﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ﴾: المهاجرون قومٌ آمنوا بالله عز وجل إيماناً صار إلى مرتبةٍ من مراتب اليقين، جعلتهم يتحمَّلون الأذى والظّلم والاضطهاد في مكّة في سبيل إيمانهم من قِبَل مشركي قريش، فضحّوا بمالهم وأهلهم وأنفسهم في سبيل الدّعوة إلى الله عز وجل، وفي سبيل رسالة الإسلام الّتي جاء بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد جاءت هذه الآية بعد آية إثبات البعث الّذي أنكره الكافرون، وألحُّوا في إنكاره وبالغوا فيه، بل وأقسموا على ذلك: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النّحل: من الآية 38]، وهم يعلمون أنّ من الخلق مَنْ يُسيء، ومنهم من يُحسِن، فهل يعتقدون في عُرْف العقل أن يتركَ المولى سبحانه وتعالى من أساء ليُعربد في خَلْق الله عز وجل من غير أن يُجازيه؟ ذلك يعني أنّهم خائفون من البعث، فلو أنّهم كانوا محسنين لَتَمنَّوا البعث، وتمنّوا أن يُحاسبوا، أمَا وقد أسرفوا على أنفسهم إسرافاً يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء، فمن الطّبيعيّ أنْ يُنِكروا البعث، ويلجؤوا إلى الأماني الكاذبة، ليطمئنّوا على أنّ ما أخذوه من مظالم النّاس ودمائهم وكرامتهم وأمنهم أمرٌ لا يُحاسبون عليه، وهم قد أنكروا البعث، وأنكروا الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنكروا الإيمان باليوم الآخر، أمّا من آمن ومن هاجر وترك مكّة والأهل والبلد وذهب فارّاً بإيمانه ودينه فهو يعلم بأنّ هناك معركةً بين الحقّ والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينشر الإسلام في بدايته بين الضّعفاء، وألّا يكون في حضن بني عبد المطّلب وبني هاشم وبني عبد مناف وقريش، حتّى لا يظنّ ظَانٌّ بأنّ العصبيّة القبليّة هي الّتي أدّت إلى الإيمان بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل على العكس، فقبيلة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قريش وأهل النّبيّ صلى الله عليه وسلم هم الّذين أنكروا وخالفوا وعاندوا، فكانت النّصرة من قومٍ غيرهم في المدينة المنوّرة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن تكون الصّيحةُ الإيمانيّة أوّلاً في مكَّة؛ لأنّها مركز السّيادة في جزيرة العرب، وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النّفوذ والسّلطان، وألّا تكون القوّة إلّا في المدينة المنوّرة، وأن تكون النّصرة من قومٍ آخرين ليسوا من أهل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو العشيرة الّتي عاش في ظلّها.
وقد كانت الهجرة أبلغ الدّروس الإيمانيّة الّتي أثبتت صحّة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فقد وقف هؤلاء في وجه الباطل والعصبيّات في مكّة، وتركوا ديارهم وأهاليهم وأموالهم، وذهبوا فارّين بدينهم إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نشر هذا الدّين، وإلى دار أمنٍ وأمان في المدينة المنوّرة، وقد استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد كلّها لينظر أيَّ الأماكن تصلح دار أَمْنٍ يُهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد، فلم يجد في البدء إلّا الحبشة؛ ولذلك قال عنها: «إِنَّ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ مَلِكاً لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً وَمَخْرَجاً مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ»([1])، وتكفي هذه الصّفة في مَلِك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون، ثمّ يسَّر الله سبحانه وتعالى لدينه أتباعاً وأنصاراً التقَوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على