الآية رقم (61) - وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ

﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ ﴾: أتت قبيلة ثمود بعد عادٍ، ومساكنهم مشهورةٌ ما بين الحجاز والشّام، أرسل الله سبحانه وتعالى إليهم صالحاً عليه السّلام فدعاهم إلى عبادة الله لا شريك له، فسألوه أن يأتيهم بآيةٍ واقترحوا عليه أن يُخرج لهم من صخرةٍ صمّاء ناقةً عشراء، فأخذ صالحٌ عليه السّلام عليهم العهود والمواثيق لئن أجابهم ليؤمننّ به ويتّبعونه، فتحرّكت الصّخرة بدعاء صالحٍ عليه السّلام وانشقّت عن ناقةٍ يتحرّك جنينها بين جنبيها، وكانت النّاقة تشرب من البئر يوماً وتتركه لهم يوماً، وكانوا يشربون من حليبها ويملؤون ما يشاؤون من أوعيتهم، ولكن اتّفق تسعة نفرٍ على قتلها فعقروها؛ أي ذبحوها، فنزل بهم عقاب الله عزَّ وجلّ بعد ثلاثة أيّام، وسيرد بعض تفاصيل القصّة في سورٍ أخرى، فالقصص القرآنيّ لقطاتٌ تأتي في كلّ سورةٍ لتخدم الوظيفة الإيمانيّة للسّورة.

﴿ أَخَاهُمْ صَالِحًا ﴾: نلحظ هنا أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يبيّن أنّه أرسل إلى قبيلة ثمود واحداً منهم، هو النّبيّ صالحٌ عليه السّلام فهو حريصٌ عليهم.

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ ﴾: ناداهم صالحٌ عليه السّلام: يا قوم، يا مَن أنتسبُ إليكم وتنتسبون إليّ.

﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ﴾: نلحظ هنا أنّ دعوات الأنبياء كلّها تبدأ بالتّوحيد؛ لأنّه أساس الإيمان، والعبادة تقتضي تلقّي أوامر من الإله المعبود في كلّ حركةٍ من حركات الحياة.

﴿ هُوَ أَنشَأَكُم ﴾: الإنشاء: هو الإيجاد ابتداءً من غير واسطةٍ، يُقال: أنشأ؛ أي أوجد وجوداً ابتداءً من غير الاستعانة بشيءٍ آخر، لذلك لا نقول لمن اخترع: إنّه أنشأ؛ لأنّه استعان بأشياء كثيرةٍ موجودةٍ ليصل إلى اختراعه، لكنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي أنشأ من عدمٍ، والوجود من عدمٍ قسمان، قسمٌ يتمّ ببعض الموجودات، وقسمٌ من عدمٍ محضٍ، وهذا الأخير هو الإنشاء الّذي لا يقدر عليه إلّا الله جلَّ جلاله.

﴿ مِّنَ الْأَرْضِ ﴾: الله سبحانه وتعالى يُنشئ الإنسان من التقاء الزّوج والزّوجة، لكن إن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية نجد أنّ الله جلَّ جلاله خلق آدم عليه السّلام من الأرض، والأرض مخلوقٌ من مخلوقات الله عزَّ وجلّ وسائل الزّوج وبويضة الزّوجة يتكوّنان من خلاصة الدّم، وخلاصة الدّم هي خلاصة الأغذية، وهي تأتي من الأرض، فسواءً تمّ الرّمز لآدم عليه السّلام بإنشائه من الأرض أو إلى ذرّيّته من خلال الزّواج فكلّ شيءٍ مردّه إلى الأرض.

﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾: حين ترى الألف والسّين والتّاء، فاعلم أنّها للطّلب، (استعمر)؛ أي طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلّب أمرين اثنين: الأوّل: أن يُبقوا الأمر الصّالح على صلاحه، مثال: الله جلَّ جلاله خلق الهواء صالحاً فعليهم المحافظة على صلاحه وعدم تلويثه، الثّاني: أن يزيدوا هذا الصّلاح صلاحاً.

