الآية رقم (74) - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

لـمّا ذكر سبحانه وتعالى حكم المؤمنين في الدّنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، وأنّه سبحانه وتعالى سيجازيهم بالمغفرة والصّفح عن ذنوبهم، وبالرّزق الكريم وهو الحسن الكثير الطّيّب.

(لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): لهم مغفرةٌ من الله سبحانه وتعالى، والرّزق يأتي للإنسان ولا يأتيه الإنسان، وقد يكون بالاستقامة أو بالأخلاق أو بالعلم أو قد يكون بأيّ أمرٍ من الأمور.

الآية رقم (75) - وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ): لأنّه سيأتي أناسٌ لم يكونوا قد آمنوا.

(وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ): هذا إخبارٌ عن المستقبل.

(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ): مثّل الله سبحانه وتعالى الرّحم الإيمانيّة بالرّحم الحقيقيّة، وقد أولى الإسلام صلة الأرحام عنايةً خاصّةً، قال :: «إنّ للرّحم لساناً ذلقاً يقول يوم القيامة: ربِّ صِلْ مَن وصلني، واقطعْ مَن قطعني»([1])، أمّا الرّحم الإيمانيّة فقد قال عنها سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: من الآية 10]، فيجب أن تكون هناك هذه الأخوّة وهذه المحبّة الّتي تؤدّي إلى التّعاضد والتّكاتف والتّناصر كما قال :: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»([2]).


 ([1]) شعب الإيمان: السّادس والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في صلة الأرحام، الحديث رقم (7936).
([2]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، الحديث رقم (2586).

الآية رقم (66) - الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ

التّرخيص بالحكم بيّنه الله سبحانه وتعالى بأنّ هناك طاقة قوّةٍ للمؤمنين في معركة بدر؛ لأنّها المعركة الأولى والفاصلة، لذلك واحدٌ يُقابل عشرة، بينما في المعارك الأخرى وفي الحالات العاديّة بعد مرور الزّمن سيكون واحدٌ مقابل اثنين، وهذا هو التّخفيف.

(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): علّة الغلبة هي الصّبر، والصّبر نصف الإيمان، وقال سبحانه وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ) [البقرة: من الآية 45]، وهو أساسٌ في الانتصار، والإنسان إذا أدخل نفسه في معيّة الله سبحانه وتعالى فلن يُغلب؛ لأنّ القوّة الّتي لا تُقهر تكون إلى جانبه، فالله سبحانه وتعالى يكون ناصره ومعينه ومتولّيه ووكيله.

الآية رقم (67) - مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

قلنا: بأنّ المعارك الّتي تمّت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين إنّما كانت لردّ الاعتداء وليست من أجل نشر الدّين، ولم يؤذن للمؤمنين أن يقاتلوا إلّا عندما اُعتدي عليهم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)  [الحجّ: من الآية 39]، وهذا القتال هو دفاعٌ عن النّفس والأرض والعرض والوطن، وهو أمرٌ مشروعٌ في قوانين السّماء والأرض كلّها، وبما أنّها الموقعة الأولى والمرّة الأولى الّتي يحدث فيها قتالٌ، فسيكون هناك أسرى، وقد اختُلف في موضوعهم، لذلك بيّن الله سبحانه وتعالى لهم الحكم بعد الفعل:

(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ): لا بدّ من التّمكين في الأرض أوّلاً، ثمّ تكون هناك مبادلةٌ للأسرى، ليصبح للمؤمنين قوّةٌ توازي قوّة المشركين حتّى يكون الأمر بالفعل وردّ الفعل والمساواة.

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ): لا تبحثوا عن الأمر الدّنيويّ وعن عَرَضٍ زائل في الدّنيا، فالله جلّ وعلا يريد منكم أن تبحثوا دائماً عن الآخرة.

الآية رقم (68) - لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

أي أنّ الله سبحانه وتعالى كتب أنّه لا يُحاسب إلّا إذا بلّغ ووضّح وأمر ونهى وبعد ذلك يُحاسب، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)  [الإسراء: من الآية 15].

الآية رقم (69) - فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ): ما أخذتم من غنائم هو حلالٌ وطيّبٌ، فيحلّ لكم الأكل منه؛ لأنّكم غنمتموه في موقعة بدر.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ): وقبل كلّ شيءٍ، وبعد كلّ شيءٍ الأمر بتقوى الله تعالى؛ لأنّ تقوى الله سبحانه وتعالى هي المحرّك الأساسيّ لقلوب المؤمنين، وهي أن تجعل الله سبحانه وتعالى دائماً في خاطرك وبالك وتلتزم أوامره سبحانه وتعالى ، وتجعل بينك وبين صفات غضبه حاجزاً؛ أي ألّا تفعل ما يغضبه جلّ وعلا.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): والله سبحانه وتعالى يغفر الذّنوب ويرحم العباد وعطاؤه واسعٌ.