النُّصْرة والتّأييد، هؤلاء هم الأنصار من أهل المدينة المنوّرة الّذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ومَهَّدوا للهجرة الثّانية إلى المدينة المنوّرة، وهذه المرّة هي هجرةٌ إلى دار أَمْنٍ وإيمان، يأمن فيها المسلمون على دينهم، ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ﴾، نلاحظ في الحديث الشّريف الّذي يوضّح معنى هذه الآية: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»([2])، فما الفرق هنا بين: هاجر في الله سبحانه وتعالى، وهاجر إلى الله سبحانه وتعالى؟ (هاجر إلى مكان) تدلّ على أنّ المكان الّذي هاجر إليه أفضل من الّذي تركه، وكأنّ الّذي هاجر منه ليس مناسباً له، أمّا (هاجر في الله سبحانه وتعالى) فتدلّ على أنّ الإقامة السّابقة كانت أيضاً في الله سبحانه وتعالى، إقامتهم نفسها في مكّة وتحمُّلهم الأذى والظّلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله عز وجل، أمّا لو قالت الآية: (هاجروا إلى الله) لدلَّ ذلك على أنّ إقامتهم الأولى لم تكن لله سبحانه وتعالى، فمعنى الآية: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ﴾؛ أي: أنّ إقامتهم كانت لله سبحانه وتعالى، وهجرتهم كانت لله عز وجل، ومثل هذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: من الآية 133]؛ أي: إذا لم تكونوا في مغفرةٍ فسارعوا إلى المغفرة، وفي الآية الأخرى: ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ [المؤمنون: من الآية 61]؛ ذلك لأنّهم كانوا في خيرٍ سابق، وسوف يسارعون إلى خيرٍ آخر، وهناك ملمحٌ آخر في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ نلاحظ أنّ كلمة (الّذين) جمع، لكن هل هي خاصّة بمَنْ نزلت فيهم الآية؟ أو عامّة في كُلِّ مَنْ ظُلِم في أيِّ مكانٍ في الله سبحانه وتعالى ثمّ هاجر منه؟ الحقيقة أنّ العبرة هنا بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، فهي عامّة في كلّ مَنْ انطبقت عليه هذه الظّروف.
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾: مادّة هذا الفعل: هجر، وهناك فَرْقٌ بين (هجر) وبين (هاجر):
هجر: أن يَكره الإنسانُ الإقامةَ في مكان، فيتركه إلى مكانٍ آخر يرى أنّه خَيْرٌ منه، أمّا هاجر: تدلّ على المفاعلة من الجانبين، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان، ولكنّ المفاعلة الّتي حدثتْ من القوم هي الّتي اضطرّتْه للهجرة، وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكّة؛ لأنّهم لم يتركوها إلى غيرها إلَّا بعد أن تعرّضوا للاضطهاد والظُّلْم، فكأنّهم بذلك شاركوا في الفعل، فلو لم يتعرَّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا، ولذلك قال الحقّ سبحانه وتعالى:
﴿ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾: وينطبق هذا المعنى على قول المتنبّي:
إِذَا ترحَّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا ألَّا تُفارِقهم فَالرَّاحِلُون هُمُوا
يعني: إذا كنت في جماعةٍ وأردْتَ الرّحيل عنهم، وفي إمكانهم أن يقدّموا لك من المساعدة ما يُيسِّر لك الإقامة بينهم ولكنّهم لم يفعلوا، وتركوك ترحل مع مقدرتهم، فالرّاحلون في الحقيقة هم؛ لأنّهم لم يساعدوك على الإقامة، كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكّة؛ لأنّه أيضاً لا يعقل أن يكره هؤلاء مكّة وفيها البيت الحرام الّذي يتمنّى كلّ مسلمٍ الإقامة في جواره، فلم يترك المهاجرون مكّة، بل اضطرّوا إلى تركها وأُجبِروا على ذلك، وطبيعيّ أن يلجؤوا إلى دارٍ أخرى حتّى تقوى شوكتهم، ثمّ يعودون للإقامة ثانية في مكّة إقامةً طبيعيّةً صحيحةً.
﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾: نُبوِّئ، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ [الحجّ: من الآية 26]؛ أي: بيَّنا له مكانه، ونقول: باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه، فالإنسان يخرج للسّعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة، ثمّ يأوي ويبوء إلى بيته، إذاً: باء بمعنى رجع، أو هو مسكن الإنسان، وما أعدَّه الله سبحانه وتعالى له، فالمؤمنون خرجوا من مكّة مغلوبين مضطهدين وسوف نعطيهم ونُحِلّهم ونُنزِلهم منزلةً أحسن من الّتي كانوا فيها، فقد كانوا مُضطهدين في بلدهم، وسوف نُمهّد لهم الدّنيا كلّها ينتشرون فيها بمنهج الله سبحانه وتعالى.
ما ذكرناه من حسنة الدّنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجِّلات للعمل، ولكن حسنات الدّنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال، إمّا أنْ تفارقها، وإمّا أن تُفارقك، وقد أنجز الله عز وجل وَعْده للمؤمنين في الدّنيا، فعادوا منتصرين إلى مكّة، ودانتْ لهم الجزيرة العربيّة كلّها بل العالم كلّه، وانساحوا في الشّرق في فارس، وفي الغرب في الرّومان، وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع، هذه هي حسنة الدّنيا المعَجَّلة، لكن هناك حسنة الآخرة المؤجّلة:
﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾: أي: أنّ ما أعدَّ الله سبحانه وتعالى لهم من نعيم الآخرة أعظم ممّا وجدوه في الدّنيا، ولذلك كان سيّدنا عمر رضي الله عنه إذا أعطى أحد الصّحابة نصيب المهاجرين من العطاء يقول له: «خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ»([3])، فهذه حسنة الدّنيا.
وساعة أنْ تسمع كلمة: ﴿ أَكْبَرُ ﴾ فاعلم أنّ مقابلها ليس أصغر أو صغير، بل مقابلها (كبير) فتكون حسنة الدّنيا الّتي بوَّأهم الله سبحانه وتعالى إيّاها هي (كبيرة)، لكنّ ما ينتظرهم في الآخرة ﴿ أَكْبَرُ ﴾، وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التّفضيل أقلَّ في المدح من غير أفعل التّفضيل، فمن أسماء الله الحسنى (الكبير) في حين أنّ الأكبر صفةٌ من صفاته سبحانه وتعالى، وليس اسماً من أسمائه جل جلاله، وفي شعار ندائنا للصّلاة نقول: الله أكبر، ولا نقول: الله كبير؛ ذلك لأنّ (كبير) ما عداه يكون صغيراً، إنّما (أكبر)، ما عداه يكون كبيراً، فنقول في الأذان: الله أكبر؛ لأنّ أمور الدّنيا في حَقِّ المؤمن كبيرةٌ من حيث هي وسيلة للآخرة، فإيّاك أنْ تظنَّ أنّ حركةَ الدّنيا الّتي تتركها من أجل الصّلاة صغيرةٌ، بل هي كبيرةٌ بما فيها من وسائل تُعينك على هذه الحياة وعلى طاعة الله عز وجل، وعلى التّقوى، وعلى جمع المال.. ولكنّ الله سبحانه وتعالى أكبر منها، ولذلك قال جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ [الجمعة: من الآية 9]، فأخرجنا بهذا النّداء من عمل الدّنيا وحركتها، ثمّ قال: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: من الآية 10]، فأمرنا بالعودة إلى الدّنيا وإلى العمل فيها.
﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾: الخطاب هنا يمكن أن يتّجه إلى ثلاثة أشياء:
1- يمكن أنْ يُراد به الكافرون، ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء المؤمنين لآثروه على الكفر.
2- ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون، ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل الخير.
3- وأخيراً قد يُرَاد به المؤمن الّذي لم يهاجر، ويكون المعنى: لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع إليها.
وهذه الأوجه الّتي يحتملها التّعبير القرآنيّ دليلٌ على ثراء الأداء وبلاغة القرآن الكريم، وهذا ما يسمّونه تربيب الفوائد.
(([1] السّنن الكبرى للبيهقيّ: كتاب السّير، باب الإذن بالهجرة، الحديث رقم (17734).
(([2] صحيح البخاريّ: كتاب النّكاح، باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأةٍ فله ما نوى، الحديث رقم (5070).
(([3] الاعتقاد للبيهقيّ: ج1، ص265.