الآية رقم (94) - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً

أي: ما منعهم من الإيمان إلّا أن يكون الرّسول بشراً، هذه هي القضيّة الّتي وقفت في حلوقهم: ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾؟ والمتأمِّل في مسألة التّبليغ عن الله سبحانه وتعالى يجد أنّها لا يمكن أنْ تتمّ إلّا ببشر، فكيف يُبلّغ البشر جنس آخر؟ وكيف يكون أسوة للنّاس إذا كان من الملائكة؟ ولا بُدَّ للتّلقِّي عن الله عز وجل من وسائط بين الحقّ سبحانه وتعالى وبين النّاس؛ لأنّ البشر لا يستطيع أنْ يتلقّى عن القُوّة العليا مباشرة، فهناك مراحل: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشّورى]، لكنّ الرّسول البشريّ كيف يُكلِّم الله عز وجل؟ لا بُدَّ أنْ نأتي برسولٍ من الجنس الأعلى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾[الحجّ: من الآية 75] وهذه مرحلة، ثمّ يصطفي رسولاً من البشر يتلقّى عن الملَكِ كي يستطيع أنْ يُبلِّغ النّاس؛ لأنّ النّاس لا يقدرون على اللّقاء المباشر مع الملائكة، والمهمّ هو الأسوة السّلوكيّة من بشر لبشر، هؤلاء البشر يتمتّعون بصفات وأخلاق تكون عنواناً للجميع، فماذا يُزعجكم في أنْ يكون الرّسول بشراً؟ ولماذا تعترضون على هذه المسألة وهي أمرٌ طبيعيٌّ؟ يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾[يونس: من الآية 2].  

الآية رقم (95) - قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً

﴿قُلْ﴾: أي: رَدَّاً عليهم، لو أنّ الملائكة يمشون في الأرض مطمئنّين لَنزَّلنا عليهم مَلَكاً رسولاً لكي يكون من طبيعتهم، فلا بُدَّ أنْ يكون المبلِّغ من جنس المبلَّغ، وهذا واضح في حديث جبريل عليه السلام الطّويل حينما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن بعض أمور الدّين لِيُعلّم الصّحابة: ما الإحسان؟ ما الإيمان؟ ما الإسلام، فيأتي جبريل عليه السلام مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة رجلٍ من أهل البادية، وبعد أنْ أدَّى مهمّته انصرف دون أنْ يشعر به أحد، فلمّا سألوا عنه قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»([1]).

شيء آخر يقتضي بشريّة الرّسول، وهو أنّ الرّسول أسوة سلوك لقومه، كما قال عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: من الآية 21]، فكيف تتمّ هذه الأسوة؟ وكيف يقتدي النّاس بها إنْ كان الرّسول مَلَكاً؟ فالرّسول عندما يُبلِّغ منهج الله سبحانه وتعالى عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أوّلاً، فلا يأمرهم أمراً، وهو عنه بِنَجْوَة، بل هو إمامهم في القول والعمل، لذلك كان سيّدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يُقنّن قانوناً ويرى أنّه سيتعب بعض الظّالمين والمنحرفين يجمع أهله ويخبرهم بما أراد، ثمّ يُحذّرهم من المخالفة: “فو الذي نفسي بيده، مَنْ خالفني منكم إلى شيء لأجعلنّه نكَالاً للمسلمين، وأنا أوّل مَنْ أُطبِّقه على نفسي”.     

([1]) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، بَابُ معرفة الإِيمَانِ، وَالإِسْلَامِ، والقَدَرِ وَعَلَامَةِ السَّاعَةِ، الحديث رقم (8).

الآية رقم (96) - قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا

﴿قُلْ﴾: أي: رَدّاً على ما اقترحوه من الآيات وعلى اعتراضهم على بشريّة الرّسول.

﴿كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾: الشّهيد إنّما يُطلَب للشّهادة في قضيّة ما، فما القضيّة هنا؟ القضيّة هي قضيّة تعنُّت الكفّار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم طلبوا منه مَا ليس في وُسْعه، والرّسول صلى الله عليه وسلم لا يعنيه المتعنّتون في شيء؛ لأنّ أمره مع ربّه عز وجل؛ لذلك قال: ﴿كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، فإنْ كانت شهادة الشّاهد في حوادث الدّنيا تقوم على الإخبار بما حدث، وعليها يترتّب الحكم فإنّ شهادة الحقّ سبحانه وتعالى تعني أنّه عز وجل الشّهيد الّذي رأى، والحاكم الّذي يحكم، والسّلطة التّنفيذيّة الّتي تنفِّذ، لذلك قال: ﴿كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، فهو كافيك هذا الأمر؛ لأنّه كان بعباده ﴿خَبِيرًا﴾ يعلم خفاياهم ويطّلع على نيّاتهم من وراء هذا التّعنُّت، ﴿بَصِيرًا﴾ لا يخفى عليه شيء من أمرهم.     

الآية رقم (97) - وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا

﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾: سبق أنْ قُلْنا: إنّ الهداية نوعان:

الأولى: هداية الدّلالة المطلقة الّتي تكون لجميع الخلق المؤمن والكافر، فقد دَلَّ الله سبحانه وتعالى المؤمن والكافر على الطّريق المستقيم، وبيَّنه لهم، وأرشدهم إليه.

والأخرى: هداية التّوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الّذي آمنوا به، وهذه خاصّة بالمؤمن، فبعد أنْ دَلَّه الله سبحانه وتعالى آمن وصدَّق واعترف لله عز وجل بالفضل والجميل، بأن أنزل له منهجاً ينظّم حياته، فأتحفه الله عز وجل بهداية التّوفيق والمعونة.

فالمولى سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودلالة، ويختصّ مَنْ آمن بهداية المعونة والتّوفيق للقيام بمقتضيات المنهج، كما قال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾[محمّد]، وقال عن الآخرين: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصّفّ: من الآية 7]، لكن يهدي العادلين، وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصّفّ: من الآية 5]، لكن يهدي الطّائعين، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: من الآية 264]، لكن يهدي المؤمنين، فبيَّن الحقّ سبحانه وتعالى في أساليب القرآن الكريم مَنْ شاء هدايته، أمّا مَنْ آثر الكفر وصمّم ألَّا يؤمن فهو وشأنه، بل ويزيده الله عز وجل من الكفر ويختم على قلبه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾[الأنعام: من الآية 110].

﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾: قلنا: إنّ (مَن) اسم موصول بمعنى (الّذي)، واستخدام (مَن) كاسم موصول لا يقتصر على (الّذي) فقط، بل تستخدم لجميع الأسماء الموصولة: الّذي، الّتي، اللّذان، اللّتان، الّذين، اللّاتي، فنقول: مَنْ جاءك فأكرِمْه، ومَنْ جاءتك فأكرمْها، ومَنْ جاءاك فأكرمهما، ومَنْ جاءتاك فأكرمهما، ومَنْ جاؤوك فأكرمهم، ومَنْ جِئْنَكَ فأكرمْهُنّ، فهذه ستّة أساليب تؤدِّيها (مَنْ)، فهي صالحة للمذكّر والمؤنّث والمفرد والمثنّى والجمع، وعلينا أن نلحظ (مَنْ) في الآية: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾جاءت (مَنْ) دالَّة على المفرد المذكّر، وهي في الوقت نفسه دالّة على المثنّى والجمع والمذكّر والمؤنّث، ونسأل: لماذا جاءت (مَنْ) دالّة على المفرد المذكّر بالذّات دون غيره في مجال الهدى، أمّا في الضّلال فجاءتْ (مَنْ) دالّة على الجمع المذكّر؟ هنا مَلْحظ دقيق يجب تدبُّره: في الاهتداء جاء الأسلوب بصيغة المفرد: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾؛ لأنّ للاهتداء سبيلاً واحداً لا غير، هو منهج الله سبحانه وتعالى وصراطه المستقيم، فللهداية طريقٌ واحد أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ»([1])، أمّا في الضّلال، فجاء الأسلوب بصيغة الجمع: ﴿فلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾؛ لأنّ طرق الضّلال متعدّدة ومناهجه مختلفة، فللضّلال ألف طريق، وهذا واضح في قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: من الآية 153]، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطّاً، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»([2])، فالهداية لها طريقٌ واحد، والضّلال له أَلْف مذهب، وألف منهج؛ لذلك لو نظرتَ إلى أهل الضّلال لوجدتَ لهم في ضلالهم طُرُق، ولكلّ واحد منهم هواه الخاصّ في الضّلال، فعلينا أنْ نقرأ هذه الآية بوعيٍ وتأمُّلٍ وفَهْمٍ لمراد المتكلّم سبحانه وتعالى، ومن هنا تتّضح توقيفيّة القرآن الكريم، حيث دقّة الأداء الإلهيّ الّتي وضعتْ كُلَّ حَرْف في موضعه.

﴿أَوْلِيَاءَ﴾: أي: نُصَراء ومعاونين ومُعينين.

﴿مِنْ دُونِهِ﴾: أي: من بعده.

﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: الحشْر: القيام من القبر والجمع للحساب.

﴿عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾: هنا تعجّب بعض الصّحابة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكيف يسير الإنسان على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ»([3]).

بل: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾، هذا استطراق لوسائل الإهانة، ففضلاً عن مَشْيهم على الوجوه فهم عُمْي لا يروْنَ شيئاً، ولا يهتدون، وهم صُمٌّ لا يسمعون نداءً، وهم بُكْمٌ لا يقدرون على الكلام، ولك أنْ تتصوَّر إنساناً جمعت عليه كلّ هذه الوسائل ليس في يومٍ عاديّ، بل في يوم البعث والنّشور، فإذا به يُفَاجأ بهْول البعث، وقد سُدَّت عليه جميع منافذ الإدراك، فهو في قلب هذا الهَوْل والضّجيج، ولكنّه حائر لا يدري شيئاً، ولا يدرك ما يحدث من حوله.

ولنا هنا لفتة على هذه الآية، فقد ورد في القرآن الكريم كثيراً: (صُمٌّ بُكْم) بهذا التّرتيب إلّا في هذه الآية جاءت: ﴿وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾، ومعلوم أنّ الصَّمَم يسبق البَكَم؛ لأنّ الإنسان يحكي ما سمعه، فإذا لم يسمع شيئاً لا يستطيع الكلام، واللّغة بنت السّماع، وهي ظاهرة اجتماعيّة ليستْ جنساً وليست دَمَاً، وسبق أنْ قُلْنا: إنّ الولد الإنجليزيّ إذا تربَّى في بيئة عربيّة يتكلّم بالعربيّة والعكس؛ لأنّ اللّغة ليست جنساً، بل ظاهرة اجتماعيّة تقوم على السّماع، فما تسمعه الأذن يحكيه اللّسان، حتّى العربيّ نفسه الّذي يعيش في بيئة عربيّة، إلّا أنّه لم يسمع هذه الألفاظ الغريبة المتقعِّرة لا يستطيع محاكاتها ولا يعرف معناها، لكن في هذه الآية جاء البكَم أوّلاً، لماذا؟ لأنّه ساعة يُفاجأ بهوْلِ البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أوّلاً عَمَّا يحدث، ثمّ يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه، لكنّه فُوجئ بالبعث وأهواله، ولم يستطع حتّى الاستفسار عَمَّا حوله، وهكذا سبق البكَم الصَّمَم في هذا الموقف.

وهنا أيضاً اعتراض لبعض المستشرقين ومَنْ يُجارونهم، يقولون: القرآن يقول: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا﴾، فينفي عنهم الرّؤية، وفي آيات أخرى يقول: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾[مريم: من الآية 75]، ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: من الآية 53]، فأثبت لهم الرّؤية، فكيف نجمع بين هذه الآيات؟ والمتأمّل في حال هؤلاء المعذَّبين في موقف البعث يجد أنّ العمى كان ساعة البعث، حيث قاموا من قبورهم عُمْياً لِيتحقّقَ لهم الإذلال والحيرة والارتباك، ثمّ بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصّة بهم، وهكذا جمع الله عز وجل عليهم الذّلّ في الحاليْن: حال العمى وحال البصر، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق].

﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾: مأواهم: أي: مصيرهم ونهايتهم.

﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾: خَبَتْ: خبت النّار؛ أي: ضَعُفَت أو انطفأتْ، لكن ما دام المراد من النّار التّعذيب، فلماذا تخبو النّار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟ الجواب: إنّ المتأمّل في الآية يجد أنّ خفوت النّار وانطفاءها هو في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب؛ لأنّ استدامة الشّيء يُوطِّن صاحبه عليه، واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إِلْف له، فإنْ خَبتِ النّار أو هدأتْ فترةً فإنّهم سيظنّون أنّ المسألة انتهت، ثمّ يُفاجئهم العذاب من جديد، فهذا أنكَى لهم وآلم في تعذيبهم، فمن أين عرف العرب هذه النّظريّات العلميّة الدّقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرّسول صلى الله عليه وسلم؟ إنّه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآنيّ للعرب ولغيرهم.     

([1]) السُّنّة لابن أبي عاصم: ج1، بَاب 6، الحديث رقم (15).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الـمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t، الحديث رقم (4142).

([3]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، بَابٌ: وَمِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الحديث رقم (3142).

الآية رقم (98) - ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا

﴿ذَلِكَ﴾: أي: ما حدث لهم من العذاب الّذي نستبشعه.

﴿جَزَاؤُهُمْ﴾: أي: حاق بهم العذاب عَدْلاً لا ظُلْماً، فإيّاك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذَك بهم رَأْفة أو رحمة؛ لأنّهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم، والّذي يُعطِّف قلوب النّاس على أهل الإجرام هو تأخير العقاب، فهناك فَرْقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة، وهي ما تزال بشعةً في نفوس النّاس، وما تزال نارها تشتعل في القلوب، فإنْ عاقبتَ في هذا الجوّ كان للعقوبة معنىً، وأحدثتْ الأثر المرجوّ منها وتعاطفَ النّاس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظّالم، وبين تأخير عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدّة سنين، عندها لا شَكَّ في أنّ الجريمة ستُنْسَى وتبرد نارها، وتتلاشى بشاعتها، ويطويها النّسيان، فإذا ما عوقب المجرم فلن يبدو للنّاس إلَّا ما يحدث من عقوبته، فترى النّاس يرأفون به ويتعاطفون معه، فعلينا أن نحذر أن تأخذنا رأفة بهذا الأمر؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الأعلم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النّور: من الآية 2]، ثمّ يوضّح سبحانه وتعالى حيثيّة هذا العذاب:

﴿بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾: والآيات تُطلق على الآيات الكونيّة، أو على آيات المعجزات المؤيّدة لِصِدْق الرّسول، أو آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام، وقد وقع منهم الكفر بالآيات كلّها، فكفروا بالآيات الكونيّة، ولم يستدلّوا بها على الخالق سبحانه وتعالى، ولم يتدبّروا الحكمة من خَلْق هذا الكون البديع، وكذلك كفروا بآيات القرآن الكريم ولم يُؤمنوا بما جاءتْ به، وهذا كلّه يدلُّ على نقص في العقيدة، وخَلَل في الإيمان الفطريّ الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى فيهم، وكذلك كذَّبوا بمعجزات الرّسول صلى الله عليه وسلم، فدلَّ ذلك على خَلَل في التّصديق، ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا:

﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾: وهذا القول منهم تكذيبٌ لآيات القرآن الكريم الّتي جاءتْ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرهم أنّهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون، وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو: البعث بعد الموت.

