع إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾[غافر: من الآية 44]، فإنّي سمعت الله سبحانه وتعالى بعقبها يقول: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾[غافر: من الآية 45]، وعجبتُ لمن طلب الدّنيا وزينتها، ولم يفزع إلى قوله تعالى: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾[الكهف: من الآية 39]، فإنّي سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: من الآية 40]”، وهكذا يجب على المؤمن أن يكون مُطْمئنّاً واثقاً من معيّة الله عزَّ وجلّ، لذلك نجد أنّ الإمام جعفر الصّادق يقول هنا: سمعت الله سبحانه وتعالى، ويجب أن نقف عند هذه الكلمة، (سمعت الله)؛ أي: أنّ قارئ القرآن الكريم كأنّه يسمع من الله عزَّ وجلّ مباشرة، فهذا كلام الله جلَّ جلاله.

الآية رقم (89) - وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ

لقد بلغ زكريّا عليه السّلام من الكبر عتيّاً، ولم يرزقه الله سبحانه وتعالى الولد، فتوجّه إلى الله عزَّ وجلّ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم]، فلمّا بشَّره الله سبحانه وتعالى بالولد تعجَّب؛ لأنّه نظر إلى مُعْطيات الأسباب، كيف يرزقه الله عزَّ وجلّ الولد، وقد بلغ من الكِبَر عتيّاً وامرأته عاقر، فأراد أن يُؤكّد هذه البُشْرى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم]، يُطمئنُ الله سبحانه وتعالى نبيَّه زكريّا: اطرح الأسباب الكونيّة للخَلْق؛ لأنّ الّذي يُبشِّــرك هو الخالق، وقد تعلَّم زكريّا عليه السّلام من كفالته لمريم أنّ الله سبحانه وتعالى يُعطي بالأسباب، ويعطي إن عزَّتْ الأسباب، وقد تبارى أهل مريم في كفالتها، وتسابقوا في القيام بهذه الخدمة؛ لأنّهم يعلمون شرفها ومكانتها؛ لذلك أجروا القرعة على مَنْ يكفلها، فأتوا بالأقلام ورموْها في البحر فخرج قلم زكريّا، ففاز بكفالة مريم: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾[آل عمران]، وإجراء القرعة لأهمّــيّــة هذه المسألة، وعِظَم شأنها، والقرعة إجراء للمسائل على القَدَر، حتّى لا تتدخّل فيها الأهواء، فلمّا كفَل زكريّا مريم كان يُوفِّر لها ما تحتاج إليه، ويرعى شؤونها، وفي أحد الأيّام دخل عليها، فوجد عندها طعاماً لم يأْتِ به: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ﴾ [آل عمران: من الآية 37]، التقط زكريّا عليه السّلام إجابة مريم الّتي جاءتْ سريعة واثقة، تدلّ على الحقّ الواضح الّذي لا يتلجلج: ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾  [آل عمران: من الآية 37]، هذه مسألة يعرفها زكريّا، لكنّها لم تكُنْ في بُؤْرة شعوره، فقد ذكَّرَتْه بها مريم: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[آل عمران]؛ أي: ما دام الأمر كذلك، فَهَبْ لي ولداً يرثُ النّبوّة من بعدي، ثمّ يذكر حيثيّات ضَعْفه وكِبَر سِنَّه، وكوْنَ امرأته عاقراً، وهي حيثيّات المنع لا حيثيّات الإنجاب؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يرزق مَنْ يشاء بغير حساب وبغير أسباب، وهكذا، استفاد زكريّا عليه السّلام من هذه الكلمة، واستفادتْ منها مريم كذلك فيما بعد، حينما جاءها الحَمْل في المسيح من غير الأسباب الكونيّة، من غير رجل، وهنا يدعو زكريّا عليه السّلام ربّه عزَّ وجلّ، فيقول: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾؛ أي: لا أطلب الولد ليرث مُلْكي من بعدي، فأنت خير الوارثين ترِثُ الأرضَ والسّماء، ولك كلّ شيء.

الآية رقم (90) - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ

كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾:

﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾: فلم تكُنْ استجابة الله سبحانه وتعالى لزكريّا أنْ يهبه الولد حال كِبَره وكوْن امرأته عاقراً فقط، إنّما أيضاً سمّاه يحيى: ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁﲂ [مريم: من الآية 7]، ولله سبحانه وتعالى سِرٌّ في هذه التّسمية؛ لأنّ النّاس أحرار في وَضْع الأسماء للمُسمّيات كما قلنا، فلا مانع أن نسمّي فتاة زنجيّة (قمر)، ولا مانع من أن يكون اسم إنسان سعيد وهو تعيس، فنحن نُسمِّي الأسماء تفاؤلاً أن يكونوا كذلك، لكن، حين يُسمِّي المولى سبحانه وتعالى: يحيى، ولم يكن أحد قد سمّى هذا الاسم، فكأنّه لن يموت، والإنسان عرضة للموت، ولكن من هو المستثنى من الموت؟ إنّه فقط الشّهيد، فعندما سمّاه يحيى فهذا يعني أنّه سيموت شهيداً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران]، فالشّهيد تتحقّق له الحياة حتّى بعد الموت.

﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾: أي: أعطيناه من غير قانون التّكوين الإنسانيّ، ومن غير أسباب.

﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾: فبعَد أنْ كانت عاقراً لا تلد، أجرينا لها عمليّة ربّانيّة أعادتْ لها مسألة الإنجاب؛ لأنّ المرأة تلد طالما فيها البويضات الّتي تكوِّن الجنين، فإذا ما انتهتْ هذه البويضات أصبحت عقيماً، وهذه البويضات في عنقود، ولها عدد مُحدَّد أشبه بعنقود البيض في الدّجاجة، فوُجِد يحيى من غير الأسباب الكونيّة للميلاد؛ لأنّ المكوِّن سبحانه وتعالى أراد ذلك، لكن، لماذا لم يقُلْ لزكريّا: أصلحناك؟ قال العلماء: لأنّ الرّجل صالح للإنجاب ما دام قادراً على العمليّة الجنسيّة، مهما بلغ من الكِبَر على خلاف المرأة، وأصحاب العُقْم وعدم الإنجاب نرى فيهم آيات من آيات الله عزَّ وجلّ، فأحياناً نرى الزّوجين صحيحين، أجهزتُهما صالحة للإنجاب، ومع ذلك لا ينجبان، فإذا ما تزوّج كلّ منهما بزوج آخر ينجب؛ لأنّ المسألة ليست (آليّة)، بل وراء الأسباب الظّاهرة إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته، لذلك يقول جلَّ جلاله: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾[الشّورى]، ثمّ تُوضِّح الآيات سبب وعِلَّة إكرام الله سبحانه وتعالى واستجابته لنبيّه زكريّا عليه السّلام:

