الآية رقم (82) - فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ
﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾: جعل الله سبحانه وتعالى عاليها سافلها فقد قيل: إنّ سيّدنا جبريل عليه السّلام قلب مدينتهم بجناحه بشكلٍ كاملٍ، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ ﴾ {النّجم}، والمؤتفكة: من الإفك؛ أي الكذب المتعمّد، فالإفك هو قلب الحقائق، وهم قد قلبوا الفطرة بهذه الفاحشة، وكذلك المؤتفكة هي القرى الّتي جُعل عاليها سافلها، فانقلبت بمن فيها.
﴿ سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴾: من طينٍ متحجّر، ويقول الحقّ سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍۢ﴾ {الذّاريات}، كلمة الحجارة تعطي إحساساً بالصّلابة، أمّا كلمة طين فتعطي إحساساً باللّيونة، لكنّ الطّين الّذي نزل متحجّراً بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى نزل منضوداً؛ أي يتتابع في نظامٍ.
الآية رقم (83) - مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
﴿ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ ﴾: أي مُعلَّمةً، وكأنّ كلّ حجرٍ قد تمّ توجيهه إلى صاحبه، مثل الصّواريخ الموجّهة، فكلّ حجرٍ يعرف على مَن سوف ينزل بالعذاب بالتّحديد.
﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾: الخطاب هنا للنّبيّ ﷺ، والظّالمين هم مشركو مكّة، والّذين يُعارضون النّبيّ ﷺ، فالقصص القرآنيّ نزل لتسلية وتثبيت النّبيّ ﷺ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ {هود: من الآية 120}، وأراد الحقّ سبحانه وتعالى هنا أن يُذكّر هؤلاء الظّالمين من مشركي قريش بأنّ عذاب الله عزَّ وجلّ حين يجيء لا يمكن أن يقوم أمامه قائمٌ يمنعه، فتنبّهوا جيداً، فأنتم مُعرَّضون لأن يُنزِل الله سبحانه وتعالى بكم العذاب كما أنزله بهذه القرى، وهي غير بعيدةٍ عنكم، فأنتم تمرّون عليها في رحلة الشّتاء والصّيف، فهي قرىً تقع على هذه الطّريق المسلوكة، فمن الواجب أن تأخذوا لقطةً وعبرةً في كلّ مرورٍ حتّى لا تقعوا فيما وقعوا به.
وهنا نجد الّذين لا يملكون مَلَكة اللّغة العربيّة والمستشرقين يحاولون نقض القرآن الكريم، فيقولون: لماذا لم يقل: (وما هي من الظّالمين ببعيدة)؛ لأنّه يتحدّث عن القرى، وهي مؤنّثة، فلماذا جاءت ﴿ بِبَعِيدٍ ﴾ مذكّرة؟ والجواب لهؤلاء: إن جاءت فعيلٌ بمعنى مفعول يستوي المذكّر والمؤنّث، ومثال ذلك من القرآن الكريم أيضاً قوله جلَّ جلاله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾ {التّحريم: من الآية 4}، وقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾ {الأعراف: من الآية 56}، فعدم درايتهم باللّغة العربيّة هو الّذي جعلهم يخطئون مثل هذا الخطأ.
الآية رقم (69) - وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ
﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ ﴾: رسل: جمع رسول، والرّسول هو المرسل من جهةٍ إلى جهةٍ، لكنّ المعنى الشّرعيّ للرّسول أن يكون مُرسَلاً من الله سبحانه وتعالى إلى النّاس، قال عزَّ وجلّ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)﴾ {الحجّ}، فجبريل عليه السّلام رسولٌ من الله جلَّ جلاله لتيسير التّلقّي عن الخالق سبحانه وتعالى، فالإنسان لا يقدر أن يتلقّى من الحقّ سبحانه وتعالى مباشرةً، والنّبيّ ﷺ هو رسولٌ بشريٌّ.
