الآية رقم (26) - وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا

الله تعالى لا يريد العنت بمن آمن به، ولا يكلّفهم ما لا يطيقون، فلا يطلب من عباده قضاء ليلهم كلّه في عبادته والرّكوع والسّجود له عز وجل، بل يقول تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾، وفي آيةٍ أخرى يقول: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾  [الإسراء: من الآية 79]، حتّى عندما خاطب رسول الله ﷺ قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزّمّل]، فقم من اللّيل جزءاً منه، لذلك قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ فمن للبعضيّة؛ أي: بعض اللّيل، ﴿فَاسْجُدْ لَهُ﴾: والسّجود علامة الخضوع وعلامة العبوديّة لله تعالى؛ لأنّك تضع أشرف شيءٍ فيك، وهو وجهك، على الأرض خضوعاً وخشوعاً له، والسّجود لله تعالى تشريفٌ للمؤمن السّاجد لله عز وجل ورفعٌ لمقامه، فهو لا يسجد لموازٍ له، أو لمخلوق مثله، بل يسجد لمن خلقه، يسجد للعظيم الّذي لا أعظم منه.

﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾: والتّسبيح هو التّنزيه عمّا لا يليق بذات المنزَّه، فاجعل نفسك مسبِّحاً لذاته العليّة دائماً، والتّسبيح فعلٌ مستمرٌّ لا ينقطع ولا ينقضي.

ونجد في هذه الآية أمراً عجيباً، ففي بداية الآية قال: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾؛ أي: اسجد وصلّ له تعالى جزءاً من اللّيل لا كلّه، إنّما عند التّسبيح قال: ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾، فتسبيحك لله تعالى لا ينقطع ولا يجب أن ينقطع، والكون كلّه مسبِّحٌ لله عز وجل، فلا تتأخّر أيّها الإنسان عن ركب المسبِّحين، والسّورة الّتي معنا سورة الإنسان ترسم للإنسان طريق فلاحه ونجاحه في الآخرة، والحقّ تعالى يقول في آيةٍ أخرى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾  [الطّور: من الآية 48- الآية 49]، هنا أيضاً تسبيحٌ مستمرٌّ، حين تقوم؛ أي: حين تقوم اللّيل صلاةً وتسبيحاً وتحميداً وتكبيراً لله عز وجل، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَفْتَتِحُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، كَانَ إِذَا قَامَ كَبَّرَ عَشْراً، وَحَمِدَ اللَّهَ عَشْراً، وَسَبَّحَ عَشْراً، وَهَلَّلَ عَشْراً، وَاسْتَغْفَرَ عَشْراً، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي»، وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ([1])، ثمّ إنّ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾[الطّور]، تسبيحٌ دائم مستمرّ، يلهج به اللّسان حتّى تدبر النّجوم ويذهب اللّيل وتظهر تباشير الفجر فيصلّي الفجر، ثمّ تسبيحٌ إلى أن تشرق الشّمس.

([1]) سنن أبي داود: أَبْوَابُ تَفْرِيعِ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الدُّعَاءِ، الحديث رقم (766).

الآية رقم (27) - إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾: كلمة ﴿هَؤُلَاءِ﴾ هنا تعود على الكافرين الّذين قال الله تعالى فيهم هنا في أوّل السّورة: ﴿وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾، ونلحظ أنّ الحقّ تعالى بعد هذه الآية الرّابعة لم يذكرهم، بل ذكر الأبرار، وذكر جزاءهم  وثوابهم  وأعمالهم الّتي اقتضت هذا الثّواب، حتّى جاءت الآية (24) فقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾، فكلمة ﴿هَؤُلَاءِ﴾ تشير إلى هذا الآثم أو الكفور، ويصفهم الله تعالى أنّهم: ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾، والعاجلة هي الدّنيا، وصفها الله تعالى بصفةٍ من صفاتها من النّعيم العاجل المتعجّل، فالكافرون إنّما يريدون العاجلة المنتهية، فهم طالبو دنيا لا طالبو آخرة، والإنسان لا بدّ أن ينظر إلى حياته العاجلة في الدّنيا وشهواتها، ولكنّ الحقّ تعالى قال: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: من الآية 77]، وإذا كان ربّنا عز وجل يوصينا بأن نبتغي الآخرة فهذا لا يعني أن نترك الدّنيا ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: من الآية 77]، فنصيبنا من  الدّنيا هو الحسنة الّتي تبقى لنا وتظلّ معنا وتصحبنا بعد الدّنيا إلى الآخرة، والمشكلة أنّ الكافر أو الفاجر أو الظّالم يظنّ أنّه لا عقاب ولا حساب، أو لا يستحضر عذاب الله عز وجل، لذلك تجدهم: ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾؛ أي: يذرون وراءهم يوماً عسيراً شديداً، فيتركونه فلا يؤمنون به، ولا يهتمون لوقوعه، فقد تركوه من كلّ وجه، فهو يومٌ ثقيلٌ على الكافرين إذا حشروا وإذا وقفوا للحساب، وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: ﴿وَرَاءَهُمْ﴾، ويوم القيامة يومٌ سيأتي، فهو أمامنا؟ بعضهم قال: ويذرون وراءهم عملَ يومٍ ثقيل؛ أي: لا يعملون للآخرة، وكلمة وراء أيضاً مشتقّة من توارى، والشّيء المتواري عنك يقع لما بين يديك وما خلفك، فيقع لما هو أمامك أو لما هو وراءك، ثمّ إنّ يوم القيامة وراءهم يطلبهم مهما طالت أعمارهم، فهم تركوه وتركوا العمل به، ولكنّه يطلبهم وليسوا بفارّين منه، ولا بدّ أنّه سيلحقهم ويجدونه أمامهم فيقع بهم الحساب والعقاب.

