الآية رقم (36) - أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى

أيظنّ الإنسان أنّ الله تعالى خلقه عبثاً، وأنّه سيتركه سُدىً من غير حساب ولا عقاب؟ بل كلّ عمل يفعله الإنسان في الدّنيا مُحصَى عليه، وسيُسأل عنه يوم القيامة، فلا يظنّ الإنسان أنّه سيفلت من الله تعالى أو أنّه سيهرب من عقابه في الآخرة، أو أنّه سيُترَك سُدى، لذلك يقول الحقّ تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون]، ولو تركنا الله تعالى بلا حساب لكان المنحرف الّذي أعطى لنفسه شهواتها في الدّنيا أوفرَ حظّاً من المستقيم.

الآية رقم (37) - أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى

النّطفة في الأصل هي قطرة الماء العذب، وكذلك هي خلاصة الخلاصة؛ لأنّ جسم الإنسان تحدث فيه عمليّة الاحتراق، وعمليّة الأيض؛ أي: الهدم والبناء بصفةٍ مستمرّة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم، فالبول والغائط والعرق والدّموع وصمغ الأذن، كلّها فضلات ناتجة عن احتراق الطّعام بداخل الجسم، حيث يمتصُّ الجسم خلاصةَ الغذاء وينقلها إلى الدّم، ومن هذه الخلاصة يُستَخلص منيُّ الإنسان الّذي تُؤخَذ منه النّطفة، فهو خلاصة الخلاصة في الإنسان، ومنه يحدث الحمل ويتكوّن الجنين، وكأنّ الخالق عز وجل قد صفَّاها هذه التّصفية ونقّاها هذا النّقاء كلّه؛ لأنّها ستكون أصلاً لأكرم مخلوقاته وهو الإنسان، فالله تعالى خلق آدم عليه السلام من طين، ثمّ جعل نسله من هذه النّطفة الحيّة الّتي وضعها في حوّاء، ثمّ أتى منها الخَلْق كلّهم بعده، فكأنّ في كلّ واحد منّا ذرّة من أبيه آدم عليه السلام، فهذه الذّرّة موجودةٌ فيك وفي غيرك، والنّطفة الّتي هي أساس خَلْق الإنسان تعيش في وسط مناسب هو السّائل المنويّ، لذلك قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾، وهي الحيوان المنويّ الّذي يتزاوج مع البويضة الموجودة في الرّحم فتنتج العلقة ويكون الحمل.

الآية رقم (38) - ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى

﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً﴾: اسم العلقة جاء من مهمّتها، حيث تتعلّق بجدار الرّحم كما أثبت العلم المعاصر، يقول تعالى: ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ [المؤمنون: من الآية 14]، ويقول العلماء: تتحوّل هذه النّطفة إلى علقة بعد أربعين يوماً، وهي عبارة عن بويضة مُخَصَّبة تبدأ في أخذ الغذاء.

﴿فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾: أي: فقدّر خَلْقه وسوّاه وعدله، ونفخ الرّوح فيه، وكمّل أعضاءه وسوَّاها، وجعله سميعاً وبصيراً وناطقاً، وجعله مُستوياً معتدل القامة، جعله إنساناً يمشي ويتحرّك ويتكلّم ويسمع ويُبصِر ويفكّر بعد أنْ كان مجرّد ماء جرى من أبيه لأمّه، وأصبح علقة تعلّقت برحم أمّه، ثمّ مضغة، ثمّ سوّى الله تعالى أعضاءه في رحم أمّه، ثمّ خرج إلى الحياة

الآية رقم (39) - فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى

﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ﴾: كلمة (زوج) تعني مفرداً معه مثله، فالذّكر زوج والأنثى زوج أيضاً، والذّكر والأنثى كلاهما من المنيّ، والجنس البشريّ جعل منه تعالى الذّكر والأنثى، ومنهما يأتي الإنجاب الخلافيّ، فهو محمول أوّلاً في ظهر أبيه نطفة، ثمّ في أمّه جنيناً، ثمّ تضعه لترعاه مع والده، ويربّيه الاثنان حتّى يبلغ رشده، فجعل تعالى من الإنسان أولاداً ذكوراً وإناثاً، والمقصود بالزّوجين الصّنفين.

والضّمير في: ﴿مِنْهُ﴾ عائد على ماء الرّجل.

﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾: بدل من الزّوجين.

