الآية رقم (9) - إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾: لم يقل المطعمون ذلك حينما أطعموا المسكين واليتيم والأسير، إنّما عَلِمَ الله تعالى من قلوبهم ونيّاتهم، فمدح ما عليه قلوبهم وحسن توجّههم وذكر ما أتوا به، وهم يعلمون أنّ من أطعموهم لا يملكون لهم جزاء ولا شكوراً، فلن يستطيعوا ردّ ما فعلوه.

والإطعام يكون لوجه الله تعالى رغبةً في رضاه عز وجل، لذلك نحن نضع الإخلاص أوّلاً في كلّ عملٍ، فقد يكون العمل واحداً أمام النّاس، ولكن هذا يأخذ ثواباً وذلك يأخذ به وزراً وعذاباً، الفارق هو الإخلاص، فالمهمّ أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل، قد يقول إنسانٌ: الإخلاص مكانه القلب، وما دام الإنسان لا يؤذي أحداً، ولا يفعل منكراً، فليس من الضّروريّ أن يصلّي ما دامت النّيّة خالصة، نقول: إنّ المسألة ليست نيّات فقط، ولكنّها أعمال، بدليل قول النّبيّ ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»([1])، فلا بدّ من عمل بعد النّيّة؛ لأنّ النّيّة تنتفع بها وحدك، والعمل يعود على النّاس، فإذا كان في نيّتك أن تتصدّق وتصدّقت وانتفع الفقراء بمالك، فالعمل الإيمانيّ ما كان لله تعالى خالصاً وعلى قدر الإخلاص يكون الجزاء.

﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾: والمجازاة هي المكافأة لما أُسديَ إليه، والشّكر هو الثّناء عليه، فلا نريد منكم مكافأة في الدّنيا ولا ثواباً في الآخرة.

والشّكور مصدر كالقعود والدّخول والخروج، فمعنى: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾؛ أي: لانطلب منكم مجازاة تكافئونا بها، ولا أن تشكرونا عند النّاس.

([1]) صحيح البخاريّ: بَابُ بَدْءِ الوَحْيِ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ,، الحديث رقم (1).

الآية رقم (10) - إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا

هم يطعمون المسكين واليتيم والأسير ابتغاء وجه الله تعالى لا لشيءٍ من مكافأة ولا ثناء ولا شكر، بل ابتغاء مرضاته تعالى وحده، وخوفاً من يومٍ عبوسٍ قمطرير، فوجوههم مسودّة تعبس وتتجهّم من هول ذلك اليوم وشدّته، ولا تكون منبسطة مسرورة، يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزّمر].

﴿عَبُوسًا﴾: العبوس شيءٌ يُضاف إلى سواد الوجه يقبض الإنسان ما بين عينيه، حتّى أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: “يعبس الكافر يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه مثل القطران”، وقد يكون العبوس صفة لليوم نفسه، فهو يعبس كالإنسان العبوس، فهو يومٌ متجهّم أسود حالك السّواد، فوصف الله تعالى اليوم بصفة أهله من الأشقياء ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾: نخاف عذاب يوم تعبس فيه الوجوه أشدّ العبوس من شدّة مكاره هذا اليوم وطول بلائه.

﴿قَمْطَرِيرًا﴾: أمّا القمطرير فهو الصّعب الشّديد، أشدّ ما يكون من الأيّام وأطوله في البلاء، فهو يومٌ طويل الشّرّ، وإذا كان العبوس بالشّفتين فإنّ القمطرير بالجبهة والحاجبين.