وعندنا كلمة (استعمار) هي تخريبٌ لا تعميرٌ، فالدّول الاستعماريّة ادّعوا أنّهم يرغبون في عمارة الأرض، ولكنّهم في حقيقة الأمر كانوا يُخرّبون الأرض، فلذلك كان يجب أن تسمّى دول الاستخراب وليس دول الاستعمار.

﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾: إنّ استغفار الإنسان يكون عن ذنوبٍ لا تتعلّق بحقوق النّاس، فإن كان هناك حقوقٌ للنّاس فعليه إعادتها.

﴿ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾: الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المستغفر والتّائب.

الآية رقم (62) - قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ

﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ﴾: كانوا ينظرون إلى صالحٍ عليه السّلام بتقديرٍ قبل أن يدعو لعبادة الله الواحد الأحد، فهم يأملون فيه الخير ففيه خِصالٌ تُبشّر بأنّ له مستقبلاً صالحاً، لكن ما إن دعاهم إلى عبادة الله أعلنوا أنّه بتلك الدّعوة إنّما يُفسد رجاءهم فيه، وما كانوا يأملون منه.

﴿ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾: أوضح لهم صالحٌ عليه السّلام أنّ اتّخاذ الأصنام آلهةً تُعبَد من دون الله عزَّ وجلّ أمرٌ لا يصحّ؛ لأنّ العبادة تقتضي أوامر ونواهي، أمّا الأصنام الّتي تعبدونها فليس لها منهجٌ.

﴿ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾: هم في شكٍّ من دعوة صالحٍ.

الآية رقم (63) - قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ

ارتضاهم صالحٌ عليه السّلام حكماً فقال: أخبروني إن كنت على بيّنةٍ ويقينٍ من ربّي بأنّه أرسلني وأيّدني وآتاني منه رحمةً، والمراد بها هنا النّبوّة، فمن ينصرني من الله سبحانه وتعالى إن عصيته؟

﴿ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾: الخسارة: أن يقلّ رأس المال، فهل التّخسير واقعٌ منه عليهم؟ أم واقعٌ منهم عليه؟ إنّ ثراء الأسلوب القرآنيّ يوضّح لنا هذه المعاني كلّها، فإن أطاعهم صالحٌ عليه السّلام وعصى ربّه جلَّ جلاله فهو قد زاد في خسارته وخسرانهم؛ لأنّهم لا يهتدون، ويريدون له أن يضلّ ويتّبع ما يعبدون من دون الله عزَّ وجلّ فالتّخسير إمّا أن يكون واقعاً عليهم من صالحٍ عليه السّلام وإمّا أن يكون واقعاً منهم على صالحٍ عليه السّلام إذا منعوه من عبادة الله عزَّ وجلّ.

الآية رقم (64) - وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ

﴿ وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾: خرجت النّاقة كما طلبوا، وحين نسمع شيئاً مُضافاً إلى الله سبحانه وتعالى فلنعلم أنّ له عظمةً بعظمة الـمُضاف إليه، كقولك: بيت الله، وقد قال لهم صالحٌ عليه السّلام: هذه ناقة الله عزَّ وجلّ لكن قومه لم يستجيبوا له.

﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ﴾: وعظهم وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله عزَّ وجلّ.

﴿ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾: أي عذابٌ مباشرٌ ليس فيه إمهالٌ.

الآية رقم (65) - فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ

﴿ فَعَقَرُوهَا ﴾  أصابوها إصابةً قاتلةً؛ أي نحروها.