الآية رقم (28) - نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا

﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾: يذكر الله تعالى دلائل قدرته لهؤلاء الكافرين المكذِّبين، فنحن خلقناهم وشددنا خلقهم، ويدخل في شدّ الخلق شدّ مفاصلهم وقوّتهم، وخلقناهم خلقاً مُحكماً ذا بصر، وسمع، وذوق، وشمّ، وحركة  لليدين والرّجلين، وقلبٍ ينبض، وأجهزة داخل أجسامهم تعمل، وجلد يحسّ ويشعر، وأعصاب تنقل الإحساس باللّذّة أو بالألم إلى مخٍّ يستوعب كلّ هذا، أو يُصدِر أوامر لجوارح الإنسان بفعلِ فِعْلٍ ما، فشددنا مفاصلهم بالعصب والعروق والجلد لئلّا تنقطع المفاصل وقت تحريكها.

﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾: أي: إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم، مخالفين لهم في العمل، فلا يذرون وراءهم يوم القيامة، بل يعملون له.

الآية رقم (29) - إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾: وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾[طه]، فإنّما أنزلنا القرآن الكريم تذكرة؛ أي: تذكيراً لمن يخشى؛ أي: لمن يخاف من الله عز وجل بمهابة وإجلال.

﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾: السّبيل: الطّريق؛ أي: فمن شاء الانتفاع بتذكير الله تعالى له اتّخذ إلى ربّه طريقاً يوصله إلى الغاية من التّذكرة، وهي الاهتداء بآيات القرآن الكريم، وتحديد الغاية والهدف إنّما يهدف إلى إيضاح السّبيل أمام الإنسان ليسلك الطّريق الموصل إلى تلك الغاية.

ونتأمّل الآية نجد أنّ الله تعالى ذكر السّبيل بصيغة النّكرة، فقال: ﴿سَبِيلًا﴾؛ أي: وجهة وطريقاً إلى الخير، ووجوه الخير كثيرة، قد تكون في الصّلاة أو الصّيام أو الزّكاة أو مساعدة المحتاجين، فما دمت قد سلكت سبيل الإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ فلك أن تُعرف بسلوك سبيل من سبل الخير والطّاعات.

الآية رقم (30) - وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا

﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾: إذا كان الله تعالى قد أثبت للإنسان مشيئة، فقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾، فإنّه هنا أثبت أنّ مشيئة الله تعالى هي المهيمنة على مشيئة النّاس، فلو لم يشأ الله تعالى لم تكن مشيئتنا، فقال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾، فلا أحد يستطيع أن يخرج عن مشيئة الله عز وجل أو إرادته، وكلّ شيء من فعله تعالى، فالله عز وجل هو الّذى خلق اختيار الإنسان لأمرٍ معيّن، فلا يحدث في كونه تعالى إلّا ما يريده، فاختيار الكافر للإيمان لم يكن غصباً عن الله عز وجل، بل بإرادته تعالى، فالإنسان خُلِقَ على هيئة القسر في أمور، وعلى هيئة الاختيار في أمور، فلا الفقير يستطيع أن يثرى من غير مشيئة الله عز وجل، ولا المريض يستطيع أن يشفى دون مشيئة الله تعالى، ولا الضّعيف يستطيع أن يقوى ضد إرادة الله عز وجل، لذلك قال الحقّ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: الآية 23- ومن الآية 24]، فإيّاك أن تقول: إنّي سأفعل شيئاً إلّا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله عز وجل، فأنت لا تفعل شيئاً إلّا بإرادة الله تعالى، فلا تَعِدْ إلّا بالمشيئة.

﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾: فقد ثبت لله تعالى العلم والحكمة أزلاً، لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾، فنحن نسمعها في إطار أنّ الله تعالى لا يتغيّر، وما دام ﴿كَانَ﴾ في الأزل ﴿عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، فهو كذلك إلى الأبد، ونعلم أنّه إذا جاءت أيّ صفة من صفات الحقّ تعالى داخلة فى صورة كينونة؛ أي: مسبوقة بـ ﴿كَانَ﴾ ، فإيّاكم أن تأخذوا ﴿كَانَ﴾  على أنّها وصفٌ لِـمَا حدث في زمنٍ ماضٍ، ولكن لنقل: (كان وما زال)، لماذا؟ لأنّ الله تعالى كان أزلاً، فهو تعالى عليمٌ قبل أن يوجد معلومٌ، وهو عز وجل حكيمٌ قبل أن يوجد ما يحتاج إلى الحكمة، والحكيم لا بدّ أن يكون عليماً، وإلّا كيف يكون حكيماً في تدبير أمرٍ لا يعلم كنهه ولا ماهيّته.

