الآية رقم (80) - وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا

﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾: من حيث النّظرة العامّة؛ لأنّه قبل أنْ يدخلَ الإنسان يطلب الخروج أوّلاً؛ لأنّك لن تدخلَ إلّا بعد أنْ تخرجَ، وإنْ كان التّرتيب الطّبيعيّ أن تقول: أخرجني مُخْرَج صدق، وأدخلني مُدْخَل صدق، ومعنى مخرجَ الصّدق، ومدخل الصّدق: أنّك لا تدخل أو تخرج من غير هدف، فإنْ خرجتَ من مكان فليكُن مخرجك مخرج صدق؛ أي: مطابقاً لواقع مهمّتك، وإنْ دخلتَ مكاناً فليكُنْ دخولك مدخل صدق؛ أي: لهدف محدّد تريد تحقيقه، فيكون دخولك وخروجك لله سبحانه وتعالى، وهكذا كان خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة لله سبحانه وتعالى ودخوله المدينة لله عز وجل، والإنسان دائماً عند الدّخول يجب أن يفكّر بالمخرج، حتّى في هذه الحياة، فالإنسان عندما يتحرّك أيّ حركة؛ يخرج من منزله يقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾.

﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾: طلب النُّصْرة من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه أرسله بمنهج الحقّ، وسوف يصطدم هذا الحقّ بأهل الباطل والفساد الّذين يحرصون على الباطل، وينتفعون بالفساد، وهؤلاء سوف يُعَادُون الدّعوة، ويُجابِهون النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لذلك توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربّه عز وجل الّذي أرسله واستعان به على مواجهة أعدائه.

﴿سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾: السّلطان: سبق أنْ أوضحنا أنّه يُراد به: إمّا حجّة تُقنع، وإمّا سيف يَرْدَع، وهذا واضحٌ في قَوْل الله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: من الآية 25]؛ أي: بالآيات الواضحات، وهذه أدوات الحجّة والإقناع، ثمّ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[الحديد: من الآية 25]، وهذه أدوات القوّة والرّدع، فالحقّ لا بدّ له من قوّة تحميه.

الآية رقم (81) - وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا

﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾: هكذا أطلقها الله سبحانه وتعالى شعاراً مُدوّياً ﴿جَاءَ الْحَقُّ﴾، وما دام قال للرّسول صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) فلا بُدَّ أنّ الحقّ قادمٌ لا شَكَّ فيه؛ لذلك أمره بهذا الأمر الصّريح، وبعد ذلك يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح، عندما دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، وَحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِئَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: «جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»([1])؛ أي: جاء الحقّ واندحر الباطل، ولم يَعُدْ لديْه القوّة الّتي يُبدِئ بها ويُعيد، فقد خَمدتْ قواه ولم يَبْقَ له صَوْلَة ولا كلمة، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾يُشعرنا بأنّ الحقّ أتى بنفسه؛ لأنّه نسب المجيء إلى الحقّ كأنّه أمرٌ ذاتيٌّ فيه، فلم يأْتِ به أحد، وكذلك في: ﴿وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ فالباطل بطبيعته زاهقٌ مُندحرٌ ضعيف لا بقاءَ له، فجاء الحقّ ليس لاستعباد النّاس، ولكن لراحتهم ورَفْع رؤوسهم.

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾: زَهُوق: صيغة مبالغة، فالباطل نفسه سريعاً ما يذهب ويندثر، ومن العَجَب أن نرى الباطل نفسه من جنود الله عز وجل؛ لأنّ الباطل لو لم يُؤلم النّاس ويُزعجهم ما تشوَّقوا للحقّ وما مالوا إليه، وما طلبت أنفسهم الحقّ، فإذا ما لدغهم الباطل واكتَووْا بناره عرفوا الحقّ، وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنا مثلاً للحقّ وللباطل، فقال: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرّعد]، الحقّ سبحانه وتعالى يُمثِّل للحقّ وللباطل بشيءٍ حِسّيٍّ نراه حينما ينهمر المطر على قمم الجبال، فيسيل الماء على الأودية بين الجبال حاملاً معه صغار الحصى والرّمال والقشِّ، وهذا هو الزَّبَد الّذي يطفو على صفحة الماء ولا ينتفع النّاس به، وهذا الماء مثالٌ للحقّ الّذي ينفع النّاس، والزَّبَد مثال للباطل الّذي لا خَيْر فيه، أو: يعطينا المثال في صورةٍ أخرى: صورة الحدّاد أو الصّائغ الّذي يُوقِد النّار على الذّهب ليخرج منه ما علق به من شوائب.   

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المغازي، بَابٌ: أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ , الرَّايَةَ يَوْمَ الفَتْحِ، الحديث رقم (4287).

الآية رقم (82) - وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا

كما نعرف جميعاً القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل المنزّل على عبده ونبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة النّاس، جعله الله سبحانه وتعالى عطاءً ومدداً ومعجزةً لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولأمّته وللعالمين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء]، والآية تُعطينا نموذجين لتلقِّي القرآن الكريم: إنْ تلقَّاه المؤمن كان له شفاء ورحمة، وإنْ تلقَّاه الظّالم كان عليه خَسَاراً، والقرآن الكريم حَدَّدَ الظّالمين لِيُبَيِّن أنّ ظلمهم هو سبب عدم انتفاعهم بالقرآن الكريم؛ لأنّ القرآن الكريم خيرٌ في ذاته وليس خساراً، وقد سبق أن أوضحنا أنّ الفعل قد يكون واحداً، لكن يختلف القابل للفعل، ويختلف الأثر من شخصٍ لآخر، فسلامة الطّبع أو فساده لها أثرٌ في تلقِّي القرآن الكريم والانفعال به، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التّوبة]، فالآية واحدة، لكنّ الطّبع المستقبل مختلف، فالمؤمن يستقبلها بمَلكاتٍ سليمة، فيزداد بها إيماناً، والكافر يستقبلها بملكَاتٍ فاسدة فيزدادَ بها كفراً، فالمشكلة في تلقّي الحقائق واستقبالها، فيجب أن تكون ملكاتُ التّلقّي غير فاسدة، فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ متوقّفٌ على سلامة الطّبع والفهم عن الله عز وجل، وليس محاولة التّضليل.

والشّفاء: أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه.

والرّحمة: أن تتّخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم عودة المرض مرّة أخرى، فالرّحمة وقاية، والشّفاء علاج.

لكن، هل شفاء القرآن الكريم شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النّفوس، فيُخلِّص الإنسان من القلق والحَيْرة والغَيْرة، ويجتثّ ما في نفسه من الغِلِّ والحقد، والحسد، إلى غير هذا من أمراض معنويّة؟ أو كما يقول بعضهم: هو شفاءٌ للمادّيّات، ولأمراض البدن أيضاً؟ يجب أن نقف عند هذا الموضوع، بما أنّ الله سبحانه وتعالى قال: إنّ القرآن الكريم هو شفاءٌ، ولم يحدّد، فبالمعنى العامّ لهذه الكلمة، يكون شفاءً للمعنويّات ولكن قد يكون شفاءً للمادّيّات، بدليل ما رُوِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ t أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَـمْ تَقْرُونَا، وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ…، فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ…»([1])؛ أي: أنّ الفاتحة رُقْية يُرقَى بها المريض فيبرأ بإذن الله سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم أنّ بعض العلماء سئل عن الآية: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وكيف كان سيّدنا عمر بن الخطّاب t يعود المرضى فيقرأ الفاتحة عند المريض فيبرأ، بينما نحن نقرأ الفاتحة والقرآن الكريم كاملاً فلا يبرأ، فقال بجوابٍ مختصر: هذه الفاتحة، فأين عمر؟! وفي هذا جوابٌ بليغ.

