الآية رقم (37) - إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ

﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ ﴾: يُسلِّي الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويثبت له حِرْصَه على أمّته صلى الله عليه وسلم، وأنّه يُحمِّل نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما حَمَّله الله سبحانه وتعالى، كما قال له في آيةٍ أخرى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشّعراء]، ويقول عز وجل: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[التّوبة].

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ﴾: الله سبحانه وتعالى يقطع الأمل أمام المكذّبين المعاندين، فهو لا يضلّ إلّا مَنْ لم يقبل الإيمان به فَيَدعُه إلى كفره، ويطمس على قلبه غيْر مأسُوفٍ عليه، فهذه إرادته، ويحاسبه الله سبحانه وتعالى على إرادته، وقد أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ما يريد.

﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾: فالمسألة ليستْ مجرّد عدم الهداية، بل هناك معركة لا يجدون لهم فيها ناصراً أو معيناً يُخلِّصهم منها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [الشّعراء]، فلا يهدي الله سبحانه وتعالى مَن اختار لنفسه الضّلال، بل سيُعذِّبه عذاباً لا يجد مَنْ ينصُره فيه.

الآية رقم (27) - ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ

﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ﴾: هكذا يكون العذاب في الدّنيا وفي الآخرة، ويَلْقوْن الخِزْي يوم القيامة، والخِزْي: هو الهوان والـمَذلَّة، وهو أقوى من الضّرب والإيذاء، ولا يتجلَّد أمامه أحدٌ، فالخِزْي قشعريرة تَغْشَى البدن، فلا يُفلت منها مَنْ تُصيبه، وإنْ كان الإنسان قادراً على أنْ يكتمَ الإيلام، فالخِزْي معنى نفسيّ، والمعاني النّفسيّة تنضح على البشرة، ولا يقدر أحدٌ أنْ يكتم أثرها؛ لأنّه يقتل خميرة الاستكبار الّتي عاش بها الّذي بيَّت ومكر.

ويتابع سبحانه وتعالى متحدّياً:

﴿ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾: أي: أين الشّركاء الّذين كنتم تعبدونهم؛ فجعلتم من أنفسكم شُقَّة، وجعلتم من المؤمنين شُقَّة أخرى، وكلمة: ﴿تُشَاقُّونَ﴾ مأخوذةٌ من: (الشّقّ)، ويُقال: (شَقَّ الجدار أو شَقَّ الخشب)، والمقصود هنا: لقد جعلتم المؤمنين، ومَنْ مع الرّسول صلى الله عليه وسلم في شُقَّة تُعادونها، وأخذتُم جانب الباطل، وتركتُم جانب الحقّ.

وهنا يقول مَنْ آتاهم الله سبحانه وتعالى العلم:

﴿ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾: وكأنّ هذا الأمر سيصير مشهداً بمحضر الحقّ سبحانه وتعالى بين مَنْ مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيحضره الّذين آتاهم الله سبحانه وتعالى العلم، والعلم كما نعلم يأتي من الله سبحانه وتعالى مباشرةً، ثمّ يُنقَل إلى الملائكة، ثمّ من الملائكة الكرام إلى الرُّسل -عليهم السّلام-، ثمّ يُنقل من الرُّسُل -عليهم السّلام- إلى الأُمم الّتي كلَّفَ الحقّ سبحانه وتعالى رسله أنْ يُبلِّغوهم منهجه، ونعلم أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قد قال: «ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»([1]).

ويقول الحقّ سبحانه وتعالى من بعد ذلك:

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الحجّ، باب الخطبة أيّام منى، الحديث رقم (1741).

الآية رقم (28) - الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾: أي: تتوفّاهم في حالة كَوْنهم ظالمين لأنفسهم، وفي آيةٍ أخرى قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النّحل: من الآية 118]، ومعلومٌ أنّ الإنسان قد يظلم غيره، فكيف يظلم نفسه؟ هذا يسمّونه الظّلم الأحمق، حين يظلم الإنسان نفسه الّتي بين جنبيه؛ لأنّه يقدّم شهوةً عاجلةً على نعيمٍ دائمٍ.

﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾: أثبتت هذه الآية التّوفِّي للملائكة -عليهم السّلام-، والتّوفِّي حقيقة لله سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله جل جلاله: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ [الزّمر: من الآية 42]، لكن لـمّا كان الملائكة -عليهم السّلام- مأمورين، فكأنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يتوفَّى الأنفُسَ مع أنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ﴾[الزّمر: من الآية 42]، وقال جل جلاله: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السّجدة]، وقال عز وجل: ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ [الأنعام: من الآية 61]، فجاء الحَدثُ من الله سبحانه وتعالى مرّةً، ومن ملك الموت مرّةً، ومن مُسَاعديه من الملائكة مرّةً أُخرَى، فالأمر إمّا للمزاولة مباشرةً، وإمّا للواسطة، وإمّا للأصل الآمر وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ تَتَوَفَّاهُمُ ﴾: معنى التّوفيّ من وفَّاه حقَّه؛ أي: وفَّاه أجله، ولم ينقص منه شيئاً، كما تقول للرّجل: وَفَّيتُك دَيْنك؛ أي: أخذتَ ما لك عندي.

﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾: جاءت بصيغة الجمع، و﴿ظَالِمِي﴾ يعني ظالمين، و﴿ أَنْفُسِهِمْ ﴾ جمع، وحين يُقَابَل الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً؛ أي: أنّ كلّاً منهم يظلم نفسه.

﴿ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ﴾: أي: خضعوا واستسلموا، ولم يَعُدْ ينفعهم تكبّرهم وعجرفتهم في الدّنيا، ذهب عنهم كلّ هذا بذَهَاب الدّنيا الّتي راحتْ من بين أيديهم، وما داموا ألقوا السَّلم فقد كانوا في حربٍ قبل ذلك، كانوا في حربٍ مع أنفسهم ومع المؤمنين، وهم أصحاب الشِّقاق في قوله سبحانه وتعالى: ﴿تُشَاقُّونَ﴾ [النّحل: من الآية 27]؛ أي: يجعلون أهل الحقّ في شِقٍّ، وهم في شِقٍّ، وكأنّهم رفعوا الرّاية البيضاء، وقالوا: لا جَلَد لنا على هذه الحرب.

﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ﴾: هذا كقوله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام]، والواقع أنّهم بعد أنْ ألقَوا السّلم ورفعوا الرّاية البيضاء واستسلموا، أخذهم موقف العذاب، فقالوا محاولين الدّفاعَ عن أنفسهم: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ﴾، وتعجَب من كَذِب هؤلاء على الله سبحانه وتعالى في مثل هذا الموقف، على مَنْ تكذبون الآن؟! فيردّ عليهم الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿بَلَى﴾: وهي أداةُ نفي للنّفي السّابق عليها، ومعلومٌ أنّ نَفْي النّفي إثباتٌ، فـ: ﴿بَلَى﴾ تنفي: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾، فمعناها: لا، بل عملتم السّوء.

﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنّه لم يكتَفِ بالعلم فقط، بل دوَّن ذلك عليهم وسَجَّله في كتابٍ سَيُعرض عليهم يوم القيامة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: من الآية 47]، وقال جل جلاله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء].

الآية رقم (18) - وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾: هذه الآية سبقتْ في سورة إبراهيم، فقال الحقّ سبحانه وتعالى هناك: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم]، واختلفت نهاية الآية.

وهنا الحديث عن النِّعَم، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾، والنّعمة الواحدة لا تُعَدّ، المفرد لا يُعَدّ، لكن أيّ نعمةٍ من نِعَم الله عز وجل تُعَدّ؛ لأنّها مجموعةٌ كبيرةٌ من النِّعَم، نضرب مثالاً الماء، فهو نعمةٌ تشتمل على نِعَمٍ لا تُحصَى ولا تُعَدّ.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: أي: أنّكم مع كُفْركم سيزيدكم من النّعم، ويعطيكم من مناط الرّحمة، فمنكم الظّلم، ومن الله سبحانه وتعالى الرّحمة والمغفرة.

وكأنَّ تذييل الآية هنا يرتبط بتذييل الآية الّتي في سورة إبراهيم، حيث قال هناك: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: من الآية 34]، فهو سبحانه وتعالى غفورٌ لجحودكم ونُكْرانكم لجميل الله عز وجل، وهو رحيمٌ، فيوالي عليكم النِّعَم مع أنّكم ظالمون وكافرون.

الآية رقم (29) - فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ

﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾: سبق أنْ قُلْنا في شرح قوله سبحانه وتعالى في وصف جهنّم: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ [الحجر]؛ أي: أنّ لكلّ جماعة من أهل المعصية باباً معلوماً، فبابٌ لأهل الرّبا، وبابٌ لأهل الرِّشوة، وبابٌ لأهل النّفاق.. وهكذا، ولنا أن نتصوّر ما يُلاقيه مَنْ يجمع بين هذه المعاصي، إنّه يدخل هذا الباب ثمّ يخرج منه ليدخل باباً آخر، فهم في تعاسةٍ كبيرة.

﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾: جاءت أيضاً بصورة الجمع، فكلّ واحدٍ منكم يدخل من بابه الّذي خُصِّص له.

﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾: المثوى: هو مكان الإقامة، وقال سبحانه وتعالى في موضعٍ آخر: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾  [النّحل]، فتكبَّر على وزن (تفعَّل) يدلّ على أنّ كِبْرهم هذا غير ذاتيّ؛ لأنّ الّذي يتكبّر حقّاً يتكبّر بما فيه ذاتيّاً لا يسْلُبه منه أحد، إنّما مَنْ يتكبّر بشيءٍ لا يملكه فتكبّره غيرُ حقيقيّ، وسرعان ما يزول ويتصاغر هؤلاء بما تكبَّروا به في الدّنيا، وبذلك لا يكون لأحدٍ أنْ يتكبّر؛ لأنّ الكبرياءَ الحقيقيّ لله عز وجل.

الآية رقم (19) - وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾: السِّر كما نعلم هو ما يحبسه الإنسان في نفسه، أو ما أسرّ به لغيره، وطلب منه ألَّا يُعلِمه لأحد، والله سبحانه وتعالى يعلم السِّرّ، بل يعلم ما هو أَخْفى من السّرّ، فهو القائل: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: من الآية 7]، فهو يعلم ما تسرّون وما تعلنون من إنكاركم وجحودكم بالنّعم، أو من شكركم للنّعم.

الآية رقم (20) - وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ

أي: أنّهم لا يستطيعون أنْ يخلقوا شيئاً؛ أي: الأصنام، بل هم يُخْلقون، والإنسان هو الّذي خلق الأصنام وصنعها، فكيف يستوي أنْ يكونَ المعبود أَدْنى من العابد؟ وذلك تسفيهٌ لعبادتهم، فهذه الآلهة لا تَخلق بل تُخلَق، والله سبحانه وتعالى هو الخالق لكلّ شيءٍ، وسبحانه القائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحجّ].

ويذكر الحقّ سبحانه وتعالى من بعد ذلك أوصاف تلك الأصنام:

الآية رقم (21) - أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ

﴿أَمْوَاتٌ﴾: وهم بالفعل أموات؛ لأنّهم بلا حِسٍّ ولا حركة.

﴿غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾: قوله هذا يُفيد أنّه لم تكُنْ لهم حياة من قَبْل، ولم تثبت لهم الحياة في دورةٍ من دورات الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وهكذا تكتمل أوصاف تلك الأصنام، فهم لا يخلقون شيئاً، بل هم مخلوقون بواسطةِ مَنْ نَحتُوهم، وتلك الأصنام والأوثان لن تكون لها حياة في الآخرة، بل ستكون وَقُوداً للنّار، والحقّ سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصّافّات]، وبطبيعة الحال لن تشعرَ تلك الحجارةُ ببعْث مَنْ عبدوها.

الآية رقم (22) - إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ

﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: وقَوْله سبحانه وتعالى هذا يمنع أنْ يكونَ هناك أفرادٌ غيره مثله، وقد يتصوَّر بعضهم أنّها تُساوي كلمة: (أحد)، وأقول: إنّ كلمة (أحد) هي منع أن يكونَ له أجزاء، فهو مُنزَّهٌ عن التَّكْرار أو التّجزيء. وفي هذا القول طَمْأنةٌ للمؤمنين بأنّهم قد وصلوا إلى قِمَّة الفهم والاعتقاد بأنّ الله سبحانه وتعالى واحد.

أو: هو يُوضِّح للكافرين أنّ الله جل جلاله واحدٌ، وستعودون إليه غَصْباً، وبهذا القول يكشف الله سبحانه وتعالى عن الفطرة الموجودة في النّفس البشريّة الّتي شهدتْ في عالم الذَّرِّ أنّ الله سبحانه وتعالى واحدٌ لا شريك له، وأنّ القيامة والبعث حَقٌّ، ولكنّ الّذين لا يؤمنون بالله عز وجل وبالآخرة هم مَنْ ستروا عن أنفسهم فطرتهم، فكلمة الكفر كما سبق أنْ قلنا هي سترٌ يقتضي مستوراً، والكفر يستر إيمانَ الفطرة الأولى، والّذين يُنكرون الآخرة إنّما يَحْرِمون أنفسهم من تصوُّر ما سوف يحدث حَتْماً، وهو الحساب الّذي سيجازي بالثّواب والحسنات على الأفعال الطّيّبة، وبالنّار على السّيّئات، ويَصِفُهم الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾: أي: أنّهم لا يكتفُون بإنكار الآخرة فقط، بل يتعاظمون من غير وجهٍ للعظمة.