ثمّ يُنهي الحقّ عز وجل السّورة بقوله تعالى:

الآية رقم (31) - يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

فالحقّ تعالى بمشيئته يُدخِل من يشاء في رحمته، ورحمته: جنّته، والدّخول في الجنّة بمشيئته عز وجل وبرحمته، لا بموجب العمل وحده، قال ﷺ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»([1])، فدخول الجنّة إنما هو بموجب الفضل والإحسان لا بسبب الاستحقاق، فالأمر متعلّقٌ بمشيئة الله تعالى، فالله عز وجل لم يشأ أن يُدخِلَ في رحمته من عَلِمَ منه أنّه يختار الضّلال، وإنّما شاء أن يُدخِل في رحمته من عَلِمَ منه أنّه يختار الهدى، فالّذين ظلموا أنفسهم فماتوا على شركهم وكفرهم أعدّ لهم في الآخرة عذاباً أليماً، وهو عذاب جهنّم، الّذى فصّل فيه الحقّ تعالى القول في آيات سورة الإنسان.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الـمَرْضَى، بَابُ تَمَنِّي الـمَرِيضِ الـمَوْتَ، الحديث رقم (5673).

الآية رقم (23) - إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا

إذا تحدث الله تعالى عن فعلٍ يحتاج إلى كمال المواهب منه تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّا﴾، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر]، وحين يتكلّم الله تعالى عن ألوهيّته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد مثل قوله عز وجل: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾[طه: من الآية 14]، فإنزال القرآن الكريم وحفظه ليس وليد قدرته وحدها، ولا علمه وحده، ولا حكمته وحدها، ولا رحمته وحدها، وإنّما كلّ فعلٍ من أفعال الله تعالى تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله عز وجل، فإنزال الذّكر عمليّة عظيمة؛ لأنّنا سننزله بقدرة وسننزله بحكمه له، وبعلم وببصر، وبقيوميّة، وبقبض، وببسط.

وكلمة ﴿نَزَّلْنَا﴾ تُفيد التّتابع وموالاة النّزول، فالقرآن الكريم أُنزِل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزّله الله تعالى بعد ذلك منجّماً حسب الوقائع، لذلك قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾  [الإسراء]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾[الفرقان: من الآية 32]؛ أي: نزّلناه مرتّلاً مفرّقاً آية بعد آية، فنزل القرآن الكريم مجموعة من الآيات بعد الأخرى، وهذه الطّريقة في التّنزيل كانت تيسّر للصّحابة حفظه وفهمه والعمل به، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان]، فالحقّ تعالى نزّل القرآن الكريم على الهيئة الّتي نزل بها لزوماً لتثبيت فؤاد رسول الله ﷺ والمؤمنين، ولو نزل مرّة واحدة لكان تكليفاً واحداً.

الآية رقم (24) - فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا

﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾: فكلّ من قام بالقرآن الكريم الّذي نزّلناه عليك لا بدّ أن يناله ما يناله من الأمور الّتي تحتاج إلى صبرٍ عظيم، فمعنى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾؛ أي: اصبر لقضاء ربّك الّذي يترتّب على هذا التّنزيل، وهذا يدلّ على أنّه سيناله منه ما يحتاج إلى صبرٍ.

﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾: لذلك قال تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أهل مكّة الّذين لم يؤمنوا بك، وهذا ليس خاصّاً بهم، فالعبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، والخطاب وإن كان لرسول الله ﷺ، فإنّ أمّة محمّد ﷺ متضمَّنة في هذا الخطاب، فلا تُطيعوا آثماً أو كفوراً، والآثم: المذنب العاصي الّذى يرتكب  الذّنوب والمعاصي، وليس شرطاً أن يكون كافراً، أمّا الكافر فهو آثم بذنب الكفر نفسه، وتُضاف إليه ذنوب وآثام؛ لأنّه لا ضابط لسلوكه، فهو لايؤمن بكتابٍ ولا برسولٍ ولا بيوم القيامة، فلمَ يستقم؟ لذلك فصل الحقّ سبحانه بين الآثم والكفور بـ ﴿أَوْ﴾.

والكفور صيغة مبالغة على وزن ( فعول)؛ أي: الشّديد الكفر، المصرّ على كفره، الّذي يجحد كلّ شيء وينكره ولا يقرّ به، معاند في كفره، ويدعو غيره إلى الكفر، ويصدّ عن سبيل الله عز وجل، فالكافر فقط قد يكون كافراً في نفسه لا يدعو غيره، ولا يصدّ عن سبيل الله تعالى، وقد يكفر بأمرٍ دون آخر، أمّا الكفور فهو مبالغ متجاوز الحدّ في كفره.

الآية رقم (25) - وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا

وذكر الله تعالى هو تسبيحه وتنزيهه، لذلك قال عز وجل: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى]، فكيف لا تسبّح الله تعالى، وأنت أيّها الإنسان سيّد هذا الكون؟! بينما الكلّ يسبّح لله عز وجل، فعليك أن تكون مسبِّحاً، ولا بدّ أن تصل تسبيحك بتسبيح هذه المخلوقات كلّها، فاذكر ربّك؛ لأنّه بذكرك له سيذكرك في الملأ الأعلى، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 152]، فالله تعالى يريد من عباده الذّكر، وكلّما ذكروه عز وجل وشكروه شكرهم وزادهم، والله تعالى يقول في حديث قدسيّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ»([1]).

فمعنى قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾؛ أي: اذكر اسم ربّك في كلّ شيءٍ، في نِعَمِه وعطائه وستره ورحمته وتوبته، فـ ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ تذكيرٌ لك بما حباك به من أفضالٍ، خلقك وربّاك وأعطاك من فيض نِعَمِه ما لا يُعَدّ ولا يُحصَى، فاذكر اسم ربّك؛ لأنّك إن لم تعشقه تكليفاً فأنت قد عشقته؛ لأنّه ممدّك بالنِّعَم، فاذكر ربّك وسبّح باسمه عز وجل بكرةً وأصيلاً، وفي آيةٍ أخرى يقـول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب].