الآية رقم (2) - إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا

﴿إِنَّا﴾: إذا تحدّث الله تعالى عن فعلٍ يحتاج إلى كمال المواهب منه عز وجل، يقول: ﴿إِنَّا﴾، ففي الفعل الّذي يفعله تعالى يأتي بنون العظمة حتّى نفهم أنّ الفعل منه عز وجل ليس وليد قدرته وحدها ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها، وإنّما كلّ فعلٍ من أفعال الله تعالى تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله تعالى، وإنّ نون العظمة تأتي لتلفتنا إلى هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصّفات في الله تعالى؛ لأنّك قد تقدر ولا تعلم، وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة، فتكامل الصّفات مطلوبٌ، فكلّ فعلٍ من أفعال الله تعالى يقتضي حشداً من الصّفات، علماً وإرادة وقدوة وحكمة وقبضاً وبسطاً وإعزازاً وإذلالاً وقهّاريّة ورحمانيّة.

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾: فالله تعالى خلق الإنسان الّذي هو ولد آدم من نطفة؛ أي: مني الرّجل ومني المرأة يختلطان ببعضهما، فقال تعالى: ﴿أَمْشَاجٍ﴾؛ أي: أخلاط، يختلطان في رحم المرأة، فماء الرّجل غليظ أبيض فمنه العصب والعظم والقوّة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة فمنها اللّحم والدّم والشّعر والظّفر، وقد ذهب بعضهم إلى أنّ الأمشاج هي العروق الّتي تكون في النّطفة، والمشج أيضاً المزج، فقد امتزج الماءان فتكوّنت منهما العلقة، وينتقل هذا المزيج من طورٍ إلى طور، ومن حالٍ إلى حال، ومن لونٍ إلى لون.

فيقول تعالى: ونحن إنّما خلقنا الإنسان من نطفةٍ اختلط فيها ماء الرّجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره بالتّكليف فيما بعد إذا شبّ وبلغ الحلم.

وربّما كانت ﴿أَمْشَاجٍ﴾ إشارة إلى تكوّن النّطفة من خليّة الذكر وبويضة الأنثى بعد التّلقيح، وربّما كانت هذه الأخلاط تعني الجينات الكامنة في النّطفة، وهي وحدات الوراثة الحاملة للصّفات المميّزة لجنس الإنسان أوّلاً، ولصفات الجنين العائليّة أخيراً، فهذه الصّفات الوراثيّة والجينات المختلطة هي الّتي تأتي بهذا الإنسان الّذي تتمايز أخلاقه وتصرّفاته وطرق وأساليب تفكيره، وتختلط ردود أفعاله بين الحزن والفرح، بين الضّحك والبكاء، بين التّعقّل والجنون.

وإذا كان الحقّ تعالى بدأ الآية بالأمر المادّيّ من خلق الإنسان ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾، وهذا الأمر المادّيّ المحسّن نطفة رجل مع ماء امرأة يلتقيان ويختلطان ويصبحان مشيجاً أو مزيجاً ينتقل من حالة إلى حالة إلى أن يصبح إنساناً، ولكنّ الحقّ تعالى قال بعدها: ﴿نَبْتَلِيهِ﴾، فنقلنا الحقّ تعالى من الأمر المادّيّ للخلق إلى الأمر المعنويّ، وهو الابتلاء؛ أي: الاختبار، فالحقّ تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً ولا جزافاً ولا تسليةً، وإنّما خلقه ليبتليه ويمتحنه ويختبره، فـ ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ حال مقدّرة؛ أي: مريدين ابتلاءه حين تأهُّله.

﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾: فلأنّنا سنبتليه ونختبره ونمتحنه، فإنّنا جعلناه سميعاً بصيراً، فابتلاؤه يأتي بعد إعطائه وسائل الإدراك الّتي يدرك بها المحسَّات، وأهمّ تلك الوسائل الإدراكيّة السّمع والبصر.

الحقّ تعالى يتفضّل على هذا الإنسان الّذى كان تراباً مخلوطاً بماء، فأصبح طيناً، وظلّ حيناً طويلاً لم يكن شيئاً مذكوراً، بأن أسبغ عليه صفاتاً من صفاته فجعله سميعاً بصيراً، ومن السّمع والبصر تتكوّن المعلومات، فتنشأ عنده معلومات عقليّة. فوسائل الإدراك العلميّ في الإنسان هي السّمع والبصر والذّوق واللّمس والشّمّ، الّتي تعطي العلم للإنسان الّذي لم يكن يعلم شيئاً.

