الآية رقم (111) - وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ

﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ﴾: لعلّه اختبار لكم.

﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ﴾: أي: لعلّ الإمهال وبقاءكم دون عذاب وتباطؤ السّاعة عنكم فتنةٌ واختبار، يا ترى أتُوفَّقون وتفوزون في هذا الاختبار، أم لا؟

الآية رقم (112) - قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾: كما دعا بذلك الرّسل السّابقون عليهم السّلام: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾[الأعراف: من الآية 89]. وهل يحكم الله سبحانه وتعالى إلّا بالحقّ؟ قال العلماء: الحقّ سبحانه وتعالى يُبيِّن لنا؛ لأنّنا عِشْنا في الدّنيا ورأينا كثيراً من الباطل، فكأنّنا لأوّل مرّة نسمع الحكم بالحقّ.

﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾: أي: المستعان على ما تُجرمون فيه، وما تقومون به.

ونلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى في آيات سورة الأنبياء تكلّم عن طَيِّ السّماء كطيِّ السّجل للكتب، ثمّ قال: ﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأنبياء: 111]، ثمّ قال: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾: هذا كلّه ليُقرِّب لنا مسألة السّاعة وقيامها، ويُعِدُّنا لاستقبال سورة (الحجّ).

﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ﴾: صفة الرّحمة الّتي تشمل العالم جميعاً، رحمن الدّنيا ورحيم الآخرة.

﴿الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾: من شـــرككم وكــفـــركم وتأليهكم لما دون الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (105) - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا﴾: الكَتْب: التّسجيل، لكنّ علم المولى سبحانه وتعالى أزليٌّ لا يحتاج إلى تسجيل، إنّما التّسجيل من أجلنا نحن حتّى نطمئنّ، كما لو أخذتَ من صاحبك قَرْضاً وبينكما ثقة، ويأمن بعضكم بعضاً، لكن مع هذا نكتب القَرْض ونُسجِّله حتّى تطمئنّ النّفس.

﴿فِي الزَّبُورِ﴾: الزّبور: الكتاب الّذي أُنزِل على نبيّ الله داود عليه السّلام، ومعنى الزّبور: الشّيء المكتوب، فإنْ أطلقتَها على عمومها تُطلَق على كلّ كتاب أنزله الله عزَّ وجلّ.

﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾: الذِّكْر: يُطلَق مرّة على القرآن الكريم، ومرّة على الكتب السّابقة، وما دام الزَّبور يُطلَق على كلّ كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى، فلا بُدَّ أنّ للذِّكر معنى أوسع؛ لذلك يُطلَق الذِّكر على اللّوح المحفوظ؛ لأنّه ذكْر الذِّكْر، وفيه كلّ شيء.

﴿كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾: أي: في الكتب الّتي أُنزلَتْ على الأنبياء ما كتبناه في اللّوح المحفوظ، أو ما كتبناه في الزّبور، الّذي أعطاه الله عزَّ وجلّ لداود عليه السّلام.

﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾: هذه تدلّ على أنّ واحداً أسبق من الآخر، نقول: القرآن الكريم هو كلام الله عزَّ وجلّ القديم، ليس في الكتب السّماويّة أقدم منه، والمراد هنا: ﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ بعديّة ذِكْريّة، لا بعديّة زمنيّة. فما الّذي كتبه الله سبحانه وتعالى لداود عليه السّلام في الزّبور؟ كتب له:

﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾: كلمة الأرض إذا أُطلقَتْ عموماً يُراد بها الكرة الأرضيّة كلّها، وقد تُقيَّد بوصف معين، كما في: ﴿الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: من الآية 21]، وفي: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾[يوسف: من الاية 80]؛ أي: الّتي كان بها، وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾؛ أي: الأرض عموماً.

﴿يَرِثُهَا﴾: أي: تكون حقّاً رسميّاً لعبادي الصّالحين.

فأيُّ أرض هذه؟ أهي الأرض الّتي نحن عليها الآن؟ أم الأرض المبدلة؟ ما دُمْنَا نتكلّم عن بَدْء الخَلْق وإعادته، فيكون المراد الأرض المبدلَة المعادة في الآخرة، الّتي يرثها عباد الله الصّالحون، والإرْث هنا كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف: من الآية 43]، فعن مَنْ ورثوا هذه الأرض؟ الحقّ سبحانه وتعالى حينما خلق الخَلْق أعدَّ الجنّة لِتسعَ بني آدم كلّهم إنْ آمنوا، وأعدَّ النّار لتسع بني آدم كُلّهم إنْ كفروا، فليس في المسألة زحام على أيِّ حال، فإذا ما دخل أهلُ الجنّةِ الجنّةَ، ودخل أهلُ النّارِ النّارَ ظلَّتْ أماكن أهل النّار في الجنّة خالية فيُورثها الله عزَّ وجلّ لأهل الجنّة ويُقسِّمها بينهم، ويُفسح لهم أماكنهم الّتي حُرِم منها أهل الكفر.

أو نقول: الأرض يُراد بها أرض الدّنيا، ويكون المعنى أنّ الله سبحانه وتعالى يُمكِّن الصّالح من الأرض، الصّالح الّذي يَعْمُرها ولو كان كافراً؛ لأنّ الله جلَّ جلاله لا يحرم الإنسان ثمار عمله، حتّى وإنْ كان كافراً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾[الشّورى]، لكن عمارة الكفّار للأرض وتمكينهم للحضارة سَرْعان ما تُنزِل بهم النّكبات، وتنقلب عليهم حضارتهم، وها نحن نرى نكبات الأمم وما تعانيه من أمراض اجتماعيّة مستعصية، فليست عمارة الأرض اقتصاداً وطعاماً وشراباً وترفاً فقط، فهناك أخلاق واجتماعيّات، ففي السّويد -مثلاً- وهي من أعلى دول العالم دَخْلاً ومع ذلك فيها أعلى نسبة انتحار، وأعلى نسبة شذوذ، وهذه هي المعيشة الضَّنْك الّتي تحدَّث عنها القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه]، فالضَّنْك لا يعني فقط الفقر والحاجة، إنّما له صور أخرى كثيرة، الأب والأمّ لا يريان أولادهما، الأمّ والأب في دار العجزة، لا حياة اجتماعيّة، لا طهارة، لا تواصل بين الأسر، لا زواج على أسس متينة، حتّى ظهر فيهم الشّذوذ والمثليّة، فلا تَقِسْ مستوى التّحضُّر بالمادّيّات فحسب، إنّما يجب أن تقيس أيضاً النّواحي الأخرى، فمَنْ أتقن النّواحي المادّيّة الدّنيويّة أخذها وترف بها في الدّينا، أمّا الصّلاح الدّينيّ والخُلقيّ والقِيَميّ فهو سبيل لترف الدّنيا ونعيم الآخرة.