ونحن عندنا في الإسلام لكلّ داءٍ دواء، فتأخذ بالأسباب، تذهب إلى الطّبيب وتأخذ الدّواء وتأخذ الاحتياطات كلّها وبعد ذلك تقرأ الفاتحة وتقرأ ما يتيسّر من القرآن الكريم، وتدعو للمريض، هذا هو معنى الرّقية، وليس معنى الرّقية أن أداوي الإنسان المريض بقراءة الفاتحة فقط، فمن كان معه الزّائدة مثلاً هل أقرأ له فاتحة بدلاً من إجراء عمليّة؟! الجواب: بالتّأكيد لا، بل آخذه للطّبيب وتُجرى له عمليّة الزّائدة وأقرأ له الفاتحة، فأنت تأخذ الدّواء لكنّ الشّافي هو الله سبحانه وتعالى، فتقرأ كلام الله عز وجل.

﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾: لأنّهم بظُلْمهم واستقبالهم لفُيوضات السّماء بملَكَاتٍ سقيمة، وأجهزة متضاربة متعارضة، لم ينتفعوا بالقرآن الكريم، ولن يستفيدوا من رحمات الله عز وجل.    

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الطّبّ، بَابُ الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، الحديث رقم (5736).

الآية رقم (83) - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا

﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾: أي: أعرض عنّا وعن ذِكْرنا وانصرف عن منهجنا، ومِنَ النّاس مَنْ يُعرِض عن ذكر الله عز وجل، ولكنّه يؤدِّي منهجه، فإذا أدَّيت المنهج ذكرت صاحب المنهج، ويجب ألّا تنسى الـمُنعِم أبداً، وإذا شُغِل الإنسان بالنّعمة عن الـمُنعِم، فكأنّه يُخطئ بحقّ الـمُنعِم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾[العلق]، فالاستغناء هنا ليس ذاتيّاً في الإنسان، بل هو استغناءٌ موهوب، قد ينتهي في يومٍ من الأيّام ويعود الإنسان من جديد يطلب النّعمة من المنعِم عز وجل، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾[العلق].

ثمّ يتحدّث الحقّ سبحانه وتعالى عن صفة أخرى في الإنسان:

﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾: وهذه صفة مذمومة في الإنسان الّذي إذا ما تعرّض لشرٍّ أو مسَّه ضُرٌّ يقنط من رحمة الله عز وجل، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُخاطب عبده الّذي يقنط: لا يليق بك أن تقنط إذا ضاقتْ بك الدّنيا، وأنت مؤمن لا تعيش مع الأسباب وحدها إنّما مع المسبِّب سبحانه وتعالى، وما دُمْتَ في رحاب مُسبِّب الأسباب فلا تقنط، لذلك يقولون: «لا كَرْبَ وأنت ربٌّ»، فقد يقنط الإنسان إن لم يكُنْ له رَبٌّ يتولَّاه، أمّا والرّبّ موجودٌ فلا يليق به، كيف ومَنْ له أب لا يُلقي لهموم الدّنيا بالاً، ويستطيع أن يعتمد عليه في قضاء حاجاته، فما بالك بمَنْ له رَبٌّ يرعاه ويتولَّاه، ويستطيع أن يتوجّه إليه، ويدعوه في كلّ وقت؟

والله سبحانه وتعالى حينما يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يريد أنْ يُعطينا الأُسْوة به سبحانه وتعالى، يريد أن يقول للإنسان: لا تحزن إن أدَّيْتَ للنّاس جميلاً فأنكروه، أو معروفاً فجحدوه، وكيف تحزن وهم يفعلون هذا مع ربّ العالمين، فكثيراً ما أنعم الله سبحانه وتعالى على أُناس فأساؤوا وكفروا وجحدوا.  

الآية رقم (73) - وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً

﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾: وهذه خبيثةٌ جديدة من خبائث المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يحاولون جادِّين أنْ يصرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا بعثه الله عز وجل به، فمرّة يقولون له: دَعْ آلهتنا نتمتّع بها سنة ونأخذ الغنائم من ورائها، وتحرم لنا بلدنا؛ أي: ثقيف كما حرّمت مكّة، ومرّة يقولون له: لا تستلم الحجر، ويمنعونه من استلامه حتّى يستلم آلهتهم أوّلاً.

﴿كَادُوا﴾: أي: قاربوا، والمقاربة غير الفعل، فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له، لكنّه لم يحدث، إنّهم قاربوا أنْ يفتنوك عن الّذي أُنزِل إليك لكن لم يحدث؛ لأنّ محاولاتهم كانت من بعيد، وأنت رسول الله، فهي تحوم حول فتنة النّاس عن الدّين، كما قالوا مثلاً: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.

﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾: لَيُحوّلونك ويَصْرِفونك عمّا أنزل الله تبارك وتعالى إليك، لماذا؟

﴿لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾: كما حكى القرآن الكريم عنهم في آيةٍ أخرى: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ [يونس: من الآية 15]، فيكون الجواب من الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[يونس: من الآية 15]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[يونس]، ونلاحظ في مثل هذا الموقف أنّ الله سبحانه وتعالى يتحمّل المشقّة والعنت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وينقل المسألة من ساحة الرّسول إلى ساحته عز وجل، لكي لا تكون عداوة بين محمّد صلى الله عليه وسلم وقومه، فالأمر ليس من عند محمّد صلى الله عليه وسلم، بل من عند الله عز وجل، يقول سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾[الأنعام]، فلا تحزن يا محمّد، فأنت مُصَدَّق عندهم، لكنّ المسألة عندي أنا.

﴿وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾: لا مجال بينك وبينهم للحُبّ والمودّة، وأن تكون خليلاً إلّا إذا ابتعدت عن منهج الله سبحانه وتعالى، ونزَلْتَ عند رغبتهم، ولو أنّك تنازلتَ عن المنهج الّذي جاءك من الله سبحانه وتعالى لَصِرْتَ خليلاً لهم.

ويخاطب المولى سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول:       

الآية رقم (74) - وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً

﴿وَلَوْلَا﴾: أداة شرط إن دخلت على الجملة الاسميّة، وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشّرط، ويسمّونها حرف امتناع لوجود، كما لو قلت: لولا زيدٌ عندك لَزُرْتُكَ، فقد امتنعت الزّيارة لوجود زيد، فإنْ دخلت (لولا) على الجملة الفعليّة أفادتْ الحثَّ والحضَّ، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النّور: من الآية 13]، ﴿وَلَوْلَا﴾ في الآية دخلتْ على جملة اسميّة؛ لأنّ ﴿أَنْ﴾ بعدها مصدريّة، فالمعنى: لولا تثبيتنا لك لقاربتَ أن تركنَ إليهم شيئاً قليلاً، فأنت بشرٌ يوحَى إليك: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾[الكهف: من الآية 110].