﴿ فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ﴾: جلسوا في منازلهم ثلاثة أيّامٍ ثمّ جاءهم العذاب، قد يسأل بعض النّاس: لم الإمهال ثلاثة أيّامٍ؟ الجواب: إنّ العذاب إذا جاء فالألم يكون حسّيّاً، لكن إن جعلك تنتظر ثلاثة أيّامٍ فأنت في ألمٍ نفسيٍّ حتّى يأتي، فيكون العذاب أشدّ، كلّ دقيقةٍ تمرّ عليهم في هذه الأيّام الثّلاثة يزداد ألمهم وخوفهم من قُرب الوعيد، إذ يقولون: ربّما كان صالحٌ صادقاً.

﴿ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى هو الّذي يَعِد، فهو قادرٌ على التّنفيذ، لا تقوم قوّةٌ أمامه، لذلك فهو وعدٌ صادقٌ غير مكذوب.

الآية رقم (66) - فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ

﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾: حين شاء الحقّ سبحانه وتعالى أن يُنزّل العذاب على ثمود بعد مضي ثلاثة أيّامٍ نجّا صالحاً عليه السّلام والّذين آمنوا معه من الهلاك، وحفظهم برحمةٍ منه جلَّ جلاله.

﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ﴾: من فضيحة هذا اليوم الّذي حاق بثمود.

﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾: هذا خطابٌ للنّبيّ ﷺ وتسليةٌ له وتقويةٌ لعزمه، فربّك يا محمّدٌ هو القويّ العزيز المقتدر، لا يغلبه أحدٌ ولا يُعجزه شيءٌ، وفي هذا إنذارٌ لكفّار مكّة ومشركي العرب.

الآية رقم (67) - وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ

﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ﴾: العذاب الّذي نزل على ثمود سمّاه الله سبحانه وتعالى في هذه السّورة (الصّيحة)، وسمّاه في موضعٍ آخر (الطّاغية)، قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) ﴾  {الحاقّة}، وسمّاه في موضعٍ آخر (صاعقة)، قال عزَّ وجلّ: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) ﴾  {فصّلت}، وفي موضعٍ آخر سمّاه الرّجفة، قال جلَّ جلاله: ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) ﴾ {]الأعراف}، وكلٌّ من الصّاعقة والصّيحة والرّجفة تؤدّي معنى الحدث الّذي جاءهم، ولا يمكن أن ينفكّوا منه، وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ﴾ ، الصّيحة مؤنّث، لكن اختفت تاء التّأنيث من الفعل؛ لنعلم أنّه لا يصحّ أن نفهم أنّها صيحةٌ واحدةٌ، فتاء التّأنيث تُعبّر عن صيحةٍ لمرّةٍ واحدةٍ، أمّا إذا تكرّرت وصارت صيحات متتالية فتُقرئ: أخذ.

﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾: أي مُلقَون على ركبهم وعلى جباههم بلا حركةٍ.

الآية رقم (68) - كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ

﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ﴾: مادّة غَنيَ غِنىً غَناء كلّها متساويةٌ، وهو وجود شيءٍ يُغني عن شيءٍ، فالغنى هو وجود مالٍ يُغنيك عن غيرك، والمراد هنا أنّهم لم ينتفعوا بشيءٍ ممّا كان عندهم، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾  {يونس: من الآية 24}؛ أي كأنّها لم توجد من قبل.

﴿ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ﴾: هذه حيثيّة العذاب الّذي نزل بهم، وعادةً تتعدّى كلمة (كفر) بالباء؛ أي كفروا بربّهم، لكنّ الله سبحانه وتعالى قال هنا: ﴿ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ﴾ ، والفارق كبيرٌ بين المعنيين، فمعنى: (كفروا ربّهم)؛ أي ستروا وجوده، أمّا (كفروا بربّهم) فهو اعترافٌ بوجود الله سبحانه وتعالى لكنّهم لم يؤمنوا به، فقوم ثمود ستروا وجود الله سبحانه وتعالى نهائيّاً.

﴿ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾: جملةٌ تُرعب القلب عندما يقولها القادر المقتدر الجبّار مالك الـمُلك سبحانه وتعالى، بُعداً لثمود؛ أي أنّهم يستحقّون ما وقع عليهم من إهلاكٍ وطردٍ من رحمة الله جلَّ جلاله، ولن يعطف عليهم أحدٌ لضخامة ذنبهم.