وهكذا تشمل الآية: ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الصّلاح المادّيّ الدّنيويّ، والصّلاح المعنويّ الأخرويّ، فإنْ أخذنا الصّلاح مُطلقاً بلا إيمان، فإنّنا سنجد ثمرته إلى حين، ثمّ ينقلب علينا، فأين أصحاب الحضارات القديمة من عاد وثمود والفراعنة؟ إنّ هذه الحضارات كُلَّها مع ما وصلتْ إليه ما أمكنها أن تحتفظ لنفسها بالدّوام، فزالتْ وبادتْ، يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر]، إنّها حضارات راقية دُفِنَتْ تحت أطباق التّراب، لا نعرف حتّى أماكنها، أمّا إنْ أخذنا الصّلاح المعنويّ، الصّلاح المنهجيّ من الله عزَّ وجلّ فسوف يحوز به الإنسان الدّنيا والآخرة؛ ذلك لأنّ حركة الحياة تحتاج إلى منهج يُنظِّمها: افعل كذا ولا تفعل كذا، هذا حلال وهذا حرام، وهذا لا يقوم إلّا بمنهج الله سبحانه وتعالى وحده.

الآية رقم (106) - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ

﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا﴾: البلاغ: رسالة عامّة للنّاس جميعاً، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ وكأنّ المبلَّغ عن المبلِّغ سبحانه وتعالى يجب أن يكون عابداً حتّى يفهم معنى هذا البلاغ، وحتّى يؤتي هذا البلاغ الثّمرة المطلوبة منه، ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا﴾: أي: بكلّ ما ورد سابقاً: بأنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون.

والبلاغ: الشّيء المهمّ الّذي يجب أن يعلمه النّاس؛ لذلك حين ينشغل النّاس بالحرب، وينتظرون أخبارها تأتيهم على صورة بلاغات، يقولون: بلاغ رقم واحد؛ لأنّه أمرٌ مهمّ، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا﴾: ما جاء به القرآن الكريم هو البلاغ الحقّ، والبلاغ الأعلى الّذي لم يترك لكم عذراً، ولا لغفلتكم مجالاً، ولا لمستدرك أنْ يستدرك عليه في شيء، فهو مُنتْهى ما يمكن أنْ أخبركم به، وهو بلاغ:

﴿لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾: يتلقّفون مُرادَ الله سبحانه وتعالى لينفّذوه، سواء أكان أمراً أمْ نَهياً.

الآية رقم (107) - وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ

النّبيّ عليه السّلام خاتَم الرّسل، وبعثتُه للنّاس كافّة، وللزّمن كلّه إلى أنْ تقوم السّاعة، وقد جاء الرّسل السّابقون عليه لفترة زمنيّة محدّدة، ولقوم بعينهم، أمّا رسالة النّبيّ محمّد عليه السّلام فجاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛ لذلك لا بُدَّ لها أنْ تتّسعَ لأقضية الحياة كلّها الّتي تعاصرها أنت وأنا ومن خَلَفُنا ومن أمامنا إلى يوم القيامة، فهي رحمة وعطاء عامّ وخير شامل.

ومعنى: العالمين، كُلُّ ما سوى الله عزَّ وجلّ: عالم الملائكة، وعالم الجنّ، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم الحيوان، وعالم النّبات، فرسالة محمّد عليه السّلام رحمةً لهم جميعاً، كيف؟ قالوا: نعم، رحمة للملائكة، فجبريل عليه السّلام كان يخشى العاقبة حتّى نزل على محمّد عليه السّلام قوله سبحانه وتعالى: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾[التّكوير]، فاطمأنّ جبريل عليه السّلام وأَمِن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للجماد؛ لأنّه أمرنا بإماطة الأذى عن الطّريق، وهو رحمة بالحيوان، وفي الحديث الشّريف: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعاً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»([1])، وحديث المرأة الّتي دخلتْ النّار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها وسقتْها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض، وحديث الرّجل الّذي دخل الجنّة؛ لأنّه سقى كلباً كان يلهث يأكل الثّرى من شدّة العطش، فنزل الرّجل البئر وملأ خُفَّه فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له؛ لأنّه نزل البئر وليس معه إناء يملأ به الماء، فاحتال للأمر، واجتهد ليسقي الكلب، وهكذا نالتْ رحمة الإسلام الحيوان والطّير والإنسان، ففي الدّين مبدأ ومنهج يُنظِّم كلّ شيء ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة النّاس؛ لذلك فهو رحمة للعالمين، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾: يعني أنّ كلّ ما يجيء به الإسلام داخل في عناصر الرّحمة.

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب المزارعة، باب فضل الزّرع والغرس إذا أُكِلَ منه، الحديث رقم (2320).

الآية رقم (108) - قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ

﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: فالوحدانيّة هي أوّل رحمة بنا، أن نكون كلّنا سواء، ليس لنا إلّا إله واحد، هذه من أعظم رحمات الله جلَّ جلاله أن نعبده وحده لا شريكَ له، فعبادته تُغنينا عن عبادة غيره، ولو كانت آلهةً متعدّدة لأصابتنا الحيرة بين إله يأمر، وإله ينهى، أو بين آلهة البشر الّذين يتحكّمون بالبشر، لذلك؛ نحن نعتزّ ونفخَر بهذه الوحدانيّة، وبهذه الألوهيّة، وفي هذا يقول الشّاعر الإسلاميّ محمّد إقبال:

والسُّــــــــــجودُ الّذي تَـجْــتَويـــهِ          مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةُ

فسجودك لله جلَّ جلاله وتعفير وجهك له سبحانه وتعالى يحميك من السّجود لغيره، ولولا سجود الإنسان لله عزَّ وجلّ لَسجد لكلّ مَنْ هو أقوى منه، فعلينا أن نعتزّ بعبوديّتنا لله جلَّ جلاله؛ لأنّها قمّة الحرّيّة، فعبوديّة الله سبحانه وتعالى تغنينا عن عبوديّة البشر، وترفعنا إلى مصافّ: «أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»([1]).

﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾: السّؤال هنا؛ يعني أنّ الإنسان يجب أن يفهم أنّه بمجرد أنّ الله جلَّ جلاله إله واحد فيجب عليه أن يُسلم له سبحانه وتعالى، كما تحثّ ولدك المتكاسل أن يكون مثلَ زميله الّذي تفوَّق، وأخذ الـمــركز الأوّل، فتقول له: ألا تذاكر وتجتهد حتّى تكون مثله؟ وهكذا في: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: مسلمون لله عزَّ وجلّ؛ لأنّ مصلحتكم في الإسلام وعـــــزّكـم في عبوديّتكم لله جلَّ جلاله، كما قال سيّدنا عمر بن الخطّاب t: “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله”.

([1]) سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب في التّفاخر بالأحساب، الحديث رقم (5116).

الآية رقم (109) - فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: أعرضوا وانصرفوا.

﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ﴾: مادّة: أذن ومنها الأذان؛ تعني: الإعلام بالشّيء، والأصل في الإعلام كان في الأذُن بالكلام، حيث لم يكُنْ عندهم قراءة وكتابة، فاعتمد الإعلام على الكلام، والسّماع بالأُذُن، فمعنى: ﴿آذَنْتُكُمْ﴾: أعلمتُكم وأخبرتُكم.

﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾: يعني: جاء الإعلام لكم جميعاً، لم أخصّ أحداً دون الآخر، فأنتم في الإعلام سواء، لا يتميّز منكم أحد على أحد؛ لذلك كان النّبيّ عليه السّلام يحرص على إبلاغ الجميع، فيقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُـمَّ بَلَّغَهَا، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»([1])، وهكذا يشيع الخيْر ويتداول بين الجميع.

﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾: فلم أُعْلِم قوماً دون قوم، ولم أُسْمِع أُذُناً دون أُذن، ثم يُنبِّههم إلى أمر السّاعة:

﴿وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾: فانتبهوا، واحتاطوا، فلا أدري لعلَّ السّاعةَ تكون قريباً، ولعلّها تفاجئكم قبل أنْ أُنهي كلامي معكم، لذلك؛ لـمّا سألوا أحد الصّالحين: فِيمَ أفنيتَ عمرك؟ قال: “أفنيت عمري في أربعة أشياء: علمت أنّي لا أخلو من نظر الله عزَّ وجلّ طَرْفة عين فاستحييتُ أنْ أعصيه، وعلمتُ أنّ لي رزْقاً لا يتجاوزني قد ضمنه الله لي فقنعتُ به، وعلمتُ أنّ عليَّ دَيْناً لا يؤدّيه عنّي غيري فاشتغلتُ به، وعلمتُ أنّ لي أَجَلاً يبادرني فبادرتُه”.

فالمراد: استعدّوا لهذه المسألة قبل أن تفاجئكم.

([1]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب الميم، من اسمه محمّد، الحديث رقم (5292).

الآية رقم (110) - إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ

ما دام ربّك عزَّ وجلّ يعلم الجهر ويعلم السّرَّ وأخْفى، فإيّاك أنْ تنافق، فالله سبحانه وتعالى ينهاك عن النّفاق مع البشر، فمن باب أَوْلى أن ينهاك عن النّفاق مع الله سبحانه وتعالى الّذي يعلم السّرَّ، ويعلم ما هو أخفى من السّرّ.

الآية رقم (102) - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ

﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾: حسيس النّار: أزيزها، وما ينبعث منها من أصوات أوّل ما تشتعل.

﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾: فلم يقُلْ مثلاً: (وهم بما اشتهتْ أنفسهم)، إنّما: ﴿فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾، كأنّهم غارقون في النّعيم ممَّا اشتهتْ أنفسهم، كأنّ شهوات أنفسهم ظرف يحتويهم ويشملهم، وهذا يُشوِّق أهل الخير والصّلاح للجنّة ونعيمها حتّى يعملوا لها، ويُعِدّوا العُدَّة لهذا النّعيم.

وسبق أن قلنا: إنّ الإنسان يتعب في أوّل حياته، ويتعلّم صنعة، أو يأخذ شهادة لينتفع بها فيما بعد ويرتاح في مستقبل حياته، وعلى قَدْر التّعب والجهد تكون الرّاحة، فكلّ ثمرة لا بُدَّ لها من حَرْث ومجهود، والله عزَّ وجلّ لا يُضيع أجرَ مَنْ أحسن عملاً.

الآية رقم (103) - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ

﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾: ذلك لأنّهم في نعيم دائم لا ينقطع، وعطاء غير مجذوذ، لا يفوتهم بالفقر ولا يفوتونه بالموت؛ لذلك: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ ، وأيُّ فزع مع هذه النّعمة الباقية؟ أو بمعنى: لا يحزنهم فزع القيامة وأهوالها.

﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾: فقد صَدَقكم الله جلَّ جلاله وَعْده، وأنجزَ لكم ما وعدكم به من نعيم الآخرة.

الآية رقم (104) - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ

أي: ما يحدث من عذاب للمشــركين وتنعيم المؤمنين سيكون ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ﴾.

﴿يَوْمَ﴾: زمن وظَرْف للأحداث، فكأنّ ما يحدث للكافرين من العذاب والتّنكيل، وما يحدث للمؤمنين من الخلود في النّعيم يتمّ في هذا اليوم.

﴿السِّجِلِّ﴾: هو القرطاس، والورق الّذي نكتب فيه يُسمَّى سجلاً؛ ولذلك يقول النّاس: نسجّل كذا؛ أي: نكتبه في ورقة حتّى يكون محفوظاً، والكتاب: هو المكتوب. والحقّ سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزّمر: من الآية 67]، يطويها بقدرته؛ لأنّ اليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء، ولكن لا نأخذ الطّيّ أنّه الطّيّ المعروف، بل نأخذه في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11].

﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾: يدلّنا على أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يتكلّم عن الخَلْق الأوّل.