الآية رقم (40) - أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى

السّورة سورة القيامة، ومدار الكلام فيها على إثبات البعث والقيامة، فقال من بدايتها: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾، فهل يظنّ الإنسان أنّنا لن نجمع عظامه الّتي تفرّقت وتفتّتت، ثمّ يذكر الحقّ تعالى بعض أحداث يوم القيامة: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾، فأنت أيّها الإنسان المكذّب الّذي لا صدّقت ولا صلّيت ستموت حتماً: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾، وإيّاك أن تُفَكّر أنّ الله تعالى خلقك عبثاً، وأنّه سيتركك سُدىً من غير أمرٍ أو نهيٍ، أو من غير ثوابٍ أو عقابٍ، ولا تترفّع عن أمر ربّك، فما أنت إلّا من نطفة: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾، ثمّ ختم الحقّ تعالى السّورة بقوله: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾؟ والمنكرون للبعث يقولون: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السّجدة]، فهم لا يصدّقون أنّ الّذي أنشأهم أوّل مرّة بقادرٍ على أن يُعيدهم مرّة أخرى، لذلك يقول الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾.

الآية رقم (33) - ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى

﴿يَتَمَطَّى﴾: أي: يتبختر، ومنه حديث رسول الله ﷺ: «إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ، وَخَدَمَتْهُمْ فارس والروم، سُلِّطَ بعضُهم عَلَى بَعْضٍ»([1])، فهو تولّى مُعرِضَاً، ومعنى يتمطّى؛ أي: يمدّ مطاه؛ أي: ظهره، والمطيّة ما يُركَب مطاه من البعير، فهو يتبختر عُتُوّاً واستكباراً وفرحاً وتجبّراً، والكلمة فيها شيءٌ عجيب يدلّ على ارتباط الصّوت بالصّورة الّتي يريد أنْ ينقلها لنا الله تعالى، فنستطيع أن نتلمّس هذا التّطاول من موسيقا الكلمة.

([1]) صحيح ابن حبّان: بَابُ إِخْبَارِهِ , عَمَّا يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْحَوَادِثِ، ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَمَارَةِ الَّتِي إِذَا ظَهَرَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سُلِّطَ الْبَعْضُ مِنْهَا عَلَى بَعْضٍ، الحديث رقم (6716).

الآية رقم (34 و 35) - أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى () ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى

وسبب هذه الآيات أنّ أبا جهل تهدَّد رسول الله ﷺ بالقتل، فقال أبو جهل: إليك عنّي، فإنّك لا تستطيع أنتَ ولا ربّك أنْ تفعلا بي شيئاً، لقد عَلِمَتْ قريش أنّي أعزّ أهل البطحاء وأكرمها، فبأيّ ذلك تخوّفني يا بن أبي كبشة؟ ثمّ انسلّ ذاهباً إلى منزله فذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾، فأخذ رسول الله ﷺ بتلابيب أبي جهل بالبطحاء فدفع في صدره، وقال: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾؛ أي: يُهدّده ويتوعّده، وهو يُقال لَـمَنْ وقع في هلكة أو قاربها، وقد قال أبو جهل عندما سمع قول رسول الله ﷺ هذا له: أيوعدني محمّد وما بين جبليها أعزّ منّي ولا أكرم، فأنزل الله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[الدّخان]، أولى لك بأن تؤمن، وأن ترتدع، وأن تعود عن غيّك وضلالك، والتّكرار للتّأكيد، ويُحتَمل أنْ يُراد به: ويلٌ لك في الدّنيا بالقتل واللّعن، وويلٌ لك يوم الموت، وويلٌ لك إذا بُعثت، وويلٌ لك إذا دخلت النّار، لذلك استخدم الحقّ تعالى حرف العطف ﴿ثُمَّ﴾، وهو يُفيد التّراخي، وليس التّرتيب والتّعقيب كحرف الفاء، فمن خلال حرف العطف نفهم أنّهما مرحلتان، في كلّ مرحلة له عقاب كما قال المفسّرون، ففي يوم بدر ماذا جرى لأبي جهل؟ وما سيحدث له يوم القيامة؟

الآية رقم (24) - وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ

إذا كانت وجوه المؤمنين ناضرة ناعمة تعبّر عن التّنعّم في جنّة النّعيم، فإنّ وجوه الكافرين المكذّبين تكون ﴿بَاسِرَةٌ﴾؛ أي: عابسة كالحة متغيّرة مُسودّة قد أظلمت ألوانها، وخَلَتْ من آثار النّعمة والسّرور، والحقّ تعالى قال في آيةٍ أخرى: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾[المدّثّر]، فاستخدم تعالى الفعل (بسر)، أمّا ﴿بَاسِرَةٌ﴾ فهي فاعلة، فـ (بسر) كلح وقطّب وجهه، قد أصابه الهمّ، فوجوههم باسرة عابسة كالحة تعلوها الظّلمة والغبار، كما قال الله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس]، فعلى وجوههم غبرة سوداء وترهقهم قترة، والقترة الغبار، مأخوذة من القتار، وهو الهواء المملوء بدخان الدّهن المحترق من اللّحم المشوي، وقد تكون رائحته أخّاذة ويسيل لها اللّعاب، ولكن مَنْ يُوضع على وجهه هذا القتار يصنع له طبقة سوداء.