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾: هذه صفات ثلاث أهَّلَتْ زكريّا وزوجته لهذا العطاء الإلهيّ، وعلينا أن نقف أمام هذه التّجربة لسيّدنا زكريّا، فهي أيضاً ليستْ خاصّة به إنّما بكلّ مؤمن يُقدِّم من نفسه هذه الصّفات، لذلك أقول لمن يُعاني من العقم وعدم الإنجاب وضاقتْ به أسباب الدّنيا، وطرق باب الأطبّاء أن يلجأ أيضاً إلى الله عزَّ وجلّ بما لجأ به زكريّا عليه السّلام وأهله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾خذوها (وصفة) ربّانيّة، ولن تتخلّف عنكم الاستجابة بإذن الله سبحانه وتعالى، لكن، لماذا هذه الصّفة بالذّات﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾؟ قالوا: لأنّنا نلاحظ أنّ أصحاب العُقْم وعدم الإنجاب غالباً ما يكونون مُـمْسِكين، فليس عندهم ما يُشجِّعهم على الإنفاق، فيستكثرون أن يُخرجوا شيئاً لفقير؛ لأنّه ليس ولدهم، فإذا ما سارعوا إلى الإنفاق وسارعوا في الخيرات بشتّى أنواعها، فقد تحدَّوا الطّبيعة وساروا ضدّها في هذه المسألة، وربّما يميل هؤلاء الّذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالعُقْم إلى الحقد على الآخرين، أو يحملون ضغينة لمن ينجب، فإذا نظروا إلى أولاد الآخرين على أنّهم أولادهم، فعطفوا عليهم وسارعوا في الخيرات، ثمّ توجَّهوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدّعاء رَغَباً ورَهَباً، فإنّ الله عزَّ وجلّ وهو المكوِّن الأعلى يخرق لهم النّواميس والقوانين، ويرزقهم بإذنه سبحانه وتعالى الولد من حيث لا يحتسبون.

﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾: يعني: راضين بقدرنا فيهم، راضين بالعُقْم على أنّه ابتلاء وقضاء، ولا يُرفع القضاء عن العبد حتّى يرضى به، فلا ينبغي للمؤمن أنْ يتمرَّد على قدر الله عزَّ وجلّ، ومن الخشوع التّطامن لمقادير الخَلْق في النّاس.

الآية رقم (91) - وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ

لماذا يأتي ذِكْر السّيّدة مريم ضمن مواكب النّبوّة؟ نقول: لأنّ النّبوّة اصطفاء الله سبحانه وتعالى لنبيّ من بين خَلْقه عزَّ وجلّ، وكوْنه يصطفي مريم من بين نساء العالمين لتلد من غير ذكورة، فهذا نوع من الاصطفاء، وهو اصطفاء خاصّ بمريم وحدها من بين نساء العالمين: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران]، ونلاحظ أنّ اصطفاء الله سبحانه وتعالى للأنبياء يتكرَّر، ففي كلّ مرحلة نبيّ، أمّا اصطفاء مريم لهذه المسألة فلم يتكرّر في غيرها أبداً.

﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾: يعني: عَفَّتْ وحفظتْ فَرْجها، فلم تمكِّن منها أحداً.

﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾: يعني: مسألة خاصّة به، خارجة على قانون الطّبيعة، فليس في الأمر ذكورة أو انتقاء، إنّما النّفخة الّتي نفخها الله عزَّ وجلّ في آدم، فجاءت منها هذه الأرواح كلّها، هي الّتي نفخها في مريم، فجاءت منها روح واحدة هو المسيح عليه السّلام، فالرّوح هي نفسها الّتي قال الله سبحانه وتعالى فيها: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾[الحجر: من الآية 29].

﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾: يعني: شيئاً عجيباً في الكون، والعجيبة فيها أن تلدَ من غير ذكورة، والعجيبة فيه أن يُولَد بلا أب، فكلاهما آية لله جلَّ جلاله ومعجزة.

ثمّ يقول الحقّ سبحانه وتعالى بعد سَرْد لقطات من موكب الأنبياء:

الآية رقم (92) - إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ

﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: الأمّة: الجماعة يجمعها رباط واحد من أرض أو دين أو لغة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزّخرف: من الآية 22]، يعني: على دين، فالمراد: هذه أمّتكم أمّةٌ حال كَوْنها أمّةً واحدة، لا اختلافَ فيها والرّسل جميعاً إنّما جاؤوا ليتمّموا بناءً واحداً، كما قال عليه السّلام: «إنّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ»([1])، والمعنى أنّ به عليه السّلام تتمّ النّبوّة وتختم.

وتُطلَق الأمّة على الرّجل الّذي يجمع خصال الخير كلّها: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النّحل: من الآية 120]، فجمع من خصال الخير ما لا يوجد إلّا في أمّة، والله سبحانه وتعالى بعثر خصال الخير في الخَلْق، فليس هناك مَنْ هو مَجْمع مواهب وفضائل، إنّما في كلٍّ منّا ميزةٌ وفضيلةٌ في جانب من الجوانب؛ ليتكامل النّاس ويحتاج بعضهم إلى بعض، ويحدث التّرابط بين عناصر المجتمع، هذا التّرابط يتمّ إمَّا بحاجات تطوُّعيّة، أو حاجات اضطراريّة، فلو تعلَّم النّاس جميعاً وتخرّجوا في الجامعة فَمنْ للمِهَن والحِرَف الأخرى؟ مَنْ سيقوم بكنس الشّوارع، وبناء الجدران، وإصلاح مجاري الصّرف الصّحّيّ؟ لا يمكن أن يكون النّاس كلّهم أطبّاء ومهندسون، أمّا المصالح العامّة فلا تقوم على التّطوّع، إنّما تقوم على الحاجة والاضطرار، ولولا هذه الحاجة لما خرجَ عامل الصّرف الصّحّيّ في الصّباح إلى هذا العمل الشّاقّ، لكنّه سُخِّر لهذا العمل، فينبغي لكلّ إنسان ألَّا يغترَّ بما عنده من مواهب ومميّزات، ولا يتعالى بها على خَلْق الله عزَّ وجلّ، وعليه أنْ يسأل عَمَّا عند الآخرين من مواهب يحتاجها، ولا يستطيع أن يؤدِّيها بنفسه، فالحاجة هي الرّابطة في المجتمع، ولو كانَ التّطوّع والتّفضّل فلن نحقّق شيئاً، فلو قلنا للعامل: تفضّل بكنس الشّارع لوجدَ ألْفَ عذر يعتذر به، أمّا إنْ كان هذا عمله الّذي يقتات منه، فلا شكَّ أنّه سيُسرع ويُبادر إليه.

﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: أي: أنّ هناك دين من عند الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشّورى: من الآية 13]، فهذا هو الدّين الجامع لهذه الأمّة، إلهٌ واحد، وأمّةٌ واحدة لله سبحانه وتعالى، والأمّة لا تكون واحدة، إلّا إذا صدر تكوينها المنهجيّ عن إله واحد، فلو كان تكوينها من متعدِّد لذهب كُلُّ إله بما خلق، ولَعلَا بعضهم على بعض، ولفسد الحال، كما قال جلَّ جلاله: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: من الآية 71]، فلا تكون الأمّة واحدة إلّا إذا استقبلت أوامرها من إله واحد وخضعت لمعبود واحد، فإنْ نسيتْ هذا الإله الواحد تضاربتْ وتشتّتتْ، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: أنتم ستخضعون لتجربة من الله سبحانه وتعالى هي الأمّة الواحدة الّتي تسودون بها الدّنيا، وستنطلق دعوتكم من أمّة أمّيّة لا تعرف علماً، قبليّة، لكلّ قبيلة قانونها وسيادتها وقيادتها، لتعلّم العالم الثّقافة، ولتصبح أمّة حضارة، وهذه الحضارة جاءت من لدن العلوم الّتي أنزلها الله سبحانه وتعالى وحثّ عليها.

﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾: أي: التزموا بمنهجي لتظلّوا أمّة واحدة، واختار صفة الرّبوبيّة، فلم يقُلْ: إلهكم؛ لأنّ الرّبّ هو الّذي خلق ورزق وربّى، أمّا الإله فهو الّذي يطلب التّكاليف، فالمعنى: ما دُمْتُ أنا ربّكم الّذي خلقكم من عَدَم، وأمدّكم من عُدْم، وأنا القيّوم على مصالحكم، أكلؤكم باللّيل والنّهار، وأرزق حتّى العاصي والكافر بي، فأنا أوْلَى بالعبادة، ولا يليق بكم إلّا أن تأخذوا بمنطق العقل السّليم، بأن تكون العبادة والطّاعة لله وحده سبحانه وتعالى الّذي يملك صفات الكمال الأزليّ كلّها، قبل أنْ يخلق مَنْ يطيعه، فطاعتنا لن تزيده شيئاً في مُلْكه، ومعصيتنا لن تنقص منه شيئاً، فالأمر راجع إلينا، وربّنا يُثيبنا على فعل هو في الحقيقة لمصلحتنا، لكن، مع الأسف النّاس لم يسمعوا هذا النّداء، ولم يعملوا بمقتضاه.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المناقب، باب خاتم النّبيّين ,، الحديث رقم (3535).

الآية رقم (93) - وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ

﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾: أي: صاروا شيعاً وأحزاباً وجماعات وطوائف، كما قال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: من الآية 159]، لماذا، لست منهم في شيء؟ لأنّهم يقضون على وحدة الأمّة، ولا يقضون على وحدة الأمّة إلّا إذا اختلفتْ، ولا تختلف الأمّة إلّا إذا تعدّدتْ مناهجها، هنا ينشأ الخلاف، أمَّا إنْ صدروا جميعاً عن منهج واحد فلن يختلفوا، وما داموا قد تقطّعوا أمرهم بينهم، فقد صاروا قِطَعاً مختلفة، لكلّ قطعة منهج وقانون، ولكلّ قطعة تكاليف، ولكلّ قطعة راية، وكأنّ آلهتهم متعدّدة، فهل سيُتركون على هذا الحال، أو أنّهم سيعودون إلينا في النّهاية؟

﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾: فأنتم أمّة واحدة في الخَلْق من البداية، وأمّة واحدة في المرجع وفي النّهاية، فلماذا تختلفون في وسط الطّريق؟ فالاختلاف ناشىء من اختلاف المنهج، وقد جاء النّبيّ عليه السّلام خَاتَماً للرّسالات، وجاءت شريعته جامعة لمزايا الشّرائع السّابقة كلّها، ومصدّقة بالشّرائع السّابقة كلّها، بل وتزيد عليها المزايا الّتي تتطلّبها العصور الّتي تلي بعثته عليه السّلام، فكان المفروض أن تجتمع الأمّة المؤمنة على ذلك المنهج الجامع المانع الشّامل، الّذي لا يمكن أن يُستدرك عليه، وبذلك تتحقّق وحدة الأمّة، وتصدر في تكليفاتها عن إله واحد، فلا يكون فيها مَدْخَل للأهواء ولا للسّلطات الزّمنيّة أو الأغراض الدّنيويّة، لذلك إذا تعدّدت الجماعات الّتي تقول بالإسلام وتفرّقت مع أنّ الله سبحانه وتعالى يطلب منهم أن يكونوا يداً واحدة، فالحقّ سبحانه وتعالى يقول لنبيّه عليه السّلام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: من الآية 159]، لماذا؟ لأنّ الله سبحانه وتعالى أمر بقوله عزَّ وجلّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران: من الآية 103]، فالدّين يجمع ولا يُفرِّق، ولا يتفرّق الدّاعون لدعوة واحدة إلّا باتّباع الأهواء والأغراض، أمّا الدّين الحقّ فهو الّذي يأتي على هوى السّماء، موافقاً لما ارتضاه الله سبحانه وتعالى لخَلْقه. وعندما انفضَّ المؤمنون عن الأمر الجامع الّذي يجمعهم بأمر الله عزَّ وجلّ، انفضّت عنهم الوحدة، وتدابروا حتّى لم يَعُدْ يجمعهم حتّى قَوْلُ: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، وهذا ما نراه في الأمّة العربيّة والإسلاميّة المتشرذمة والمقطّعة، الّتي اتّبعت ما جاء به الغرب، ونقضت أوامر الله عزَّ وجلّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[آل عمران: من الآية 103]، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتمسّك بحبل الله الواحد، ولو تمسَّكنا به لَعُدْنا أمّة واحدة.