﴿نُعِيدُهُ﴾: تدلّ على وجود خَلْق ثَان، فقوله سبحانه وتعالى في موضع آخر: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[إبراهيم]، دليل على أنّ الخَلْق الأوّل خَلْق فيه الأسباب وفيه المسبّب، فالحقّ سبحانه وتعالى أعطانا في الدّنيا مُقوِّمات الحياة من: الشّمس والقمر والمطر والأرض والماء … إلخ، وهذه أمور لا دَخْل لنا فيها، وعلينا فقط أنْ نستخدمَ العقول الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى فينا للتّرقّي بهذه الأشياء، أمّا في الخلق الثّاني فأنت فقط تستقبل النّعيم من الله عزَّ وجلّ من غير أَخْذ بالأسباب الّتي تعرفها في الدّنيا الّتي مرّت؛ لأنّ الآخرة لا تقوم بالأسباب إنّما بالمسبِّب سبحانه وتعالى، وحين نرى في الجنّة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر نعلم أنّ فِعْل الله سبحانه وتعالى لنا أعظم ممّا فعلناه لأنفسنا في الحياة الدّنيا، ومهما ارتقتْ أسباب التّرف في الدّنيا، ومهما تفنَّن الخَلْق في أسباب الرّاحة والخدمة الرّاقية، فقصارى ما عندهم أن تضغط على زِرٍّ يفتح لك الباب، أو يُحضِر لك الطّعام أو القهوة، لكن مهما تقدّم العلم لا يمكن أن يُقدّم للإنسان ما يخطر بباله من طعام أو شراب بمجرّد الخاطر، فيراه أمامه دون أنْ يتكلّم، أو دون أن يمسّ أيّ زر.

﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾: فالمعنى ليستْ مجرّد إعادته كما كان، إنّما نعيده على أَرْقى وأفضل ممّا كان، بحيث يصل بنا النّعيم أنْ يخطرَ الشّيء ببالنا فنجده بين أيدينا، بل إنَّ المؤمن في الجنّة يتناول الصّنف من الفاكهة فيقول: لقد أكلْتُ مثل هذا من قبل، فيُقال له: ليس كذلك بل هو أفضل ممّا أكلْتَ، وأهنأ ممّا تذوَّقتَ، فاختلفت المعايير بشكلٍ كامل. وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يلفت عباده إلى أنّ عنايته بهم أفضل من عنايتهم بأنفسهم؛ لأنّه سبحانه وتعالى أوْلَى بنا من أنفسنا.

﴿وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾: أي: لا يُخرِجنا شيء عمَّا وعدنا به، ولا يستطيع أحد أن يخالفنا أبداً، فطالما وعدنا فإنّ الفعل قد حدث، فالفعل مرهون بالوعد، ولا يمكن أن ينفكّ الفعل عن الوعد.

الآية رقم (94) - فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: ربط العمل الصّالح بالإيمان؛ لأنّه مُنطلَق المؤمن في كُلِّ ما يأتي وما يدع؛ لينال بعمله سعادة الدّنيا وسعادة الآخرة، أمّا مَنْ يعمل الصّالح لذات الصّلاح ومن منطلق الإنسانيّة والمروءة كما يقولون، فلا يخلو هذا كلّه عن أهواء وأغراض، ويمكن أن يأخذ نصيبه في الدّنيا، ويحظى فيها بالتّكريم والسُّمْعة، أمّا في الآخرة فلا ثواب له؛ لأنّ فَعَل الخير يجب أن يعمله الإنسان وفي باله الله جلَّ جلاله، لا رياء ولا سمعة، والحقّ سبحانه وتعالى يعطينا مثالاً لذلك في قوله جلَّ جلاله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النّور]؛ أي: فوجئ بوجود إله يحاسبه ويجازيه، وهذه مسألة لم تكُنْ على باله، فيقول له: عملتَ ليقال، وقد قيل، وانتهت المسألة؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾[الشّورى: من الآية 20]؛ أي: نعطيه أجره في عالم آخر لا نهاية له، ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾[الشّورى: من الآية 20]؛ لأنّه عَمِلَ للنّاس، فليأخذ أجره منهم.

﴿فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾: يعني: لا نبخسه حَقَّه، ولا نجحد سَعْيه أبداً.

﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾: نسجِّل له أعماله، ونحفظها، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الانفطار].

الآية رقم (95) - وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ

﴿وَحَرَامٌ﴾: يعني: ممتنع: لا يجب أن يكون.

﴿عَلَى قَرْيَةٍ﴾: أيّ قرية أهلكناها؛ لأنّها كذَّبَتْ الرّسل، ووقفتْ منهم موقف العناد والمعارضة، فأهلكها الله عزَّ وجلّ بذنوبها في الدّنيا، أيُعقَلُ بعد هذا أن نتركها في الآخرة من غير أنْ نأخذها بذنوبها؟ فلا بُدَّ أن ترجع إلينا في الآخرة لنحاسبها الحساب الدّائم الخالد، فلا نكتفي بحساب الدّنيا المنتهي.

الآية رقم (96) - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ

وردتْ قصّة يأجوج ومأجوج في آخر سورة الكهف، حينما سُئِلَ النّبيّ عليه السّلام عن الرّجل الجوَّال الّذي طاف الأرض، فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف]، وقد تكلّم العلماء في ذي القرنين، منهم مَنْ قال: هو قورش، ومنهم مَنْ قال: هو الإسكندر الأكبر، والقرآن الكريم لا يعنيه الشّخص وإلَّا لَذكره باسمه، فالقرآن الكريم لا يُؤرِّخ له، إنّما يريد التّركيز على الأوصاف الّتي تعني الحقّ وتعني الخَلْق، فيكفي أن نعلم أنّه إنسان مكَّنَه الله عزَّ وجلّ في الأرض؛ يعني: أعطاه من أسباب القوّة وأسباب المهابة والسّيطرة والمال، وأعطاه من الـمُقوِّمات كُلِّها: المال والعلم والجيوش، فلم يكتف بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، بل: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾[الكهف]، يعني: أخذ بالأسباب الّتي تؤدِّي إلى الخير. وسبق أنْ تحدّثنا عن تشخيص الأبطال في القصص القرآنيّ، وقلنا: إنّ القرآن الكريم لا يُؤرِّخ للشّخصيّة، ولا يُعطي لها خصوصيّة، وإنّما يريدها عامّة لتكون مثلاً يُحتذَى به، ويتمّ الاعتبار بها، وتُحدِث الأثر المراد من القصّة، فما يعنينا في قصّة ذي القرنين أنّه رجل مُكِّن في الأرض، وكان من صفاته كذا وكذا، وما يعنينا من أهل الكهف -مثلاً- أنّهم فتية آمنوا بربّهم، وتمسَّكوا بدينهم وعقيدتهم، وضَحَّوْا في سبيلها، لا يهمّنا الأشخاص ولا الزّمان ولا المكان ولا العدد؛ لذلك أبهم القرآن الكريم هذه المسائل كلّها، كذلك لـمّا أراد القرآن الكريم أنْ يضرب مثلاً للّذين كفروا ذكر امرأة نوح وامرأة لوط، ولم يُعيِّنهما، وكذلك ضرب مثلاً للّذين آمنوا بامرأة فرعون، ولم يذكر مَنْ هي، فالغرض من ضَرْب هذه الأمثال ليس الأشخاص، إنّما لنعلم أنّ للمرأة حرّيّةَ العقيدة واستقلاليّةَ الرّأي، فليست هي تابعة لأحد، بدليل أنّ نوحاً ولوطاً لم يتمكَّن كلّ منهما من هداية امرأته، وفرعون الّذى ادَّعَى الألوهيّة، وكان أكبر جبّار في الأرض، لم يستطع أن يمنع زوجته من الإيمان، وهي قالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[التّحريم: من الآية 11].