الآية رقم (3) - إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا

السّبيل: الطّريق وهو الصّراط، وسبيل الله المستقيم هو عبادة الله الحقّ وحده، والحقّ تعالى يدلّ النّاس على الطّريق المستقيم فيقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام]، وسبيل الله تعالى هو الطّريق المستقيم، فالطّريق المعوجّ يطيل المسافة، أمّا الخطّ المستقيم فهو أقصر الخطوط للوصول إلى الغاية، وكلمة: (السّبيل) و(الطّريق) كلّها أمور حسّيّة تدلّ على المعاني العقديّة المعنويّة، فيوضّحها الله تعالى بأمورٍ حسّيّة أمامنا.

والهداية هنا في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ﴾؛ أي: الدّلالة على السّبيل الموصل إلى الجنّة، وليست هداية التّوفيق والإعانة، لذلك قال تعالى: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، فالله تعالى أنعم علينا بإيجادنا من العدم، وأعدّ لنا الكون لاستقبالنا، وهيّأ لنا الرّزق وأسبابه ولا حيلة لنا فيه، وهذا إنّما يستحقّ الشّكر منّا، ومن رحمته تعالى أنّه علَّمنا صيغة الحمد، وجعل الشّكر له في كلمتين اثنتين هما: (الحمد لله)، فلو أنّه تركها من غير أن يحدّدها بكلمتين لكان من الصّعب على البشر أن يجدوا الصّيغة المناسبة ليحمدوا الله تعالى على هذا الكمال الإلهيّ، فمهما أوتي النّاس من بلاغة وقدرة على التّعبير، فهم عاجزون أن يصلوا إلى صيغة الحمد الّتي تليق بجلال المنعم عز وجل، فعطاء الله تعالى ومنعه العطاء يستوجبان الحمد، ووجود الله تعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد، فالله عز وجل يستحقّ الحمد لذاته، والحقّ تعالى ربط بين الشّكر والإيمان، فقال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾[النّساء: من الآية 147]، فلماذا وضع الله تعالى الشّكر مع الإيمان؟ لنعرف أوّلاً ما الشّكر؟ الشّكر هو إسداء ثناء إلى الـمُنعم ممّن نالته نعمته، وأمّا الإيمان فهو اليقين بأنّ الله تعالى واحدٌ، فالحقّ تعالى يدلّ الإنسان على الطّريق المستقيم: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، فإن آمن بأنّ الله تعالى يدلّه على طريق الحقّ والخير، فآمن بكتبه ورسله يكون قد شكر نعمة الله تعالى عليه، والشّكر يكون أوّلاً ثمّ يوجد الإيمان، فالشّكر عرفان إجماليّ، والإيمان عرفان تفصيليّ، والشّكر متعلّق بالنّعمة، والإيمان متعلّق بالذّات الّتي وهبت النّعمة، ولا بدّ أن يشكر الإنسان واهب النّعمة، ولو فطن النّاس لشكروا الأنبياء والرّسل على المنهج الّذي بلغوه عن الله تعالى؛ لأنّه يهديهم إلى حسن إدارة الدّنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنّة، وقد ذكر الحقّ تعالى الكفر مقابلاً للشّكر، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم]، وشاء تعالى أن يترك الشّكر للبشر على تلك النِّعَم، ولم يسخّرهم شاكرين، وقد وصف الحقّ تعالى أحد هؤلاء الشّاكرين نوحاً عليه السلام، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: من الآية 3]، وشكور صيغة مبالغة، فلم يقل تعالى: (شاكر)؛ لأنّ الشّاكر الّذي يشكر مرّة واحدة، أمّا الشّكور فهو الدّائب على الشّكر المداوم عليه، وكما يوجد في النّاس مَنْ هو شكور، ففيهم من هو كفور، ليس كافراً، بل (كفور)، وهي صيغة مبالغة من الكفر؛ لأنّه كفر وعمل على تكفير غيره، وهو كثير الكفر للنّعمة.