والمتأمّل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عدّة احتياطات، فلم تقُلْ: (لولا تثبيتنا لك لَركنتَ إليهم)، لا، بل لَقاربتَ أنْ تركنَ إليهم ببشريّتك، فمنعتْ مجرّد المقاربة، أمّا الرّكون فهو أمرٌ بعيد وممنوعٌ نهائيّاً وغير مُتَصوّر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أكّد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله:

﴿شَيْئًا قَلِيلًا﴾: أي: ركوناً قليلاً، ممّا يدلُّ على أنّ طبيعته صلى الله عليه وسلم حتّى مِن غير الوحي من الله سبحانه وتعالى طبيعةٌ سليمةٌ بفطرتها، فلو تصوَّرنا عدم التّثبيت له من الله سبحانه وتعالى ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرّد (كاد) أو (قَرُب) أنْ يركنَ إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا: إنّ المقارنة تعني مشروعَ فِعْل، لكنّه لم يحدث، مِمّا يدلُّ على أنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتيّة مستقلّة.

﴿ثَبَّتْنَاكَ﴾: التّثبيت هو منع المثبَّت أنْ يتأرجح، لذلك نقول للمتحرّك: اثبت.

﴿تَرْكَنُ﴾: من ركون الإنسان إلى شيءٍ يعتصم به ويحتمي، ومن الرّكون قوله سبحانه وتعالى عن لوط عليه السلام مع قومه: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾[هود]؛ أي: أحتمي به وألجأ إليه.      

الآية رقم (66) - رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

﴿رَبُّكُمُ﴾: الرّبّ: هو المتولّي تربيتك: خَلْقاً من عَدم، وإمداداً من عُدم، وقيُّوميّته سبحانه وتعالى عطاءٌ ينتظم المؤمن والكافر.

﴿يُزْجِي﴾: الإزجاء: الإرسال بهوادة شيئاً فشيئاً.

﴿الْفُلْكَ﴾: هي السّفن وتُطلَق على المفرد وعلى الجمع، وعلى المذكّر والمؤنث، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾[البقرة: من الآية 164]، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: من الآية 22].

﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾: الابتغاء: هو القصد إلى نافع يُطلَب من البحر، كالقوت أو غيره، كما قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [النّحل: من الآية 14]، فالبحر مصدرٌ من مصادر الرّزق والقُوت، ومُسْتودع لثروة عظيمة من فضل الله سبحانه وتعالى؛ لذلك قال بعدها:

﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾: والرّحمة اتّساع مَدَد الفضل من الله عز وجل، فالّذي أعطاكم البَرَّ بما فيه من خيراتٍ أعطاكم البحر أيضاً بما فيه من خيرات، والأرض الّتي نعيش عليها هي بَرّ يسمّى يابسة، أو بحر، وإنْ كانت نسبة اليابس من الأرض الرُّبْع أو الخُمْس، فالباقي بحرٌ شاسع واسع يَزْخَر من خَيْرات الله سبحانه وتعالى بالكثير.

وطُرُق السّير في اليابسة كثيرة متعدّدة، تستطيع أن تمشي أو تركب، وكُلُّ وسيلةٍ من وسائل الرّكوب حَسْب قدرة الرّاكب، فهذا يركب حماراً، وهذا يركب فرساً، وهذا يركب درّاجةً، وهذا يركب سيّارة، وتستطيع أن تنتقل فيها من مكانٍ إلى آخر، أمّا البحر فلا يمكن الانتقال فيه إلّا أنْ تُحملَ على شيءٍ، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنْ جعل لنا السّفن آيةً من آياته تسير بنا على لُـجَّة الماء، ويمسكها بقدرته عز وجل فنأمَن الغرق. وأوّل مَنْ صنع السّفن بوحيٍ من الله سبحانه وتعالى نوحٌ عليه السلام، فلم تكُنْ معروفة قبله، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود]، فلم يكُنْ للنّاس عهد بالسّفن، وكانت سفينة نوح عليه السلام بدائيّة من ألواح الخشب والحبال، ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى دَلَّه على طريقة بنائها، وهداه إلى تنظيمها ما كان له عِلْمٌ بهذه المسألة، فكَوْنُ الحقّ سبحانه وتعالى يهدينا بواسطة نبيٍّ من أنبيائه إلى مركب من المراكب الّتي تيسّر لنا الانتفاع بثلاثة أرباع الأرض، لا شكَّ في أنّها رحمةٌ بالإنسان وتوسيعٌ عليه، وكذلك من رحمته سبحانه وتعالى بنا أنْ يسّر لنا تطوير هذا المركب على مرّ العصور، فبعد أن كان يتحرّك على سطح الماء بقوّة الهواء باستخدام ما يسمّى القلع الّذي يتحكّم في المركب من خلاله، ويستطيع الرّبّان الماهر تسفيح القلع، يعني توجيهه إلى النّاحية الّتي يريدها، فكانت الرّيح هي الأصل في سَيْر السّفن، ثمّ أتى التّقدّم العلميّ الّذي اكتشف البخار والآلات ثمّ الكهرباء، وبذلك سهّل على الإنسان تحريك السّفن على سطح الماء بسهولةٍ ويُسْر، حتّى أصبحنا نرى الآن البوارج الكبيرة متعدّدة الأدوار، الّتي تشبه فعلاً الجبال، مِصْداقاً لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾[الشّورى]، يعني: كالجبال، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يُعطينا الدّليل على عِلْمه عز وجل بما سيصل إليه العالم من تقدّم، وما ستصل إليه صناعة السّفن من رقيٍّ يصل بها إلى أنْ تكونَ كالجبال، وإلّا ففي زمن نزول القرآن الكريم لم يكُنْ هناك بوارج عالية كهذه، إنّها لم توجد إلّا بعد قانون أرشميدس الّذي تُبْنَى على أساسه هذه البوارج، لكن مع هذا التّقدّم كلّه في مجال الملاحة البحريّة لا نغفل أنّ القدرة الإلهيّة هي الّتي تُسيِّر هذه السّفن، وتحملها بأمانٍ على صفحة الماء، ويجب أَلَّا يغتَرّ الإنسان بما توصّل إليه من العلوم، ويظنّ أنّه أصبح مالكاً لزمام الأمور في الكون؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ [الشّورى: من الآية 33]، والرّيح هي الأصل في تسيير السّفن، فإنْ قال قائلٌ الآن: إنْ توقّفت الرّيح استخدمنا القوى الأخرى، مثل البخار أو الكهرباء! نقول: لقد أخذتَ الرّيح على أنّه الهواء فقط، إنّما لو نظرنا إلى كلمة الرّيح، وماذا تعني لوجدنا أنّ معنى الرّيح القوّة المطلقة أيّاً كان نوعها، بدليل قَوْله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[الأنفال: من الآية 46]، فالمراد بالرّيح القوّة المطلقة، فمعنى: ﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾  [الشّورى: من الآية 33]، يُسكِن القوّة المحرّكة للسّفن أيّاً كانت هذه القوّة: قوّة الرّيح أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى، فإنْ شاء سبحانه وتعالى تعطَّلَتْ هذه القوى كُلُّها.   