الآية رقم (53) - قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ

﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾: ينكرون أنّ هوداً عليه السّلام قد أتاهم ببيّنةٍ أو معجزةٍ، فهم يريدون بيّنةً ودليلاً ومعجزةً، والمعجزة أو البيّنة هي أمارةٌ دالّةٌ على صدق الرّسول في البلاغ عن الله عزَّ وجلّ ولم يذكر في هذه الآية معجزة هود عليه السّلام.

﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾:  هم سمّوا الأصنام آلهةً، وقالوا: نحن لا نتركها بمجرّد كلامك.

﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾: أي نحن لا نصدّقك.

الآية رقم (54) - إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ

﴿إِن نَّقُولُ﴾: أي ما نقول إلّا اعتراك، جاءت ﴿ إِن ﴾ هنا بمعنى النّفي.

﴿إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾: ما نقول لك يا هود إلّا أنّ آلهتنا هي السّبب في إصابتك بسوءٍ؛ لأنّك سفّهت الآلهة وادّعيت بأنّها ليست آلهةً، وجئت بإلهٍ جديدٍ من عندك، فأصابتك الآلهة بسوءٍ؛ أي أصبحت مجنوناً، فأخذت تخلط في الكلام الّذي لا معنى له.

﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾: فكان ردّ هودٍ عليه السّلام أنّه يُشهد الله سبحانه وتعالى الّذي يثق أنّه أرسله ويحميه ويحمي عقله؛ لأنّ عقل الرّسول هو الّذي يدير كيفيّة أداء البلاغ عن الله جلَّ جلاله.

﴿وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾: فهو عليه السّلام يرفض أن يقول عن أصنامهم بأنّها آلهةٌ، فإذاً أنتم تشهدون جميعاً بأنّني أكفر بهذه الآلهة، فاشهدوا أنّي بريءٌ ممّا تشركون.

الآية رقم (55) - مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ

﴿ مِن دُونِهِ ﴾: فهم قد عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه وتعالى.

﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ﴾: مطلب هودٍ عليه السّلام منهم أن يكيدوا له جميعاً، وهم كثرةٌ طاغيةٌ متجبّرةٌ، فهو عليه السّلام يتحدّاهم جميعاً، ويطلب منهم أن يعملوا كلّ مكرٍ وكلّ كيدٍ وأن يقتلوه لو استطاعوا، وهذا قمّة التّحدّي، فهو عليه السّلام واثقٌ من حماية الله عزَّ وجلّ له.

الآية رقم (42) - وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ

﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾: الجري هو السّير السّريع، سارت السّفينة وأسرعت وجرت بهم في هذا الموج الهائج الّذي هو كالجبال، وهذا يدلّ على أنّ هذه السّفينة مسيّرةٌ بقوّة بسم الله، لا تؤثّر فيها الأمواج.

﴿فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾: مثّل الله سبحانه وتعالى الموج بالجبال، وهذا يمثّل مدى علوّ الأمواج الّتي عمّت الأرض جميعاً في هذه الأثناء.

﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ﴾: تحرّكت عاطفة الأبوّة عند نوحٍ عليه السّلام وقد قال له الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ {هود: من الآية 37}، الأمر منتهٍ ومع ذلك تغلّبت عاطفته تجاه ابنه.

﴿ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾: أي في مكانٍ عالٍ منعزلٍ على جبلٍ قبل أن تغمره المياه، فهو موضعٌ عزل نفسه فيه جانباً.

﴿ يَا بُنَيَّ﴾: هذا من باب التّلطّف.

﴿ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾: قال له: تعال وانضمّ إلى ركّاب السّفينة مع أبيك، فرفض الابن مطلب أبيه معتمداً على أنّ الجبل سيحميه.