الآية رقم (70) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

سبب النّزول: نزلت في سيّدنا العبّاس رضي الله عنه عندما أُخذ منه الفداء عند أسره في غزوة بدرٍ.

الآية رقم (71) - وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

إن أرادوا خيانتك يا محمّد، وكانت النّيّة هي تبييت الخيانة وعدم الوفاء بالأمانة فإنّهم خانوا الله عزّ وجلّ عندما أشركوا به سبحانه وتعالى عبادة الأوثان والأصنام.

(مِن قَبْلُ): من قبل بدر بالكفر به سبحانه وتعالى.

(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ): ومع ذلك فقد أمكن الله سبحانه وتعالى منهم؛ أي بالأسر يوم بدر.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): هو يعلم من هو خائنٌ ومن سيخون ومن يُخفي ويبيّت الخيانة في نفسه.

الآية رقم (72) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

يعدّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أصناف المؤمنين:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا): المهاجرون الّذين تركوا ديارهم وأموالهم في مكّة وجاؤوا إلى المدينة.

(وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): وخرجوا يوم بدر وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك.

(وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا): الأنصار أهل المدينة الّذين آووهم ونصروهم.

(أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ): هذا ما كان فعلاً، فكلّ إنسانٍ من الأنصار جعل من بيته وسكنه نصيباً لأخيه من المهاجرين، فكان كلٌّ منهم أحقّ بالآخر من كلّ أحدٍ؛ ولهذا آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، كلّ اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدّماً على القرابة، حتّى نسخ الله سبحانه وتعالى ذلك بالمواريث.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا): الّذين آمنوا ولكن لم يهاجروا بل بقوا من أجل أموالهم.

(مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ): لن تستطيعوا أن توالوهم حتّى يهاجروا ويكونوا في المدينة.

(وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ): إن استنصروكم وأوذوا وعُذّبوا واضطهدوا في دينهم فعليكم أن تقوموا بنصرهم.

(إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ): إلّا إن كان هناك ميثاقٌ بينكم وبين من استنصروا عليهم؛ لأنّ الإسلام يؤمن بالمواثيق والعهود، فالإسلام ليس همجيّاً، وليس دين قتلٍ وإرهابٍ، فحتّى إن استنصروكم في الدّين فعليكم أن تنصروهم إلّا على قومٍ بينكم وبينهم معاهدات ومواثيق.

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): الله سبحانه وتعالى بصيرٌ بكلّ ما يجري في الكون، وهو مطّلعٌ على خائنة الأعين وما تخفي الصّدور.

الآية رقم (73) - وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ): وهذا ما نراه من اليهود ومشركي العرب في ذلك الوقت، كيف أنّهم تولّوا بعضهم بعضاً وناصروا بعضهم بعضاً في مواجهة الرّسول الكريم، كما نرى إسرائيل والولايات المتحدّة الأمريكيّة والغرب كيف يتناصرون علينا جميعاً، وهذا مِصداقٌ لقول الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ): إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وتكونوا يداً واحدةً، بهذه اللُّحمة الإيمانيّة الّتي بيّنها الله سبحانه وتعالى ، فإنّه ستكون هناك فتنةٌ وفساد كبيرٌ؛ لأنّ هؤلاء المعتدين والمجرمين والقتلة من اليهود ومشركي العرب سيدخلون بينكم، وتُثبت أحداث التّاريخ صحّة القول القرآنيّ ففي كلّ يومٍ نجد إصبعاً لليهود ولأعداء الإسلام في الجرائم الّتي نراها ماثلةً أمام أعيننا، وفي كلّ ما يجري.

الآية رقم (63) - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

فالمجتمع إذا لم يكن متآلفاً على قلب رجلٍ واحدٍ مع وحدة الصّفّ والكلمة والهدف لا يمكن أن ينتصر.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ): والإلف: هو الاجتماع مع التئامٍ، فقد كانوا يتقاتلون من أجل جملٍ ومن أجل بيت شعرٍ.. وكان هناك ضغينةٌ بين القبائل وتفرّقٌ هائلٌ، فلا تستطيع يا محمّد لا أنت ولا أيّ إنسانٍ من البشر أن يؤلّف بين قلوب هؤلاء المتفرّقين.

(لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ): لأنّ مُلك الأرض يستطيع أن يؤثّر على أيّ شيء إلّا على القلوب، لا تستطيع أن تدفع للإنسان مبلغاً كبيراً من المال وتقول له: أحبّني؛ لأنّ الحبّ لا يُشترى ولا يُباع، فلو تظاهر بالحبّ فإنّك لا تستطيع أن تؤثّر على قلبه.

(وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ): فالقلوب بيد الله سبحانه وتعالى كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحدٍ يصرّفه حيث يشاء»([1]).


([1]) صحيح مسلم: كتاب القدر، باب تصريف الله I القلوب كيف شاء، الحديث رقم (2654).

الآية رقم (53) - ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

أعطى الله سبحانه وتعالى النّعم للنّاس، سبحانه وتعالى وهو سبحانه وتعالى لا يتغيّر، ولكنّ الإنسان هو من يتغيّر، لذلك عليه ألّا يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يتغيّر من أجله، ولكن عليه أن يتغيّر هو من أجل ربّه جلّ وعلا، لذلك يقول سبحانه وتعالى هنا: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فإذا تغيّروا، وبدّلوا الكفر بالإيمان، والكذب بالصّدق، والخيانة بالأمانة، والرّذائل بالأخلاق.. فإنّ الله سبحانه وتعالى يسلّط عليهم الابتلاءات وتذهب عنهم النّعم الّتي أعطاهم إيّاها، ولا يمكن أن يحدث أيّ تغييرٍ ما لم يغيّر الإنسان عاداته السّلبيّة والسّيّئة إلى الخير والحسن، وقد ذكرنا سابقاً أنّ الجرائم الظاهرة لا تكون إلّا من خلال أمراضٍ نفسيّةٍ داخليّةٍ، فقوانين البشر كلّها تحرس المجتمعات من الجرائم الظّاهرة، وعين القانون لا ترى الجرائم الباطنة الخفيّة الّتي تكون داخل القلوب من حسدٍ وحقدٍ وضغينةٍ

الآية رقم (64) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ): الله سبحانه وتعالى يخاطب الأنبياء جميعاً بأسمائهم (يَا آدَمُ اسْكُنْ) [البقرة: من الآية 35]،(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ) [هود: من الآية 76]،(يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود: من الآية 46]،(َيا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) [الأعراف: من الآية 144]، (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ) [المائدة: من الآية 110]، الأنبياء كلّهم بالاسم إلّا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول له: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة: من الآية 67]، ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)  [الأحزاب]، أو يقول كما في هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ)، فالخطاب فيه مكانةٌ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فهو الرّسول الخاتم إلى البشريّة جمعاء، ولذلك كرّمه الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب.

وعندما يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) فهو فيما يتعلّق بالرّسالة والتّنزيل، عندما يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) فهو فيما يتعلّق بالسّلوكيّات.

(حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): أي: الله سبحانه وتعالى هو حسبك وحسب من اتّبعك من المؤمنين، هذا تفسيرٌ، وهناك تفسيرٌ آخر أنّ الله سبحانه وتعالى لا يحتاج للأسباب حتّى يأتيك بالنّصر، ولكن عليك الأخذ بالأسباب والّتي تتمثّل هنا بقوّة المؤمنين الموجودين معك، فهذه تصحّ وهذه تصحّ والله أعلم.

الآية رقم (54) - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ

قد يسأل بعضهم: لماذا هذا التّكرار؟ في الآية السّابقة قال: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) كفروا بآيات الله سبحانه وتعالى، وهنا أنكروا نعم الله تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ).

(فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ): نصّ هنا صراحةً على الإغراق الّذي تمّ لفرعون وآله.

(وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ): الحديث هنا كان عن الجحود والكفر بالله سبحانه وتعالى كما فعل فرعون، وهناك كان الحديث عن النّعم الّتي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليهم فجحدوا بها، لذلك ليس هناك تكرارٌ بين الآيتين وإنّما هناك أسرارٌ.

الآية رقم (65) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ

حَرِّضِ: حُثَّ، وشدّد الرّغبة فيه، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه أن يحرّض المؤمنين ويحمّسهم يوم معركة بدر على قتال المشركين؛ لأنّه كان هناك خيارٌ ما بين العير والنّفير، وكان عدد المسلمين قليلاً.

(إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ): واحدٌ مقابل عشرة، هذا معيارٌ إيمانيٌّ عالٍ جدّاً فالمعركة إيمانيّةٌ، والمؤمن بإيمانه بربّه وبرسالته يكون كما بيّن المعيار يُقابل عشرة.

(وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا): لماذا لم يقل: واحدٌ مقابل عشرة، بشكلٍ مباشر؟ لأنّ عدد المشاركين بالمعارك والسّرايا يختلف، فهناك كتيبةٌ من عشرة صحابة، وهناك مجموعةٌ من عشرين.. فالله تعالى يبيّن هذه المجموعات الّتي كانت تقاتل في معركة بدرٍ الكبرى.

(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ): أي: لا يفقهون ولا يعلمون ولا يؤمنون بأنّ هذه الحياة الدّنيا إنّما هي مزرعةٌ للآخرة، وأنّ هناك جنّةٌ ونار، لذلك المؤمن يكون ذا عزيمةٍ وشكيمةٍ أعظم من أولئك المشركين.

الآية رقم (55) - إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ

(الدَّوَابِّ): كلّ ما يدبّ على الأرض، وتطلق على الّذي يدبّ على أربع، وقد استخدم المولى سبحانه وتعالى عبارة الدّوابّ في الّذين أشركوا؛ لأنّ الدّوابّ إنّما تسير بالغريزة، وليس لها عقلٌ ليختار بين البدائل، فالعقل من أجل أن يختار الإنسان بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشّرّ.

الآية رقم (56) - الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ

انتقل المولى سبحانه وتعالى من الحديث عن جوّ معركة بدر إلى التّآمر اليهوديّ ونقض العهود، (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [ المائدة].

(الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ): من الّذين نقضوا العهد؟ هم بنو قريظة الّذين أمدّوا المشركين بالسّلاح وأعلموهم بخروج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه، وتآمروا من داخل المدينة، مع أنّ هناك عهوداً ومواثيق وقّعها النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام معهم ولكنّهم نكثوا العهد، ودائماً ديدن اليهود نقض العهود، فهم لا عهد لهم ولا سلام معهم؛ لأنّهم يحتالون وهذه طبيعتهم كما بيّنها القرآن الكريم.

(فِي كُلِّ مَرَّةٍ): ليست في هذه المرّة فقط، وإنّما في كلّ مرّةٍ توقّع معهم مواثيق وعهود سينقضونها، وهذا ما حدث في معركة الخندق عندما تآمر اليهود عليه جميعهم.

(وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ): التّوراة نزلت عليهم وهم أهل كتاب، فمن المفترض أن يتّقوا الله تبارك وتعالى وأن يقفوا إلى جانب ما وثّقوه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

الآية رقم (57) - فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

(فَإِمَّا ): إن شرطيّة مدغمة هنا بما.

(تَثْقَفَنَّهُمْ): كلّما وجدتهم بالحرب.

(فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ): أي اجعل هؤلاء عبرةً لمن خلفهم حتّى لا يحتشدوا من ورائهم، كما يقال: الضّربة القويّة تخيف الآخرين، فإمّا تلقاهم يا محمّد، فعليك أن تشرّد بهم من خلفهم وهم اليهود الّذين كانوا يحرّضونهم ويمدّونهم بالسّلاح.

الآية رقم (58) - وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ

(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً): يأمر الإسلام بالوفاء بالعهود، فإذا وصل إليك بأنّهم سيخونون فلا تأخذهم على غرّة.

(فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ): أي أخبرهم وبيّن لهم؛ لأنّ الإسلام لا يتعلّق فقط بالمسلمين، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [النّساء ]، لتحكم بين النّاس، مع ذلك المطلوب منك يا رسول الله إن خفت من قومٍ فابعث إليهم وبيّن لهم بأنّهم خانوا العهد قبل أن تتمّ أيّ معركة.

(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ): نجد في كثيرٍ من الآيات القرآنيّة قوله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: من الآية 57]،(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: من الآية 190]، (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: من الآية 32]، (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)، عندما نتتبّع في القرآن الكريم عن الّذين لا يحبّهم الله سبحانه وتعالى نجد أنّ عناصر الفساد والسّوء كلّها هي الّتي لا يحبّها الله تعالى، والمطلوب منك أن تكون دائماً على صلاحٍ وعلى أخلاقٍ وقيم حتّى فيمن فعل معك ذلك، فإنّ هناك أمانةً هي أن تأخذ بالقوّة، لكن عليك أن تبلّغ بأنّ هذا العهد والميثاق قد سقط نتيجة هذه الخيانة.

الآية رقم (59) - وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ

(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ): في معركة بدر كان من المشركين مَن قُتل كأبي جهلٍ وغيره، ومنهم مَن أُسر ومنهم من استطاع أن يهرب كأبي سفيان وغيره، فلا يعتقدون أبداً أنّهم استطاعوا بالسّبق أن يهربوا من القتال.

(إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ): فهم في قبضة المشيئة الإلهيّة وهم لا يعجزون الله تعالى هرباً.