الآية رقم (67) - وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا

البحر هو الضّائقة الّتي لا يستطيع الإنسان الخلاص منها إنْ أصابه فيه سوء، فالبرّ منافذ النّجاة فيه متعدّدة، أمّا البحر فلا نجاة فيه إلّا بعناية الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [يونس: من الآية 22]، وهكذا الإنسان حتّى غير المؤمن، إذا ضاقتْ به الحِيَل ولم يجد مَنْفذاً يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، المنفذ الحقيقيّ والمفرِّج للكَرْب، والإنسان عادة لا يُسلم نفسه، ويظلّ مُتعلّقاً بالأمل في النّجاة.

﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾: أي: أحاط بهم الخطر بالرّيح العاصف أو الموج العالي، وأحسُّوا بخطورة الموقف ولا مُنقِذَ لهم إلّا الله عز وجل، في هذا الموقف حتّى غير المؤمن يَصْدُق مع نفسه، ولا يخدعها ولا يكذب عليها؛ لأنّه عندها يلجأ إلى القوّة الّتي يمكن أن تنجيه، ويقول: يا ربّ، ولا يلجأ إلى الأصنام؛ لأنّه يعلم أنّها لا تسمع ولا تجيب، ولا تملك له نفعاً ولا نجاة.

﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾: أي: ذهب عن بالكم مَن اتّخذتموهم آلهة، وغابوا عن خاطركم، سواء الآلهة من البشر أم من الحجر، فلن يقولوا هنا: يا هبل؛ لأنّهم لن يغشُّوا أنفسهم، ولن يقولوا: يا فلان، لن ينساقوا وراء الكذب في هذا الوقت العصيب، إنّهم في هذا الضّيق لن يتذكّروا آلهتهم؛ لأنّهم لن يجدوا ملجأً إلّا الله سبحانه وتعالى، ويطلبون منه المعونة، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾[الأنعام: من الآية 43]، فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم؛ لأنّهم عباده وخَلْقه وصَنْعته، فما أرحمه سبحانه وتعالى حتّى بمَنْ كفر به! فغفر الله سبحانه وتعالى لهم بذلك عندما لجؤوا إليه، وهو ربٌّ رحيم، يتضرّع الإنسان إليه ويدعوهُ، لينجيه المولى سبحانه وتعالى.

﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾: فلمّا نجّاهم إلى البرّ أعرضوا، وتنكّروا للجميل والمعروف، لذلك قال سبحانه وتعالى:

﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾: كفور: صيغة مبالغة من الكفر؛ أي: كثير الكفر للنّعمة، ديدنه أن يكفر بهذه النّعمة، والله سبحانه وتعالى يمهل الخلق.

الآية رقم (68) - أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً

﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾: فهؤلاء الّذين أعرضوا عن الله عز وجل بعد إذ نجَّاهم في البحر أأَمِنُوا مكْر الله سبحانه وتعالى في البرّ؟ وهل الخطر في البحر فقط؟ أليس الله سبحانه وتعالى بقادرٍ على أن يُنزِل بهم العقاب في البرّ مثل ما أنزل بهم في البحر؟ كما قال سبحانه وتعالى في شأن قارون: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: من الآية 81]، ولستم ببعدين عن هذا إنْ أراده الله عز وجل لكم، وإنْ كنّا نقول: (البرّ أمان)، فهذا فيما بيننا وبين بعضنا، أمّا إنْ جاء أمر الله عز وجل فلن يمنعنا منه مانع.

﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾: أي: ريحاً تحمل الحصباء، وترجمكم بها رَجْماً، والحصباء: الحصى الصّغيرة، وهي لَوْنٌ من ألوان العذاب الّذي لا يُدفَع ولا يُرَدّ؛ لذلك قال بعدها:

﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾: أي: لا تجدوا مَنْ ينصركم، أو يدفع عنكم، فلا تظنّوا أنّ البرّ أمانٌ لا خطر فيه، بل خطري موجودٌ غير بعيد منكم، سواء أكنتم في البحر أم في البرّ.

الآية رقم (69) - أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا

﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى﴾: أي: وإنْ نجّاكم من خطر البحر، فلا مجال للأمن في البرّ؛ لأنّه قادرٌ سبحانه وتعالى أن يُذيقكم بأسه في البرّ كما في البحر، أو يُعيدكم في البحر مرّة أخرى، ويُوقعكم فيما أوقعكم فيه من كَرْبٍ في المرّة الأولى، فالمعنى: أنجوتُمْ فأمنتُم؟! فعلى الإنسان أن يحتاط دائماً، فإن نجا فلا يكون بمأمنٍ إذا ارتكب المعاصي أن يأتيه العقاب من الله سبحانه وتعالى.

﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ﴾: القاصف: هو الّذي يقصف بعنف وشدّة، ولا يكون إلّا في اليابس.

﴿فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾: أي: بسبب كفركم بنعمة الله عز وجل، وجحودكم لفضله، فقد نجّاكم في البحر فأعرضتم وتمرّدتم، في حين كان عليكم أن تعترفوا لله سبحانه وتعالى بالجميل، وتُقِرُّوا له بالفضل.

﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾: عندنا تابع وتبيع، التّابع: هو الّذي يتبعك لعمل شيءٍ فيك، أمّا التّبيع: فهو الّذي يُوالِي تتبّعك، ويبحث عنك لأَخْذ ثأره منك، فالمعنى: إنْ فعلنا بكم هذه الأفعال فلن تجدوا لكم تبيعاً يأخذ بثأركم أو ينتقم لكم، فلا أملَ لكم في ناصرٍ ينصركم، أو مدافعٍ عنكم يحميكم، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: أنا لا أخاف ردَّ الفعل منكم، والإنسان يُحجم عن الفعل مخافةَ ردِّ الفعل، أمّا الحقّ سبحانه وتعالى فلا أحدَ يستطيع ردّاً على انتقامه أو عذابه.

الآية رقم (70) - وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً

هذه الآية تكريمٌ كبيرٌ لبني آدم، وأولئك الّذين يتحدّثون عن حقوق الإنسان كان عليهم قبل أن يُلقوا علينا المواعظ والدّروس أن يأخذوا الدّروس من كتاب الله عز وجل، ومن تكريم الله سبحانه وتعالى لإنسانيّة الإنسان، فعندما نتحدّث عن الإنسان لا يوجد قانونٌ بشريٌّ يمكن أن يُعطي تكريماً للنّاس كهذه الآية، هل هناك تكريمٌ أعظم من أن يُعدّ المولى سبحانه وتعالى مقوّمات الحياة للبشر قبل أن يخلقهم؟! لقد رتّب لهم الكون وخلق من أجلهم الأشياء: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: من الآية 29]، فكلّ ما في الوجود مُسَخّرٌ للإنسان من قبل أن يُوجَد؛ لأنّ خلق الله جميعاً إمّا أن تكون خادماً أو مخدوماً، وأنت أيّها الإنسان مخدومٌ من أجناس الكون كلّها، حتّى من الملائكة، ألم يقل المولى سبحانه وتعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرّعد: من الآية 11]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [النّازعات]؟! فالكون كلّه يدور من أجل الإنسان، وفي خدمة الإنسان، يُعطي الإنسان عطاءً دائماً لا ينقطع من غير سعيٍ منه، لذلك نقول: كان من الواجب على العقل المجرّد أن يقف وقفة تأمّل وتفكّر ليصل إلى حَلٍّ للغز الكون، ويهتديَ إلى أنّ له خالقاً مُبدعاً، يكفي أن ننظر إلى آيات الله عز وجل الّتي تخدم النّاس وليس للنّاس قدرة عليها، وليست هي تحت سيطرة البشر، فالشّمس والقمر والنّجوم والأرض والهواء والماء والمطر والسّحاب.. كلّها تُعطي البشر قدرة، أليس من الواجب علينا عدلاً أن نقول: مَنِ الّذي أعدّ هذا كلَّه للإنسان؟ وما استطاع الإنسان أن يدّعي ذلك لنفسه.