الآية رقم (4) - إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا

﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾: لقد أعددنا وهيّأنا، فالجنّة مُعَدّة وموجودة، ورسول الله ﷺ حينما يتكلّم عن الجنّة يقول: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ، حَتَّى لَوْ مَدَدْتُ يَدِي لَتَنَاوَلْتُ مِنْ قُطُوفِهَا»([1])، فالمسألة جاهزة وليست تحت الإعداد، ومن الّذي أعدّ؟ إنّه الله تعالى قوّة القوى وقدرة القدر هي الّتي تُعدّ، وسبحانه يعدّها على قدر سعة قدرته، والحقّ تعالى يذكر هنا تفاصيل ما أعدّ للكافرين فقال: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾، ثلاثة أشياء ضمن أشياء كثيرة أعدّها الله تعالى عذاباً للّذين كفروا وللظالمين: السّلاسل، الأغلال، السّعير، فيوثقون بالسّلاسل في الجحيم، وتُغَلّ أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال، فهم يقادون إلى جهنّم والسّلاسل في أيديهم، ولكنّهم يُقَيَّدون بالأغلال في مستقرّهم في جهنّم.

﴿سَلَاسِلَ﴾: السّلاسل جمع سلسلة وهي حلقات حديديّة متّصلة ببعضها.

﴿وَأَغْلَالًا﴾: الأغلال جمع غلّ، وهو الحديدة الّتي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة، فهي أطواق الحديد الّتي لها طرف في كلّ يد ليقيّدها، وطرف آخر معلّق في الرّقبة ليقلّل مساحة حركة اليدين لمزيد من الإذلال، وهناك الأصفاد، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾ [إبراهيم]، والأصفاد جمع صفد وهو القيد الّذي يوضع في الرِّجل وهو مثل الخلخال، فيُقَيَّدون في الأصفاد؛ أي: من أرجلهم، هناك من يُقَيَّد بالأغلال؛ أي: توضع أيديهم في سلاسل وتُعَلَّق تلك السّلاسل في رقابهم أيضاً. قيود وسلاسل وأصفاد وأغلال، وهم في السّعير النّار المستعرة الموقدة عليهم، والسّعير اسمٌ للنّار المسعورة الّتي تلتهم كلّ ما يلقى فيها.

ثمّ يذكر الحقّ تعالى الصّنف المقابل لهؤلاء الكافرين وهم المؤمنون بالله تعالى وكتابه ورسوله ﷺ ووصفهم بالأبرار وذكر ما أعدّه لهم، فقال:

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الـمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ 8، الحديث رقم (6763).

الآية رقم (5) - إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾: الأبرار يقابلهم الفجّار، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار]، فكما جاء بمقابل الأشقياء لا بدّ أن يفتح القلوب لتنعم بسعادة مصير وجزاء الّذين سعدوا بالإيمان، فجمع المتقابلين يزيد من فرحة المؤمن، ويزيد من حسرة الكافر، والأبرار: هم المؤمنون الصّادقون في إيمانهم، المطيعون لربّهم، واحدهم بارّ وبرّ، وهم الأنبياء والصّالحون، والّذين برّوا الله تعالى بأداء فرائضه واجتناب محارمه.

﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾: ثواب هؤلاء الأبرار المتّقين أنّهم يشربون شراباً في كؤوس ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾، وهو اسم عينٍ في الجنّة، فهذا الشّراب في الكأس يمازجه ماء هذه العين الّتي تُسمَّى كافوراً، وليس في الجنّة من الدّنيا إلّا الأسماء، وحتّى لو كان كافوراً حقيقيّاً فليس ككافور الدّنيا، بل هو كافور لذيذ، والكأس: إناءٌ بما فيه من الشّراب، لذلك ذكر الكأس وذكر مزاجها ولم يذكر ما فيها من شراب، فقال تعالى: ﴿مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾، وسيأتي فيما بعد قوله تعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا﴾ [الإنسان]، وكلّ كأسٍ ذُكِرَ في القرآن الكريم هي كأس خمرٍ، إنّما خمرٌ لا تستنزف العقول ولا تغيّبها، وليس فيها أضرار خمر الدّنيا، إنّما هي: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمّد: من الآية 15]، وتكون إمّا باردة كالكافور أو لاذعة فيها لذعة الزّنجبيل، ولا يُطلَق على الكأس كأساً إلّا وهي مملوءة بالشّراب، وإلّا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق.

الآية رقم (6) - عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا

﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾: بعض المفسّرين قال: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾؛ أي: يشرب منها عباد الله تعالى، إذ لا يُشرَب بالعين، وإنّما يشرب منها، فعين الكافور يشرب بها أولياء الله تعالى في الجنّة، وفي سورة المطفّفين يقول تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطفّفين]، يقولون: أي: منها، ولكن في هذه الكلمة: ﴿بِهَا﴾  سرّاً، فقد كان يسع الحقّ تعالى أن يقول: (يشرب منها)، ونجد أنّ الحقّ تعالى يقول في آيةٍ سابقة: ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾، أمّا عند ذكر العين، فقال تعالى: ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾ ؛ أي: يشرب الخمر ممزوجة بالكافور رائحته أو مادّته، وبعضهم عدّ الباء زائدة في ﴿بِهَا﴾ ، فقال: يشربها.

﴿عِبَادُ اللَّهِ﴾: الحقّ تعالى عبّر عمّن يشرب من هذه العين الّتي مزاجها كافوراً أنّهم: ﴿عِبَادُ اللَّهِ﴾، فمن هم عباد الله تعالى؟ عباد الله تعالى هم من تخلّوا عن اختياراتهم إلى مرادات الله تعالى، فهم الّذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله تعالى في التّكليف.

﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾: هؤلاء الّذين يشربون من عينٍ مزاجها كافور ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾، وجملة: ﴿يُفَجِّرُونَهَا﴾ حال تعبّر عمّا يفعله الشّاربون في هذه العين، فإنّهم يفجِّرونها تفجيراً سهلاً حيث شاؤوا من منازلهم، لا يصعب عليهم، فهم يجرّونها حيث شاؤوا جرّاً سهلاً لا يمتنع عليهم، وفي بعض الآثار أنّ هذه العين في دار رسول الله ﷺ تفجَّر إلى دور الأنبياء.

ويصف الحقّ تعالى عباد الله تعالى فيقول:

الآية رقم (7) - يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا

النّذر هو أن تُلزِم نفسك بشيءٍ من جنس ما شرع الله تعالى فوق ما أوجب عز وجل، فإذا نذرت أن تصلّي لله تعالى كلّ ليلة عدداً من الرّكعات فهذا نذر من جنس ما شرع الله عز وجل؛ لأنّه تعالى قد شرع الصّلاة وفرضها خمسة فروض، ويقال في الّذي ينذر شيئاً من جنس ما شرع الله تعالى فوق ما فرضه عز وجل: إنّ هذا دليلٌ على أنّ العبادة قد حلّت له فأحبّها وعشقها، ودليلٌ على أنّه قارب أن يعرف قدر ربّه عز وجل، وأنّ ربّه يستحقّ منه فوق ما افترضه عليه، فكأنّ الله تعالى في افتراضه كان رحيماً بنا؛ لأنّه لو فرض ما يستحقّه منّا لما استطاع أحدٌ أن يفي بحقّه عز وجل، فأنت مخيّر أن تُقبل على نذرٍ ما أو لا تُقبل، لكن إن نطَقْتَ بنذر فقد لزم، لماذا؟ لأنّك ألزمت نفسك به.

﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾: أي: يتمّون وينفذون نذورهم الّتي نذروها، وألزموا أنفسهم بها، فلا بدّ أن يوفوا بما أوجبوه على أنفسهم.

وصيغة النّذر أن يقول: لله عليَّ كذا وكذا من صدقةٍ أو صلاةٍ أو صومٍ أو حجٍّ أو عمرة، يعلّق ذلك بأمرٍ يلتمسه من الله تعالى، وذلك بأن يقول: إن شفى الله عز وجل مريضي، أو قَدِمَ غائبي، كان لله تعالى عليَّ كذا.

ولكن لو نذر في معصيةٍ فلا يجب الوفاء به، وقد روت السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله ﷺ  قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ»([1]).

ولوجوب الوفاء بالنّذر لا بدّ أن يقضيه الرّجل عن أبيه أو أمّه المتوفّاة، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقْضِهِ عَنْهَا»([2])، فعباد الله ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾.

﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾: واليوم المقصود هنا هو اليوم الآخر، والمؤمنون عباد الله تعالى يخافون هذا اليوم لعظيم يقينهم أنّه آتٍ لا ريب فيه، والحقّ تعالى كما ذكر خوف وإشفاق الّذين كفروا من اليوم الآخر ذكر أيضاً خوف الّذين آمنوا، إنّهم يخافون يوماً ﴿كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾، إنّه شرٌّ فاشٍ منتشر كالحريق حين ينتشر، وكضوء النّهار عندما يستطير وينتشر ضوؤه في جوّ السّماء، وهو يومٌ يستطير خوفه في أهل السّموات والأرض، واستطار في السّموات فانشقّت وتناثرت كواكبه وفزعت الملائكة وكوِّرَت الشّمس والقمر، وفي الأرض فتشقَّقت الجبال وغارت المياه وكُسِر كلّ شيءٍ من جبل وبناء وشجر، فاستطار شرّ ذلك اليوم حتّى ملأ السّموات والأرض، وهم لم يكونوا فقط يوفون بالنّذر ويؤدُّونه وافياً كاملاً غير ناقص بل كانوا:

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، بَابُ النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ، الحديث رقم (6696).

([2]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الحِيَلِ، بَابٌ فِي الزَّكَاةِ وَأَنْ لاَ يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلاَ يُجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، الحديث رقم (6959).

الآية رقم (8) - وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا

فعباد الله تعالى إلى جانب الوفاء بالنّذر على أتمّ وجه وأكمله يطعمون الطّعام:

﴿عَلَى حُبِّهِ﴾: مع حبّ الإنسان لطعامه وماله ورزقه الّذي اكتسبه بعرقه وكدّه، ولكنّه ينفقه ابتغاء مرضاة ربّه تعالى.

وفي وصف الله تعالى البرّ، قال عز وجل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: من الآية 177]، وهذه أمور عقديّة، والمولى تعالى لا يريد منّا قوالب، وإنّما قلوب وأعمال، وليست القضيّة أن نصلّي ونصوم ونحجّ فقط، ولكن أن نترجم هذا الإيمان بحبّ فعل الخير للمساكين والفقراء والأرامل والأيتام، ثمّ يُتبِع الحقّ تعالى هذا بأمرٍ عمليٍّ يمسّ حياة النّاس والمجتمع الّذي يعيشون فيه، وهو: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾[البقرة: من الآية 177]، وإعطاء المال هو الإنفاق بصورٍ شتّى قد يكون قرضاً حسناً، وكلمة: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ يمكننا أن نفهمها على أنّه يعطي المال وهو يحبّ المال، ويحتمل أن نفهمها على أنّه يؤتي المال؛ لأنّه يحبّ أن يُعطي ممّا يُحبّه من المال عملاً بقول الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: من الآية 92]، وهم يطعمون المسكين واليتيم والأسير، ثلاثة أصناف نصّ عليها الحقّ تعالى؛ لأنّهم الأضعف والأكثر احتياجاً إلى الإطعام والمساعدة.