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﳂ ﳃ ﳄﳅ [آل عمران: 28]، الحديث رقم (7405).

الآية رقم (18) - عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا

إنّها من عينٍ في الجنّة تُسمّى سلسبيلاً، قال ابن الأعرابيّ: لم أسمع السّلسبيل إلّا في القرآن الكريم، فهي عينٌ يصدر منها هذا الشّراب سَلِساً تسيل وتذهب في مجرى نهر بلا شطآن.

والسّلسبيل: الطّيّب الطّعم والمذاق، وهو أيضاً يتسلسل في سلاسة تسيل عليهم في الحلق، ويستسيغه اللّسان عذباً سلسالاً، وهي تسيل عليهم من جنّة عدن فتمرّ على كلّ جنّة سلسةً منقادةً، فهي ماء عذب زلال، وعلى هذا فكلمة: ﴿سَلْسَبِيلًا﴾ قد تكون صفة للماء نفسه أو اسم عَلَم للعين، وبعضهم ذهب إلى أنّ كلمة ﴿سَلْسَبِيلًا﴾ ليست  كلمة واحدة، بل هي جملة، تقدير الكلام فيها: (سَلْ سَبيلاً)، أوّلها (سَلْ) فعل أمر، والفاعل مستتر تقديره أنت أو يا محمّد، وسبيلاً: مفعول به.

الآية رقم (19) - وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا

هنا بنى الحقّ تعالى الفعل للمعلوم، فقال: ﴿وَيَطُوفُ﴾، أمّا هناك فقال تعالى: ﴿وَيُطَافُ﴾؛ لأنّ الحقّ تعالى يحدِّثنا عمّا يُطاف على المؤمنين به، وهي الكؤوس والأكواب والشّراب، أمّا هنا فيحدِّثنا عز وجل عمّن يقوم بالطّواف والإطافة بأواني السّقاء، فيقول تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾، فهم ولدان مخلّدون؛ أي: لا يكبرون ولا يهرمون، بل يبقون على حالهم لا يتغيّرون، وهم في سنٍّ واحد.

ويصف الحقّ تعالى هؤلاء الولدان بأنّهم: ﴿مُخَلَّدُونَ﴾، مع أنّ التّخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنّة، فكلّ أهل الجنّة مخلّدون فيها لا يشيبون ولا يهرمون.

﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾: وهو من عجيب القرآن الكريم، فاللّؤلؤ المنثور غير اللّؤلؤ المكنون الّذي وُصِف به هؤلاء الغلمان، فقال: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾[الطّور]، فاللّؤلؤ المكنون كأنّه كنّ في كنانه أو مكانه، وهو مصون، حتّى أنّ الله  تعالى وصف الحور العين بهذه الصّفة نفسها فقال عز وجل: ﴿وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾[الواقعة]، فهم وهنّ كاللّؤلؤ المصون في الصّدف لم تنله الأيدي، وقد قاله ابن جبير، ولا يُصَان ولا يُكَنّ إلّا الحسن الغالي الثّمن الثّمين، فهو مصون لم تعبث به يد عابثة.

وهنا يقول تعالى: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾: كأنّ الله تعالى يطلب منّا أن نرى مشهد هؤلاء المنعَّمين من أعلى من خارج، ولكن لماذا ذكر الحقّ تعالى اللّؤلؤ بالذّات؟ اللّؤلؤ يتميّز بالصّفاء والنّفاسة، وهو مثل الياقوت والمرجان في لمعانه ونضارته وشرفه، ولكنّ اللّؤلؤ أبيض؛ لذلك وصف الولدان والغلمان باللّؤلؤ لبياض وجوههم وصفائها.

الآية رقم (20) - وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا

النّعيم في الدّنيا على قدر قدرات البشر، أمّا النّعيم في الآخرة على قدر قدرات ربّ البشر تعالى، المقاييس هنا غير المقاييس يوم القيامة، ففي الدّنيا بإعدادك وجسدك لا يمكن أن ترى الله تعالى، أمّا في الآخرة فيسمح إعدادك وجسدك بأن يتجلّى عليه الله عز وجل، وهذا هو النّعيم الأكبر في الآخرة، نحن نعيش الآن في آثار قدرة الله عز وجل، أمّا في الآخرة فنعيش عيشة النّاظر إلى الله تبارك وتعالى، لذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ﴾؛ أي: إذا رأيت ما ثَمّ؛ أي: إذا رأيت ما هناك، والعرب تُضمِر: (الّتي، الّذي، من، ما) وتكتفي بصلاتها منها، وهذا كقول الحقّ تعالى: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: من الآية 78]؛ أي: هذا فراق ما بيني وبينك، ومثله قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾[الأنعام: من الآية 94]؛ أي: لقد تقطّع ما بينكم، فإذا نظرت يا محمّد ببصرك ورميت بطرفك فيما أعطيت هؤلاء الأبرار في الجنّة من الكرامة: ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾، والآية تقول: ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا﴾، ثمّ: ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾، فالنّعيم غير الملك الكبير، النّعيم معروف، وحدّثنا الله تعالى عن بعضه: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾، كلّ هذه عناصر هذا النعيم الّذي سيتنعّم فيه الأبرار، نعيم دائم مقيم لا ينتهي ولا يتغيّر ولا يزول، ثمّ يأتي قوله تعالى: ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾، فإن افتقد الإنسان للملك في الدّنيا فإنّه سيناله في الآخرة، سيكون له سلطان على ما حوله كلّه من نعيم، وكذلك مَن حوله من الغلمان والولدان والحور، هذا نعيم وملك كبير أُعطيَ لأهل الجنّة.