ولقد اختلف العلماء في بيان أَوْجُه التّكريم في الإنسان، فمنهم مَنْ قال: كُرِّمَ بالعقل، وآخر قال: كُرِّمَ بالتّمييز، وآخر قال: كُرِّمَ بالاختيار، ومنهم مَنْ قال: كُرِّمَ الإنسان بأنّه يسير مرفوع القامة لا منحنياً إلى الأرض كالبهائم، ومنهم مَنْ يرى أنّه كُرِّمَ بشكل الأصابع وتناسقها في شكلٍ بديع يسمح لها بالحركة السّلسة في تناول الأشياء، ومنهم مَنْ يرى أنّه كُرِّم بأن يأكلَ بيده لا بفمه كالحيوان.. وهكذا كان لكلّ واحدٍ منهم مَلْحظٌ في التّكريم، وفي مسألة التّكريم هذه ملحظٌ آخر، وهو: أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون كلّه بكلمة: ﴿كُنْ﴾ إلّا آدم عليه السلام، فقد خلقه الله سبحانه وتعالى بيده ونفخ فيه من روحه، قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[ص: من الآية 75]، وقال عز وجل: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر]، فقمّة الفضل والتّكريم أن خلق الله سبحانه وتعالى أبانا آدم عليه السلام بيده، بدليل أنّ الله عز وجل جعلها حيثيّة له.     

الآية رقم (71) - يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً

﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾: أي: يوم القيامة، والدّاعي هو المنادي، والنّاس هم المدعوون، والنّداء على النّاس في هذا اليوم لا يكون بفلان بن فلان، بل ينادى القوم بإمامهم؛ أي: برسولهم، فيقال: يا أمّة محمّد، يا أمّة عيسى، يا أمّة موسى، يا أمّة إبراهيم.. وهكذا، ثمّ يُفصّل هذا الإجمال، فتُنادى كلّ جماعةٍ بمَنْ بلَّغهم وهداهم ودَلَّهم ليُبيّن لهم الفضل.

وقال بعضهم: ﴿بِإِمَامِهِمْ﴾؛ أي: بأمّهاتهم، وفي دعاء النّاس بأمّهاتهم في هذا الموقف تكريم لعيسى عليه السلام وللسّيّدة مريم.

﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ﴾: فكوْنه أخذ كتابه بيمينه، فهذه بشارة الخير وبداية السّلامة، فإذا به يُسارع إلى قراءته، بل ويتباهى به بين النّاس قائلاً: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾[الحاقّة]، إنّه مسرورٌ بعمله الصّالح الّذي يحبُّ أنْ يطَّلِعَ عليه النّاس.

﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾: الظّلم: أنْ تأخذ من خير غيرك ممّا ليس عندك، فعندك نقصٌ في شيءٍ تريد أنْ تحصل عليه ظلماً وعدواناً، والله سبحانه وتعالى لا ينقصه شيءٌ حتّى يظلم الخَلْق، إنّ الخلق يتّصفون بالظّلم؛ لأنّ الإنسان عادةً لا يرضى بما قسم الله سبحانه وتعالى له؛ لذلك يشعر بالنّقص فيظلم غيره، أمّا الله عز وجل فهو الغنيّ عن الخَلْق، فكيف يظلمهم وهم جميعاً بما يملكون هِبة منه سبحانه وتعالى؟!.

﴿فَتِيلًا﴾: عادةً يضرب الحقّ سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم بالمألوف عند العرب وفي بيئتهم، ومن مألوفات العرب التّمر، وهو غذاؤهم المفضّل والعَلف لماشيتهم، ومن التّمر أخذ القرآن الكريم النّقير والقطمير والفتيل، وهي ثلاثة أشياء نجدها في نواة الثّمرة، وقد استخدمها القرآن الكريم في تمثيل الشّيء الضّئيل القليل، وهي كما يأتي:

النّقير: هو تجويفٌ صغيرٌ في ظهر النّواة مثل النّقطة.

القطمير: هو اللّفافة الرّقيقة الشّفّافة بين الثّمرة والنّواة.

الفتيل: هو غلالة رقيقة تشبه الخيط في بطن النّواة.

فمعنى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾: أي: أنّه سبحانه وتعالى لا يظلم النّاس أبداً، فهو مُنزَّهٌ عن الظّلم مهما تناهى في الصِّغَر.

وفي مقابل: ﴿مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ لم تذكر الآية: مَنْ أُوتي كتابه بشماله، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقّة]، وفي آيةٍ أخرى قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ [الانشقاق]، أمّا هنا فالله سبحانه وتعالى يقول:   

الآية رقم (72) - وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً

﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى﴾: وهذا هو المقابل لمن أخذ كتابه بيمينه؛ لأنّه عميتْ بصيرته في الدّنيا فعمي في الآخرة، وبما أنّه كذلك فلا شَكَّ في أنّه من أهل الشّمال، فالآيات ذكرتْ مرّة السّبب، وذكرتْ مرّة المسبّب، ليلتقي السّبب والمسبّب، وهو ما يُعرَف باسم: الاحتباك البلاغيّ، فكأنّ الله سبحانه وتعالى قال: إنّ مَنْ أُوتِي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكُنْ أعمى في دنياه، بل كان بصيراً واعياً، فاهتدى إلى منهج الله سبحانه وتعالى وسار عليه، فكانت هذه نهايته وهذا جزاؤه العظيم، أمّا مَنْ أوتي كتابه بشماله فقد كان أعمى في الدّنيا عمى بصيرة لا عمى بصر؛ لأنّ عمى البصر حجب الأداة الباصرة عن إدراك المرائي، والكافرون في الدّنيا كانوا مُبصرين للمرائي من حولهم، مُدركين لمادّيّات الحياة، أمّا بصيرتهم فقد طُمِس عليها فلا ترى خيراً، ولا تهتدي إلى صلاح.

﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾: إنْ كان عماه في الدّنيا عمى بصيرة، فَعَماه في الآخرة عمى بصر؛ لأنّ البصيرة مطلوبة منه في الدّنيا فقط؛ لأنّ بها سيُعرف الخير من الشّرّ، وعليها يترتّب العمل، وليست الآخرة مجال عمل، فالعمى في الآخرة عمى البصر، كما قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه]، وقال عنهم في آيةٍ أخرى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾[الإسراء: من الآية 97]، لكن قد يقول قائلٌ: هناك آياتٌ أخرى تثبت لهم الرّؤية في الآخرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾ [مريم: من الآية 75]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: من الآية 53]، وللجمع بين هذه الآيات وللتّوفيق بينها نقول: للكفّار يوم القيامة في مجال الرّؤية البصريّة حالتان:

الأولى: عند القيام وهَوْل المحشر يكونون عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً لتزداد حَيْرتهم ويشتدّ بهم الفزع حيث هم في هذا الكرب الشّديد، ولكن لا يعرف ما يحدث ولا أين المهرب، ولا يستمعون من أحدٍ كلمة، وهكذا هم في كَرْبٍ وحَيْرة لا يدرون شيئاً، وهذه حالة العمى البصريّ عندهم.