﴿ بِالْبُشْرَى ﴾: البشرى: هي الإخبار بشيءٍ يسرّ قبل أوانه، عكس الإنذار الّذي يعني الإخبار بالشّيء المحزن قبل وقوعه.
﴿الُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ﴾: من أدب الدّخول لأيّ مكانٍ أن نسلّم على أهل هذا المكان، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)﴾ {النّور}، فديننا دين سلامٍ واطمئنانٍ وأمانٍ؛ فعند قولك: السّلام عليكم؛ أي أعطيتك أماناً واطمئناناً، لذلك أوّل كلمةٍ قالتها الملائكة عند دخولها: ﴿ سَلَامًا ﴾ ، فردّ عليهم سيّدنا إبراهيم عليه السّلام بقوله: ﴿ سَلَامٌ ﴾ ، فنلاحظ أنّ السّلام جاء على ألسنتهم بالنّصب، والرّدّ جاء بالرّفع، فقول الملائكة عليهم السَّلام يدلّ على فعلٍ متكرّرٍ، أمّا جواب سيّدنا إبراهيم عليه السّلام بالرّفع يدلّ على الثّبات، فهو يريد أن يردّ بأفضل من قولهم: ﴿ سَلَامًا ﴾ ؛ لأنّ ﴿ سَلَامٌ ﴾ يوجد فيها ثباتٌ.
﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾: العجل: ولد البقر.
﴿ حَنِيذٍ ﴾: أي سمينٌ مشويٌّ على الحجارة، فعند شَي اللّحمة يؤتى بحجرٍ رقيقٍ ويُحمّى على النّار ويُشوى عليه اللّحم، وهذا يؤدّي إلى تفاعلٍ بين اللّحم والحجر فتكون هذه الطّريقة أفضل من الحديد أو الفحم وأنظف، وقال بعض المفسّرين: العجل الحنيذ؛ أي ينزل منه دهنٌ بعد أن يُشوى، وطبيعة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام أنّه يُحبّ الضّيوف ويكرمهم، ومن عادة الكرام أن يعجّلوا بإكرام الضّيف قبل أن يذكر ما يريد، وهنا علّمنا المولى سبحانه وتعالى كيف يُكرم الإنسان ضيوفه.
الآية رقم (70) - فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ
﴿ فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾: حين رأى إبراهيم عليه السّلام أنّ أيديهم لا تصل إلى الطّعام خاف منهم ونكرهم؛ أي استنكر أنّهم لم يأكلوا من طعامٍ قدّمه لهم.
﴿ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ﴾: عَلِمَ عليه السّلام أنّهم ملائكةٌ من كلامهم، وقد تبيّن ذلك في موضعٍ آخر من القرآن الكريم: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) ﴾ {الحجر}.
واطمأنّ سيّدنا إبراهيم عليه السّلام أنّ قومه لم يأتوا بفعلٍ يستحقّون عليه العذاب، قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)﴾ {الذّاريات}.
الآية رقم (71) - وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ
﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ ﴾: قائمةٌ على خدمة الضّيوف.
﴿ فَضَحِكَتْ ﴾: ضحكت وسُرَّت؛ لأنّها كانت قد توقّعت أن ينزل العذاب على قوم لوطٍ عليه السّلام قبل مجيء الملائكة.
﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ﴾: زادها الله سبحانه وتعالى سروراً، فقد بشّرتها الملائكة بإسحاق وهي عجوزٌ.
﴿ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾: أي بعد إسحاق سيكون حفيدها يعقوب، وهذا امتنانٌ من الله عزَّ وجلّ لإبراهيم عليه السّلام فالإنسان يحبّ أن يكون له ابنٌ، ويحبّ أن يرى ابن ابنه، فهو يمثّل امتداداً له.
الآية رقم (72) - قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ﴾: تتعجّب زوجة إبراهيم عليه السّلام من أمر الإنجاب في هذا العمر، والشّيء العجيب هو الّذي يخالف نواميس الكون المعتادة، وخالق النّواميس جلَّ جلاله قادرٌ على أن يخرقها.