الآية رقم (43) - قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ

﴿ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾: يعصمني: أي يمنعني، ظنّ أنّه سيحميه من الماء، فلن يغرق وأنّه سينجو إن أوى إلى جبلٍ طلباً للحماية من الماء الغزير، لكنّ الأمر انتهى، وهذا اللّجوء لا يمكن أن يفيد ابن نوحٍ.

﴿ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ﴾: علم نوحٌ عليه السّلام بأنّه لا نجاة للكافر، والنّجاة فقط لمن آمن.

﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين﴾: فرّق الموج بين الأب والابن، وغرق الابن.

الآية رقم (44) - وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾: البلع: هو مرور الشّيء من الحلق ليسقط في الجوف، والقائل هنا هو من تنصاع لأوامره الأرض.

﴿ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾: أي توقّف يا مطر، وهنا يُنهي الله سبحانه وتعالى الطّوفان الّذي أغرق الدّنيا بأكملها، أوقف المصبّ وأعطى الأمر للمصرف أن يسحب الماء بلحظاتٍ.

﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾: غيض: أي خفّ الماء، نقص.

﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾: الأمر أمر إلهٍ.

﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾: انتهى الأمر فاستوت السّفينة على الجبل الّذي اسمه الجوديّ.

﴿ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: من الّذي قال: بعداً للقوم الظّالمين؟ كأنّه نوديَ بعد أن نقص الماء، واستوت السّفينة على الجوديّ، قيل: بعداً للقوم الظّالمين؛ أي بَعِدوا وانتهى أمرهم، وبُعداً لهم بُعداً نهائيّاً إلى يوم القيامة لما فعلوه، وقد أصبحوا غرقى وانتهى الأمر.

الآية رقم (45) - وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ

﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾: ذكرنا أنّ عاطفة الأبوّة عاطفةٌ محمودةٌ، يشحن بها الحقّ سبحانه وتعالى قلب الأب على قدر حاجة الأبناء، ولو لم تكن تلك العاطفة موجودةً في الآباء لما تحمّل أيّ أبٍ أو أيّ أمٍّ متاعب من أجل تربية الأبناء، لكن الأنبياء لا بُنوّة لهم إلّا بُنوّة الاتّباع، فقد نادى نوحٌ عليه السّلام ربّه سبحانه وتعالى أنّ ابنه جزءٌ منه، وأنّه تعالى أمره أن يصعد معه في السّفينة أهله.

﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ﴾: فنوحٌ عليه السّلام يملك حقّ الدّعاء؛ لأنّه يطلب تحقيق قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾.

﴿ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾: هذا إقرارٌ بأنّ الله سبحانه وتعالى لا يُخطئ أبداً، وهو أحكم الحاكمين؛ لأنّ الابن قد غرق وانتهى الأمر، ولا بدّ أنّ الغرق له حكمةٌ.

الآية رقم (46) - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾: أي إنّه ليس من أهل ولايتك المتعلّقة بمنهجك الّذي نزل عليك من السّماء، يريد الله سبحانه وتعالى هنا أن يلفت نبيّه ﷺ إلى أنّ أهليّة الأنبياء ليست أهليّة الدّم واللّحم، لكنّها أهليّة المنهج والاتّباع، وإذا قاس نوحٌ عليه السّلام ابنه على هذا القانون فلن يكون ابناً له، ألم يقل نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه: «سلمان منّا أهل البيت»([1])؟ فالبنوّة بالنّسبة إلى الأنبياء عليهم السَّلام هي اتّباعٌ قبل كلّ شيءٍ.

﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾: وكأنّ البنوّة هنا عملٌ وليست ذاتاً، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوحٍ جعله غير صالحٍ ليكون ابناً لنوحٍ عليه السّلام فهذا هو المحكوم، ليس الدّم واللّحم، إنّما هو الاتّباع والمنهج الإلهيّ للأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام.