أمّا الحالة الثّانية: وهي الرّؤية، فتكون عندما يتجلّى الله سبحانه وتعالى لأهل الموقف ويكشف الغطاء عن نفسه سبحانه وتعالى، فهنا يصير الكافر حَادّ البصر، ليرى مكانه من النّار، ولا بُدَّ لنا هنا أن نلحظَ أنّ اللّفظ قد يكون واحداً ولكن يختلف السّياق، ففي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾، فلفظ: ﴿أَعْمَى﴾ واحد، لكن في الآخرة قال: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾، فلا بُدَّ أنّ عمى الدّنيا أقلّ من عمى الآخرة، كما تقول: هذا خير، فمقابل خير: شرّ، أمّا لو قلت: هذا خَيْرٌ من هذا فقد فضَّلتَ الأوّل في الخيريّة عن الثّاني، فكلمة (خير) إمّا أنْ تأتي وَصْفاً، وإمّا أن تأتي تفضيلاً، ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»([1]).

﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾: معلومٌ أنّه كان ضالّاً في الدّنيا، فكيف يكون أضلَّ سبيلاً في الآخرة؟ قال العلماء: لأنّ ضلاله في الدّنيا كان يمكن تداركه بالرّجوع إلى المنهج والتّوبة والعودة إلى الطّريق السَّويّ، أمّا في الآخرة فضلاله لا يمكن تداركه، فقد انتهى وقت الاختيار، فضلالهُ في الآخرة أشدّ وأعظمُ من ضلاله في الدّنيا.    

([1]) صحيح مسلم: كتاب القدر، بَابٌ فِي الأَمْرِ بِالقُوَّةِ وَتَرْكِ العَجْزِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ وَتَفْوِيضِ الْمَقَادِيرِ لِلَّهِ، الحديث رقم (2664).

الآية رقم (62) - قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً

﴿قَالَ﴾: أي: إبليس.
﴿أَرَأَيْتَكَ﴾: الهمزة للاستفهام، والتّاء للخطاب، وكذلك الكاف، وجمع بينهما في الخطاب للتّأكيد، كما تقول: أنت أنت تفعل ذلك؟! والمعنى: أخبرني؛ لأنّ رأى البصريّة تُطلق في القرآن الكريم على معنى العلم؛ لأنّ علم العين علمٌ مُؤكّد لا شكَّ فيه، لذلك قالوا: (ليس مع العين أَيْن)، فما تراه أمامك عياناً، وإنْ كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرّؤية؛ لأنّها تُعطي علماً مؤكّداً على خلاف الأُذُن مثلاً، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنّه كذب.
﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾: أي: أعلمني، لماذا فضّلته عليَّ؟! وكأنّ تفضيل آدم عليه السلام على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير، وكان على إبليس أن ينتظر إجابة هذا السّؤال الّذي توجّه به لربّه عز وجل، ولكنّه تعجَّل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول:
﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾: وهذا لأنّ حقده وعداوته لآدم عليه السلام مُسْبقة فلم ينتظر الجواب. ومعنى: ﴿أَخَّرْتَنِ﴾: أخَّرت أجلي عن موعده، كأنّه يعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يجعل لكلّ نفسٍ من إنسٍ أو جنٍّ أجلاً معلوماً، فطلب أنْ يُؤخِّره الله عز وجل عن أجله، وهذه مبالغة منه في اللّدد والعناد، فلم يتوعّدهم ويُهدّدهم مدّة حياته هو، بل إلى يوم القيامة، فإن كانت البداية مع آدم عليه السلام فلن ينجو ولن تنجو ذرّيّته أيضاً، فالعداوة بين إبليس وآدم، فما ذنب ذرّيّته من بعده؟! لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد، وهذه العداوة على آدم عليه السلام، ثمّ يوصي ذرّيّته بحمل هذا العداء من بعده، إنّه الغيظ الدّفين الّذي يملأ قلبه، وقد أمهله الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾[الأعراف].
﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾: اللّام للقسم، كما أقسم في آيةٍ أخرى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص]، وعجيب أمر إبليس، يقسم بالله عز وجل وهو يعلم أنّ العمر والأجل بيده سبحانه وتعالى، فيسأله أن يُؤخّره، ومع ذلك لا يطيع أمره.
والاحتناك: يَرِد بمعنيين: الأوّل: الاستئصال، ومنه قولهم: احتنك الجراد الزّرع؛ أي: أتى عليه كلّه واستأصله، والآخر: بمعنى القهر على التّصرّف، مأخوذٌ من اللّجام الّذي يُوضَع في حنَك الفرس، ويسمّونه (الحنكة) وبها تستطيع أن تُوجّه الفرس يميناً أو يساراً أو تُوقِفه، فهي أداة التّحكّم فيه، والسّيطرة عليه قَهْراً، فالاحتناك قد يكون استئصالاً للذّات، وقد يكون قهراً لحركتها.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾: فيها دليلٌ على عِلْم إبليس ومعرفته بقدرة الله عز وجل، فعندما أقسم: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: من الآية 82]؛ أي: باستغنائك عن عبادة خلقك؛ لأنّك بعزّتك قلت: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29]، سأدخل من هذا الباب، أمّا عبادك الّذين هديتهم واصطفيتهم فلا دَخْلَ لي بهم، وليس لي عليهم سلطان، لقد تذكّر قدرة الله عز وجل، وأنّ الله سبحانه وتعالى إذا أراد إخلاص العبد فلن يستطيع الشّيطان أنْ يغويه، فقال: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[ص]، فقوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾، هذا القليل المستثنى هم المؤمنون الّذين اختارهم الله سبحانه وتعالى وهداهم، ولم يجعل للشّيطان عليهم سبيلاً.

الآية رقم (63) - قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا

﴿اذْهَبْ﴾: أمرٌ من الله عز وجل يحمل معنى الطّرد والإبعاد.

﴿فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ﴾: أي: الّذين اتّبعوك وساروا في ركابك فجزاؤهم جهنّم. ونلاحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال: ﴿جَزَاؤُكُمْ﴾، ولم يقل: (جزاؤهم)؛ لأنّه معهم وداخل في حكمهم، وهو سبب غوايتهم وضلالهم، وكذلك هو المخاطَب في الآية الكريمة، وحتّى لا يظنّ إبليس أنّ الجزاء مقصورٌ على العاصين من ذرّيّة آدم عليه السلام، أو يحتجّ بأنّه يُنفّذ أوامر الله سبحانه وتعالى الواردة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾، فالأمر هنا لا يُؤخَذ على ظاهره، بل يُراد منه التّهديد.

﴿جَزَاءً مَوْفُورًا﴾: أي: وافياً مكتملاً لا نقصَ فيه، لا من العذاب، ولا من المعذّبين.

الآية رقم (64) - وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا

﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾: هذا كما تستنهض ولدك الّذي تكاسل، وتقول له: انهض، وقُمْ من الأرض الّتي تلازمها كأنّها مُمسكة بك، وكما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾[التّوبة: من الآية 38]، فتقول للمتثاقل عن القيام: فِزّ؛ أي: قُمْ وخِفّ للحركة، فالمعنى: استفزز مَنِ استطعت واخدعهم ﴿بِصَوْتِكَ﴾؛ أي: بوسوستك، أو بصوتك الشّرير، سواء أكان هذا الصّوت من جنودك من الأبالسة أمثالك، أم مِن جنودك من شياطين الإنس الّذين يساندونك.