﴿ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ﴾: البعل: هو الّذي يقوم بأمر المبعول ولا يحوجه إلى أحدٍ، كذلك على الزّوج أن يقوم بأمر زوجته.
الآية رقم (73) - قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
﴿ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾: القادر الأعلى سبحانه وتعالى له طلاقة القدرة في أن يخرق النّاموس، ومن خرْق النّواميس جاءت المعجزات لتثبت صدق البلاغ عن الله عزَّ وجلّ فالمعجزات أمرٌ خارقٌ للعادة الكونيّة، فهي أمرٌ مستحيلٌ عادةً، ممكنٌ عقلاً، والقصّة الّتي حدثت مع سيّدنا إبراهيم عليه السّلام تكرّرت في قصّة سيّدنا زكريّا عليه السّلام.
﴿ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾: رحمة الله سبحانه وتعالى قد وسعت أهل بيت النّبوّة، والبركات هي الزّيادة؛ أي هبة الأبناء والأحفاد، وفي أوانٍ غير معتادٍ.
﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ ﴾: حميدٌ في اللّغة تأتي على معنيين: إمّا أن تكون بمعنى فاعل، كقولنا: الله رحيمٌ؛ أي أنّه راحمٌ لخلقه، وإمّا أن تكون بمعنى مفعول، كقولنا: قتيلٌ؛ أي مقتولٌ، وكلمة حميدٌ هنا تأتي بكِلا المعنيين.
﴿ مَّجِيدٌ ﴾: الله سبحانه وتعالى هو المجيد الّذي يُعطي قبل أن يُسأل، والحقّ سبحانه وتعالى أعطانا حتّى قبل أن نعرف كيف نسأل، لذلك هو حميدٌ مجيدٌ.
الآية رقم (74) - فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ
﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ﴾: عندما ذهب عنه الخوف.
﴿ يُجَادِلُنَا ﴾: الجدل: هو أن تأخذ حجّةً وبالمقابل تعطي حجّةً لتصل إلى الحقّ، والجدل يختلف عن الـمِراء، فالـمِراء هو أن تعرف الحقيقة وتجادل بالباطل، بينما الجدل هو نقاشٌ حتّى يتبيّن الحقّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ {النّحل: من الآية 125}.
﴿ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾: بدأ سيّدنا إبراهيم عليه السّلام يجادل في عقاب قوم لوطٍ عليه السّلام ليس ردّاً لأمر الله سبحانه وتعالى، ولكنّه يطلب الإمهال عسى أن يؤمنوا.
الآية رقم (75) - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ﴾: العلّة في جدال إبراهيم أنّه حليمٌ لا يعجل بالعقوبة.
﴿ أَوَّاهٌ ﴾: التّأوّه: هو رقّةٌ في القلب، إن كان التّأوّه من الأعلى فهذا يعني الخوف من أن يكون لم يؤدّ حقّ الله سبحانه وتعالى، وإن كان التّأوّه للأقلّ فهو رحمةٌ ورأفةٌ بالآخرين، فقد طلب سيّدنا إبراهيم عليه السّلام تأجيل العذاب لقوم لوطٍ لعلّهم يؤمنون.
﴿ مُّنِيبٌ ﴾: أي يرجع إلى الحقّ في قضاياه.
الآية رقم (76) - يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ﴾: سأل سيّدنا إبراهيم عليه السّلام الملائكة: كيف تهلكون أهل هذه القرية وفيهم لوطٌ النّبيّ، وفيهم من آمن؟ فردّت عليه الملائكة كما قال سبحانه وتعالى في سورةٍ أخرى: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)﴾ {العنكبوت: من الآية 32}.
﴿ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾: فمسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوطٍ أمرٌ محسومٌ، وهؤلاء الملائكة جاؤوا لينفّذوا لا ليهدّدوا.