﴿إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾؛ أي: في الآخرة للحساب، على ما قدّم النّاس في هذه الحياة الدّنيا.

الآية رقم (84) - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ

استجاب الله سبحانه وتعالى لأيّوب عليه السّلام فيما دعاه به من كَشْف الضُّرّ الّذي أصابه، وأعطاه زيادة عليه ونافلة لم يَدْعُ بها، حيث كان في قِلَّة من الأهل، وليس له عِزْوة.

﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾: ليعلم كلُّ عابد أخلص عبادته لله سبحانه وتعالى أنّه إذا مسَّه ضُرٌّ أو كَرْب ولجأ إلى الله عزَّ وجلّ أجابه الله جلَّ جلاله إلى ما يريد، وأعطاه فوق الإجابة نافلة أخرى، وكأنّ ما حدث لنبيّ الله أيّوب عليه السّلام نموذج يجب أن يُحتَذَى بين البشر جميعاً.

الآية رقم (77) - وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ

ما زالت الآيات تقصُّ علينا طرفاً مُوجزاً من رَكْب النّبوّات، ونحن في سورة الأنبياء، وحينما نتأمّل هذه الآية نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يُعذِّب بالماء كما يُعذِّب بالنّار، مع أنّهما ضِدَّانِ لا يلتقيان، فلا يقدر على هذه المسألة إلّا خالقهما سبحانه وتعالى. وقصّة غَرَق قوم نوح وأهل سبأ بعد انهيار سَدِّ مأرب أحدثتا عقدة عند أهل الجزيرة العربيّة، فصاروا حين يروْنَ الماء يخافون منه، ويبتعدون عنه؛ لأنّه يُذكِّرهم بخطر الطّوفان.

ثمّ يحدّثنا الحقّ سبحانه وتعالى عن نبيّين من أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السّلام:

الآية رقم (78) - وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ

﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾: يحكمان تعني أنّ هناك خصومة بين طرفين، والحرْث: إثارة الأرض وتقليب التّربة؛ لتكون صالحة للزّراعة، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: ﱸ ﱹ ﱺﱻ [البقرة: من الآية 205]، والحرْث ذاته لا يهلك، إنّما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار، فسمَّى المولى سبحانه وتعالى الزّرع حَرْثاً؛ لأنّه ناشئ عنه، كما في قوله سبحانه وتعالى أيضاً: ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ [آل عمران: من الآية 117]، لكن، لماذا سَـمَّى الحرْث زَرْعاً، مع أنّ الحَرْث مجرّد إعداد الأرض للزّراعة؟ قال العلماء: لُيبيِّن بأنّ الزّرع لا يكون إلّا بحرْث؛ لأنّ الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض، وهذه العمليّة تساعد على إدخال الهواء للتّربة، وتجفيفها من الماء الزّائد؛ لأنّ الأرض بعد عمليّة الرّيِّ المتكرّرة يتكوَّن عليها طبقة زَبَديّة تسدُّ مسَام التُّربة، وتمنع تبخُّر المياه الجوفيّة الّتي تُسبِّب عطباً في جذور النّبات، لذلك، ليس من جَوْدة التّربة أن تكون طينيّة خالصة، أو رمليّة خالصة، فالأرض الطّينيّة تُمسك الماء، والرّمليّة يتسرَّب منها الماء، وكلاهما غير مناسب للنّبات، أمّا التّربة الجيّدة، فهي الّتي تجمع بين هذه وهذه، فتسمح للنّبات بالتّهوية اللّازمة، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته، لذلك سَـمَّى الزّرْع حَرْثاً؛ لأنّه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته، وليُلفت أنظارنا أنّه لا زَرْع من غير حَرْث، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة]، ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله سبحانه وتعالى في الكون، هي أنّنا لا بُدَّ أن نعمل لننال، فربُّنا وخالقنا قدَّم لنا العطاء حتّى قبل أنْ نُوجَد، وقبل أن يُكلِّفنا بشيء، وقد ورد في الحديث الشّريف قوله عليه السّلام: «أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»([1])، ما دام قد عمل فقد استحقّ الأجر، والأمر كذلك في مسألة الحرث.

﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾: هذه خصومة بين طرفين، احتكما فيها لداود عليه السّلام: رجل عنده زرع، وآخر عنده غنم، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزّرع، فاشتكى صاحبُ الزّرع صاحبَ الغنم لداود، فحكم في هذه القضيّة بأن يأخذَ صاحبُ الزّرع الغنَم، وربّما وجد سيّدنا داود عليه السّلام أنّ الزّرع الّذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها، فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان عليه السّلام وكان في الحادية عشرة من عمره، وعرف منهما حكم أبيه في هذه القضيّة، فقال: غير هذا أرفق بالفريقين، فسمَّى حُكْم أبيه رِفْقاً، ولم يتّهمه بالجَوْر مثلاً، لكن عنده ما هو أرفق، فلمّا بلغت مقالته لأبيه داود سأله: ما الرِّفق بالفريقين؟ قال سليمان: نعطي الغنم لصاحب الزّرع يستفيد من لبنها وأصوافها، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتّى تعود كما كانت، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزّرع زَرْعه.

﴿نَفَشَتْ﴾: نقول: نفش الشّيء؛ أي: أخذ حَجْماً فوق حَجْمه، كما لو أخذتَ مثلاً قطعة من الخبز ووضعتَها في لبن أو ماء، تلاحظ أنّها تنتفش ويزداد حجمها.

﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾: أي: مراقبين.

([1]) مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: كتاب البيوع، باب بيع ما لم يقبض، الحديث رقم (6457).

الآية رقم (79) - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ

فداود وسليمان عليهما السَّلام نبيّان، لكلٍّ منهما طريقة وعطاء من الله عزَّ وجلّ، وله مكانة، وقد أعطاهما الله سبحانه وتعالى حُكْماً وعلماً، ومع ذلك اختلف قولهما في هذه القضيّة، فما توصَّل إليه سليمان لا يقدح في عِلْم داود، ولا يطعن في حُكْمه، وما أشبه حُكْم كُلٍّ من داود وسليمان بمحكمة درجة أولى، ومحكمة درجة ثانية، ومحكمة النّقْض، ومحكمة الاستئناف، وإيّانا أن نظنّ أنّ محكمة الاستئناف حين تردُّ قضاء محكمة درجة أولى أنّها تطعن فيها، فهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾، فجاء بحكْم غير ما حكَم به أبوه؛ لذلك فالقاضي الابتدائيّ قد يحكم في قضيّة، ويتمّ تأجيلها إلى أنْ يترقّى إلى قاضي استئناف، فيقرأ القضيّة نفسها لكن بنظرة أخرى، فيأتي حُكْمه غير الأوّل.

﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾: حينما جمع السّياق القرآنيّ بين داود وسليمان عليهما السَّلام أراد أنْ يُبيِّن لنا طَرفاً مِمَّا وهبهما الله جلَّ جلاله، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ مظهر من مظاهر امتيازه، وهنا يُبيِّن مَيّزةً لداود عليه السّلام: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾، فالله سبحانه وتعالى سخّر له الجبال كي تُسبِّح معه، فهل الجبال مُسبِّحة؟ الجواب: نعم، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 44]، فسخّر الجبال وهي جماد، ثمّ الطّير وهي أرْقَى من الجماد، لكن إنْ تصوَّرْنا التّسبيح من الطّير؛ لأنّه حَيٌّ، وله روح، وله حركة وصوت مُعبّر، فكيف يكون التّسبيح من الجبال الصّمّاء؟ فيجب ألّا نأخذ هذه الآية بظواهر التّفسير، بل بالنّظر في لُبِّ الأشياء، فالجبال صحيح أنّنا نراها جامدة، ليس لها صوت مُعبّر كما للطّير؛ لكنّ الجمادات تُسبِّح بطريقتها، بدليل: أنّ النّبيّ عليه السّلام سبَّح الحصى في يده، وهي جماد، فالحصى مُسبِّحة، تُسبِّح في أيّ مكان، وفي أيّ يد، لكنّ الفارق أنّ النّبيّ عليه السّلام سمع تسبيحها؛ أي: وافق. والمزيّة الّتي أعطاها الله سبحانه وتعالى لنبيّه داود عليه السّلام ليستْ في تسبيح الجبال؛ لأنّ الجبال تُسبِّح معه ومع غيره، إنّما الميّزة في أنّها تُردِّد معه، وتوافقه التّسبيح، وتجاوبه، فحين يقول داود عليه السّلام: سبحان الله، تردّد وراءه الجبال: سبحان الله، قال بعضهم: التّسبيح هنا ليس على حقيقته، لكنّ الحقيقة أنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء: من الآية 44]، فهم يُسبِّحون، والآن نرى في طموحات العلماء السَّعْي لعمل قاموس للغة الأسماك ولغة بعض الحيوانات، ولا نستبعد في المستقبل عمل قاموس للغة الأحجار والجمادات، وإلّا فكيف ستكون ارتقاءات العلم في المستقبل؟ وهذه حقيقة أثبتها القرآن الكريم تنتظر أن يكتشفها العلم الحديث، بأنّ للجماد لغة، فالمزيّة الّتي أعطاها الله سبحانه وتعالى لنبيّه داود عليه السّلام ليستْ في تسبيح الجبال؛ لأنّ الجبال تُسبِّح معه ومع غيره، إنّما الميّزة في أنّها تُردِّد معه، وتوافقه التّسبيح، وتجاوبه، وهو يسمع هذا التّسبيح، ولا يسمعه بقيّة الخلق، وليس معنى الجماد أنّه جامد لا حياةَ فيه، فهو جماد من حيث صورة تكوينه، ولو تأمَّلنا المحاجر في طبقات الأرض لوجدنا بين الأحجار حياة وتفاعلاً وحركةً منذ ملايين السّنين، ونتيجة لهذه الحركة يتغيّر لَوْنُ الحجر وتتغيّر طبيعته، وهذا دليل الحياة فيها -فسبحان الله-.

﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾: أي: أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على فعل أيّ شيء، فإيّاك أن تستغرب أو تقول: كيف يُسبِّح الطّير وكيف تُسبِّح الجبال؛ فالله سبحانه وتعالى هو الفاعل، وهو المانح والمحرّك.

الآية رقم (80) - وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ

الحديث هنا عن داود عليه السّلام:

﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾: العِلْم نقل قضيّة مفيدة في الوجود من عالم بها إلى جاهل بها، والإنسان دائماً في حاجة إلى معرفة وتعلُّم؛ لأنّه خليفة الله عزَّ وجلّ في الأرض، ولن يستطيع أن يؤدّي هذه المهمّة إلّا من خلال العلم، ومن خلال الفَهْم والمعارف والثّقافات، فمثلاً تشكيل الحديد يحتاج إلى تسخين حتّى يصير لَيِّناً قابلاً للتّشكيل، الماء لا بُدَّ أنْ نغليَه لكذا وكذا.. إلخ، فكلّ شيء مرتبط بعلم، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ يصحّ أن يُقال: كان هذا التّعليم بالوحي، أو بالتّجربة، أو الإلقاء في الرَّوْع، وهذه الصّنعة لم تكن معروفة قبل داود عليه السّلام، واللَّبوس: أبلغ وأحكم من اللّباس، فاللّباس من مادّة (لبس) نفسها، وهي الملابس الّتي تستر عورة الإنسان، وتقيه الحرّ والبرد، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النّحل: من الآية 81]، أمّا في الحرب فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العاديّة الّتي نجدها في اللّباس، فنحتاج إلى ما يقينا البأس، ويحمينا من ضربات العدوّ في الأماكن القاتلة؛ لذلك اهتدى النّاس إلى صناعة الخوذة والدّرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشريّ، وتتمثّل هذه في الرّأس والصّدر، ففي الرّأس المخّ، وفي الصّدر القلب، فإن سَلِمَتْ هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداواته وجَبْره، فاللّبوس أبلغ وأكثر حماية من اللّباس؛ لأنّ مهمّته أبلغ من مهمّة اللّباس، وكانت قبل داود عليه السّلام مَلْساء يتزحلق السّيف عليها، فلمّا صنعها داود جعلها مُركَّبة من حلقات حتّى ينكسر عليها السّيف؛ لذلك قال سبحانه وتعالى بعدها:

﴿لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾: أي: تحميكم في حَرْبكم مع عدوّكم، وتمنعكم وتحوطكم.

فألهمنا داود عليه السّلام، فأخذ يُفكِّر ويبتكر، وكلّ تفكير في ارتقاء صَنْعة إنّما ينشأ من ملاحظة عيب في صَنْعة سابقة، فيحاول اللّاحق تلافي أخطاء السّابق، وهكذا حتّى نصلَ إلى شيء لا عَيْبَ فيه، أو على الأقلّ نتجنّب العيوب السّابقة.

﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾: تشكرون نعمة الله عزَّ وجلّ الّذي يرعاكم ويحفظم في المآزق والمواقف الصّعبة، واختار سبحانه وتعالى موقف البأس؛ أي: الحرب، أمام العدوّ؛ ليعطينا إشارة إلى ضرورة إعداد المؤمن للمواجهة، والأخذ بأسباب النّجاة إذا تمَّتْ المواجهة.

ثمّ ينتقل السّياق القرآنيّ من الكلام عن داود إلى ابنه سليمان 4، فيقول الحقّ سبحانه وتعالى:

الآية رقم (81) - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ

لا شكّ أنّ سليمان عليه السّلام قد استفاد ممّا علَّمه الله سبحانه وتعالى لأبيه داود عليه السّلام، وأخذ من نعمة الله عزَّ وجلّ على أبيه، وهنا يزيده الله سبحانه وتعالى عطاءً وأموراً تميّز بها سليمان عليهما السّلام، منها الرّيح العاصفة؛ أي: القويّة الشّديدة:

﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾: وكأنّها مواصلات داخليّة في مملكته من العراق إلى فلسطين، وفي موضعٍ آخر قال: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾[ص: من الآية 35 – الآية 36]، رُخَاء؛ أي: هيّنة ليّنة ناعمة، وهنا قال: ﴿عَاصِفَةً﴾ فكأنّ الله سبحانه وتعالى جمع لهذه الرّيح صفة السّرعة في: ﴿عَاصِفَةً﴾، وصفة الرّاحة في: ﴿رُخَاءً﴾، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلّا الله عزَّ وجلّ، فنحن حين تُسْرِع بنا السّيّارة مثلاً لا تتوفّر لنا صِفَة الرّاحة والاطمئنان، بل نشعر بفزع ونطلب تهدئة السّرعة، أمّا ريح سليمان عليه السّلام فكانت تُسرع به إلى مراده، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه، ولا تُحدث له رجَّة أو قوّة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان، فمَنْ يقدر على الجمع بين هذه الصّفات إلّا الله عزَّ وجلّ القابض الباسط، الّذي يقبض الزّمن في حقّ قوم ويبسطه في حقّ آخرين.

﴿بَارَكْنَا فِيهَا﴾: أي: بركة حِسِّية بما فيها من الزّروع والثّمار والخِصْب والخيرات، أو بركة معنويّة، حيث جعل فيها مهابط الوحي والنّبوّات وآثار الأنبياء.

وليس تسخير الرّيح لسليمان أنّها تحمله مثلاً، أو: أنّها كانت تُسيِّر المراكب في البحار، إنّما المراد بتسخيرها له أن تكون تحت مراده، وتأتمر بأمره، فتسير حيث شاء يميناً أو شمالاً، فهي لا تهُبُّ على مرادات الطّبيعة الّتي خلقها الله عزَّ وجلّ عليها، ولكن على مراد سليمان عليه السّلام، وهذا هو الفارق، وإنْ كانت هذه الرّيح الرُّخَاء تحمله في رحلة داخليّة في مملكته، فهناك من الرّياح ما يحمله في رحلات وأسفار خارجيّة، كالّتي قال الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾[سبأ: من الآية 12]، فيجوب بها في الكون كيف يشاء ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: من الآية 36].

﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾: أي: عندنا علْم نُرتِّب به الأمور على وَفْق مرادنا، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء فَنُسيِّر الرّيح كما نحبّ، لا كما تقتضيه الطّبيعة.

الآية رقم (82) - وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ

﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾: فبعد أنْ سخَّر الله سبحانه وتعالى له الرّيح سخَّر له الشّياطين.

﴿مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾: والغَوْصُ: النّزول إلى أعماق البحر؛ ليأتوه بكنوزه ونفائسه وعجائبه الّتي ادّخرها الله سبحانه وتعالى في البحر.

﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ﴾: أي: ممّا يُكلِّفهم به سليمان عليه السّلام من أعمال شاقّة لا يقدر عليها الإنسان، وقد شُرِحَت هذه الآية في موضع آخر: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾[سبأ: من الآية 13]، فأدخل مرادات العمل في مشيئة سليمان عليه السّلام، والمحاريب جمع محراب، وهو مكان العبادة كالقِبْلة مثلاً، والجِفَان: جمع جَفْنة، وهي القَصْعة الكبيرة الواسعة الّتي تكفي لعدد كبير، والقدور الرّاسيات؛ أي: الثّابتة الّتي لا تنقل من مكان لآخر وهي مبنيّة، أمّا التّماثيل فهي معروفة، والموقف منها واضح منذ زمن إبراهيم عليه السّلام حينما كسَّرها ونهى عن عبادتها، وهذا يردُّ قول مَنْ قال بأنّ التّماثيل كانت حلالاً، ثمّ فُتِن النّاس بها، فعبدوها من غير الله عزَّ وجلّ فَحُرِّمَت، فكيف نخرج من هذا الموقف؟ وكيف يمتنّ الله سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان عليه السّلام أن سخّر له مَن يعملون التّماثيل وهي مُحرَّمة؟ نقول: كانوا يصنعون له التّماثيل لا لغرض التّعظيم والعبادة، إنّما على هيئة الإهانة والتّحقير، فيجعلونها على هيئة رجل جبّار، أو وحش مفترس يحمل جزءاً من القصر أو شرفة من شرفاته؛ أي: أنّها ليست على سبيل التّقديس.

﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾: حافظين للنّاس المعاصرين لهذه الأعمال يروْنَ البشر، والبشر لا يرَوْنَهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: من الآية 27]، أمّا سليمان عليه السّلام فكان يرى الجنَّ، ويراقبهم وهم يعملون له، وفي قصّته: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ [سبأ: من الآية 14]، وفي هذا دليل على أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ [سبأ: من الآية 14]، ويُقال: إنّ سليمان عليه السّلام بعد أنْ امتنَّ الله سبحانه وتعالى عليه، وأعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أخذ هؤلاء الجنّ وحبسهم في القماقم حتّى لا يعملوا لأحدٍ غيره. هذه لقطة من قصّة سليمان عليه السّلام، ينتقل السّياق منها إلى أيّوب عليه السّلام:

الآية رقم (83) - وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

﴿نَادَى﴾: قلنا: النّداء لمثلك طلب إقبال، أمّا بالنّسبة إلى الله سبحانه وتعالى فهو بمعنى الدّعاء، فمعنى: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾؛ أي: دعاه وناداه بمطلوب هو:

﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: والضُّرّ (بضمّ الضّاد): ابتلاء من الله عزَّ وجلّ في جسده بمرض أو غيره، أمّا الضَّرّ (بفتح الضّاد): فهو إيذاء وابتلاء في أيّ شيء آخر غير الجسد، ولا مانع أن يمرض الأنبياء لكن بمرض غير مُنفِّر، لكن، كيف ينادي أيّوب عليه السّلام ربّه جلَّ جلاله ويتوجّع: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، أليس في علم الله سبحانه وتعالى أنّ أيّوبَ عليه السّلام مسَّه الضُّرّ؟ وهل يليق بالنّبيّ أنْ يتوجّع من ابتلاء الله عزَّ وجلّ؟ نعم، يجوز له التّوجُّع؛ لأنّ العبد لا يَشْجَعُ على ربّه؛ لذلك فإنّ الإمام عليّاً t لـمّا دخل عليه رجل يعوده، وهو يتألّـم من مرضه ويتوجّع، فقال له: أتتوجَّع وأنت أبو الحسن؟ فقال: أنا لا أشجع على الله سبحانه وتعالى، يعني: أنا لست قويّاً أمام الله عزَّ وجلّ، ألا ترى أنّه من الأدب مع مَنْ يريد أن يُثبِت لك قوّته فيمسك بيدك مثلاً، ويضغط عليها لتضجّ وتتألّـم، أليس من الأدب أن تطاوعه فتقول: آه، وتُظهِر له -ولو مجاملة- أنّه أقوى منك؟

﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: ساعةَ نرى جَمْعاً في صفةٍ من الصّفات يُدخِل الله سبحانه وتعالى فيه نفسه مع خَلْقه، كما في: ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، ﴿أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾[المؤمنون: من الآية 14]، و﴿خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[آل عمران: من الآية 54]، فلنعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يُثبِت الصّفة نفسها لعباده، ولا يبخسهم حقّهم، فالرّحمة من صفات البشر الّتي تكون على حجم البشر، كما جاء في الحديث الشّريف: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»([1])، فالرّحمة تخلُّق بأخلاق الحقّ سبحانه وتعالى.

فللخَلْق صفة الرّحمة، لكنّ الله سبحانه وتعالى هو أرحم الرّاحمين جميعاً؛ لأنّ رحمته تعالى وسعَتْ كلّ شيء، كما قلنا في صفة الخَلْق: فيمكن للإنسان مثلاً أن يصنع من الرّمل كوباً، ويُخرِجه إلى الوجود، وينتفع به، لكن أهذا الخَلْق للكوب كخَلْق الله عزَّ وجلّ؟ بالتّأكيد لا.

([1]) سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب في الرّحمة، الحديث رقم (4941).

الآية رقم (73) - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾: ليس المقصود بالإمامة هنا السُّلْطة الزّمنيّة من باطنهم، إنّما إمامة القدوة بأمر الله عزَّ وجلّ.

﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾: فهم لا يعملون أيّ عمل إلّا على هُدىً من الله عزَّ وجلّ.

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾: أي: يفتح لهم أبواب الخير ويُيسِّر لهم ظروفه؛ لأنّ الموفّق الّذي يتوفّر لديه الاستعداد للخير يفتح الله عزَّ وجلّ له مصارف الخير ويُعينه عليه، وهذه هي مهمّة الأنبياء، والدّعاة إلى الدّين هم دعاة إلى الخير العميم للبشريّة جمعاء دون تفرقة.

وقد بدأ بالمقاصد ثمّ انتقل إلى الشّعائر فقال سبحانه وتعالى:

﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾: وإقامة الصّلاة هي: عَيْن الخيرات كلّها؛ لأنّ الخيرات نعمة، لكنّ إقامة الصّلاة حضرة في جانب المنعم سبحانه وتعالى، فالصّلاة هي خَيْر الخَيْر، ولأهمّــيّة الصّلاة ذكرها الله سبحانه وتعالى في أوّل أفعال الخيرات، وفي مقدّمتها، فقمّة الخيرات أنْ تكون مع الله سبحانه وتعالى الّذي يهبُ لك هذه الخيرات، والصّلاة هي استدامة ولاءٍ لله سبحانه وتعالى خمس مرّات في اليوم واللّيلة، وإعلان ولاء لله سبحانه وتعالى، تترك هموم الدّنيا كلّها وتلتقي مع المنعم سبحانه وتعالى، قال عليه السّلام: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»([1])، فهي راحةٌ للمؤمن وتزكيةٌ لنفسه وراحةٌ واطمئنان وسكون، يتلقّى فيها رحمات من الله سبحانه وتعالى.

﴿وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾: الزكـاة تطبيق عمليٌّ للاستجابة لله سبحانه وتعالى حين يُخرج الإنسان جزءاً من ماله الّذي ملّكه الله سبحانه وتعالى إيّاه لله عزَّ وجلّ، لذلك دائماً ما تُقرَن الصّلاة بـالـزكـاة، فالعلاقة بينهما قويّة، فالــزكاة تضحية بجزء من المال، والمال في الحقيقة نتيجة العمل، والعمل فرع الوقت، أمّا الصّلاة فهي تضحية بالوقت ذاته، فالصّلاة والــزكاة هما العمدة، والــزكاة هي علاقة مع النّاس والمجتمع، علاقة مع الفقراء والمساكين والمحتاجين والأيتام، فكيف تترجم صلتك بالله سبحانه وتعالى من خلال عطائك لخلق الله جلَّ جلاله.

﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾: أي: مطيعين لأوامرنا، مجتنبين لنواهينا، فالعبادة طاعة عباد لمعبوده.

([1]) سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، الحديث رقم (4985).

الآية رقم (74) - وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ

﴿وَلُوطًا﴾: جاءتْ منصوبة؛ لأنّها معطوفة على قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾[الأنبياء: من الآية 51]، وأيضاً: آتينا لوطاً رشده.