﴿عِظَامًا وَرُفَاتًا﴾: الرّفات: هو الفُتَات وَزْناً ومعنىً، وهو: الشّيء الجافّ الّذي تكسّر؛ لذلك جاءت بالتّرتيب، هكذا: عظاماً ورُفَاتاً؛ لأنّ جسم الإنسان يتحلّل وتمتصُّ الأرض عناصر تكوينه، ولا يبقى منه إلّا العظام، وبمرور الزّمن تتكسّر هذه العظام، وتتفتّتْ وتصير رفاتاً، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً.

﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾: الهمزة هنا استفهام يُفيد الإنكار، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت؟ فمثلاً: علماء الجيولوجيا والحَفْريات يقولون: إنّ الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغيّر بمرور الزّمن، وتتحوّل إلى موادّ أخرى، ففيها حركة وتفاعل، أو قُلْ: فيها حياة خاصّة بها تناسبها، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدّنيا، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة الّتي يفهمها هؤلاء، فالإنسان الحيّ مثلاً له في مظهريّة أموره حالتان: حالة النّوم وحالة اليقظة، فحياته في النّوم محكومة بقانون، وحياته في اليقظة محكومة بقانون، هذا وهو ما يزال حيّاً يُرزَق، فعندما نخبرك أنّ لك قانوناً في الموت وقانوناً في البعث فعليك أنْ تُصدِّق، ألم تَرَ النّائم وهو مُغْمَض العينين يرى الرّؤيا، ويحكيها بالتّفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان، وهو يدرك هذا كلّه وكأنّه في اليقظة؟ حتّى مكفوف البصر الّذي فقد هذه الحاسّة، هو أيضاً يرى الرّؤيا كما يراها المبصر تماماً ويحكيها لك، يقول: رأيتُ كذا وكذا، كيف وهو في اليقظة لا يرى؟ نقول: لأنّ للنّوم قانوناً آخر، وهو أنّك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة، ولك في النّوم حياة مستقلّة غير حياة اليقظة، وقد ترى الرّؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة، في حين أنّ العلماء توصّلوا إلى أنّ أقصى ما يمكن للذّهن متابعته في النّوم لا يتجاوز سبع ثوان، ممّا يدلُّ على أنّ الزّمن في النّوم مُلْغى، كما أنّ أدوات الإدراك ملغاة، فحياتك في النّوم غير حياتك في اليقظة، وكذلك في الموت لنا حياة، وفي البعث لنا حياة، ولكلٍّ منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها، وقد يقول قائلٌ عن الرُّؤَى: إنّها مجرّد تخيُّلات لا حقيقةَ لها، لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرُّؤْيا الّذي يحكي لك أنّه أكل طعاماً، أو شرب شراباً ما يزال طَعْمه في فمه، وهكذا، فهذا يُكذِّب هذه الأقوال، فالحقّ سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أنّنا في النّوم لنا حياة خاصّة وقانون خاصّ، لنأخذ من هذا دليلاً على حياة أخرى بعد الموت.

والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات، والمراد بها: إذا كانت اليقظة لها قانون، والنّوم له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة، فبالتّالي للموت قانون أخفّ من قانون النّوم، وللبعث قانون أخفّ من قانون الموت، وقد حَسَم القرآن الكريم هذه القضيّة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[القصص: من الآية 88]؛ أي: كلُّ ما يُقَال له شيء في الوجود هالك إلّا الله سبحانه وتعالى فهو الباقي، والهلاك ضدّه الحياة، بدليل قوله عز وجل: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: من الآية 42]، فلكلّ شيء مهما صَغُر في كَوْن الله عز وجل حياة خاصّة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلاك، فنستطيع القول: بأنّ للعظام وللرّفات حياةً، ولك أيّها المنكر وجود حتّى بعد أنْ صِرْتَ رُفاتاً، فشيء منك موجود يمكن أن يكون نواةً لخلْقِك من جديد، وبمنطق هؤلاء المنكرين: أيّهما أهوَنْ في الخَلْق، الخَلْق من شيءٍ موجود، أم الخَلْق ابتداءً؟ وقد ردّ عليهم الحقّ سبحانه وتعالى بقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ [ق]؛ أي: في علمه سبحانه وتعالى عدد ذرّات كلّ مِنّا، وكم في تكوينه من موادّ، لا ينقص من ذلك شيء، وهو سبحانه وتعالى قادرٌ على جمع هذه الذّرّات مرّة أخرى، وليس أمره عز وجل متوقّفاً على العلم فقط، بل عنده كتاب دقيق يحفظ التّفاصيل كلّها، ولا يغيب عنه شيء، وقال عز وجل كذلك في الرّدّ عليهم: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق]؛ أي: في خَلْط وشَكٍّ وتردُّد، وقد ناقشنا كثيراً حول هذا الأمر.

﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾: إنّهم يستبعدون البعث من جديد؛ لذلك فالحقّ سبحانه وتعالى يجاري هؤلاء ويتسامح معهم، فيقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الرّوم: من الآية 27]، فإعادة شيء كان موجوداً أسهلُ وأهونُ من إيجاده مِنْ لا شيء، والحديث هنا عن بَعْث الإنسان، هذا المخلوق الّذي أبدعه الخالق سبحانه وتعالى، وجعله سيّد هذا الكون، وجعل عمره محدوداً، فما بالكم تنشغلون بإنكار بعث الإنسان عن باقي المخلوقات وهي أعظم الخَلْقِ في الإنسان، وأطول منه عُمراً؟! فإنكار البعث هو إنكار للإيمان بالله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (93) - أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً

﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾: البيت: هو المكان المعدّ للبيتوتة، والزّخرف: أي: الـمُزَيَّن، وكان الذّهب وما يزال أجمل أنواع الزّينة؛ لأنّ كلّ زُخْرف من زخارف الزّينة يطرأ عليه ما يُغيِّره فيبهت لونه، وينطفئ بريقه، وتضيع ملامحه إلّا الذّهب، ونرى الّذين يُحبُّون أن ينافقوا نفاقَ الحضارات، ويتبارَوْنَ في زخرفة الصّناعات يُلصِقون على المصنوعات الخشبيّة مثلاً طبقة أو قشرة من الذّهب؛ لتظلَّ محتفظة بجمالها.

﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ﴾: أي: يكون لك سُلَّم تصعد به في السّماء، ويظهر أنّهم تسرّعوا في هذا القول، ورَأَوْا إمكانيّة ذلك، فسارعوا إلى إعلان ما تنطوي عليه نفوسهم من عناد: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾، وكأنّهم يُبيِّتون العناد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم كاذبون في الأولى وكاذبون في الثّانية، ولو نزَّل الله عز وجل عليهم الكتاب الّذي أرادوا ما آمنوا، وقد رَدَّ عليهم الحقّ سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام].