﴿وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ﴾: أجْلَبَ عليهم: صاح بهم، وأجلبَ على الجواد: صاح به راكبه ليسرع، والجَلْبة هي: الصّوت المزعج الشّديد، وما أشبه الجَلْبة بما نسمعه من صوت أبطال الكاراتيه، وهذه الأصوات مقصودة؛ لإرهاب الخصم وإزعاجه؛ وأيضاً لأنّ هذه الصّيحات تأخذ شيئاً من انتباه الخصم، فيضعف تدبيره لحركة مضادّة، فيسهل عليك التّغلّب عليه.

﴿بِخَيْلِكَ﴾: أي: صَوِّتْ وصِحْ بهم راكباً الخيل لتفزعهم، والعرب تطلق الخيل وتريد بها الفرسان، كما جاء في الحديث النّبويّ الشّريف: “فَنُودِيَ يَوْماً فِي الخَيْلِ: يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبِي”([1]).

﴿وَرَجِلِكَ﴾: من قولهم: جاء راجلاً، يعني: ماشياً على رِجْلَيْه، و(رَجِل) يعني على سبيل الاستمرار، وكأنّ هذا عمله وديدنه، تقول: فلانٌ رَجْل؛ أي: دائماً يسير مُترجّلاً، مثل: حاذر وحَذِرْ.

﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ﴾: فكيف يشاركهم أموالهم؟ الجواب: يُزيِّن لهم المال الحرام، فيكتسبون من الحرام وينفقون في الحرام.

﴿وَالْأَوْلَادِ﴾: المفروض في الأولاد طهارة الأنساب، فدَوْر الشّيطان أنْ يُفْسِدَ على النّاس أنسابهم، ويُزيِّن لهم الزّنا، فيأتون بأولاد من الحرام، أو يُغريهم بقتْلِ الأولاد مخافةَ الفقر أو غيره، هذا من مشاركة الشّيطان في الأولاد.

﴿وَعِدْهُمْ﴾: أي: مَنِّيهم بأمانيك الكاذبة، كما قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة].

﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾: أي: لا يستطيع أن يَغُرَّ بوعوده إلّا صاحب الغِرّة والغفلة، ومنها الغرور؛ أي: يُزيّن لك الباطل في صورة الحقّ فيقولون: غَرَّهُ، والله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نستخدم العقل، لذلك كثيراً ما يُخاطبنا الحقّ سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [القصص: من الآية 60]، ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: من الآية 50]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ [النّساء: من الآية 82]، وينادينا بقوله: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطّلاق: من الآية 10]، وهذا كلّه دليل على أهمّيّة العقل، وحثٌّ على استعماله في أمورنا كلّها، فإذا سمعتم شيئاً فمرِّروه على عقولكم أوّلاً، فما معنى أن يطلب الله عز وجل مِنَّا ذلك؟ ولماذا يُوقِظ فينا دائماً ملكة التّفكير والتّدبُّر في كلّ شيء؟ لا شكَّ في أنّ الّذي يُوقِظ فينا آلة الفكر والنّقد والتّمييز، ويدعونا إلى النّظر والتّدبّر واثق من حُسْن بضاعته، كالتّاجر الصّدوق الّذي يبيع الجيّد من القماش مثلاً، فيعرض عليك بضاعة في ثقة، ويدعوك إلى فحصها، وقد يشعل النّار لِيُريك جودتها وأصالتها، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يأخذنا هكذا على جهل وعمى ودون تبصُّر ما دعانا إلى التّفكُّر والتّدبُّر، وهكذا الشّيطان لا يُمنّيك ولا يُزيّن لك إلّا إذا صادف منك غفلة، إنّما لو كنت متيقّظاً له ومُسْتصحباً للعقل، عارفاً بحيله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومن حيل الشّيطان أن يُزيِّن الدّنيا لأهل الغفلة، ويقول لهم: إنّها فرصة للمتعة فانتهزها، وَخذْ حظّك منها فلن تعيش مرّتين، وإيّاك أن تُصدّق بالبعث أو الحساب أو الجزاء، وهذا هو تلبيس إبليس، فإذا أعمل الإنسان عقله، فلن يكون في غفلة يستطيع الشّيطان أن ينفّذ حيله.

ففي الآيتين السّابقتين خمسة أوامر لإبليس: اذهب، واستفزز، وأَجْلب، وشاركهم، وعِدْهم، وهذه الأوامر ليست لتنفيذ مضمونها، بل للتّهديد ولإظهار عجزه عن الوقوف في وجه الحقّ، أو صَدّ النّاس عنه، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول له: افعل ما تريد ودبِّر ما تشاء، فلن توقِف الإيمان في قلوب المؤمنين؛ لذلك قال بعدها:

([1]) شُعب الإيمان: الزّهد وقصر الأمل، الحديث رقم (10106).

الآية رقم (65) - إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً

وقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن عباده وأصفيائه، كما في قوله عز وجل: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾[الفرقان]، فعباد الله سبحانه وتعالى الّذين هم أصفياؤه وأحبّاؤه الّذين خرجوا من مرادهم لمراده، وفَضَّلوا أن يكونوا مقهورين لربّهم حتّى في الاختيار، فاستحقّوا هذه الحصانة الإلهيّة في مواجهة كيد الشّيطان ووساوسه وغروره:

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾: سبق أنْ تحدَّثنا في آياتٍ سابقة عن كَيْد الشّيطان الّذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النّساء: من الآية 76]، ففي مُحاجّته يوم القيامة أمام ضحاياه الّذين أغواهم وأضلّهم، سيقول: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: من الآية 22]، فليس لي سلطان قَهْر أحملكم به على المعصية، ولا سلطان حُجَّة وبرهان فأُقنِعكم بها.

﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾: الوكيل: هو المؤيِّد، وهو النّاصر، تقول: وكّلت فلاناً؛ أي: وثقت به ليؤدّي لي كلّ ما أريد، فإنْ كان في البشر مَنْ تثق به، وتأتمنه على مصالحك، فما بالك إنْ كان وكيلك هو الله عز وجل؟! لا شكَّ إنْ كان وكيلك الله سبحانه وتعالى فهو كافيك ومؤيّدك وناصرك، فلا يُحوِجك إلى غيره عز وجل.   

الآية رقم (57) - أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾: فهؤلاء الّذين تعدّونهم آلهة وتتّخذونهم شركاء لله عز وجل، هم أيضاً عبيد لله عز وجل، يتقرّبون إليه ويتوسَّلون إليه كالملائكة وغيرهم، وهم لا يرفضون ولا يتأبَّوْن أن يكونوا عباداً لله سبحانه وتعالى.

﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾: أي: يطلبون الغاية والقربى إليه سبحانه وتعالى.

﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾:أي: كلّما تقرّب واحدٌ منهم إلى الله عز وجل ابتغى اللهَ عز وجل أكثرَ من غيره وأقبل عليه، فإذا كان الأقرب إلى الله سبحانه وتعالى منهم يبتغي القُرْبى، فما بال الأبعد؟

﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾: أي: يجب الحذر منه وتجنُّب أسبابه؛ لأنّ العذاب إذا كان من الله عز وجل فلا فِكاكَ منه ولا مهرب، وأيضاً فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذِّب ضعفاً وشدّة، فإذا نُسِب العذاب إلى الله سبحانه وتعالى فلا شكَّ في أنّه أليمٌ شديدٌ، لا طاقة لأحدٍ به، كما قال عز وجل: ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: من الآية 102].

الآية رقم (58) - وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا

﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا﴾: أسلوبٌ قائمٌ على نفي وإثبات، والمعنى: لا توجد قرية إلّا والله عز وجل سيهلِكها قبل يوم القيامة، أو سيعذِّبها عذاباً شديداً، لكن هل القرى كلّها ينسحب عليها هذا الحكم؟ نقول: لا؛ لأنّ هذا حكمٌ مطلق، والإطلاقات في القرآن الكريم تُقيّدها آيات قرآنيّة أخرى؛ لذلك تفسير القرآن الكريم يحتاج إلى مختصّين، عندهم دراية باللّغة العربيّة ودراية بآيات القرآن الكريم كلّها، وسوف نجد مع هذه الآية قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾[هود]، فنضع الآية الأولى مع هاتين الآيتين اللّتين تُوضِّحان الاستثناء من القاعدة السّابقة، وتُقيِّدان المبدأ السّابق العامّ الّذي جاءت به الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾، فيكون المعنى: وإنْ من قرية غير غافلة وغير مُصلِحة إلّا والله عز وجل سيهلكها أو سيعذِّبها، وقد رفع عذاب الاستئصال عن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: من الآية 33]، وفي الحديث الشّريف: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»([1])، وهكذا تظلّ في الأمّة هذه الخيريّة، وتحمل دعوة رسولها صلى الله عليه وسلم، حيث لا رسول من بعده إلى يوم القيامة.

ونعود إلى مسألة الإهلاك والعذاب؛ لأنّها أثارت خلافاً بين رجال القانون في مواضيع عدّة، فهناك قولٌ خاطئ وبعيدٌ عن الصّواب، يجب أن نبيّنه، وهو الفرق بين سُنّيّة الدّليل وسُنّيّة الحكم، فسُنّيّة الدّليل أن يكون الأمر فَرْضاً، لكنّ دليله من السّنّة، مثال: عدد ركعات كلّ صلاة، كصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات وهي فَرْض، لكنّ دليلها من السّنّة، وكذلك مقدار الزكاة، مناسك الحجّ، أحكام تفصيليّة في الصّيام.. وغيرها من الأمور الّتي هي فرض لكنّ دليلها من السّنّة، لماذا؟ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: من الآية 7]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النّساء]، فالرّسول صلى الله عليه وسلم هو الوحيد المخوّل بالتّشريع، أمّا سُنّيّة الحكم فيكون الحكم نفسه سُنّة يُثَاب فاعله، ولا يُعَاقب تاركه، كالتّسبيح ثلاثاً في الرّكوع مثلاً، فالسُّنّة هنا سُنّيّة حكم، ففِعْل الرّسول صلى الله عليه وسلم كنصِّ القرآن الكريم تماماً.

﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾: أي: مُسجّل ومُسطّر في اللّوح المحفوظ، ولا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾وتأتي الأحداث بغير ذلك، بل لا بُدَّ أنْ يؤكّد هذه الحقائق القرآنيّة بأحداثٍ كونيّة واقعيّة.

([1]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب الميم، من اسمه محمّد، الحديث رقم (5292).

الآية رقم (59) - وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا

﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ﴾: الآيات: جمع آية، وهي الأمر العجيب الّذي يلفت النّظر ويسترعي الانتباه، وهذه الآيات إمّا أن تكون آيات كونيّة نستدلّ بها على قدرة المدبِّر الأعلى سبحانه وتعالى، كالمذكورة في قوله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ[فصِّلت: من الآية 37]، أو تكون الآيات بمعنى المعجزة الّتي تثبت صِدْق الرّسول في البلاغ عن ربّه عز وجل، أو قد تكون الآيات بمعنى آيات القرآن الكريم الّتي يسمّونها حاملة الأحكام، فالآيات ثلاث: كونيّة، ومعجزات، وآيات القرآن الكريم، فأيّها المقصود في الآية: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ﴾؟ الجواب: الآيات الكونيّة موجودة لا تحتاج إلى إرسال، والآيات القرآنيّة موجودة أيضاً، بقي المعجزات وهي موجودة، وقد جاءت معجزة كلّ نبيّ على حَسْب نبوغ قومه، فجاءت معجزة موسى عليه السلام من نوع السّحر الّذي نبغ فيه بنو إسرائيل، وكذلك جاءت معجزة عيسى عليه السلام ممّا نبغ فيه قومه من الطّبّ، وهنا جلس كفّار مكّة يقترحون الآيات ويطلبون المعجزات، والحقّ سبحانه وتعالى يُنزِل من المعجزات ما يشاء، وليس لأحدٍ أن يقترح عليه عز وجل شيء، قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[يونس]، فالحقّ عز وجل قادرٌ أن يُنزل عليهم ما اقترحوه من الآيات، فهو سبحانه وتعالى لا يُعجِزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات.

﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾: مبصرة: أي: آية بيّنة واضحة.

لقد طلب قوم ثمود معجزة بعينها فأجابهم الله سبحانه وتعالى وأنزلها لهم، فما كان منهم إلّا أن استكبروا عن الإيمان، وكفروا بالآية الّتي طلبوها، بل وأكثر من ذلك ظلموا بها؛ أي: جاروا على النّاقة نفسها، وتجرّؤوا عليها فعقروها، وهذه السّابقة مع ثمود هي الّتي منعتنا عن إجابة أهل مكّة فيما اقترحوه من الآيات، وليس عَجْزاً مِنَّا عن الإتيان بها، وقوله سبحانه وتعالى عن النّاقة أنّها آية ﴿مُبْصِرَةً﴾؛ لبيان وضوحها، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾[الإسراء: من الآية 12].

﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾: أي: نبعث بآيات غير المعجزات لتكون تخويفاً للكفّار والمعاندين، فمثلاً الرّسول صلى الله عليه وسلم اضطهده أهل مكّة ودبَّروا لقتله جهاراً وعلانية، فخيّب الله عز وجل سَعْيهم، ورأوا أنّهم لو قتلوه لَطالبَ أهله بدمه، فحاكوا مؤامرة أخرى للفتك به ليلاً، واقترحوا أنْ يُؤْتَى من كلّ قبيلة بفتى جَلْدٍ، ويضربوه ضَرْبة رجلٍ واحدٍ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أبطل هذه المكيدة، وخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وأخبره الله سبحانه وتعالى بما دُبِّر له، فلم يُفلحوا في التّبييت، ولم يفلح السّحر في النّيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه من المعجزات الّتي حدثت للرّسول صلى الله عليه وسلم، وهناك آيات أخرى تأتي لِرَدْع المكذّبين عن كذبهم، وتُخوّفهم بما حدث لسابقيهم من الـمُكذِّبين بالرّسل، حيث أخذهم الله عز وجل أَخْذ عزيزٍ مقتدر، ومن آيات التّخويف ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت]، فهذه آيات بعثها الله سبحانه وتعالى على أممٍ من المكذِّبين، كُلٌّ بما يناسبه.