﴿ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ ﴾: أي لا يقدر أحدٌ على ردّ عذاب الله تبارك وتعالى.
﴿ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾: أي غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوعٍ.
الآية رقم (77) - وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ﴾: شعر لوطٌ عليه السّلام بالاستياء، وضاق بهؤلاء الشّبّان الّذين جاؤوا إليه، وهم ملائكةٌ لكنّه لم يكن يعلم، فقد جاؤوه بهيئة شُبّانٍ حسانٍ فضاق بهم ذرعاً، والذّرع مأخوذةٌ من الذّراع الّتي فيها الكفّ والأصابع الّتي ندفع بها الأشياء، لذلك عبارة: ضُقت به ذرعاً؛ أي أنّ يدي لم تطله، وهو أمرٌ فوق قوّتي وطاقتي، وسيّدنا لوطٌ عليه السّلام ضاق بهم ذرعاً؛ لأنّه يعلم أنّ قومه قوم الفاحشة الكبيرة، لذلك يتبيّن لنا هنا ما الّذي يسيء لوطاً عليه السّلام بمجيء شبّانٍ حسانٍ.
﴿ وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾: يومٌ شديدٌ عصيبٌ، من عصبصب وتعني الضّيّق.
الآية رقم (78) - وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
﴿ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾: كانت زوجة لوطٍ تعلم آفة قومه لكنّها كانت موافقةً عليها، يُقال: إنّها تنبّهت لمجيء الرّجال، وهي لم تعلم أنّهم ملائكة، فصعدت إلى سطح المنزل وصفّقت لعلّ القوم ينتبهون لها، فلم يلتفت إليها أحدٌ، فأشعلت ناراً فانتبه لها القوم، فأشارت لهم عن مجيء ضيوفٍ إلى سيّدنا لوطٍ عليه السّلام فجاؤوا يهرعون؛ أي يُسرعون إليه في تدافقٍ، والإنسان إذا لم يكن قد مرِن على الشّرّ وله به دُربةٌ فإنّه يكون متردّداً، أمّا هؤلاء فقد جاؤوه يُهرعون؛ أي أنّ لهم دُربةً على الشّرّ والفاحشة بجرأةٍ، وكلمة: ﴿ يُهْرَعُونَ ﴾ يأتي بعدها فاعلٌ وليس نائب فاعلٍ، نبني الفعل للمجهول، ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلاً، وهذا من إعجاز البيان القرآنيّ.
﴿ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾: هذه المسألة كانت محبّبةً عندهم، فلا حياء يمنعهم عنها.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾: فكّر لوطٌ عليه السّلام أن يصرفهم من جنس اندفاعهم، فبيّن أنّ المرأة مخلوقةٌ لتكون مكمّلةً للرّجل، والرّجل مكمّلٌ للمرأة، وأخبرهم أنّ باستطاعتهم أن يتزوّجوا من بناته، وكان في أيّام لوطٍ عليه السّلام لا يُمنع أن يزوّج المؤمن ابنته لغير المؤمن.
كان لوطٌ عليه السّلام يقصد بنات المؤمنين به، وليس بناته من صلبه فقط، فقد قيل: إنّ لوطاً عليه السّلام كان عنده بنتان، لذلك المقصود بنات المؤمنين به؛ أي تزوّجوا بالشّكل الطّبيعيّ.
﴿ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾: لعلّهم يرجعون عن الفواحش ويحفظون كرامته أمام ضيوفه، وكلمة ضيف جاءت هنا مفردةً، وهي تطلق أيضاً على الجمع وعلى المثنّى، وتصلح للدّلالة على المذكّر وعلى المؤنّث، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ {الذّاريات}،
﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾: ألا يوجد بينكم رجلٌ له عقلٌ ومروءةٌ وكرامةٌ يمنع هذه الفاحشة الخطيرة؟!