الآية رقم (21) - عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا

﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ﴾: كلمة ﴿عَالِيَهُمْ﴾ تعطي معنى العلو والارتفاع، فثياب أهل الإيمان ثياب عزٍّ وكرامة ورفعة ومجد وأبّهة، وعلوّ الثّياب سواء كانت على أهل الجنّة أنفسهم أم على ما يجلسون تحته فهي تدخل في الملك الكبير.

وبعضهم أخذ معنى: ﴿عَالِيَهُمْ﴾ أنّ الثّياب فوقهم ملامسة لهم، وهذا ليس شرطاً، فالحقّ تعالى لم يقل: (عليهم)، لكن قال: ﴿عَالِيَهُمْ﴾.

﴿سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾: السّندس: هو ما رقّ من الحرير ونعم، وكان ملمسه ناعماً حريريّاً، أمّا الإستبرق فهو ما غلظ وخشن منه، وقد يكون السّندس منسوجاً بخيوط من الذّهب.

وقد جمع الحقّ تعالى هنا بين السّندس والإستبرق، بين ما رقّ من الحرير وما خشن، وقد قال الحقّ تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرّحمن: من الآية 54]، ذلك حديث الله تعالى عن الثّياب، فما بال حلية أهل الجنّة؟ يقول تعالى:

﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾: وفي آيةٍ أخرى ذُكِرَ أنّها من ذهب، قال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾ [الكهف: من الآية 31]، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾  [فاطر: من الآية 33]، فالأساور إمّا من ذهب أو فضّة أو لؤلؤ، ونلاحظ أنّ الحقّ تعالى بنى الفعل للمجهول في قوله تعالى:  ﴿وَحُلُّوا﴾، ثمّ: ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ في آيتي الكهف وفاطر، فليسوا هم الّذين يُحلّون أنفسهم بهذه الحلية، بل حلّاهم غيرهم، أمّا الملبس فهم الّذين يلبسون ثيابهم بأنفسهم، ثمّ يحلّيهم غيرهم، قال تعالى: ﴿وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾[الكهف: من الآية 31]، فأتى الفعل مبنيّاً للمعلوم؛ لأنّ الفعل حدث منهم أنفسهم بالعمل.

﴿أَسَاوِرَ﴾  الأساور جمع أسورة، وهي ما تكون حول معصم اليد، والتّحلية هنا للزّينة فهي زيادة على ما هم فيه من نعيم.

﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾: ثمّ يأتي الشّراب بعد أن يلبس الأبرار ثيابهم، ويُحَلّون بأساور الذّهب والفضّة واللّؤلؤ، فيقول عز وجل: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾؛ أي: أعطاهم ما يشربونه في لحظته وساعته، ولكنّه سقاء من الله تعالى فنسبه إليه عز وجل، فسبحانه هو الّذي سقاهم، لذلك استحقّ وصف ﴿طَهُورًا﴾، فهو شرابٌ طاهرٌ من الأقذار، لم تمسّه الأيدي ولم تدنِّسه الأرجل، ومِنْ طهره أنّه لا يصير بولاً نجساً، ولكنّه يصير رشَحاً من أبدانهم كرشح المسك، وقد صلّى سهل بن عبد الله صلاة العشاء فقرأ قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ فجعل يحرّك فمه كأنّه يشرب، فلمّا فرغ من صلاته قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ قال: والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما فعلت ذلك.

الآية رقم (22) - إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا

﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾: فهذا النّعيم الّذي ليس له حدود وذلك الملك الكبير جزاء وثواب لكم ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقّة: من الآية 24]، فحين تفعل الطّاعة تكون صعبة عليك، ولكن يجب أن تتذكّر ثوابها وما سيأتيك من طاعتك، وهو الرّاحة وحسن الثّواب، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النّحل: من الآية 31]، وهو جزاءٌ أطول وأدوم نتيجة تعبهم في الحياة الدّنيا.

﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾: وهو خطاب الله تعالى لمن استحقّوا ثوابه وجزاءه.

والسَّعي: هو الحركة الموصلة إلى الغاية، وكلّ فردٍ من أفراد الكون له سَعيٌ يختلف عن سَعي الآخرين، لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [اللّيل]، فللآخرة سعيٌ، ومن سعى إليها كان سعيه مشكوراً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء]، ومعلومٌ أنّ الشّكر يكون لله تعالى استدراراً لمزيد نعمه، كما قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 7]، فما بالك إن كان الشّاكر هو الله تعالى يشكر عبده على طاعته؟!