الآية رقم (25) - تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ

﴿تَظُنُّ﴾: الظّنّ هنا بمعنى اليقين أن يُفعَل بها فاقرة؛ أي: يُفعَل بهم أمرٌ عظيم من العذاب يقصم فقار ظهورهم.

﴿فَاقِرَةٌ﴾: الفاقرة: الدّاهية العظيمة والأمر العظيم الشّديد الّذي يكسر فقار ظهره ويقصمه، وقيل: الفاقرة: دخول النّار، وقيل: هي أنْ تُحجَب تلك الوجوه عن رؤية الله تعالى، فالفاقرة هي الدّاهية أو المصيبة الّتي إذا حلّت بالإنسان كسرتْ فَقَار ظهره، ومن العلماء مَنْ فسَّر الفاقرة بأنواع العذاب في النّار.

الآية رقم (26) - كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ

﴿التَّرَاقِيَ﴾: جمع تُرْقوة، وهي العظام المكتنفة لثغرة النّحر عن يمين وشمال.

﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾؛ أي: إذا بلغت الرّوح الحُلقوم، وبلوغ التّراقي؛ أي: حين تزول النّفسُ والرّوح عن مكانها وتنتهي إلى التّراقي، وهي مُقَدَّم الحَلْق من أعلى الصّدر تترقّى إليه النّفس عند الموت، وهناك تحدث الحشرجة، فروح الإنسان تُنزَع من أصابع القدم ثمّ تصعد إلى التّراقي.

الآية رقم (27) - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ

إنّها لحظة الاحتضار وخروج الرّوح وحوله أهله، فيظنّون أنّهم يستطيعون إنقاذ روحه، فيقول بعضهم: ﴿مَنْ رَاقٍ﴾؟

الآية رقم (28) - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ

لقد تأكّد المحتَضر عند هذه اللّحظات أنّ هذه هي ساعته، وأنّها ساعة فراق الأحبّة والأبناء والأصدقاء، ساعة فراق الدّنيا وما اكتسبه فيها من مال وعقار، فالموت في هذه الحالة أمرٌ مقطوعٌ به، ولا حيلة للطّبيب، كما قال الشّاعر:

إنَّ الطّبيبَ لهُ علمٌ يُدِلُّ بِه
حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه                     .
إن كان للمرءِ في الأيّامِ تأخيرُ
حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ
.

﴿وَظَنَّ﴾: هنا بمعنى تأكّد.

إنّها لحظة الفراق، لحظة تنتهي فيها حياةُ الإنسان وحكايته وقصّته على الأرض، ولا يستطيع أحدٌ أن يعالج سكرات الموت.

الآية رقم (29) - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ

مَنْ يتأمّل هذه الآية ويعيش تلك اللّحظة الّتي يحتضر فيها إنسان يترك دنياه بكلّ ما فيها، يتركها إلى حياة أخرى لا يدري ما يُفعل به فيها، فالـمُغسِّل عندما يُغَسِّل ميتاً، يُقلّبه يميناً ويساراً، ولكي يتحكّم في رجليه من أنْ تسقط يضع اليمين على اليسار، ويجعل السّاقين تلتفّان على بعضهما، وبعضهم تأوّل هذه الآية على اجتماع شدّة الموت بشدّة الآخرة عليه، وذلك آخر يومه من الدّنيا وأوّل يومه من الآخرة، وقيل: ما من ميت يموت إلّا التفّت ساقاه من شدّة ما يُقاسي من الموت، فشدائد الموت وسكراته تلتفّ بشدائد القيامة والقبر وتجتمع عليه، فهو من كربٍ إلى كربٍ إن لم يكن مؤمناً طائعاً لله تعالى.

الآية رقم (30) - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ

فمرجع العباد إلى الله تعالى، يُسَاقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم، فلا تظنّ أنّ مرجعك إلى غير الله عز وجل، تسوق الملائكة أرواحهم حيث أمرهم الله تعالى، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار.

وساعة ترى: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، وتجد فيها هذا التّنوين، فاعلم أنّه عِوَضٌ عن شيءٍ محذوف، والمحذوف هنا أكثر من جملة، ويُصبِح المعنى: يوم إذ نجيء بهم يوم القيامة يُسَاقون إلى مصيرهم.

الآية رقم (31 و 32) - فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى () وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى

لَـمْ يُصَدِّق بل أعرض عن الإيمان وكذّب رسول الله ﷺ، وهذا فعله كبار صناديد قريش، أمثال: أبي جهل وأبي لهب والوليد بن المغيرة، لذلك ساق المفسّرون هذه الآية في أبي جهل وغيره، قالوا: فلا صدّق أبو جهل بالقرآن، ولا صلّى لله تعالى، فلا صدّق بما جاء من عند الله تعالى ولا صدّق رسوله ﷺ، وليس المقصود هؤلاء فقط، إنّما المقصود جنس الإنسان، ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، هذا الّذي كان يحسب أنّنا لن نجمع عظامه.