﴿ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يطلب من نوحٍ عليه السّلام هنا أن يفكّر جيداً قبل أن يسأل، فهو سبحانه وتعالى يربّي الأنبياء عليهم السَّلام ويعظهم.

﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾: هذه تعليمات الله سبحانه وتعالى لسيّدنا نوحٍ عليه السّلام ألّا يسأله عن هذا الأمر؛ لأنّه منتهٍ ومقضيٌّ فيه.

([1]) المستدرك على الصّحيحين: ج3، ص691، الحديث رقم (6539).

الآية رقم (47) - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ

﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾: أي لجأ إلى الله سبحانه وتعالى مباشرةً، فقال نوحٌ عليه السّلام: إنّي أعوذ بك؛ أي أنت القادر على أن تمنع قلبي من ذلك يا ربّ، فالإنسان لا يعوذ بالله سبحانه وتعالى من شيءٍ إلّا إن كانت قوّته لا تقدر على أن تمتنع عنه.

﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾: يدعو نوحٌ عليه السّلام اللهَ سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله، وهو هنا يقرّ بأنّه لـمّا أحبّ أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم هذا السّؤال، ولكنّ الله سبحانه وتعالى وحده القادر على أن يمنع السّؤال، لذلك طلب سيّدنا نوحٌ المغفرة والرّحمة من الله جلَّ جلاله حتّى لا يكون من الخاسرين.

الآية رقم (48) - قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ

﴿ قِيلَ يَا نُوحُ﴾: قيل: فعلٌ مبنيٌّ للمجهول.

﴿اهْبِطْ﴾: وكأنّه كان مرتفعاً بأمر الله سبحانه وتعالى، ثمّ جاء أمر: اهبط بسلامٍ.

﴿ بِسَلَامٍ مِّنَّا﴾: فألقى الله سبحانه وتعالى السّلام والأمن على نوحٍ عليه السّلام وعلى من معه، والسّلام هو الأمن والاطمئنان، فلم يعد هناك من الكافرين الّذين عاندوه تسع مئة وخمسين عاماً، لم يعد هناك من ينغّص على نوحٍ عليه السّلام ويُكدّر عليه.

تدلّ هذه الآية على أنّ نوحاً عليه السّلام قد تلقّى الأمر بالنّزول من السّفينة ليُباشر مهمّته الإيمانيّة في أرضٍ فيها مقوّمات الحياة ممّا حمل في تلك السّفينة، من كلٍّ زوجين اثنين من الحيوانات ومن النّباتات… مع المؤمنين من البشر الّذين أنجاهم الله سبحانه وتعالى من الغرق، وأغرق الّذين قالوا عنهم: بأنّهم أراذل.

﴿ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ﴾: البركة: زيادة الخير والنّماء والسّعادة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ {الأعراف: من الآية 96}، فكلمة: ﴿ بَرَكَاتٍ﴾ لها دليلٌ؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى يُبارك في القليل ليجعله كثيراً، فقد كانوا قلّةً في السّفينة فكيف سيملؤون الأرض لولا بركة الله تعالى؟! نقول: هذا الشّيء مُباركٌ، كالطّعام الّذي يأتي به الإنسان ليكفي اثنين ولكنّه يُفاجأ بأنّه يكفي عشرة، فالشّيء الـمُبارك هو القليل الّذي يؤدّي ما يؤدّيه الكثير مع مظنّة أنّه لا يفي، لذلك جاءت كلمة بركاتٍ بدقّة الحكيم الخبير؛ لأنّ ما يحمله نوحٌ عليه السّلام من كلٍّ زوجين اثنين يحتاج إلى بركات الحقّ سبحانه وتعالى ليتكاثر ويكفي.