و(استكبر)؛ أي: نصَّب من نفسه كبيراً من غير أنْ يملكَ مُقوِّمات الكِبر، ذلك أنّ (الكبير) يجب أن يستندَ إلى مُقوِّمات الكِبَر، ويضمن لنفسه أنْ تظلَّ تلك الـمُقوِّمات ذاتيّةً فيه، ولكِنَّا نحن البشر أبناءُ أغيارٍ، فالصّغير يكبر، والصّحيح يمرض، والحيّ يموت، لذلك لا يصِحُّ لنا أنْ نتكَبَّر أبداً، فالله سبحانه وتعالى وحده هو صاحب الحقّ في التّكبُّر، وهو سبحانه وتعالى الّذي تبلغ صفاته ومُقوِّماته منتهى الكمال، وهي لا تزول عنه أبداً.

الآية رقم (23) - لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ

﴿لَا جَرَمَ﴾: ساعة نرى ﴿لَا جَرَمَ﴾ فمعناها أنَّ ما يأتي بعدها هو حَقٌّ ثابت، فـ ﴿لَا﴾  نافية، و﴿جَرَمَ﴾  مأخوذةٌ من (الجريمة)، وهي كَسْر شيءٍ مُؤْمَن به لسلامة المجموع، وحين نقول: ﴿لَا جَرَمَ﴾ ؛ أي: أنّ ما بعدها حَقٌّ ثابت، وما بعد ﴿لَا جَرَمَ﴾ هنا هو: ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ، وكُلُّ آيات القرآن الكريم الّتي ورد فيها قوله الحقّ سبحانه وتعالى: لَا جَرَمَ﴾ تُؤدِّي هذا المعنى، مثل قوله الحقّ: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ [النّحل: من الآية 62]، وكذلك قوله الحقّ: ﴿ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ [النّحل]، وقد قال بعض العلماء: إنّ قول الحقّ: ﴿لَا جَرَمَ﴾ يحمل معنى (لا بُدَّ)، وهذا يعني أنّ قول الحقّ: ﴿ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: لا بُدَّ أن يعلم الله سبحانه وتعالى ما يُسِرّون وما يُعلِنون، ولا مناصَ من أنّ الّذين كفروا هم الخاسرون. وقد حَلَّلَ العلماء اللّفظ لِيصِلوا إلى أدقِّ أسراره، وعِلْم الله عز وجل لا ينطبق على الجَهْر فقط، بل على السِّرّ أيضاً؛ ذلك أنّه سيحاسبهم على الأعمال.

ويُنهِي الحقّ سبحانه وتعالى الآية بقوله:

﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾: وإذا سألنا: ما علاقةُ عِلْم الله سبحانه وتعالى بالعقوبة؟ نقول: ألم يقولوا في أنفسهم: ﴿لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: من الآية 8]؟ فهو يعلم ما في نفوسهم، وهذا دليلٌ على أنّ مَنْ يُبلِّغهم صادقٌ في البلاغ عن الله عز وجل، ومع ذلك فقد استكبروا وتأبَّوْا وعاندوا، وأخذتهم العزّة بالإثم، وأرادوا بالاستكبار الهرب من الالتزام بالمنهج الّذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الآية رقم (24) - وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ

وقوله الحقّ: ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ يُوضِّح الاستدراك الّذي أجراه الله سبحانه وتعالى على لسان الـمُتكلِّم؛ ليعرفوا أنّ لهم ربّاً، ولو لم يكونوا مؤمنين بِرَبٍّ، لأعلنوا ذلك، ولكنّهم من غفلتهم اعترضوا على الإنزال، ولم يعترضوا على أنّ لهم ربّاً، وهذا دليلٌ على إيمانهم بربٍّ خالقٍ، ولكنّهم يعترضون على محمّد صلى الله عليه وسلم وما أُنزِل إليه من الله سبحانه وتعالى.

﴿ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾: الأساطير: الأكاذيب، ولو كانوا صادقين مع أنفسهم لَمَا أقرُّوا بالألوهيّة، ورفضوا أيضاً القول الـمُنْزل إليهم، ومنهم من قال: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: من الآية 5].