الآية رقم (79) - قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
هذه الآية تبيّن ردّ المتدافعين من قوم لوطٍ عليه السّلام طلباً للفحشاء، فقد أعرضوا عن قبول النّصح بالزّواج من بنات المؤمنين بدلاً من طلب فعل الفاحشة مع ضيوف لوطٍ عليه السّلام الّذين كانوا عنده.
الآية رقم (80) - قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ
﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾: لو: للتّمنّي؛ أي رجاء أن يكون له قوّةٌ يستطيع أن يدفع بها هؤلاء، ولا بدّ من وجود شرطٍ، كقولنا: لو أنّ زيداً عندك لجئتك، لكنّنا نجد هنا شرطاً ولا يوجد جوابٌ للشّرط.
﴿ أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾: الشّديد هو المتجمّع تجمّعاً يصعب فصله، قال لوطٌ عليه السّلام ذلك؛ لأنّه لم يكن في مَنعةٍ من قومه أهل سدوم، وقد قال النّبيّ ﷺ: «يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ»([1])، فهو يأوي إلى الله سبحانه وتعالى، لكنّ القضيّة ليست سهلةً، فقد قال هذا القول وهو يعلم أنّه لا يوجد سندٌ أو ركنٌ شديدٌ إلّا الحقّ سبحانه وتعالى.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، باب سورة يوسف، الحديث رقم (4417).
الآية رقم (81) - قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ﴾: بيّنت الملائكة مَن هم، فعلم لوطٌ عليه السّلام أنّهم رسلٌ من عند الله سبحانه وتعالى، وأنّ الأمر منتهٍ.
﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ ﴾: أي اخرج بأهلك في جزءٍ من اللّيل، والمقصود أن يترك الرّبع الأوّل من اللّيل وربعه الآخر، ويسير في نصف اللّيل الّذي بعد الرّبع الأوّل وينتهي عند ربع اللّيل الأخير.
﴿ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾: معنى الالتفات باللّغة العربيّة: الانصراف عن الشّيء الموجود أمامك؛ أي لا تنظروا إلى ما سيحدث، ونعلم أنّ لوطاً عليه السّلام سيصحب المؤمنين معه من ديارهم وأموالهم وما ألفوه من حياةٍ، لذلك تنبّههم الملائكة ألّا تتّجه قلوبهم إلى ما تركوه، وعليهم أن يقوا أنفسهم، وسيعوّضهم الله سبحانه وتعالى خيراً ممّا فاتهم، وقد يكون أيضاً المقصود الالتفات الحسّيّ.
﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ﴾: توصي الملائكة لوطاً عليه السّلام ألّا يصحب امرأته معه، فقد خانته بموالاتها للقوم المفسدين، وأفشت الأسرار، فعليه أن يتركها مع الّذين يصيبهم العذاب.
﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ﴾: حدّدوا الصّبح لإهلاكهم؛ لأنّه وقت الهدوء فيكون العذاب أشدّ نكالاً.
﴿ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾: الإنذار كان قريباً جدّاً.
الآية رقم (56) - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم﴾: يعلن هودٌ عليه السّلام حقيقة التّوكّل.
﴿مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾: فهو يتوكّل على الله سبحانه وتعالى الآخذ بناصية كلّ دابّةٍ، والنّاصية: هي مقدّمة الرّأس، فكلّ دابّةٍ تدبّ على الأرض لها حريّةٌ وحركةٌ، والله سبحانه وتعالى آخذٌ بناصيتها.
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: نلحظ هنا أنّ هوداً عليه السّلام قال في بداية الآية: ﴿ رَبِّي وَرَبِّكُم ﴾، وبآخرها قال: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾؛ لأنّ القول من عند الله سبحانه وتعالى، هم كانوا قادحين ومتذمّرين ولم يكونوا يقبلون بربوبيّة الله فقال لهم: ﴿ رَبِّي وَرَبِّكُم﴾ ، أمّا في نهاية الآية: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ، هنا يصف أنّ الإله الواحد سبحانه وتعالى له مطلق العدالة ومنتهى القدرة والقهر والسّيطرة، ولا شيء يفلت من قدرته سبحانه وتعالى، فقدرة الله جلَّ جلاله لا متناهية وهو لا يستعمل قهره في ظلمٍ.