﴿مِسْكِينًا﴾: أمّا المسكين فليس هو الّذي لا يملك شيئاً على الإطلاق، وإنّما هو مَنْ قد يملك، ولكن ما يملكه لا يكفيه، بدليل قول الله تعالى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾  [الكهف: من الآية 79]، فهم يملكون سفينة لكنّهم مساكين؛ لأنّهم لا يملكون ما يكفيهم، وقد شاء الله تعالى أن يجعل للفقير نصيباً من البرّ وللمسكين أيضاً، فكلٌّ منهما يستحقّ من مال الله عز وجل، فكلمة ﴿مِسْكِينًا﴾ هنا تشمل الفقير والمحتاج أيّاً كان، ومنهم عابر السّبيل أيضاً، فإنّه غريبٌ لا يملك ما يقوته ويقوم به، فقد يكون ابن السّبيل ذا مالٍ في بلده، إلّا أنّ الطّريق قد قطعه عن ماله، وباعد بينه وبين ما يملك، أو قد يكون ذا مالٍ ولكنّه سُرِق منه، فهو بمثابة المسكين والفقير، ويستحقّ ما يستحقّانه من الإطعام وغيره.

﴿وَيَتِيمًا﴾: وهم أيضاً يطعمون اليتيم، واليتيم هو مَنْ فقَدَ أباه؛ أي فقَدَ من يعوله ومن يسعى لأجله ويدافع عنه، فأصبح منكسراً لا نصير له، والمسألة في اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات، وإنّما حاجة إلى أن نعوّضه بالتّكافل الإيمانيّ عمّا فقده من رعاية الأب، فأطعم اليتيم، وأدِّ الأمانة، ولا تأكل ماله في بطنك، فمن يأكل مال اليتيم فإنّما يحشو بطنه ناراً؛ لأنّه يأكل ما يؤدّي به إلى النّار.

ثمّ يذكر الحقّ تعالى الأسير ضمن من يوصي بإطعامهم فيقول تعالى:

﴿وَأَسِيرًا﴾: الأسير قُيّدت حركته، وأسره كان نتيجة حرب وقعت اقتضت الالتقاء والالتحام، ويكون كلّ واحد منهم يريد أن يقتل عدوّه، فكأن الله تعالى أراد أن يحمي القوم من شراسة نفوسهم وقت الحرب، فقال: استأسروهم لا تقتلوهم، ولكن خذوهم أسرى، والنّبيّ ﷺ يقول: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»([1])، فأيّ إكرامٍ للأسير بعد هذا، فبعد أن حقن دمه أوّلاً، كرّمه بأن جعله أخاً له، واحترم آدميّته بالمعاملة الطّيّبة، ثمّ فتح له عدّة منافذ تؤدّي إلى عتقه وحرّيّته؟ فإذا كان للرّقّ في الإسلام بابٌ واحدٌ فللحرّية عدّة أبواب، منها العتق في الكفّارات، وهي في تكفير الذّنوب الّتي بين العبد وربّه، فكيف يقولون عن الإسلام: إنّه دين فيه جذور التّطرّف؟! وهو على العكس تماماً حتّى فيما يتعلّق بالأسير.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابٌ: الـمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ، الحديث رقم (30).

الآية رقم (1) - هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا

الحقّ تعالى خلق الكون وعوالمه بمكوِّناته كلّها، وذكرها كلّها في القرآن الكريم لم يترك منها شيئاً، لذلك قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: من الآية 38]، وكما ذكر الله تعالى الإنسان هنا وسُمِّيت السّورة بهذا الاسم، ذكر الجنّ وسُمّيت سورة باسم (الجنّ)، وذكر الملائكة في سورةٍ أخرى سمّيت: (فاطر)، وقيل عنها: السّورة الّتي يذكر فيها الملائكة، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر]، وذكر أيضاً الكون الّذي سيعيش فيه الإنسان من أرضٍ وسماء وجبال وأنهار، فذكر الله تعالى الشّمس وخصّص لها: (سورة الشّمس)، وذكر القمر وخصّص له: (سورة القمر)، وذكر النّجم وخصّص له: (سورة النّجم).