﴿ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾: تتضمّن أهل نوحٍ عليه السّلام الّذين آمنوا معه كذلك أمم الوحوش والطّيور والحيوانات والدّوابّ والنّباتات، إنّها إشارةٌ إلى الأمّة الأساسيّة وهي أمّة الإنسان أوّلاً، وإلى الأمم الخادمة للإنسان، وهي البقيّة من الحيوانات والنّباتات و… وهكذا توفّرت مقوّمات الحياة للمؤمنين ليتفرّغ نوحٌ عليه السّلام مع قومه إلى المهمّة الإيمانيّة في الأرض.

﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾: السّين تدلّ على أنّ الأمر سيكون في المستقبل.

﴿ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: هذا القول يُناسب طبيعة الإنسان، فالمؤمنون مع نوحٍ عليه السّلام كانوا هم الصّفوة الّذين بَقوا على وجه الأرض، لكن سيمضي زمنٌ تطرأ الغفلة على بعضٍ منهم، ثمّ يأتي جيلٌ من بعدهم فلا يجد الأسوة أو القدوة الصّالحة، وتحيط به أجيالٌ تاليةٌ، بعدها تأتي مؤثّراتٌ فينفصلون عن المنهج ويبدؤون بعبادة الأصنام، لذلك في هذا يقول النّبيّ ﷺ: «ينامُ الرّجل النّومةَ فَتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيظلّ أَثَرُها مثل أثَرِ الوَكْتِ ثمّ ينامُ النّومة فتُقْبَض، فيبقى أَثَرُها مثل المَجْلِ كجَمْر دحرجته على رِجْلِك، فَنَفِطَ فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيءٌ، فيصبح النّاسُ يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدّي الأمانة، فيُقال: إنّ في بني فلانٍ رجلاً أميناً، ويُقال للرّجل: ما أَعْقَلَه وما أَظْرَفَه وما أَجْلَدَه، وما في قلبه مثقالُ حبّة خردلٍ من إيمانٍ»([1])، الوَكْت: الأثر اليسير، الـمَجْل: أي الماء الّذي يكون بين الجلد واللّحم، والمجل قشرةٌ رقيقةٌ يجتمع فيها ماء من أثر العمل، يقولون: مجلت اليد؛ أي مرنت وظهر فيها ما يشبه البثر، منتبراً: أي مرتفعاً منتثراً مثل انتبار الجرح والورم الّذي فيه، الخردل: نوعٌ من أنواع التّوابل يُضرب بها المثل للصّغر، وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج، ويقول النّبيّ ﷺ: «تُعرَض الفتنُ على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً، فأيّ قلبٍ أُشربها نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداء، وأيّ قلبٍ أنكرها نُكِت فيه نُكتةٌ بيضاء، حتّى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصّفا فلا تضرّه فتنةٌ ما دامت السّماوات والأرض، والآخر أسْوَدُ مُرْبَادّاً كالكُوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا يُنكر مُنكراً إلًا ما أُشرِب من هواه»([2])، أُشربها: أي خلط قلبه حبّ الفتن كأنّه أُسقيها، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ {البقرة: من الآية 93}، نُكت: النّكت: أن تضرب في الأرض بقضيبٍ فيؤثّر فيها أي أنّ الفتنة تترك أثراً في القلب، الكوز المجخّي؛ أي المائل الّذي يكبّ ويصبّ ما فيه، والمراد هنا المائل عن الاستقامة والاعتدال، فشبّه القلب الّذي لا يعي خيراً بالكوز المائل الّذي لا يثبُت فيه شيءٌ؛ لأنّ الكوز إذا مال انصبّ ما فيه.