وانظر إلى ردّ القرآن الكريم على هذا التّعنّت السّابق كلّه:

﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾: وكلمة: ﴿سُبْحَانَ﴾ كلمة التّنزيه العُلْيا للحقّ سبحانه وتعالى، وقد تحدَّى بها الكون كلّه؛ لأنّها كلمة لا تُقَال إلّا لله عز وجل، ولم يحدث أبداً بين النّاس أنْ قالها أحدٌ لأحد، مع ما في الكون من جبابرة وعُتَاة، يحرص النّاس على منافقتهم وتملُّقهم، وهذه كلمة اختياريّة يمكن أن يقولها كلّ إنسان، لكن لم يجرؤ أحد على قَوْلها لأحد، هذا لم يحدث؛ لأنّ المتكلّم هو الله ربُّ العالمين.

ومن هذا التّحدّي أنّ الحقّ عز وجل له صفات وله أسماء، الأسماء مأخوذة من الصّفات، إلّا اسم واحد مأخوذ للذّات، هو لفظ الجلالة (Q)، فهو عَلَم على الذّات الإلهيّة لم يُؤخَذ من صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فالقادر والغفور والحيّ والقيوم وغيرها من الأسماء مأخوذة من صفات، إنّما (Q) عَلَم على الذّات الجامعة لهذه الصّفات كُلِّها، لذلك تحدَّى الخالق سبحانه وتعالى الخَلْق جميعهم، وقد أعطاهم الحرّيّة في اختيار الأسماء أنْ يُسمُّوا أنفسهم أو أبناءهم بهذا الاسم (Q)، ويعلن هذا التّحدّي في كتابه الكريم فيقول: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم: من الآية 65]؟ ومع ذلك لم يجرؤ أحدٌ على ذلك أبداً.

﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾؛ لأنّ الأمور الّتي طلبوها أمورٌ بلغتْ من العجب حَدَّاً، ولا يمكن أن يُتعجّب منها إلّا بــ (سبحان الله)؛ لأنّها كلمة التّعجُّب الوحيدة الّتي لا تُطلَق لغير الله عز وجل، وكأنّه أرجع الأمور كلّها لله عز وجل، ولقد كان لهم غِنىً عن ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى الّذي نزل إليهم.

﴿هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾: هل ادّعيْتُ لكم أَنِّي إله؟! ما أنا إلّا بشر أبلّغكم رسالة ربّي، وأفعل ما يأمرني به، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[يونس: من الآية 15].

الآية رقم (84) - قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً

﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾: أي: أنّ كلّ إنسانٍ يعمل على طريقته، وعلى طبيعته، وعلى مقدار ما تكوّنت به من خلايا الإيمان، أو من خلايا إيمان اختلطت بخلايا عصيان، أو بما عنده من خلايا كفر، فالنّاس مختلفون وليسوا على طبعٍ واحد، فلا تحاول أن تجعل النّاس على طبعٍ واحد.

وما دام الأمر كذلك، فليعمل كلّ واحدٍ على شاكلته، وحسب طبيعته، فإنْ أساء إليك إنسان سيّئ الطّبع فلا تقابله بسوء مثله، ولتعمل أنت على شاكلتك، ولتقابله بطبع طيّب؛ لذلك يقولون: لا نُكافئ مَنْ عصى الله فينا بأكثر من أنْ نُطيع الله فيه، وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف.

﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾: والرّبُّ: المتولّي للتّربية، والمتولّي للتّربية لا شكّ في أنّه يعلم خبايا المربَّى، ويعلم أسراره ونيّاته، كما قال عز وجل: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك].     

الآية رقم (85) - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾: السّؤال يَرِد في القرآن الكريم بمعانٍ متعدّدة، ووردتْ هذه الصّيغة ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ في مواضع عِدّة: فإنْ كان السّؤال عن شيءٍ نافع يضرّ الجهل به أجابهم القرآن الكريم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾[البقرة: من الآية 222]، وقوله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾[البقرة]، أمّا إنْ كان السّؤال عن شيءٍ لا يضرّ الجهل به، لفت القرآن الكريم أنظارهم إلى ناحيةٍ أخرى نافعة، كما في سؤالهم عن الأهِلّة: كيف يبدو الهلال صغيراً ثمّ يكبر ويكبر إلى أن يصير بدراً، ثمّ يأخذ في التّناقص ليعود كما بدأ؟ فالحديث مع العرب الّذين عاصروا نزول القرآن الكريم في هذه الأمور الكونيّة الّتي لم نعرفها إلّا حديثاً أمرٌ غير ضروريّ، وفوق مستوى فهمهم، ولا تتّسع له عقولهم، ولا يترتّب عليه حكم، ولا ينتج عن الجهل به ضرر، ولو أخبرهم القرآن الكريم في إجابة هذا السّؤال بحقيقة دوران القمر بين الأرض والشّمس وما يترتّب على هذه الدّورة الكونيّة من ليل ونهار، وهم لا يعرفون شيئاً عن معلومات الفضاء لاتّهموا القرآن الكريم بالتّخريف، ولربّما انصرفوا عن أصل الكتاب كلّه، لكن يُحوِّلهم القرآن الكريم، ويُلفت أنظارهم إلى ما يمكن الانتفاع به من الأهِلَّة: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: من الآية 189]، وقد يأتي السّؤال، ويُرَاد به اختبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما حدث من اتّفاق كفّار مكّة واليهود، حيث قالوا لهم: اسألوه عن الرّوح، وهم يعلمون تماماً أنّ هذه مسألة لا يعلمها أحد، لكنّهم أرادوا الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعلّه يقول في الرّوح كلاماً يأخذونه عليه ويستخدمونه في صَرْف النّاس عن دعوته، ولا شَكَّ في أنّه سؤال خبيث؛ لأنّ الإنسان عامّة يحبّ أن يظهر في مظهر العالم، ولا يحبّ أن يعجز أمام محاوره، فاستغلّوا هذه العاطفة، فالرّسول صلى الله عليه وسلم لن يُصَغِّر نفسه أمام سائليه من أهل مكّة، وسوف يحاول الإجابة عن سؤالهم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى خَيَّب سَعْيهم، فكانت الإجابة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، فعندما سمع أهل الكتاب هذه الإجابة آمن كثيرٌ منهم؛ لأنّها طابقت ما قالته كتبهم عن الرّوح، وأنّها من عند الله عز وجل.

و﴿الرُّوحِ﴾ لها إطلاقات مُتعدِّدة، منها: الرُّوح الّتي تمدُّ الجسم بالحياة إن اتّصلت به، كما في قوله سبحانه وتعالى ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر]، فإذا ما فارقتْ هذه الرّوح الجسد فقد فارق الحياة، وتحوَّل إلى جثّة هامدة، وفيها يقول عز وجل: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة]، وقد تأتي الرّوح لتدلّ على أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشّعراء]، وقد تُطلَق الرّوح على الوحي ذاته، كما في قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشّورى: من الآية 52]، وتأتي بمعنى التّثبيت والقوّة، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ [المجادلة: من الآية 22]، وأُطلِقَتْ الرّوح على عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النّساء: من الآية 171]، فلهذه الكلمة إطلاقات مُتعدِّدة، فما العلاقة بينها؟ قال العلماء: الرّوح الّتي بها حركة الحياة إذا وُجِدَتْ في الإنسان تعطي مادّيّة الحياة، ومادّيّة الحياة شيء، وقيَمُ الحياة شيء آخر، فإذا ما جاءك شيء يعدّل لك قيم الحياة فهل تُسمِّيه روحاً؟ لا، بل هو روح الرّوح؛ لأنّ الرّوح الأُولى قصاراها الدّنيا، لكنّ روح المنهج النّازل من السّماء فخالدة في الآخرة، فأيُّهما حياته أطول؟

وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾؛ أي: أنّ هذا من خصوصيّاته هو سبحانه، وبما أنّها من خصوصيّاته هو عز وجل، فلن يطلع أحداً على سِرِّها، وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت، أو هي مراد بـــ ﴿كُن﴾ من الخالق سبحانه وتعالى، فإنْ قال لها: ﴿كُن﴾ ، تحيا، وإنْ قال: مِتْ، تموت؟

إنّ علم الإنسان سيظلّ قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة، وسيظلّ بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال سبحانه وتعالى بعدها:

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾: وهل عرف العقل البشريّ كلّ شيءٍ حتّى يبحث في أسرار الرّوح؟! فالاستفادة بالشّيء لا تحتاج معرفة كلّ شيء عنها، فيكفيك أنْ تستفيد بها دون أن تُدخِل نفسك في متاهات البحث عن حقيقتها، والله سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ كان يخاطب بها المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ما يزيد على ألف وأربعمئة عام، ومازال يخاطبنا ويخاطب مَنْ بعدنا من الأجيال، وإلى أن تقوم السّاعة بهذه الآية مع ما توصّلتْ إليه البشريّة من علم، وكأنّه سبحانه وتعالى يقول: يا بن آدم، إلزم غرزك، فإن وقفت على سِرٍّ فقد غابتْ عنك أسرار، وقد أوضح الله سبحانه وتعالى لنا هذه المسألة في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصّلت: من الآية 53]، وها هم العلماء والباحثون يقفون كلّ يوم على جديد في الكون الفسيح وفي الإنسان، ولو تابعناهم لَهالنا ما توصَّلوا إليه من آيات وعجائب في خَلْق الله سبحانه وتعالى، لكن هل معنى ذلك أنّنا عرفنا كلّ شيء؟ كلّما ازددت علماً زادني علماً بجهلي، إنّ كلمة: ﴿سَنُرِيهِمْ ﴾ ستظلّ تعمل إلى قيام السّاعة.

الآية رقم (86) - وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً

﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية يريد أنْ يُربِّي الكفّار ويُؤنّبهم، ويريد أن يُبَرّئ ساحة رسوله صلى الله عليه وسلم ويتحمّل عنه المسؤوليّة، فالرّسول صلى الله عليه وسلم مُبلّغ عن الله عز وجل، وإيّاكم أن تقولوا عنه: مُفْترٍ، أو أتى بشيءٍ من عنده، بدليل أنّني لو شِئْتُ لسلبتُ ما أوحيتُه إليه وقرأه عليكم، وسمعتموه أنتم، وكتبه الصّحابة -كتبة الوحي-.

فإنْ سأل متسائل: وكيف يذهب الله سبحانه وتعالى الوحي الـمُنزِّل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن حُفظ وكُتِب، وسمعه الكفّار؟ نقول: إنّ سياق الآية يدلُّنا على أنّ هذه العمليّة لم تحدث؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا﴾، بمعنى: لو شِئْنا فعلنا ذلك، فالفعل لم يحدث، والمراد بيان إمكانيّة ذلك ليُبَرِّئ موقف الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه ليس له من الأمور شيء، والغريب أن يفهم بعضهم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾[آل عمران: من الآية 128] أنّها ضدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدْح في شخصه، وليس الأمر كذلك؛ لأنّ ربّه سبحانه وتعالى يريد أنْ يتحمّل عنه ما يمكن أن يُفسِد العلاقة بينه وبين قومه، كما قال عز وجل: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾[الغاشية]، ونلاحظ في الآية جملة شرطيّة، أداة الشّرط فيها (إنْ)، وهي تُستَخدم للأمر المشكوك في حدوثه، على خلاف (إذا) فتأتي للأمر المحقّق. ثمّ يُوضِّح لنا الله سبحانه وتعالى أنّه إنْ ذهب بما أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يستطيع أحد إعادته، ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا﴾، فالأمر كلّه بيد الله عز وجل، فإذا شاء المولى سبحانه وتعالى ذلك فهو يستطيع أن يُذهب الوحي.

الآية رقم (87) - إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا

﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾: أي: أنّك لا تجد لك وكيلاً في أيِّ شيءٍ إلّا من جانب رحمتنا نحن؛ لأنّ فَضْلنا عليك كبير.

ثمّ يخاطب الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلن تحدّيه للعالمين:

الآية رقم (88) - قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا

﴿قُلْ﴾: لا يقولها الحقّ تبارك وتعالى بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، بل المراد: أعلنها يا محمّد على الملأ، وأسمِعْ بها النّاس جميعاً؛ لأنّ القضيّة قضيّة تَحَدٍّ للجميع.

﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾: وهما الثَّقَلان اللّذان يكوّنان أمّة التّكليف لما منحهما الله سبحانه وتعالى من نعمة الاختيار الّذي هو منَاطُ التكليف.

وقد أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليهما جميعاً، وقد استمعت الجنّ إلى القرآن الكريم كما استمعت إليه البشر: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾[الجنّ]، والتّحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارِض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارِض، فلا يتحدّاهم بشيءٍ لا عِلْم لهم به، وهذا يردّ على مَنْ قال: إنّ التّحدّي بالمعنى لا بالكلمات، لذلك جاءت معجزات الرّسل كلّها من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التّحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنّه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله عز وجل، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأنّ قومه نبغوا في الطّبّ، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة الّتي نبغ فيها العرب، فالقرآن الكريم هو معجزة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى المعجزات المادّيّة الّتي جاء بها، كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، والإسراء والمعراج، فالتّحدّي هنا في البلاغة والفصاحة وصناعة اللّغة العربيّة، لقد جاءت بلاغة القرآن الكريم وفصاحته للأمّة المتلقِّية للدّعوة الأولى، العرب الّذين سيحملون عِبْءَ الدّعوة، ويَسِيحُون بها في شتّى بقاع الأرض، فإذا ما انتشرت الدّعوة كانت المعجزة للنّاس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر، فالغيبيّات الّتي يخبرنا بها، والكونيّات الّتي يُحدّثنا عنها، والّتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن الكريم، وهو مُنزَّل على نبيٍّ أُمّيٍّ، وفي أُمّة أُمّيّة غير مثقّفة، فهذه كلّها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم، وما زِلْنا حتّى الآن نقف أمام آيات، وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن معناها، وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أنّ الذّرّة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الكريم الذّرّة في مثل قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزّلزلة]، وبتقدُّم وسائل البحث توصَّلوا إلى ما ذكره القرآن الكريم كلّه، فتحدَّاهم الحقّ سبحانه وتعالى بقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾، وأُدخِل الجنّ في مجال التّحدّي؛ لأنّ العرب كانوا يعتقدون أنّ لكلّ شاعر نابغ، أو أديب مُفوّه، أو عبقريّ عنده نبوغٌ بيانيٌّ شيطاناً يُلهِمه، وهذه الشّياطين تسكن وادياً عندهم يسمّونه: «وادي عَبْقَر»، لذلك لم يكتَف القرآن الكريم بتحدّيهم هم، بل تحدّى أيضاً مَنْ يُلهمونهم، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوّة في هذا الأمر، فلئن اجتمع الإنس والجنّ جميعهم، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لن يستطيعوا ولو تساندوا ولو تكاتفوا ولو اجتمعوا جميعاً.