الآية رقم (11) - فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا

فالحقّ تعالى يقيهم شرّ ذلك اليوم العبوس القمطرير الّذي يخافونه ويخشون منه: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾، ويقيهم تعالى شدّته، ويدفع شرّه عنهم ويحميهم، ولو تأمّلنا القرآن الكريم نجد أنّ الله تعالى قال: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾اليوم مفرد، وإذا كان يوماً واحداً فما مقدار ذلك اليوم؟ يقول تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج]، والله عز وجل هو خالق الزّمن، ولذلك فإنّه يستطيع أن يخلق يوماً مقداره ساعة، ويوماً كأيّام الدّنيا مقداره أربع وعشرون ساعة، ويوماً مقداره ألف سنة، ويوماً مقداره خمسون ألف سنة، ويوماً مقداره مليون سنة، فذلك خاضعٌ لمشيئة الله عز وجل، فالأزمنة متعدّدة وتختلف من قياسٍ إلى آخر، ومن كوكبٍ إلى آخر، ففي آيةٍ ذكر تعالى أنّه كألف سنة، فقال﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السّجدة]، وفي آيةٍ أخرى قال: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾  [المعارج]، فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا، فللّه تعالى تقديرٌ لليوم في الدّنيا، ولليوم في الآخرة.

فهو بحساب البشر يومٌ طويل ثقيل شديد الوطأة، ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ومع وقايتهم من شرّ ذلك اليوم فإنّه تعالى:

﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴾: اللّقاء: رؤية تقتضي مصادفة ومعاينة، وتستعار لإصابة الخير والشّرّ، فهؤلاء (لَقَّاهُمْ)؛ أي: التقاهم ﴿نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾: نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب، فأعطاهم بدل عبوس الفجّار وحزنهم النّضرة والسّرور، كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة]، وفي مقابله ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة]، أمّا السّرور فهو انشراحٌ في القلب، حيث تصبح الملكات راضية، والنّفس مطمئنّة، والانفعالات يظهر أثرها على بشرة الوجوه، فإن كان الانفعال حزناً فالوجه يظهر عليه الحزن بالانقباض، وإن كان الانفعال بالسّرور فالوجه يظهر عليه السّرور بالانبساط، وتعكس البشرة انفعالات النّفس من سرورٍ وبشاشة وإشراق، أو عبوسٍ وتجهّم.

الآية رقم (12) - وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا

﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾: المجازاة والمكافأة من الله تعالى، ففاعل الفعل (جزى) هو لفظ الجلالة، وتقديره: وجزاهم الله تعالى بصبرهم الجنّة والحرير، فالله تعالى جزاهم بما صبروا على طاعته تعالى واجتناب معصيته، فأثابهم وكافأهم جنّة يسكنونها وحريراً يلبسونه ويفترشونه.

فالصّبر أربعة أنواع: أوّلها الصّبر عند الصّدمة الأولى، قال ﷺ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»([1])، والصّبر على أداء الفرائض، والصّبر على اجتناب محارم الله عز وجل، والصّبر على المصائب.

﴿جَنَّةً﴾: وقد جزاهم الله تعالى ﴿جَنَّةً﴾؛ أي: بستاناً فيه من كلّ ما تشتهي أنفسهم من المأكل والمشرب ممّا لم تره عينٌ ولم تسمع عنه أذن.

﴿وَحَرِيرًا﴾: والحقّ تعالى إنّما خصّ الحرير هنا؛ لأنّه تعالى تحدّث عن صبرهم، ومنه الصّبر عن المحرّمات ومنها الحرير الّذي حرّمه الشّرع على رجال أمّة رسول الله ﷺ، وقد قال ﷺ: «مَنْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَلا يُكْسَاهُ فِي الْآخِرَةِ»([2])، فهم لم يلبسوا الحرير في الدّنيا، فكان جزاؤهم ﴿بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الجَنَائِزِ، بَابُ زِيَارَةِ القُبُورِ، الحديث رقم (1283).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مُسْنَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t، الحديث رقم (124).

الآية رقم (13) - مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا

﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ﴾: الاتّكاء: أن يجلس الإنسان على الجنب الّذي يريحه، والأرائك: هي السّرر الّتي لها حلية، مثل النّاموسيّة مثلاً.

ولكي نفهم معنى الاتّكاء ودلالته على التّرفّه والتّنعّم تجد الإنسان إذا وقف أو جلس طويلاً ولم تجد له متّكأً تراه قلقاً غير مستقرّ، ومن هنا كان المتّكأ من مظاهر النّعمة والتّرف في الدّنيا وفي الآخرة، إنّه النّعيم الّذي وعد به ربّ العزّة المتّقين ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾، والأرائك جمع أريكة، وهي السّرير في الحجال، وهو بيتٌ كالقبّة يُستَر بالثّياب مكلّلة بالدّرّ والياقوت.

فجزاؤهم جنّة فيها طعامهم وشرابهم، ولباسهم فيها الحرير من أنعم الثّياب في قبّةٍ عالية عليها السّتور متّكئين على أَسِرَّة، وليس هذا فحسب، بل:

﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾: فقد هيّأ لهم الله تعالى المقام في هذا الرّغد وهذا النّعيم، فلا يؤذيهم حرّ شمسٍ ولا برد زمهرير، فلا يرون فيها شمساً؛ أي: شمساً محرقة يؤذيهم حرّها أو تصيبهم بالعرق، فيضطرّون للقيام من على أَسِرَّتهم ليدخلوا أخبيتهم، ومن يتأمّل هذه الآية يجد شيئاً عجيباً، هل معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا﴾ أنّه لا شمس أصلاً في الجنّة؟ أو أنّ هناك شمساً لكنّها ليست حارّة حرارة تؤذي من يتعرّض لها؟ بعض العلماء قال: الجنّة ضياء من غير وجود شمس أو قمر، ولهذا فسّروا قوله تعالى: ﴿زَمْهَرِيرًا﴾؛ أي قمراً، وبهذا فسّره الزّمخشريّ، والآية تحتمل هذا؛ أي: لا يرون فيها شمساً حارّة محرقة، أو لا يرون فيها شمساً من الأساس؛ لأنّ الجنّة مضيئة بذاتها، وبهذا لا حاجة إلى القمر أيضاً، فالقمر مهمّته الّتي نعرفها في الدّنيا أنّه يُضيء، ولو وضعنا مع هذه آيةً أخرى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان]، لنا أن نسأل: أفي الجنّة قيلولة وليس فيها حرّ ولا برد ولا زمهرير؟! فالمقيل؛ أي: وقت القيلولة، وهو في الدّنيا عند شدّة الحرّ، فكيف وليس في الجنّة حرّ؟! قلنا: إنّ القيلولة تعني محلّ فراغ الإنسان لخاصّة نفسه، ألا ترى أنّ الحقّ تعالى حينما ذكر أوقات الاستئذان جعل منها هذا الوقت، فقال عز وجل: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ [النّور: من الآية 58].

ولأنّ الجنّة لا شمس فيها ولا زمهرير، لذلك كان ظلّها ممدوداً دانياً عليهم، قال تعالى:

الآية رقم (14) - وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا

﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾: جزاهم الله تعالى بما صبروا وأثابهم جنّةً دانية ظلالها عليهم، لا يجدون حرّ شمس ولا زمهرير برد، قد دنت أفرع شجرها منهم حتّى أنّ الظّلّ يغطّيهم، وهذا دليلٌ على أنّ هناك شمساً ولكن ليس لها تأثير إلّا في الإضاءة فقط، أمّا حرّها فقد أذهبه الله تعالى، فأصل الظّلّ السّتر من الشّمس، والحقّ تعالى يقول: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النّساء: من الآية 57]، فهو ظِلٌّ لا يدخله الحرّ ولا الرّياح الحارّة، فمعنى أنّ الظّلّ ظليل أنّه يُظِلّ من الحرّ والرّيح معاً، وهذا معناه أنّ شجر الجنّة أغصان متراكبة فوق بعضها، لا تمرّ منها حرارة شمس أو صهد ريح.

ومن يتأمّل هذه الآية يدرك معنى قوله في الآية السّابقة: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا﴾؛ لأنّ هذه الكلمة جعلت بعض العلماء يقول: إنّه لا شمس ولا قمر في الجنّة؛ لأنّ أهل الجنّة ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾، والرّؤية هنا بصريّة، فهي غير موجودة، ولكن من يُضيف إليها الآية الّتي بعدها: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾، ويضيف إليها قوله تعالى: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النّساء: من الآية 57]، يُدرِك أنّهم وهم في هذا الظّلّ الظّليل من أغصان وأوراق الشّجر لا يرون الشّمس ولا تأثيرها، فهي مستورة عنهم بالظّلّ الوارف، فكأنّها غير موجودة، فالظّلّ الظّليل لا يترك فرجة ولا خللًا لنفاذ الهواء الحارّ ولا البارد إلى مَنْ يجلس فيه، وليس الأمر يتعلّق بظلّ هذه الأشجار فقط، بل هي أيضاً أشجار مثمرة تُعطي ثماراً لا تحوج من يجلس متّكئاً أن يتكلّف أيّ مشقّةٍ في الحصول عليها، لذلك قال تعالى:

﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾: فالحقّ تعالى يريد إراحة عبده المؤمن الّذي ثبت وصبر على إيمانه وعلى طاعة الله عز وجل في الدّنيا مع الصّعاب ومع المغريات لارتكاب المعاصي، فأثابه تعالى ثواباً مضاعفاً، فمع كلّ ما ذكرته الآيات من أوجه النّعيم يذكر الحقّ تعالى نعيماً آخر، فالحقّ عز وجل يريد للثّمر أن تتدانى من المؤمن حتّى لا يتعب، فيقول تعالى: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ [الحاقّة]، ويقول تعالى هنا: ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾؛ أي: دُلِّيَت عناقيدها، فالفاكهة تنزل إلى المكان الّذي يوجد فيه المؤمن، فإن وقف طال بيده أن يقطف الثّمار، وإن اضطجع استطاع أن ينال أيضاً من الثّمار؛ لأنّها تتدانى له، وبذلك يستطيع أن يأكل منها في أيّ وقتٍ، وعلى أيّ وضعٍ، والإدناء المذكور في قوله تعالى: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾هو تقريب شيء من شيء، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾  [الحاقّة]؛ أي: قريبة التّناول، سهلة الجني.

الآية رقم (15 و 16) - وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا () قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا

تلك متعة أخرى ونعيم آخر، فلن يُترَك الإنسان المؤمن هكذا، بل سيطوف عليه ولدان مخلّدون بآنية من فضّة وأكواب فيها من أصناف الشّراب ما تلذّ به الأعين قبل أن تلتذّ به ألسنتهم وأفواههم.

﴿بِآنِيَةٍ﴾: فالآنية الّتي فيها الشّراب كيزان وأكواب بدون عُرى، فليس لها يدٌ تمسَك بها؛ لأنّ الإنسان في الدّنيا يحتاج العُرَى في الأكواب ليتجنّب حرارة الشّراب السّاخن، أمّا في الجنّة فلن يجد ما يكدِّره أو يزعجه، فكانت كيزاناً وأكواباً دون عُرَى.