فما يعنينا في قصّة (ذي القرنين) أنّ الله سبحانه وتعالى مكَّن له في الأرض وأعطاه كُلَّ أسباب القوّة والسّيطرة؛ لذلك ائتمنه أنْ يكونَ ميزاناً للخير وللحقّ، وفوَّضَهُ أن يقضي في الخَلْق بما يراه من الحقّ والعدل، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: من الآية 86]؛ لأنّنا مكَّنَّاه وفوَّضناه، فاستعمل التّمكين في موضعه، وأخذ الأمانة بحقِّها، فقال: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الكهف: من الآية 87]؛ أي: نُعذِّبه على قَدْر مقدرتنا، ثمّ يُرَدُّ إلى ربّه فيُعذِّبه على قَدْر قدرته جلَّ جلاله، ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾[الكهف]، وهكذا يكون دستور الحياة، دستور الثّواب والعقاب الّذي تستقيم به أمور العباد، يتابع المولى عزَّ وجلّ: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف]، هذا كُلُّ ما أخْبَر الله سبحانه وتعالى به عن ذي القرنين، ويبدو أنّه وصل في تجواله العامّ إلى بلاد تظلّ الشّمس بها مشرقة ثلاثة أو ستّةَ أشهر لا تغرب؛ لذلك لم يجد لهم من دون الشّمس ستْراً يسترها؛ أيْ: ظلمة، ويتابع المولى سبحانه وتعالى ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾[الكهف]، ومع ذلك احتال ذو القرنين أن يفهم منهم ويخاطبهم؛ لحرصه على نفعهم وما يصلحهم، ولو لم يكُنْ حريصاً على نفعهم لوجد العذر في كونه لا يفهم منهم ولا يفهمون منه، فلمّا توصّلوا إلى لغة مشتركة، ربّما هي لغة الإشارة: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف]، ثمّ أمرهم أن يأتوا بقطَع الحديد، فأشعل فيها النّار حتّى احمرَّت، فقال: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾[الكهف: من الآية 96]، وهكذا صنع لهم السّدَّ الّذي يحميهم من هؤلاء القوم، فلم يَقصُر نفعه لهم على هذه القضيّة ذاتها، إنّما نفعهم نَفْعاً يعطيهم الخير والقوّة في ألَّا يتعرّضوا لمثلها بعد ذلك، لذلك هو أشــــــركهم في العمل؛ ليشعروا بأهمّـيّته ويتمسّكوا بالمحافظة عليه وصيانته، وهذا النّموذج الّذي تُقدِّمه قصّة ذي القرنين، هو نموذج صالح لكلّ زمان ومكان. وقد تضاربتْ الأقوال حول: مَنْ هم يأجوج ومأجوج، فمِنْ قائل: هم التّتار، وآخر قال: المغول..، ولو كان في تحديدهم فائدة لعيَّنهم القرآن الكريم، إنّما المهمّ من قصّتهم أنّهم قوْمٌ مفسدون في الأرض لا يتركون الصّالح على صلاحه، وفي بناء السّدّ دروس، منها أنّ ذي القرنين لم يقف عند طلبهم في بناء سدٍّ يمنع عنهم أذى عدوّهم يأجوج ومأجوج، إنّما اجتهد وترقَّى بالمسألة إلى ما هو أفضل لهم، فالسّدُّ الأصمّ المتماسك كقطعة واحدة يسهل هَدْمه أو النّفاذ منه؛ لذلك قال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾[الكهف: من الآية 95]، لقد طلبوا سدّاً، وهو يقول: رَدْماً، لقد رقّى لهم الفكرة، وأراد أن يصنع لهم سدّاً على هيئة خاصّة تمتصّ الصّدمات، ولا تؤثِّر في بنائه؛ لأنّه جعل بين الجانبين رَدْماً يُعطِي السّدّ نوعاً من المرونة، ولـمّا عرضوا عليه المال نظير عمله أبى، وقال: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾[الكهف: من الآية 95]؛ أي: عندي المال الكثير من عطاء الله عزَّ وجلّ لكن أعينوني بما لديكم من قوّة.

نعود إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾: فلها علاقة بقوله جلّ وعلا: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾[الأنبياء: من الآية 93]، فتقطّع أهل الخير وتفرُّقهم يُجرِّئ عليهم أصحاب الفساد، وأقلّ ما يقولونه في حقِّهم: إنّهم لو كانوا على خير لنفعوا أنفسهم، فدعُوكم من كلامهم، وهكذا يفُتُّ أهل الباطل في عَضُدِ أهل الحقّ، ويصرفون النّاس عنهم.

﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾: يعني: جاءت عناصر الفساد والفتنة في الكون، وعناصر الفساد والفتنة لا تتمكّن ولا تجد الفرصة إلّا إذا غفل أهل الحقّ وتفرّقوا فلم يردّوهم، ويأخذوا على أيديهم، ويأجوج ومأجوج هم أهل الفساد في كلّ زمان ومكان.

﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾: الحدب: المكان المرتفع، نقول: فلان أحدب الظّهر يعني: في ظهره منطقة مرتفعة، وهؤلاء المفسدون أتوْا من أماكن مرتفعة من هضبة -كما قالوا- شمال الصّين.