﴿عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ﴾: فالتّحدِّي أنْ يأتوا ﴿بِمِثْلِهِ﴾، فلا يمكن أنْ يأتوا به نفسه مرّة أخرى؛ لأنّه نزل من عند الله سبحانه وتعالى وانتهى الأمر، فالواقع لا يقع مرّتين، فالمتصَوَّر في مجال التّحدّي أنْ يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشّيء مثل هذا الشّيء، فلا شَكَّ في أنّ المشبَّه به أقوى وأصدق من المشبّه، ولا يرتقي المشبّه ليكون هو المشبّه به، بل مثله، فالحقّ سبحانه وتعالى في قوله: ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾، لا ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن، بل بمثل القرآن الكريم، فإذا كانوا لا يأتون بالصّورة، فهل يقدرون على الأصل؟! ثمّ يقول سبحانه وتعالى زيادةً في التّحدِّي:

﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾: والظّهير: هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر، قد يقول قائل: إنّ هذه المهمّة لا يقوم بها فردٌ واحد، فقال لهم تبارك وتعالى: بل هاتوا كلّ ما لديكم من طاقاتٍ إبداعيّة وعبقريّات بيانيّة، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجنّ، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التّحدّي، حتّى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر، لكن، لن تستطيعوا أنْ تأتُوا بمثل هذا القرآن الكريم أبداً.

الآية رقم (89) - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ﴾: التّصريف: هو التّحويل والتّنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أنّ القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعدِّدة؛ لأنّه يخاطب طباعاً متعدّدة، ويتعرّض لموضوعات ومعانٍ مختلفة، فلا بُدَّ أن يُصَرِّف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه، فالّذي لا يفهم هذه يفهم هذه، وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التّصريف في أسلوب القرآن الكريم استخدام المثل، وهو تعبير مُوجَز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشّق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته، فلأهمّيّة المثل في لغة العرب جعله القرآن الكريم لَوْناً أسلوبيّاً، وأداةً للإقناع، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: من الآية 26]، فالله سبحانه وتعالى يخاطب بالقرآن الكريم عقولاً مختلفة وطبائع متعدّدة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلّاً بما يناسبه، وقد يقول قائل: لماذا قال: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر؟ نقول: المراد بما فوقها؛ أي: في المعنى المراد، وهو الصِّغر؛ أي: ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها، ثمّ يأتي بالمعنى في صورةٍ أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحجّ]، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت]، فيُصرِّف الله سبحانه وتعالى الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كلّ طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن الكريم على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يُعطَى للجميع، بل يُشخّص الأدواء ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً، وهذه المسألة واضحة في الحديث النّبويّ الشّريف، حيث كان الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم السّؤال الواحد، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال سائله، ويحاول أنْ يعالج نقطة الضّعف فيه، فالأمر ليس ثابتاً يعطيه للجميع، بل هي مراعاة الأحوال والطّباع، وهذا هو الدّين الإسلاميّ لا يأتي لإجبار البشر ولا للتّضييق عليهم، وإنّما يتوافق ويناسب طباعهم.

﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾: نعرف أنّ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول: جاء القوم إلّا زيداً، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت: ضربت إلّا زيداً، والآية أسلوب عربيّ فصيح، نقول: لأنّ معنى (أبى): لم يقبل ولم يَرْضَ، فالمراد: لم يَرْضَ إلّا الكفور، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبَق بنفي.

الآية رقم (90) - وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا

﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾: (لن) تُفيد تأبيد نَفْي الفعل في المستقبل، تقول: أنا لم أصنع هذا، ولن أصنعه؛ أي: في المستقبل، ومعلوم أنّ الإنسان ابن أغيار، ولا يحكمه حال واحد بل هو مُتقلِّب بين أحوال شتّى طوال حياته، والله سبحانه وتعالى وحده هو الّذي لا يتغيّر، وما دام الإنسان ابنَ أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال، فليس له أنْ يحكمَ على شيء حُكْماً قاطعاً في مستقبل هو لا يملكه، فالّذي يملك الحكم القاطع هو الحقّ سبحانه وتعالى الّذي لا تتناوله الأغيار، فــ ﴿لَنْ﴾ تُفيد تأبيد النّفي في المستقبل، وهذا أمرٌ لا يملكه إلّا مالك الأحداث سبحانه وتعالى، أمّا صاحب الأغيار فليس له ذلك، والّذين آمنوا فيما بعد برسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّنْ قالوا هذه المقولة: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾، نستطيع أن نقول لهم: لقد أوقعتْكم (لن) في الكذب؛ لأنّكم أبَّدتُم نَفْي الإيمان، وها أنتم مؤمنون، ولم يُفجِّر لكم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينبوعاً من الأرض! وعند فتح مكّة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخَنْدَمَة ما قال، ثمّ رجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً مُعتذراً وخرج محارباً مع خالد بن الوليد رضي الله عنه في اليرموك، وحين طُعِن الطّعنة المميتة، وحمله خالد، فإذا به يقول له: أهذه ميتة تُرضِي عنّي رسول الله؟ فمَنْ يقول كلمة عليه أن يكون قادراً على تنفيذها، مالكاً لزمامها، ضامناً لنفسه أَلَّا يتغيّر، وأَلَّا تتناوله الأغيار، ولا يملك ذلك إلّا الله سبحانه وتعالى.

﴿حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾: وفي آية أخرى قال: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: من الآية 12]، فالتّفجير: أن تعمل في الأرض عمليّة تُخرِج المستتر في باطنها على ظهرها، وعين الماء تُخرِج لك الماء من الأرض، وتأخذ من حاجتك فلا ينقص، أمّا الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء، كما في زمزم مثلاً، ولا شكَّ في أنّ هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء، وحاجتهم الشّديدة إليه.

ويذكر الله سبحانه وتعالى أنّهم واصلوا حديثهم للرّسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا:  

الآية رقم (91) - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا

سبق أن طلبوا الماء لأنفسهم، وهنا يطلبون للرّسول صلى الله عليه وسلم ﴿جَنَّةٌ﴾؛ أي: بستان أو حديقة من النّخيل والعنب؛ لأنّهما الصِّنْفان المشهوران عند العرب.

﴿فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾: أي: خلال هذه الحديقة حتّى تستمرّ ولا تذبل.

ويواصلون تحدّيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون:            

الآية رقم (92) - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً

﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾: الزَّعْم: هو القبول المخالف للواقع، ويقولون: الزّعم مطيّة الكذب، قال سبحانه وتعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ [التّغابن: من الآية 7]، ولذلك طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُوقِع بهم هذا التّهديد، فيسقط السّماء كسفاً.

﴿كِسَفًا﴾: أي: قِطَعاً، ومفردها: كسفة كقطعة.

﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾: أي: نراهم أمامنا هكذا مُقابلةً عياناً، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: من الآية 21]، والمتأمّل فيما طلبه الكفّار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يجده تعجيزاً بعيداً كُلَّ البعد عن الواقع، ممّا يدلّنا على أنّهم ما أرادوا الإيمان والهداية؛ لأنّ الإيمان يكون بالأمور الغيبيّة وليس المشاهدة، بل قصدوا الجدل والعناد؛ لذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى رَدّاً على لَجَج هؤلاء وتعنُّتهم: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾[الأنعام: من الآية 111].       

الآية رقم (75) - إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا

﴿إِذًا﴾: أي: لو كِدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات، وبهذا التّهديد يرفع الله سبحانه وتعالى سخيمة الكُرْه من صدور القوم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وينقلها لساحته عز وجل، فأيّ إنسانٍ يمكن أن يركن إليهم فسيذيقه الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات.