والغريب أنّها تجمع بين أنّها من فضّة وأنّها صافية كالزّجاج، ترى الشّراب فيها وهي بعيدة عنك، فإذا كانت الأكواب في الدّنيا من قوارير؛ أي: من زجاج يُصنَع من الرّمل، فإنّ أكواب وقوارير الجنّة من فضّة، ولكنّها في صفاء الزّجاج، فلا تخشَ أن تنكسر أو يصيبك منها ضرر، لقد اجتمع لهذه الآنية والأكواب صفاء القوارير وشفوفها ورقّتها مع أنّها من فضّة، ولكن هل هناك فرق بين الآنية والأكواب؟

نقول: نعم،  فالآنية هي الأباريق الّتي يكون فيها الشّراب ثمّ يُصَبّ منها في الأكواب، لذلك قال تعالى: ﴿بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾، ففرَّق بين الصّنفين، ولكن هل معنى هذا أنّ الآنية الّتي من فضّة هي غير شفّافة؟ أمّا الأكواب فهي فقط الّتي كانت قوارير؛ أي: مثل القوارير في صفائها وشفافيّتها مع أنّها من الفضّة؟ ولو تأمّلنا هذا لوجدنا فيه معنى جميلاً، فعندما ترى الإبريق غير شفّاف تكون مشتاقاً لمعرفة ما فيه، فإذا به عندما يُصَبّ منه في الكوب الشّفاف تسعد أكثر.

وحتّى في بناء الآية تجد تشويقاً، فالآية الأولى تنتهي عند قوله تعالى: ﴿كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾، ولكنّ الله تعالى لا يتركك هكذا، بل يحدّد فيقول: ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾فتزداد عجباً ﴿قَوَارِيرَا﴾.. ﴿ مِنْ فِضَّةٍ﴾ زجاج من فضّة وليس من الرّمل!!

﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾: يزيدك الله تعالى عجباً أنهم ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾، فمن صبّ لك الشّراب في الكوب الخاصّ بك، صبّ لك على قدر احتياجك بالضّبط بما يرويك، لا نقص بحيث تحتاج إلى أكثر، ولا زيادة بحيث تحتار أين تذهب بما تبقّى في الكوب، فكيف عرف من صبّ لك قدر احتياجك؟!

ولكن لماذا قال: ﴿قَدَّرُوهَا﴾؟ فهل هم قدّروا الأكواب أو أنّهم قدّروا الشّراب الّذي في الأكواب؟ لو كانت الأولى فهذا معناه كلّ مُنَعّم له كوبٌ أو أكواب خاصّة به قُدِّرَت قدر ريِّه، وإن كانت الثّانية فالأمر أعجب؛ لأنّ الشّراب يوضع في الكوب على قدر ريّ الإنسان وحاجته، فكأنّ من يصبّ الشّراب عنده معرفة ودراية أو شيء من هذا بقدر ريّ كلّ شخص، وصدق رسول الله ﷺ الّذي نقل لنا عن ربّ العزّة الحديث القدسيّ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»([1]).

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، الحديث رقم (3244).

الآية رقم (17) - وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا

نلاحظ أنّ الحقّ تعالى ما زال يستخدم الفعل المبني للمجهول، فقال عز وجل: ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ وكان من الممكن أن يقول تعالى: (وذللنا لهم قطوفها تذليلاً)، وقال تعالى: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ﴾، وهنا يقول عز وجل: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا﴾، وكان من الممكن أن يقول الحقّ تعالى: (ونسقيهم فيها كأساً)، بالبناء للمعلوم، لكنّ الحقّ تعالى أراد أن يقول للإنسان الّذي سمّيت به هذه السّورة: إذا كنت قد قاسيت في الدّنيا وصبرت على مقاساتها ومعاناتها، وكانت الدّنيا لك متعبة تحاربك؛ لأنّك صبرت على إيمانك وطاعتك لله تعالى، فإنّ أمرَ الجنّة أمرٌ آخر قد أعددتها لتخدمك، وسخّرتها لك تسخيراً، تفعل لك ما تريده كلّه من غير أن تطلبه ، فلا تحزن ولا تهتمّ لما تلاقيه في الدّنيا، فالعاقبة للمتّقين.

وهنا يقول تعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا﴾، فهم يسقون، ولا يعدّون ما يريدون بأنفسهم، بل يُعَدّ لهم ويُسقَون إيّاه من غير تدخّلٍ منهم، وليس مهمّاً هنا مَنْ يسقيهم، بل المهمّ هنا ما يشربونه، لذلك بنى الحقّ تعالى الفعل للمجهول، فهم يُسقَون ﴿كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا﴾، وهنا مُزِجَت بالزّنجبيل ، وفي آيةٍ أخرى كان مزاجها كافوراً، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾، فالطّعوم مختلفة والنّكهات متعدّدة حتّى لو اتّحد الشّراب، ومعنى ﴿مِزَاجُهَا﴾؛ أي: أنّها مختلطة مشوبة بالزّنجبيل بشيءٍ قليلٍ منه؛ لأنّ الإنسان يعرف الزّنجبيل في الدّنيا بلذوعته، ولكنّ زنجبيل الآخرة شيءٌ آخر غير الموجود في الدّنيا.