الآية رقم (25) - لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ

﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً﴾: يُوضّح الله سبحانه وتعالى أنّ النّفس البشريّة لها أحوالٌ متعدّدة، وإذا أسرفتْ على نفسها في تلك الجوانب، فقد تُسرف في الجانب الأخلاقيّ، والجانب الاجتماعيّ، وغير ذلك، فتأخذ وِزْر كُلّ ما تفعل.

ويُوضِّح هنا المولى سبحانه وتعالى أيضاً أنّ تلك النّفس الّتي ترتكب الأوزار حين تُضِلّ نفساً غيرها فهي لا تتحمّل من أوزار النّفس الّتي أضلَّتها إلّا ما نتجَ عن الإضلال، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾، ذلك أنّ النّفس الّتي تمَّ إضلالها قد ترتكب من الأوزار في مجالاتٍ أخرى ما لا يرتبط بعمليّة الإضلال، والحقّ سبحانه وتعالى أعدل من أنْ يُحمّل حتّى الـمُضِلّ أوزاراً لم يكُنْ هو السّبب فيها؛ ولذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى هنا:

﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾: أي: أنّ الـمُضِلّ يحمل أوزار نفسه، وكذلك يحمل بعضاً من أوزار الّذين أضلّهم، تلك الأوزار النّاتجة عن الإضلال، وقوله: ﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾، إنّما يلفتنا إلى ضرورة ألَّا تُلهينا الدّنيا عن أهمِّ قضيّةٍ تشغل بال الخليقة، وهي البحث عن الخالق الّذي أكرم الخَلْق، وأعدَّ الكون لاستقبالهم.

ويَصِف الحقّ سبحانه وتعالى مَنْ يحملون أوزارهم وبعضاً من أوزار مَنْ أضلوهم:

﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾: أي: ساء ما يحملون من آثام، فهم لَـمْ يكتفوا بأوزارهم، بل صَدُّوا عن سبيل الله عز وجل، ومنعُوا غيرهم أنْ يستمعَ إلى قضيّة الإيمان، ومن نتيجة ذلك أنْ يُبيح مَنْ لم يسمع لنفسه بعضاً مِمَّا حرّم الله عز وجل، فيتحمّل مَنْ صدَّهم عن السّبيل وِزْر هذا الإضلال، ولذلك يقولون: شَرُّكم مَنْ باع دينه بِدُنْياه، وشَرٌّ منه مَنْ باع دينه بِدُنْيا غيره، فمَنْ باع الدّين ليتمتّع قليلاً، يستحقّ العقاب، أمّا مَنْ باع دينه ليتمتّعَ غيرُه فهو الّذي سيجد العقاب الأشدَّ من الله عز وجل.

الآية رقم (26) - قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ

﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: ويأتي الله سبحانه وتعالى هنا بسيرة الأوّلين والسُّنن الّتي أجراها سبحانه وتعالى عليهم، ليسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُوضِّح له أنّ ما حدث معه ليس بدْعاً، بل سبق أنْ حدث مع مَنْ سبق من الرّسل والأنبياء -عليهم السّلام-، ويُبلّغه أنّه لم يبعث أيَّ رسولٍ إلّا بعد أن تَعُمّ البَلْوى ويَطمّ الفساد، ويفقد البشر المناعة الإيمانيّة، نتيجة افتقاد مَنْ يؤمنون ويعملون الصّالحات، ويتواصون بالحقِّ وبالصّبر، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ ، والمكر: تبييتٌ خفيٌّ يُبيِّته الماكر بما يستر عن الـمَمْكُور به، ولكن حيـن يمكـر أحدٌ بالرّسـل
-عليهم السّلام-، فهو يمكر بمَنْ يُؤيِّده الله سبحانه وتعالى العليم الخبير، وهؤلاء الّذين يمكرون بالرّسل -عليهم السّلام- لم يتركهم الحقّ سبحانه وتعالى من غير عقاب:

﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ﴾: أي: أنّهم إنْ جعلوا مكرهم كالبناء العالي، فالحقُّ سبحانه وتعالى يتركهم لإحساس الأمن الـمُزيّف، ويحفر لهم مِنْ تحتهم، فيخِرّ عليهم السّقف الّذي من فوقهم، وهكذا يضرب الله سبحانه وتعالى المثَل المعنويّ بأمرٍ مُحَسٍّ، وقوله الحقّ:

﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾: كأنّهم موجودون داخل بيت، وأنّ الفوقيّة هنا للسّقف، وهي فوقيّة شاءها الله سبحانه وتعالى ليأتيهم:

﴿ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾: وهكذا يأتي عذاب الله عز وجل بَغْتة، ذلك أنّهم قد بيَّتوا، وظنّوا أنّ هذا التّبييت بخفاءٍ يَخْفَى عن الحَيِّ القيّوم، ولَيْتَ الأمرَ يقتصر على ذلك، لا بل يُعذِّبهم الله سبحانه وتعالى في الآخرة:

الآية رقم (6) - وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ

وقد أعطانا الله سبحانه وتعالى التّرف أيضاً بجانب الضّروريّات، فالدِّفْء والمنافع والأكل ضروريّات للحياة، أمّا الجَمال فهو من تَرَف الحياة، والجمال هو ما تراه العين، فيتحقّق السّرور في النّفس، والدِّفْء والمنافع والأكل هي أمورٌ خاصّة لِمَنْ يملك الأنعام، أمّا الجمال فمشاعٌ عَامٌّ للنّاس، فحين ترى حصاناً جميلاً، أو بقرةً مَزْهُوّةً بالصّحّة، فأنت ترى نعمة الله سبحانه وتعالى الّتي خلقها لِتسُرّ النّاظر إليها، والله سبحانه وتعالى قد قدَّم الرَّواح؛ أي: العودة إلى الحظائر عن السُّروح؛ لأنّ البهائم حين تعود إلى حظائرها بعد أنْ ترعى تكون بطونُها ممتلئةً وضُروعها رابِية حافلة باللّبن، فيسعد مَنْ يراها.

الآية رقم (17) - أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ

وهنا في هذه الآية لم يَقُل الله سبحانه وتعالى: (أتجعلون مَنْ لا يخلق مِثْل من يخلق)، بل قال: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾، ووراء ذلك حكمة، فهؤلاء الّذين نزل إليهم الحديث تعاملوا مع الأصنام وكأنّها إله، وتوهَّموا أنّ الله جل جلاله مخلوقٌ مثل تلك الأصنام؛ ولذلك جاء القول الّذي يناسب هذا التّصوُّر، والله تبارك وتعالى يريد أنْ يُبطِل هذا التّصوُّر من الأساس، فأوضح أنّ مَنْ تعبدونهم هم أصنامٌ من الحجارة وهي مادّة ولها صورة، وأنتم صنعتموها على حَسْب تصوُّركم وقدراتكم، وفي هذه الحالة يكون المعبود أقلَّ درجةً من العابد وأدنى منه، فضلاً عن أنّ تلك الأصنام لا تملك لِمَنْ يعبدها ضرّاً ولا نفعاً، ثمّ: لماذا تدعون الله سبحانه وتعالى إنْ مسَّكُم ضُرٌّ؟ إنّ الإنسان يدعو الله جل جلاله في موقف الضّرّ؛ لأنّه لحظتها لا يجرؤ على خداع نفسه، أمّا الآلهة الّتي صنعوها وعبدوها لا تسمع الدّعاء: ﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر]، فكيف تساوون بين مَنْ لا يخلق، ومن يخلق؟ إنّ عليكم أنْ تتذكَّروا، وأنْ تتفكَّروا، وأن تُعْمِلوا عقولكم فيما ينفعكم.

الآية رقم (7) - وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

نعلم أنّ الإنسانَ في حياته بين أمرين، إمّا مقيم وإمّا مسافر، والمسافر يحتاج إلى وسيلة للتّنقّل، ووسائل النّقل سابقاً كانت الدّوابّ الّتي سخّرها االله سبحانه وتعالى لتنقل النّاس وتحمل أثقالهم، ومَنْ كانت لديه إبلٌ صحيحة أو خيولٌ قويّة، فلا يفكّر بالمسافات مهما بعدت، ولذلك نجد القرآن الكريم حين تكلّم عن أهل سبأ يقول: ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [سبأ: من الآية 19]، وهم قد قالوا ذلك اعتزازاً بما يملكونه من خَيْل ووسائل سفر من دوابّ سليمة وقويّة.

﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾: يعني وضع ما يَثْقل على ما يُثَقّل؛ ولذلك فنحن لا نجد إنساناً يحمل دابّته، بل نجد مَنْ يحمل أثقاله على الدّابّة ليُخفِّف عن نفسه حَمْل أوزانٍ لا يقدر عليها، وهذه من النّعم الّتي تحدّث عنها المولى سبحانه وتعالى.

﴿إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾: وكلمة: ﴿بِشِقِّ﴾  مصدرها شَقّ، وهو الصِّدْع بين شيئين، ويعني عَزْل متّصلين، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: من الآية 94]، وهناك (شَقّ) وهو الجهد.

﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: والصّفتان هنا هما الرّأفة والرّحمة، وصفة الرّحمة هي أشمل وأعمّ من صفة الرّأفة، وممّا جاء في التّفاسير القديمة عن الفارق بين الرّأفة والرّحمة: بأنّ الرّحمة تمنع وقوع الدّاء والمصيبة على الإنسان، أمّا الرّأفة فتشفي وتخفّف عن الإنسان ما وقع به، لذلك نجد بعض النّاس لا يفرّق بين الصّفتين: الرّأفة والرّحمة.

الآية رقم (8) - وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾: بعد أن ذكر لنا الله سبحانه وتعالى الأنعام الّتي نأخذ منها المأكولات، يذكر لنا في هذه الآية الأنعام الّتي نستخدمها للتّنقّل أو للزّينة ولا نأكل لحومها، وهي: الخَيْل والبِغَال والحمير، ويُذكِّرنا بأنّها للرّكوب والمنفعة مع الزّينة؛ ذلك أنّ النّاس تتزيَّن بما تَرْكب، تماماً كما يفخر أبناءُ عصرِنا بالتّزيُّن بالسّيّارات الفارهة.

ونَسَقُ الآية يدلُّ على تفاوت النّاس في المراتب، فكلُّ مرتبةٍ من النّاس لها ما يُناسبها لِتركبه، فالخَيْل للسّادة والفرسان والأغنياء، ومَنْ هم أقلُّ يركبون البغال، ومَنْ لا يملك ما يكفي لشراء الحصان أو البغل، فيمكنه أنْ يشتريَ لنفسه حماراً، وهناك مَنْ يقتني الخيْل ويُربّيها ويُروِّضها لجمال منظرها.

﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾: عندما نزل القرآن الكريم كانت الخيل والبغال والحمير هي وسائل المواصلات، لكنّ الله سبحانه وتعالى أعطى إشارةً لما سيأتي بعد ذلك، فقد طوّر العلم من وسائل المواصلات: من درّاجة إلى درّاجة ناريّة إلى سيّارة إلى طيّارة إلى صاروخ إلى مركبة فضائيّة.. وهكذا، وليست هذه هي نهاية المطاف، ولكنّ الله سبحانه وتعالى ترك المجال مفتوحاً لوسائل المواصلات ولمخترعات الإنسان.

الآية رقم (9) - وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ

عندما يتحدّث المولى سبحانه وتعالى عن أمور الحياة فإنّه يربطها بالهدف الأسمى من الحياة.

﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾: السّبيل هو الطّريق، والقَصْد هو الغاية، وهو مصدر يأخذون منه القول: (طريقٌ قاصد)؛ أي: طريقٌ لا دورانَ فيه ولا التفاف، وهكذا يريد المؤمن الوصول إلى قَصْده، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى وُصولاً إلى الغاية، وهي الجنّة، جزاءً على الإيمان وحُسْن العمل في الدّنيا، وقد علّمنا سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة أن ندعو: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة]، والمستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، وقول الحقّ سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾  يجعلنا نعود بالذّاكرة إلى ما قاله إبليس -لعنه الله- في حواره مع الله عز وجل: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: الآية 82 – 83]، وردَّ الله سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر]، فالله سبحانه وتعالى صراطه هو الصّراط المستقيم، وقوله جل جلاله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ يدلُّ على أنّ الطّريق المرسوم غايتُه موضوعة من الله سبحانه وتعالى، والطّريق إلى تلك الغاية موزونٌ من الله سبحانه وتعالى الّذي لا هَوىً له، وسبيل الإيمان يكون قاصداً للغاية الّتي وضعها جل جلاله، ذلك أنّ من السُّبل ما هو جائرٌ؛ ولذلك قال:

﴿ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾: الجائر: هو المائل عن الحقّ، المنحرف عنه، وحين يكون قَصْد السّبيل على الله سبحانه وتعالى، فالله لا هَوىً له ولا صاحبَ، ولا ولدَ له، ولا يحابي أحداً، والخَلْق بالنّسبة إليه سواء؛ ولذلك فهو حين يضع طريقاً فهو يضعُه مستقيماً لا عِوجَ فيه، ولكي يمنع الجَوْر جعل سبيلَ الإيمان قاصداً.