﴿ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾: الضّعْف: مضاعفة الشّيء مرّة أخرى؛ أي: قَدْر الشّيء مرّتين، ولا يُذاق في الحياة إلّا العذاب، فالمراد: لأذقناك ضِعْف عذاب الحياة وضِعْف عذاب الممات، لكن لماذا يُضَاعَف العذاب هنا؟ الجواب: لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أُسْوة كبيرة وقُدْوة يقتدي النّاس بها، ويستحيل في حقِّه هذا الفعل، وهكذا يجب أن تتعلّم القدوات، كما قال سبحانه وتعالى في نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾[الأحزاب]؛ ذلك لأنّهنّ بيت النّبوّة وأمّهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين، وكلّما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدّعوة إلى الله تعالى فعليه أن يكون بَعيداً عن الشّبهة؛ لأنّه سيكون أُسْوة فعل، فإنْ ضَلَّ فلن يضلّ في ذاته فقط، بل سيضلّ معه غيره، وقد اختار الله سبحانه وتعالى لفظ: ﴿لَأَذَقْنَاكَ﴾؛ لأنّ الإذاقة من الذَّوْق، وهو أعمّ الملكَات شُيوعاً في النّفس، فأنت ترى بعينك وتسمع بأذنك وتشمُّ بأنفك، لكنّ المذاق تشترك فيه الملكات كلّها.

﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾: أي: لا تجد مدافعاً يدافع عنك؛ أو ناصراً ينصرك؛ لأنّ مددَك منّي وحدي، فكيف يكون لك ناصرٌ من دوني؟! وهذا الكلام مخاطَبٌ به أمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أكبر تكريم لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.     

الآية رقم (76) - وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً

﴿كَادُوا﴾: أي: قاربوا، فهم لا يجرؤون على الفعل، ولا يستطيعون، فالأمر مجرّد القُرْب من الفعل، فإنّهم سيحاولون إخراجك يا محمّد، لكنّك لن تخرج إلّا بأمري وتقديري.

﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾: من استفزَّه؛ أي: طلب منه النّهوض والخِفّة إلى الفِعْل، كما تقول لأحدهم: (فِز)؛ أي: قُمْ وانهض، فهم يستحثّونك على الخروج ﴿مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾: أي: من مكّة بإيذائهم لك، وعَنَتهم معك ليحملوك على الخروج، ويُكرِّهوك على الإقامة بها، وكفّار مكّة يعلمون أنّ في خروجه صلى الله عليه وسلم من مكّة راحة لهم، حتّى يبقى الفساد ويبقى العبيد وضعاف القوم فلا يتّبعونه.

﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾: أي: لو أخرجوك من مكّة فلن يلبثوا فيها بعدك إلّا قليلاً، وقد حدث فعلاً، فبعد خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة بعام كانت غزوة بدر، فقُتِل سبعون من صناديد قريش، وأُسِرَ سبعون، وبعد أن خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة لم يتمتّعوا فيها بالنّعيم ولا بالسّيادة الّتي كانوا يَرجُونها بعد خروجه.    

الآية رقم (77) - سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً

﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾: يُوضِّح المولى سبحانه وتعالى أنّ ما حدث هو سُنّة من سُنن الله سبحانه وتعالى في الرّسل، كما قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[الصّافّات]، فكان عليهم أنْ يأخذوا عِبْرةً من الرّسل السّابقين، وبما حلَّ بأعداء الرّسل من عذاب الله عز وجل، لقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرّسل -عليهم السّلام- فكُذِّبوا وعُودوا واضطهِدُوا، ومع ذلك نصرهم الله عز وجل، وجعل لهم الغَلبة في النّهاية.

﴿سُنَّةَ﴾: السُّنّة: هي العادة والطّريقة الّتي لا تتخلَّف، والقانون الّذي لا يتبدَّل؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى بعدها: ﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾:؛ لأنّ السُّنّة لا تتحوّل ولا تتبدّل إلّا بالأقوى الّذي يأتي ليُغيّر هذه السُّنّة الّتي جرت على النّاس، فإذا كانت السُّنّة أو القانون من الله سبحانه وتعالى القويّ، بل الأقوى، فهو سبحانه وتعالى وحده الّذي يملك هذا التّحويل، ولا يستطيع أحدٌ أبداً تحويل سنّة الله عز وجل، فإذا قال عز وجل، فقوله الحقّ الّذي لا يُبدِّله أحدٌ، ولا يُعارضه أحدٌ.

وبعد أن تكلَّم الحقّ سبحانه وتعالى عن الإلهيّات إيماناً بها، وعن النّبوّات تصديقاً لها، وعن القيامة ووجوب الإيمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب، أراد سبحانه وتعالى أنْ يأتي لنا بثمرة هذا المنهج وحصيلته النّهائيّة، وهي أنْ يستقيمَ لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها، هذا المنهج الإلهيّ جاء في صورة أحكام، ولهذه الأحكام أركانٌ أساسيّة جمعها النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»([1])، فهذه هي الأركان الّتي بُنِي عليها الإسلام، لكن ما حظّ المسلم من هذه الأركان؟ لو تأمّلنا لوجدنَا أنّنا نشترك جميعاً في شهادة أنْ لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وفي الصّلاة؛ لأنّها لا تسقط عن أحدٍ لأيّ سبب، وهي المكرَّرة في اليوم خمس مرّات، أمّا باقي الأركان، وهي: الزكاة، والصّوم، والحجّ فقد لا تنطبق شروطها على الجميع، فالفقير لا تُفرض عليه زكاة أو حجّ، والمريض لا يُفرض عليه الصّوم.. فالصّلاة هي عماد الدّين، مَن أقامها فقد أقام الدّين، ومن تركها فقد هدم الدّين، وهي الرّكن الرّكين من أركان الإسلام.     

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ,: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، الحديث رقم (8).

الآية رقم (78) - أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾: الصّلاة فريضةٌ ثابتةٌ متكرّرةٌ لا تسقط في حالٍ من الأحوال، فيها إعلانُ ولاء للإيمان بالله عز وجل كلّ يوم خمس مرّات، وفيها أيضاً أركان الإسلام كلّها؛ لأنّك في الصّلاة تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فتقولها عدّة مرّات في كلّ صلاة أثناء التّشهّد، وهذا هو الرّكن الأوّل، كما أنّها تشتمل على الصّوم؛ لأنّك تصوم في أثناء الصّلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج، وكذلك عن أيِّ فعلٍ غير أفعال الصّلاة، وتصوم عن الكلام في غير ألفاظ الصّلاة، ففي الصّلاة صيامٌ بالمعنى الأوسع للصّوم، وفي الصّلاة زكاة؛ لأنّ المال الّذي تكتسبه وتُزكِّيه ناتجٌ عن الحركة، والحركة فرع الوقت، وفي الصّلاة تُضحّي بالوقت، فكأنّ الزكاة في الصّلاة أبلغ، وكذلك في الصّلاة حجٌّ؛ لأنّك تتوجّه فيها إلى الكعبة المشرّفة، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظرَيْكَ، لذلك استحقّت الصّلاة أن تكون عماد الدّين، مَنْ أقامها فقد أقام الدّين، ومَنْ هدمها فقد هدم الدّين، ومن هنا جاءت الصّلاة في أوّل هذه الأحكام، فقال سبحانه وتعالى في هذه السّورة: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾؛ أي: أدِّها أداءً كاملاً في أوقاتها، فالإقامة شيءٌ والأداء شيءٌ، الإقامة هي أداء كامل بشروطها في وقتها، والصّلاة لها مَيْزة عن أركان الإسلام كلّها؛ لأنّ تكليفات الإسلام كلّها جاءت بواسطة الوحي (جبريل عليه السلام) لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا الصّلاة، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة من الله سبحانه وتعالى ليلة الإسراء والمعراج ممّا يدلُّ على أهمّيتها.

﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصّلاة.

الدّلوك: معناه: الزّوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا: فلان (المدلِّك)؛ أي: الّذي يتولّى عمليّة التّدليك، وتتحرّك يده من مكانٍ إلى مكان، والمراد بــ دلوك الشّمس: مَيْلها عن وسط السّماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السّماء، فيراها على شكل قوسٍ ممتدٍّ وعلى حَسْب نظره وقوّته يرى الأفق، فإنْ كان نظره قويّاً رأى الأُفُقْ واسعاً، وإنْ كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيّقاً؛ لذلك يقولون لقليل التّفكير: ضيِّق الأفق، وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السّماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعةَ أنْ ترى الشّمس عموديّة عليك، فهذا وقت الزّوال، فإذا ما انحرفتْ الشّمس ناحية المغرب يُقَال: دلكت الشّمس؛ أي: مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظّهر، والمتأمّل في فَرْض الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنّ الظُّهْر هو أوّل وقتٍ صَلَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الصّلاة فُرِضَتْ عليه في السّماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلمّا عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظّهر، فكانت هي الصّلاة الأولى.

﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾: أي: أقِم الصّلاة عند دُلوك الشّمس، إلى متى؟ إلى غَسَق اللّيل؛ أي: ظلمته، وفي الفترة من دُلوك الشّمس إلى ظُلمة اللّيل تقع صلاة الظّهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلّا صلاة الصّبح، فقال عنها سبحانه وتعالى:

﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾: ونتساءل هنا: لماذا ذكر قرآن الفجر، ولم يَقُلْ: صلاة؟ قال العلماء: في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النّفوس، تتلقّى القرآن الكريم نديّاً طريّاً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة.

﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾: أي: تشهده الملائكة، فالمشهوديّة لها دَخْل في العبادة، فإذا كانت مشهوديّة مَنْ لا تكليف عليه في الصّلاة جعلها الله سبحانه وتعالى حيثيّة، فكيف بمشهوديّة مَنْ كُلِّف بالصّلاة؟! فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة اللّيل.

ويجب أن نلتفت إلى أنّ الحقّ سبحانه وتعالى ربط الصّلوات الخمس بالوقت، وبآية كونيّة تدلُّ عليه هي الشّمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟ فعلى الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلاً تفتّقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والّتي تُيسِّر كثيراً على النّاس؛ لذلك كانت الطّموحات الإنسانيّة لأشياء تخدم الدّين وتوضّح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين، على اعتبار أنّ مَا لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

الآية رقم (79) - وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا

﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾: الهجود: هو النّوم، وتهجَّد: أي: أزاح النّوم والهجود عن نفسه، وهذه خصوصيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزيادة على ما فُرِض على أمّته أنْ يتهجَّد لله عز وجل في اللّيل، كما قال له ربّه سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزّمّل]، فهذه الخصوصيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ كانت فَرْضاً عليه، إلّا أنّها ليست في قالبٍ من حديد، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرّيّة في هذه العبادة، المهمّ أن يقوم لله سبحانه وتعالى جزءاً من اللّيل، لكن ما عِلَّة هذه الزّيادة في حَقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ العلّة في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزّمّل]، وكأنّ التّهجُّد ليلاً، والوقوف بين يدي الله عز وجل في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوّة والطّاقة اللّازمة للقيام بهذه المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، ألَا وهي مسؤوليّة حَمْل المنهج وتبليغه للنّاس، وفي الحديث الشّريف: عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى”([1])، ومعنى حَزَبه أَمْر: أي: ضاقت أسبابه عنه، ولم يَعُد له فيه منفذ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمام الرّسول صلى الله عليه وسلم إلّا المسبِّب سبحانه وتعالى يلجأ إليه ويهْرع إلى نجدته: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزّمّل]؛ لأنّك في الوقت الّذي ينام فيه النّاس ويخلدون إلى الرّاحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربّك مناجياً مُتضرِّعاً، فتتنزّل عليك من الرّحمات والفيوضات، فَمَنْ قام من النّاس في هذا الوقت، واقتدى بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَهُ نصيبٌ من هذه الرّحمات، وحَظٌّ من هذه الفيوضات، أمّا مَنْ تثاقلتْ رأسه عن القيام فلا حَظَّ له، ففي قيام اللّيل قوّة إيمانيّة وطاقة روحيّة أعطيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولـمّا كانت مهمّة الرّسول صلى الله عليه وسلم فوق مهمّة الخَلْق كان حظّه من قيام اللّيل أكثر من حظّهم، فأعباء الرّسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، والعِبْءُ الثّقيل يحتاج إلى اتّصالٍ كبير بالأحدِ القَيُّوم، حتّى يستعين بلقاء ربّه على قضاء مصالحه.

﴿نَافِلَةً لَكَ﴾: النّافلة: هي الزّيادة عمّا فُرِضَ على الجميع.

﴿لَكَ﴾: أي: خاصّة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الّذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذّاريات]، والمحسن هو الّذي دخل مقام الإحسان، بأن يزيد من جنس ما فرضه الله سبحانه وتعالى عليه؛ لذلك جاءت حيثيّة الإحسان: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذّاريات]، وهذا المقام ليس فرضاً علينا، فلنا أن نصلّي العشاء وننام حتّى صلاة الفجر، لكن إنْ أردنا أن نتأسَّى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونتشبّه به فلنُدخِلْ أنفسنا في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتنا، وإن كانت لنا هموم ومشكلات في الحياة، وطلبات من ربّنا سبحانه وتعالى فعلينا أن نتهجّد حتّى تكون لنا.

﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾: تحدّثتْ الآية في أوّلها عن التّكليف، أمّا الآن فعن الجزاء.

﴿عَسَى﴾: تدلّ على رجاء حدوث الفعل، وبما أنّ الرّجاء من الله سبحانه وتعالى فهو أمرٌ محقّق، وليس مستحيل الحدوث.

﴿مَقَامًا مَحْمُودًا﴾: كلمة محمود: أي: الّذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع، فلم يَقُلْ: محمود مِمَّنْ؟ فهو محمود مِمَّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد، محمود من الكلّ من لَدُنْ آدم عليه السلام وحتّى قيام السّاعة.

والمراد بالمقام المحمود: هو مقام الشّفاعة، حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب وهَوْل الموقف وشِدّته، حتّى ليتمنّى النّاس الانصراف ولو إلى النّار، وتتمنّى كُلُّ أمّة من نبيّها أن يشفع، فيقول: اذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيّد الأنبياء، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أَنَا لَهَا»([2])، لذلك أمرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدّعاء: «وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ»([3])، ولا شَكَّ في أنّه دعاءٌ لمصلحتنا.

([1]) سنن أبي داود: أبواب قيام اللّيل، بَابُ وَقْتِ قِيَامِ النَّبِيِّ , مِنَ اللَّيْلِ، الحديث رقم (1319).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب التّوحيد، بَاب 36، الحديث رقم (7510).

([3]) صحيح البخاريّ: كتاب الأذان، بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ، الحديث رقم (614).