الآية رقم (57) - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
﴿ فَإِن تَوَلَّوْا ﴾: أصلها في اللّغة: تتولّوا، عندما تأتي تاءان متتاليتان يُقتصر على تاءٍ واحدةٍ.
﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾: فقد أبلغتكم المنهج الّذي أُرسلت به إليكم، ولا عذر لكم عندي؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعذّب قوماً وهم غافلون، لذلك أرسلني إليكم.
﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾: والاستخلاف أن يوجد قومٌ خلفاء لقومٍ يأتون بعدهم.
﴿ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ﴾: عندما لا يؤمن قومٌ فهم لا يضرّون الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث القدسيّ: «يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً»([1])، فالله سبحانه وتعالى رقيبٌ؛ لأنّه قيّومٌ قائمٌ على أمور كونه كلّها، بعض الفلاسفة قالوا: إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون ونواميس الكون، ثمّ تركها تقوم بعملها، نقول لهؤلاء: لقد أخطأتم، فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيّوميّة لله سبحانه وتعالى؟ فهو القائم على كلّ نفسٍ بما كسبت، وهو القائل جلَّ جلاله: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ {البقرة: من الآية 255}، وسبحانه عندما يقول هذا فإنّه يطمئن العباد ليناموا ويرتاحوا؛ لأنّه سبحانه وتعالى مُنزّهٌ عن النّوم والغفلة، بل هو قيّومٌ والحفظ والرّعاية والعناية منه جلَّ جلاله، وهذا ما يؤمن به هودٌ عليه السّلام.
([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).
الآية رقم (58) - وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾: هناك آمرٌ وأمرٌ، وبمجرّد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التّنفيذ؛ لأنّه جلَّ جلاله يأمر من لا قدرة له على رفض الأمر، وقد تحقّق هذا العذاب بطريقةٍ خاصّةٍ ودقيقةٍ تتناسب في دقّتها مع عظمة الله تعالى، فتأتي ريحٌ صرصرٌ، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)﴾ {الحاقّة}، وما دام العذاب بقوّةٍ من خارج الإنسان بتوجيهٍ من الله سبحانه وتعالى فهو عمّ كلّ المكذّبين لسيّدنا هودٍ عليه السّلام لكن يُفترض حسب الّذين يتفلسفون أن يعمّ المصدّقين والمكذّبين، لكنّها قدرة التّقدير لا قوّة التّدمير، تقديرٌ إلهيٌّ، كالحجارة الّتي رمتها الطّير الأبابيل على أبرهة الحبشيّ وجنوده مع نجاة قريش، وليس كما قال بعضهم: بأنّه الطّاعون.
﴿ نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾: فلا تقل: كيف نجوا من العذاب الجامع العامّ؟ فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ بِرَحْمَةٍ ﴾ ؛ لأنّ الرّحمة هي ألّا يمسّ الإنسان الضّرّ.
﴿ وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾: النّجاة الأولى من العذاب الجامع، وهو الرّيح الصّرصر، وهنا نجاةٌ من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدّنيا مع قسوته إلّا أنّه موقوتٌ بعمر الدّنيا.
الآية رقم (59) - وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
﴿ وَتِلْكَ عَادٌ ﴾: إشارةٌ إلى المكان الّذي عاش فيه قوم عاد؛ لأنّ الإشارة هنا لمؤنّث (تلك)؛ أي الدّيار، والمتكلّم هو الله سبحانه وتعالى، وهكذا فصل جلَّ جلاله بين عادٍ المكان وعادٍ المكين؛ أي قوم عاد، والدّيار لم تجحد بآيات الله سبحانه وتعالى ولذلك جاء بعدها قول الحقّ:
﴿ جَحَدُوا ﴾: الجحود: هو النّكران مع قوّة الحجّة والبرهان.