﴿يَنْسِلُونَ﴾: يعني: يسرعون، ومنه نقول: انسلَّ القماش؛ لأنّ القماش مُكوَّن من خيوط طوليّة وخيوط عرضيّة، تتداخل فتكوِّن القماش، فنسل القماش أن تنزع خيوط العرض وتفكّ تداخلها مع خيوط الطّول.

الآية رقم (97) - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ

فأهل الفساد يأتون مُسْرِعين من كلّ حَدب وصَوْب إلّا أنّ فسادهم لن يطول، فقد اقتربت القيامة، قال سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾[القمر]، وقال جلَّ جلاله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾[النّحل: من الآية 1]، وهذا تنبيه للغافل، وتحذير للباغي من أهل الفساد، وتطمين ورجاء للمظلومين المستضعفين المعتدَى عليهم: اطمئنوا فقد قرب وقت الجزاء.

﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾: الحقّ؛ أي: الصّادق الّذي يملك صاحبه أن يُنفّذه، فقد تَعِد وعداً ولا تملك تنفيذه فهو وَعْد، لكنّه وَعْد باطل، أمّا الوعد الحقّ فهو من الله سبحانه وتعالى، وحين يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾: فتنبّه، ولا تَقِسْ الدّنيا بعمرها الأساسيّ، إنّما قِسْ الدّنيا بعمرك فيها، فإذا مات الإنسان، فقد قامت قيامته، واقترب الوعد الحقّ بالنّسبة إليه، وكذلك مدّة مُكْث الإنسان في قبره إلى أن تقوم السّاعة ستمرّ عليه كساعة من نهار، كما قال جلَّ جلاله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾[يونس: من الآية 45]، ولو تنبَّه كلّ مِنّا إلى إخفاء الله سبحانه وتعالى لأجله، لعلم أنّ في هذا الإخفاء أعظم البيان، فحين أخفاه ترقّبناه في كلّ طَرْفة عَيْن، وتنفُّس نَفَسٍ.

﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: وَعْد الله سبحانه وتعالى هنا هو القيامة، وهي تفاجئنا وتأتينا بغتة؛ لذلك نقول في: ﴿فَإِذَا﴾ أنّها الفجائيّة، كما تقول: خرجتُ فإذا كلبٌ بالباب، يعني: فوجئت به، وهكذا ساعةَ تقوم السّاعة سوف تُفَاجِئ الجميع، لا يدري أحد ماذا يفعل؛ لذلك يقول جلَّ جلاله: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وشخوص البصر يأتي حين ترى شيئاً لا تتوقّعه، ولم تحسب حسابه، فتنظر مُنْدهِشاً يجمد جفنُك الأعلى الّذي يتحرّك على العين، فلا تستطيع حتّى أنْ ترمش أو تطرف، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: من الآية 42]، وإذا أردتَ أن ترى شُخوص البصر فانظر إلى شخص يُفَاجأ بشيء لم يكُنْ في باله، فتراه -بلا شعور- شاخصَ البصر. ثمّ يقولون:

﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾: فلم يقتصر الموقف على شخوص البصر، إنّما تتحرّك أيضاً أدوات الإدراك، فيقول اللّسان: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ وهذا نداء للويل؛ أي: جاء وقتُك، فلم يَعُدْ أمامهم إلّا أنْ يقولوا: يا عذاب هذا أوانك فاحضر، والويل: هو الهلاك السّريع ينادونه، فهل يطلب الإنسان الهلاكَ، ويدعو به لنفسه؟ نقول: نعم، حين يفعل الإنسان الفعلَ ويجد عواقبه السّيّئة، وتواجهه الحقيقة المرّة يقول: يا ويلتاه؛ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾[الزّخرف]، فيُؤنِّب الإنسان نفسه، ويطلب لها العذاب، فهذه هي الموازين الحقيقيّة الّتي تقاس بها الأمور.

﴿قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: لم يكن هذا الموقف في بالنا، ولم نعمل له حساباً، والغفلة: أنْ تدرأ عن بالك ما يجب أن يكون على بالك دائماً، لكن أيّ غفلة هذه والله عزَّ وجلّ يُذكِّرنا بهذا الموقف في كلّ وقت من ليل أو نهار، ألَا نرى أنّه سبحانه وتعالى سَمَّى القرآن الكريم ذِكْراً: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾[الحجر: من الآية 9]؛ ليزيح عنّا هذه الغفلة، فكلّما غفلنا ذكّرنا، وهزَّ مواجيدنا، وأثار عواطفنا، فالمسألة ليست غفلة؛ لذلك نراهم يستدركون على كلامهم، فيقولون:

﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: لأنّهم تذكَّروا أنّ الله سبحانه وتعالى هَزَّ عواطفهم، وحرَّك مواجيدهم ناحية الإيمان، فلم يستجيبوا، فاعترفوا بظلمهم، ولم يستطيعوا إنكاره في مثل هذا الموقف، فلم يعُدْ الكذب مُجْدِياً، ولعلّهم يلتمسون بصدقهم هذا نوعاً من الرّحمة، ويظنّون أنّه نافعهم، لكن هيهات، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يحكي عنهم هذه المواجهة حين تفاجئهم القيامة بأهوالها، فتشخص لها الأبصار، ويقول بعضهم: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾، فيردّ عليهم إخوانهم: أيّ غفلة هذه، وقد كان الله عزَّ وجلّ يُذكِّرنا بالقيامة وبهذا الموقف في كلّ وقت.

﴿بَلْ﴾: حرف إضراب عن الكلام السّابق، وإثبات للكلام اللّاحق، وهكذا يُراجِعون أنفسهم، ويُواجِه بعضهم بعضاً، لكن بعد فوات الأوان.