وهنا في سورة الإنسان يحدّثنا الحقّ تعالى عن أصل الإنسان وبدايته وصولاً إلى مصيره، فقد خلقه الله تعالى ليكون خليفة له في الأرض وأسكنه في كونٍ أعدّه له، فإذا كان الحقّ تعالى هو الّذي جعل الإنسان خليفة في الأرض فقد أعدّ له كلّ مقوّمات الحياة من قبل آدم عليه السلام، وليس هناك تفرقة في هذا بين مؤمن وغير مؤمن، فغير المؤمن مخلوقٌ لله تعالى كالمؤمن بالضّبط، استدعاه تعالى إلى هذا الوجود وأعدّ له مكانه في هذا العالم، وسبحانه قبل أن يخلق الإنسان أعدّ له الكون الّذي يعيش فيه، الأرض والشّمس والقمر والسّماء والكواكب والنّجوم..، ثمّ جاء الإنسان ليجد كلّ شيءٍ قد أعدّ لخدمته، خاضعاً له، فلا يوجد جنسٌ من الأجناس يتأبّى عن خدمة الإنسان، فلا الأرض إذا زُرِعَت رفضت إنبات الزّرع ولا الحيوان الّذي سخّره الله عز وجل لخدمة الإنسان يتأبّى عليه، والشّيء الّذي يجب أن يتأمّله جيّداً ويتحقّقه أنّه وهو في بطن أمّه وعند تكوّنه يجد أنّ الله تعالى قد أعدّ له حياته الخاصّة داخل رحم أمّه، فيهيّأ تعالى له حبلاً سرّيّاً يمدّه تعالى من خلاله بالغذاء من خلاصة ما تأكله أمّه دماً به العناصر الغذائيّة كلّها، لا يسعى لرزق، ولا يمضغ طعاماً، ولا يهضم أكلاً، بل يستفيد ممّا تكوّن داخل رحم أمّه.

ونعمة الله تعالى على الإنسان أنّه تعالى جعل النّعمة تسبق الوجود الإنسانيّ، فعندما خلق الإنسان كانت النعمة موجودة تستقبله.

والحقّ تعالى لم يقل: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا﴾ وسكت، بل أضاف تعالى كلمة: ﴿مَذْكُورًا﴾؛ لأنّ الإنسان كان شيئاً، ولكنّه كان شيئاً لا قيمة له ولا وزن، كان طيناً ماءً وتراباً، والحقّ تعالى وإن كان قد خلق الإنسان الأوّل آدم من ماء وتراب، فإنّه جعله سلالة من ماء مهين، وقال تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السّجدة: من الآية 7]، فبدْء خلق الإنسان كان من الطّين، ثمّ جعله الله تعالى نسلاً وصهراً يتناسل ويتكاثر، لذلك قال تعالى بعدها: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السّجدة]، والسّلالة هي خلاصة الشّيء، وأجود ما فيه، وقد خلق الله تعالى الإنسان الأوّل من أجود عناصر الطّين وأنواعه وهي زبد الطّين.

ويلفت نظرنا هنا كلمة ﴿الدَّهْرِ﴾ ، والدّهر الزّمن الطّويل، وهذا يدلّ على أنّ آدم عليه السلام بقي في طينته زمناً طويلاً يصل فعلاً لمئة وعشرين سنة، وهو لم يكن شيئاً مذكوراً لا في السّماء ولا في الأرض، فقد كان جسداً ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الرّوح، وهذه السّورة في إحدى تسمياتها (الدّهر)، وتُسَمّى أيضاً سورة (هل أتى).