والحقّ سبحانه وتعالى يتحدّث في هذه الآية عن الّذين بقوا مع نوحٍ عليه السّلام وهم صفوةٌ من المؤمنين، لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة، وسيمتّعهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بمتاع الدّنيا، ولن يضنّ عليهم، ولكن سيلحقهم بالعذاب بعد ذلك، فإذا جاء جيلٌ بعد جيلٍ على الغافلين فإنّهم سيخضعون لمؤثِّرين اثنين، المؤثّر الأوّل الغفلة والمؤثّر الثّاني الأسوة بالغافلين من السّابقين عليه، ونحن نعلم أنّ من ذريّة نوحٍ عليه السّلام قوم عاد الّذين أرسل الحقّ سبحانه وتعالى إليهم هوداً عليه السّلام وكذلك قوم ثمود الّذين أرسل جلَّ جلاله إليهم صالحاً عليه السّلام وقوم لوط عليه السّلام… وهؤلاء جميعاً رانت الغفلة على قلوبهم.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب رفع الأمانة، الحديث رقم (6132).

([2]) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً وإنّه يأرز بين المسجدين، الحديث رقم (144).

الآية رقم (49) - تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾: كلمة (تلك) إشارةٌ وخطابٌ، والـمُخاطب هو رسول الله ﷺ، والتّاء إشارةٌ إلى السّفينة وما تبعها من أنباء الغيب، ولم يكن رسول الله ﷺ معاصراً لها ولا يعلمها هو ولا أحدٌ من قومه، فلم يُعلم عنه : أنّه جلس إلى معلّمٍ ولم يُذكر عنه أنّه قرأ في كتابٍ، ولذلك قال سبحانه وتعالى في آياتٍ أُخرى:﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) ﴾ {القصص}، ﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ﴾ ]آل عمران[، فما دمت يا محمّد لم تقرأ ولم تتعلّم عن معلّمٍ فمن علّمك؟ إنّه الله جلَّ جلاله الّذي علّم الرّسول ﷺ، وهو الّذي قصّ عليه قصّة نوحٍ عليه السّلام وأراد بها إلقاء الأسوة والعبرة لرسول الله ﷺ حتّى يثق بأنّ كلّ رسولٍ إنّما يصنع حركته الإيمانيّة المنهجيّة على عين الله سبحانه وتعالى، وأنّه سبحانه لن يُسْلمه إلى خصومه وأعدائه، لذلك يأتي قوله سبحانه وتعالى بعدها:

﴿ فَاصْبِرْ ۖ ﴾: لأنّك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوحٍ عليه السّلام الّذي صبر ألف سنةٍ إلّا خمسين عاماً.

﴿إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾: فالعاقبة والنّتيجة والمآل والنّصر والفرج للمتّقين، فمن هم المتّقون؟ المتّقي: هو الّذي يتّقي غضب الله سبحانه وتعالى ويتّقي نار جهنّم؛ أي الّذي يمتثل لأوامر الله عزَّ وجلّ لذلك عندما سُئل الإمام عليّ كرّم الله وجهه عن التّقوى قال: “التّقوى هي العمل بالتّنزيل والرّضى بالقليل والخوف من الجليل والاستعداد ليوم الرّحيل”.

الآية رقم (50) - وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ

سُمّيت هذه السّورة باسم النّبيّ هود عليه السّلام وقومه هم عادٌ الأولى، وهم أولاد عاد بن إرم الّذين كانت مساكنهم بالأحقاف في اليمن في جبال الرَّمل، هذا ما قاله القرطبيّ في تفسيره، وقال: إنّ هناك عادين، عاداً الأولى وعاداً الثّانية أو عاداً الأخرى، هؤلاء الّذين يتحدّث المولى سبحانه وتعالى عنهم هم عاد الأولى.

﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾: يخبرهم الله سبحانه وتعالى بأنّ هوداً عليه السّلام هو أخوهم، ولا يمكن للأخ أن يريد العنَت لإخوته، بل هو ناصحٌ ومأمونٌ عليهم وعلى ما يبلّغهم به.

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ﴾: هذا للإيناس.

﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده.

﴿ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ﴾: فهم اتّخذوا غير الله جلَّ جلاله إلهاً، وهذا قمّة الافتراء.

﴿ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ﴾: أي كاذبون، متقوِّلون على الله عزَّ وجلّ.