وقد قلنا: بأنّ القرآن الكريم يُذكِّر، والسّنّة النّبويّة تذكّر دائماً، فلماذا هناك كثير من الآيات في القرآن الكريم تتعلّق بالموت؟ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، وقوله عزَّ وجلّ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران]، وقوله جلَّ جلاله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾[الرّحمن]، لماذا قدّم الموت على الحياة عندما قال جلَّ جلاله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك]، أراد الله سبحانه وتعالى ألّا تغيب فكرة الموت عن أذهان النّاس؛ لأنّ الموت هو بداية وضع القدم على طريق الحساب، وعلى طريق اليوم الآخر، وقد يُنكر بعض النّاس الغيبيّات، فينكرون الآخرة وحياة البرزخ…، لكن هل يستطيع أحد أن يُنكر الموت؟ هل يستطيع أحد أن يدفع الموت عنه لحظة واحدة؟ قال سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[يونس: من الآية 49]، فلا يستطيع أيّ إنسان أن يدفع عن نفسه الموت، بعضهم يقول: هذه هي الحياة، نناقش الآن عقليّاً، وليس فيما يتعلّق بالإيمان -الّذي نؤمن به قطعاً كرأي العين- هل يصحّ بالعقل الذّي وهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يعيش الإنسان في هذه الحياة بلا هدف، رحلة وتنتهي، هذا تنتهي رحلته طفلاً، وهذا كهلاً، وهذا أكل أموال النّاس، وهذا ظلمهم، وهذا كان خيّراً معهم.. وبهذا تساوى الجميع بالموت؟! وانتهت الحياة؟! فمهما طالت: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾[النّازعات: من الآية 46]، منظر الموت ماثل لكلّ إنسان، مؤمن أو ملحد، من الأديان كلّها، ومن الفئات كلّها، ومن النّاس كلّهم، ما استطاع أحدٌ أبداً أن يردّ الموت، فهل يُعقل أن تنتهي القصّة هكذا؟! ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[المؤمنون]، تعالى الله جلَّ جلاله عن العبث، فالموت آت:

نسير إلى الآجال في كلّ لحظةٍ                     . وأعمارنا تُطــوى وهنّ مراحلُ
.

هذه حقيقة، لذلك سيّدنا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: “عجبت كيف يفرح بالدّنيا مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح بالدّنيا مَن تقوده حياته إلى موته ويقوده عمره إلى أجله؟َ”، فعلى أيّ أساس وأيّ منطق يعتقد بعضهم أنّ النّهاية هنا في الموت؟ إنّ البداية ستكون في الموت؛ لأنّها وضعت الموازين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء]، فالإنسان سيُحَاسب، وعندما يكون في قبره -ولو بلا زمن- يكون القبر: «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»([1])، فيكون الإنسان قد وضع قدمه على بداية طريق اليوم الآخر، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات القرآنيّة يتحدّث عن الإيمان بالله وباليوم الآخر، وهناك أناس يقولون: نحن نؤمن بالله عزَّ وجلّ، الله سبحانه وتعالى محبّة ورحمة…، هذا كلام صحيح، لكنّ الله سبحانه وتعالى شديد العقاب أيضاً، وما خلقنا عبثاً، ومن غير المعقول أن يكون الخيّر والشّرير معاً، ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾[فاطر]، فالله سبحانه وتعالى خلقنا للاختبار في هذه الحياة الدّنيا، ولا شكّ بأنّ يوم الحساب قادم، وقد ذكره القرآن الكريم: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [آل عمران: من الآية 114]، واليوم الآخر هو شرط وأساس فيما يتعلّق بالإيمان، حتّى تستقيم هذه الحياة، ولن تستقيم الحياة إلّا إذا علم الإنسان بأنّه محاسَب ومُجازى على كلّ ما يقوم به من عمل أو فعل في هذه الحياة الدّنيا، وهناك مَن يقول: إنّ هناك من يفعل الخير من غير إيمان، هؤلاء الّذين تتحدّثون عنهم بأنّهم يفعلون الخير، لو تعرّضوا لمصاب أو ضائقة هل يفعلون الخير؟ الخير والإيمان والاستقامة والأخلاق مربوطة ربطاً وثيقاً بالدّين، فكما قال النّبيّ عليه السّلام: «إِنَّ مِنَ الإِيمَانِ حُسْنُ الخُلُقِ، وَأَفْضَلُكُمْ إِيمَاناً أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً»([2])، والأخلاق إنّما ضامنها وأساسها هو الدّين، وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى، و: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَـمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»([3])، ونحن عندما نقول للنّاس: آمنوا بالله عزَّ وجلّ، واعملوا صالحاً، فبماذا يأمر الدّين؟ لا يرون من الدّين إلّا الصّلاة والصّوم..، ولا يرون من الدّين قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النّحل]، ولا يرون من الدّين قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾[الحجرات: من الآية 12]، ولا يرون من الدّين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصِّلت]، فالدّين ليس قوالب جامدة، وإنّما قيم ضابطة، تضبط المجتمعات وتضبط البشريّة وتضبط الإنسانيّة، وما جاءت إلّا لإسعاد النّاس، وسعادة البشر إنّما تتمّ عن طريق الرّسالات السّماويّة، وها هو السّيّد المسيح عليه السّلام يقول: ماذا ينفع الإنسان إذا ربح الدّنيا وخسر الآخرة؟ فالأساس بالنّسبة إلى الإنسان ولعمله أن ينظر بمنظار الثّواب والعقاب الّذي ينتظره من جرّاء عمله، وهذا هو معنى هذه الآيات الكريمة، والله أعلم.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 26، الحديث رقم (2460).

([2]) المعجم الكبير: باب الصّاد، صدي بن العجلان أبو أمامة الباهليّ، الحديث رقم (7756).

([3]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب 36، الحديث رقم (50).

الآية رقم (98) - إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ

فالّذين اتّخذتموهم آلهة من دون الله عزَّ وجلّ من الأصنام والأوثان والشّمس والقمر والأشجار سيسبقونكم إلى جهنّم، ولا يوجد لديكم أيّ أمل في النّجاة؛ لأنّهم حين يروْنَ العذاب ربّما تذكّروا هؤلاء، وفكَّروا في اللّجوء إليهم والاستنجاد بهم؛ أي: الآلهة السّابقة، كما كانوا يقولون عنهم: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: من الآية 18]، وكانوا يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزّمر: من الآية 3]، لذلك، يجمعهم الله جلَّ جلاله جميعاً في جهنّم ليقطع عنهم الآمال، ويبدو خجل المعبود وخيبة العابد.

﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾: الحصب: مثل: الحطب، وهو كلّ ما تُوقَد به النّار أيّاً كان خشباً أو قَشّاً أو بترولاً أو كهرباء، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التّحريم: من الآية 6]، يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾[ق]، وقوله عزَّ وجلّ: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾[الملك: الآية 7 – من الآية 8].

﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾: الورود هنا بمعنى: الدّخول والمباشرة، لا كالورود في الآية الأخرى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾[مريم: من الآية 71]، فهنا الوضع مختلف، فهنا دخول مباشر إلى جهنّم.

الآية رقم (99) - لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ

﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾: فهم سيدخلون فيجدون آلهتهم أمامهم، كما قال سبحانه وتعالى في شأن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ [هود: من الآية 98]، فهو قد سبقهم إلى النّار، ولو كان هؤلاء آلهة -كما تدَّعون- ما وردوا النّار.

﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: لأنّ المعروف عن النّار أنّها تأكل ما فيها، ثمّ تنتهي، أمّا هذه النّار فلا نهايةَ لها، فكلّما نضجَتْ جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها، وهكذا تظلّ النّار مُتوقِّدة لا تنطفئ.

﴿وَكُلٌّ﴾: أي: العابد والمعبود.

الآية رقم (100) - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ

﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾: معلوم أنّ الزّفير هو الخارج من عمليّة التّنفّس، فالإنسان يأخذ في الشّهيق الأكسجين، ويُخرِج في الزّفير ثاني أكسيد الكربون، فنلحظ أنّ التّعبير هنا اقتصر على الزّفير دون الشّهيق؛ لأنّ الزّفير هو الهواء السّاخن الخارج.

﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾: وهذه من الآيات الّتي توقّف عندها المستشرقون؛ لأنّ هناك آياتٍ أخرى تُثبت لهم في النّار سَـمْعاً وكلاماً، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف]، نعم، هم يسمعون، لكن لا يسمعون كلاماً يَسُرُّ، إنّما يسمعون تبكيتاً وتأنيباً، كما في قوله جلَّ جلاله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف].

الآية رقم (101) - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ

بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الكافرين في النّار ذكر المقابل، وذِكْر المقابل يوضِّح المعنى، نقرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار]، ويقول: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ [التّوبة: من الآية 82]، لذلك تظلّ المقارنة حيَّة في الذِّهْن.

﴿سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾: الحُسْنى: مؤنّث الأحسن، تقول: هذا حَسَن، وهذه حسنة، فإنْ أردتَ المبالغة تقول: هذا أحسن، وهذه حُسْنى، مثل: أكبر وكُبْرى، ومعنى: ﴿سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ أنّهم من أهل الطّاعة، ومن أهل الجنّة، هكذا حُكْم الله سبحانه وتعالى لهم، فالله سبحانه وتعالى علم مسبقاً من اختيارهم ماذا سيختارون، أمّا هم فسيحاسبون على اختيارهم، وليس على علم الله عزَّ وجلّ المسبق، فـ ﴿سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾؛ أي: علم الله جلَّ جلاله منهم الحسنى، فالله سبحانه وتعالى علم ما سيقومون به.

﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾: أي: مبعدون عن النّار.

الآية رقم (85) - وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ

قلنا: إنّ سورة الأنبياء لا تذكر قصَصاً كاملة للأنبياء، إنّما تعطينا طَرَفاً منها، وهنا تذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالاسم فقط.

﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾: كأنّ الصّبر في حَدِّ ذاته حيثيّة يُرسل الله سبحانه وتعالى من أجلها الرّسول.

﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾: ولنتأمّل الصّبر عند إسماعيل عليه السّلام، الّذي وافق على أنْ يذبحه أبوه برؤيا رآها، فأيُّ صبرٍ أعظم من هذا؟ ثمّ يعيش في صِغَره إلى أن يكبر في وَادٍ غير ذي زرع، ويتحمّل مشاقّ هذه البيئة الجافّة المجْدِبة، ويخضع لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾[إبراهيم: من الآية 37]، وكأنّ في خروجه من هذه الأرض وطلبه لأرض أخرى فيها النّعيم والزّروع والثّمار تأبّياً على إقامة الصّلاة؛ لذلك نراه يُفضّل البقاء في هذا المكان، ويزهد في نعيم الدّنيا الّذي يتمتّع به غيره امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، وكانت النّتيجة أنْ أعطاه الله سبحانه وتعالى ما هو خَيْر من الزّروع والثّمار، أعطاه عطاءً يفخر به بين الأنبياء جميعهم، حيث جعل من نسله النّبيّ الخاتم محمّد بن عبد الله عليه السّلام، وأيُّ ثمرة أحسن من هذه؟

﴿وَإِدْرِيسَ﴾: وهو من الجيل الخامس من أولاد آدم عليه السّلام، وبعض العلماء يقولون هو أوزوريس، ونحن لا نقول إلّا ما قاله القرآن الكريم: (إدريس)، وأهل السّير يقولون: إنّ نبيّ الله إدريس عليه السّلام أوّل مَنْ علّمه الله سبحانه وتعالى غزل الصّوف وخياطة الملابس، وكانوا قبلها يسترون عوراتهم بقطع الجلود، وهو أوّل مَن استخدم النّجوم لمعرفة الاتّجاهات والأحوال، وأوّل مَنْ خطّ بالقلم، هذه يُسمُّونها: أوّليّات إدريس.

﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾: الكِفْل هو الحظّ والنّصيب، فلماذا سُـمِّي بهذا الاسم؟ ذو الكفل هو ابن أيّوب عليه السّلام، ويظهر أنّ أولاد أيّوب كانوا كثيرين، ولكن اختصّ الله سبحانه وتعالى ذا الكفل عليه السّلام بالرّسالة، وكان هذا حظّه دون غيره من أبناء أيّوب؛ لذلك سُمِّي: ذو الكفل، وقد جاءت هذه المادّة (كَفَل) أيضاً في قوله الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾[الحديد: من الآية 28]، جاءت هذه الآية بعد الكلام عن عيسى عليه السّلام والّذين آمنوا به واتّبعوه، يقول جلَّ جلاله: يا مَنْ آمنتم بالرّسل السّابقين، وآخرهم عيسى عليه السّلام آمنوا بالرّسول الخاتم ليكون لكم كفلان؛ أي: نصيبان وحظَّان من رحمة الله عزَّ وجلّ.

﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾: فوصف الأنبياء كلّهم بالصّبر؛ لأنّهم تعرَّضوا لأنواع الاضطهاد والإيذاء والأهوال في سبيل دعوتهم، وصبروا على هذا كلّه.