﴿ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾: الآيات هي الأمور العجيبة اللّافتة للنّظر بشكلٍ يؤدّي إلى الإيمان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾ {آل عمران}، من الآيات ما يدلّ على قمّة العقيدة وهو الإيمان بواجب الوجود، الله الرّبّ الخالق الحكيم القادر سبحانه وتعالى، كآيات الشّمس واللّيل والقمر والنّهار… إلى آخر تلك الآيات، فقوم عادٍ جحدوا بالآيات كلّها وبالإيمان وبتصديق الرّسول، وتركوا منهج الله سبحانه وتعالى، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾: لم يقل: وعصوا رسوله، وقد أُرسل هوداً عليه السّلام إليهم، فالرّسول يمثّل الرّسل كلّهم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ ﴾
{آل عمران: من الآية 81}، عندما نقول: رسول، فالرّسول هو النّبيّ محمّد ﷺ، والرّسل كلّهم آمنوا برسول الله ﷺ، وعلينا أن نصدّق أخبار الرّسل عليهم السَّلام كلّها، فهؤلاء عصَوا الرّسل.
﴿ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾: أي أنّ هناك مُتَّبِعاً ومُتَّبَعاً، الجبّار العنيد وهو الجبّار الطّاغي، والقسم الثّاني هم الأناس الّذين اتّبعوهم، والله سبحانه وتعالى يُفرّق بين هؤلاء وبين هؤلاء، فهناك من ضلّ في ذاته، وهناك مُضلَّل من غيره.
الآية رقم (60) - وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾: الزّمان بالنّسبة للخلق ثلاثة أقسامٍ، الحياة الدّنيا هو الزّمن الأوّل، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم السّاعة زمنٌ ثانٍ هو البرزخ، والزّمن الثّالث عند البعث والقيام من القبور للحساب، الحياة الأولى فيها العمل، كما قال سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه: “اليوم عملٌ ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل”، أمّا حياة البرزخ ففيها عرضٌ للجزاء، والحياة الآخرة إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) ﴾ {البقرة}، هذه هي الأزمنة الثّلاثة، ويُعبّر القرآن الكريم عن هذا فيقول عن عذاب القبر مثلاً عند حديثه عن آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه وتعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) ﴾ {غافر}، النّار الّتي يُعرضون عليها لم تقم السّاعة بعد، وهذا دليلٌ على أنّ عرض الجزاء يكون في البرزخ، وقد قال النّبيّ ﷺ: «إنّما القبر روضةٌ من رياض الجنّة، أو حفرةٌ من حفر النّار»([1])، فالفاسق والكافر لا يُعذَّب بالنّار لكنّه يُعذَّب في القبر؛ لأنّه يُعرض على النّار، فيوجد زمنان، زمن العرض على النّار غدوّاً وعشيّاً، وزمن دخول النّار، وهذا يُثبت بشكلٍ قطعيٍّ عذاب البرزخ، فبمجرّد أنّه يرى موقعه من النّار ويرى نصيبه من العذاب فهذا جزءٌ من العذاب، ثمّ تقوم السّاعة ليأخذ نصيبه من العذاب، بالنّسبة لقوم عادٍ أذاقهم الله سبحانه وتعالى العذاب في الدّنيا ثمّ يُدخلهم النّار يوم القيامة.
﴿ أَلَا ﴾: أداة تنبيهٍ، ليتنبّه السّامع لأهميّة ما سيتلقّى.
﴿ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ﴾: جاء الحقّ سبحانه وتعالى بحيثيّة هذه اللّعنات وهي أنّهم كفروا ربّهم.
([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 26، الحديث رقم (2460).