﴿حُكْمًا﴾: الحُكْم: يعني الحكمة، وأصله من الحَكَمة الّتي تُوضَع في حنك الفَرَس؛ لأنّ الفَرس قد يشرد بصاحبه أو يتّجه إلى جهة غير مرادة لراكبه؛ لذلك يوضع في حنكه اللّجام أو الحَكَمة، وهي قطعة من الحديد لها طرفان، يتمّ توجيه الفرس منهما يميناً أو شمالاً، ومن ذلك الحِكْمة، وهي وَضْع الشّيء في موضعه، ومنه الحُكْمْ، وهو: وضع الحقَّ في مَوْضعه من الشّاكي أو المشكو.

﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾: وفرْقٌ بين العلْم والحكم: العلم أن تُحقِّق وتعرف، أمَّا الحكم فسلوك وتطبيق لما تعلم، فالعلم تحقيق والحكم تطبيق.

﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾: فقد نجَّى الله سبحانه وتعالى إبراهيم من النّار، وكذلك نجَّى لوطاً من أهل القرية الّتي كانت تعمل الخبائث، والخبائث في قوم لوط معروفة؛ لذلك يقول بعدها:

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ﴾: ورجل السَّوءْ هو الّذي يسوء كلّ مَنْ يخالطه، ولا يسوء بعضاً دون بعض، فالمثليّة والشّذوذ هو سوءٌ كلّه.

﴿فَاسِقِينَ﴾: والفسْق: الخروج عن أوامر التّكليف، وهذا التّعبير ككُلِّ التّعابير القرآنيّة مأخوذ من واقعيّات الحياة عند العرب، فأصل الفِسْق من فَسقَتِ الرُّطبة عن قشرتها حين تستوي البلحة فتنفصل عنها القشرة حتّى تظهر منها الرُّطبة، وهذه القشرة جُعلَتْ لتؤدّي مهمّة، وهي حِفْظ الثّمرة، كذلك نقول في الفسق عن المنهج الدّينيّ الّذي جاء ليؤدّي مهمّة في حياتنا، فمَنْ خرج عنه فهو فاسق.

الآية رقم (75) - وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ

﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾: كيف؟ ألسنا جميعاً في رحمة الله عزَّ وجلّ؟ قال العلماء: لأنّ هناك رحمة عامّة للخَلْق جميعهم تشمل حتّى الكافر، وهناك رحمة خاصّة تعدّي الرّحمة منه إلى غيره، وهذه يعنُون بها النّبوّة، بدليل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾[الزّخرف]، فردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾[الزّخرف: من الآية 32]؛ أي: النّبوّة: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الزّخرف: من الآية 32]، فكيف يقسمون رحمة الله سبحانه وتعالى الّتي هي النّبوّة، وهي قمّة الحياة، ونحن نقسِّم لهم أرزاقهم ومعايشهم في الدّنيا؟ فمعنى: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾؛ أي: في رَكْب النّبوّة.

﴿إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: أي: للنّبوّة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، لكنّ قمّة هذه الرّحمة جاءت في النّبيّ الخاتم عليه السّلام والرّسول الّذي لا يُستْدرك عليه برسول بعده؛ لذلك خاطبه ربّه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء]، فالرّسل قبل محمّد عليه السّلام كانوا رحمة لأممهم، أمّا سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحمة للعالمين أجمع.

ثمّ يحدّثنا الحقّ سبحانه وتعالى عن رسولٍ آخر من أولي العزم من الرّسل:

الآية رقم (76) - وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ

﴿وَنُوحًا﴾: مثلما قلنا في: ﴿وَلُوطًا﴾ [الأنبياء: من الآية 74]، لـمَ جاءت منصوبة؟ أي: آتيناه هو أيضاً رُشْده.

﴿إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾: النّداء في حقيقته: طلبُ إقبال، وإنْ كان من أعلى لأدنى فهو نداء، وإنْ كان من مُسَاوٍ لك فهو التماس، فإنْ كان من أدنى لأعلى فهو دعاء، فحين تقول: يا ربّ، الياء هنا ليست للنّداء بل للدّعاء، وحين نمتحن تلميذاً نقول له: أعرب: رَبِّ اغفر لي، فلو كان نبيهاً يقول: ربّ مدعو، والتّقدير: يا ربّ، ومن قال: منادى، فهذا صحيح أيضاً، فالياء في أصلها للنّداء، لكنّه غير دقيق في الأداء، كذلك في: اغفر لي، إنْ قال: فِعْل أمر، فله نصف الدّرجة، أمّا إن قال: دعاء، فَلَهُ الدّرجة الكاملة.

فماذا قال نوح عليه السّلام في ندائه؟ المراد قوله: ﴿نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ﴾[نوح: من الآية 26]، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لنبيّه نوح عليه السّلام:

﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾: والمراد بالكرب ما لبثه نوح عليه السّلام في دعوة قومه من عمر امتدّ ألف سنة إلّا خمسين عاماً، وما تحمَّله في سبيل دعوته من عَنَتٍ ومشقّة قال الله سبحانه وتعالى فيها: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح]، ثمّ لـمّا أمره الله جلَّ جلاله بصناعة الفُلك أخذوا يسخرون منه: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾[هود: من الآية 38]، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دُعَاءه ونداءه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾، وفي موضعٍ آخر، يقول الله عزَّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾[الصّافّات]، فوصف الحقّ سبحانه وتعالى إجابته لنوح بـ (نِعْمَ) الدّالّة على المدح، فهل يعني ذلك أنّ هناك مَنْ يكون بِئْس المجيب؟ قالوا: نعم، إذا سألته شيئاً فأجابك إليه وهو شَرٌّ لك، أمَّا الحقّ سبحانه وتعالى فهو نِعْم المجيب؛ لأنّه لا يُجيبك إلّا بما هو صالح ونافع لك، فإنْ كان في دعائك شَرٌّ ردَّه لعلمه جلَّ جلاله أنّه لن ينفعك، وكأنّ الحقّ الأعلى سبحانه وتعالى يقول لكم: أنا لستُ موظّفاً عندكم، أجيبكم إلى كُلِّ ما تطلبون، إنّما أنا قيُّوم عليكم، وقد تدعون بما تظنّون أنّه خير لكم، وأعلم بأزليّة عِلْمي أنّ ذلك شرّ لا خيرَ فيه، فيكون الخير لكم ألَّا أجيبكم؛ لأنّني نِعْمَ المجيب، فالحقّ سبحانه وتعالى حين يردُّ مِثْل هذا الدّعاء هو نِعْم المجيب؛ لأنّه نِعْم المانع، لذلك يقول جلَّ جلاله: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء]؛ أي: يدعو ويُلِحُّ في الدّعاء بما يظنُّه خَيْراً، وهو ليس كذلك.