الآية رقم (10) - هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾: وقول الله سبحانه وتعالى هذا قد يبدو قولاً بسيطاً بالنّسبة إلينا، ولكن إنْ نظرنا إلى المعامل الّتي تُقطِّر المياه وتُخلِّصها من الشّوائب لوجدنا أنّ العمليّة معقّدة حتّى نصل إلى الماء الصّافي الّذي يمكن أن يُشرَب. ونحن نرى السّحاب الّذي يأتي نتيجة تبخير الشّمس للمياه من المحيطات والبحار، فيتكوَّن البخار الّذي يتصاعد، ثمّ يتكثَّف ليصيرَ مطراً من بعد ذلك، وينزل المطر على الأرض، ونعلم أنّ الكرة الأرضيّة مُكوَّنة من محيطات وبحار تُغطِّي ثلاثة أرباع مساحتها، بينما تبلغ مساحة اليابسة رُبْع الكرة الأرضيّة، فكأنّه جعل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضيّة المائيّة قد خُصِّصَت لخدمة رُبْع الكرة الأرضيّة اليابس.

ومن العجيب أنّ المطر يسقط في مواقع قد لا ننتفع به، مثل بعض الهضاب فالله سبحانه وتعالى يسوق المطر لتكون هناك مخازن للمياه.

﴿لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ﴾: ولولا عمليّة البَخْر وإعادة تكثيف البخار بعد أن يصير سحاباً، لَمَا استطاع الإنسانُ أنْ يشربَ الماء المالح الموجود في البحار، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل مياه البحار والمحيطات مالحةً، فالمِلْح يحفظ المياه من الفساد.

﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾: وكلمة: ﴿شَجَرٌ﴾ تدلُّ على النّبات الّذي يلتفُّ مع بعضه، ومنها كلمة: (مشاجرة) الّتي تعني التّداخل من الّذين يتشاجرون معاً.

﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾: من سَام الدّابّة الّتي تَرْعى في الـمِلْك العامّ، وساعة ترعى الدّابّة في الـمِلْك العامّ فهي تترك آثارها من مَسَارب وعلامات.

الآية رقم (11) - يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ﴾: وهكذا يُعلِّمنا الله سبحانه وتعالى أنّ النّبات لا ينبت وحده، بل يحتاج إلى مَنْ يُنبِته، وهنا يَخصُّ الحقّ سبحانه وتعالى ألواناً من الزّراعة لها أَثَر في الحياة، ويذكر الزّيتون والنّخيل والأعناب وغيرها من الثّمرات كلّها. والزّيتون كما نعلم يحتوي على مواد دُهْنيّة، والعنب يحتوي على مواد سُكّريّة، وكذلك النّخيل الّذي يُعطي البلح، يحتوي على مواد سُكّريّة، وغذاء الإنسان يأتي من النّشويات والبروتينات.

وما ذكره الله سبحانه وتعالى أوّلاً عن الأنعام، وما ذكره عن النّباتات يُوضِّح لنا أنّه قد أعطى الإنسان مُكوِّنات الغذاء، فهو سبحانه وتعالى القائل: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التّين]؛ أي: أنّه جعل للإنسان في قُوته البروتينات والدُّهنيّات والنّشويّات والفيتامينات الّتي تصون حياته.

وعلينا أنْ نستقبلَ قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ في ضَوْء قَوْل الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة]، ذلك أنّك تحرثُ الأرض فقط، أمّا الزّارع الحقيقيّ فهو قدرة الله سبحانه وتعالى، لذلك قال: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ﴾؛ لأنّه لولا قدرة الله عز وجل ونِعَمه ما كان لنا أن ننبت هذه النّباتات.

﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾: أي: أنّ ما تأخذه هو جزءٌ من الثّمرات؛ ذلك أنّ الثّمرات كثيرة، وهي أكثر من أن تُعَدّ.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾: هذه الآية هي عجيبةٌ من العجائب الّتي تدلّ على وجوده وقدرته، فطلب من الإنسان إعمال العقل، وقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ أي: أنّ مهمّة التّفكير يجب ألّا تنحصر في شخصٍ واحدٍ فقط أو بأشخاص، بل إنّ على المجتمع كلّه أن يُعمل عقله وفكره حتّى يستطيع أن يصل إلى مرادات الله سبحانه وتعالى من خلقه.

ونجد في القرآن الكريم آيات تنتهي بالتّذكُّر والتّفكُّر والتّدبُّر والتّفقُّه، وكُلٌّ منها تؤدّي إلى العلم اليقينيّ، فحين يقول: ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾، فالمعنى أنّه يجب أن يتذكّر من هذه النّعم الموجودة وجود الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمّد]، فالتّدبّر هو أن تعلم المآلات والنّهايات، وأن تُعمِل العقل والفكر في كلّ أمرٍ من هذه الأمور.