وقد تكون: ﴿صَدَّقَ﴾بمعنى: تصدّق، من الصّدقة، فإنّه لم يتصدّق بماله على الفقراء، ولم يكُنْ يُطعِم المسكين، فلم يكُنْ يعبد الله تعالى على أيّ وجه، بل كذَّب بالبعث والقرآن الكريم والرّسول ﷺ، وتولّى وأعرض عن الله تعالى والرّسول ﷺ.

الآية رقم (14) - بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ

فالإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله، وهم سمعه وبصره وجوارحه، وقد يسأل سائل: لماذا لم يقل الله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصير)؟ لماذا كانت ﴿بَصِيرَةٌ﴾؟ تقدير الكلام: بل الإنسان على نفسه عينٌ بصيرة، فلا شاهد أفضل من نفسك، وذلك قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: من الآية 14]، يعني شاهداً، والحقّ تعالى جعل الإنسان هو البصيرة على نفسه، كما تقول للرّجل: أنت حجّة على نفسك.

الآية رقم (15) - وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ

ولو اعتذر بكلّ عذر، وجادل عن نفسه فإنّه لا ينفعه؛ لأنّه قد شهد عليه شاهدٌ من نفسه.

﴿مَعَاذِيرَهُ﴾: جمع معذرة، وقد أوضح الحقّ تعالى في قرآنه الكريم بعض معاذيرهم، مثل قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: من الآية 23]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ [المجادلة: من الآية 18].

الآية رقم (16) - لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ

هنا يقطع الحقّ تعالى الكلام عن يوم القيامة وأهواله، ويأتي مباشرة إلى المخرج، وإلى النّور الهادي، وهو القرآن الكريم، ويُطَمئن الرّسول العظيم ﷺ على حفظ القرآن الكريم؛ لأنّه ﷺ عندما كان ينزل عليه الوحي يحاول إعادة الكلام كلمة كلمة، فإذا قال الوحي مثلاً: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾  [الجنّ: من الآية 1]، يبدأ الرّسول ﷺ بتكرارها في سرّه، ويردّدها خلف جبريل عليه السلام مخافة أن ينساها لشدّة حرصه على القرآن الكريم، فنهاه الله تعالى عن هذه العجلة، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: من الآية 114]؛ أي: لا تتعجّل ولا تنشغل بالتّكرار والتّرديد، فلا تخشَ أن يفوتك شيءٌ منه فقد تكفّل الله تعالى بحفظه، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى]، وهنا يقول تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾؛ أي: لَـمّا تكتمل الآيات فلكَ أن تقرأها كما تحبّ، وقد كان ينزل عليه ﷺ عدّة أرباع من القرآن الكريم أو السّورة كاملة، حيث يُسرى عنه الوحي يعيدها كما أنزلت عليه، ومن عجيب أمر القرآن الكريم أنّك لا تجد شخصاً يُلقي كلمة لمدّة خمس دقائق مثلاً ثمّ يُعيدها عليك كما قالها نصّاً، أمّا النّبيّ ﷺ فكانت تُلقى عليه السّورة فيُعيدها كما هي، وهنا يقول له الله تعالى: أرِحْ نفسك يا محمّد، ولا تخْشَ النّسيان، وانتظر حتّى تنتهي الآيات، وسوف تُعيدها كما هي من غير أنْ تنسى منها حرفاً واحداً؛ لأنّنا تكفّلنا به.

الآية رقم (17 و 18) - إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ () فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ

﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾: إنّ علينا جمعه في صدرك، ونُقدرك على قراءته فلا تنسَ منه شيئاً.

﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾: فاستمع وأنصت، فإذا جمعناه في صدرك ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾؛ أي: ما جمع فيه فاعمل به من أمر أو نهي، واستمع له، ثمّ اقرأه كما أقرأك جبريل عليه السلام، والقرآن مصدر قراءة، والقرآن الكريم لا يُقرَأ كسطور، وإنّما يُحفَظ في الصّدور ويدخل إلى القلب والعقل، وقد قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾[الشّعراء]، نزل على قلبه، والقلب وعاء، فإنّ علينا جمعه وقرآنه: نجمعه ونثبّته في قلبك، لذلك قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾، ولم يقل: (فاتّبع قراءته)، فللتّفريق ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾يعني حفظه، وهذه الآية ليس لها تفسير في اللّغة العربيّة إلّا بما أراده الله تعالى من عظمة لكتابه الكريم.

﴿إِنَّ﴾: حرف مشبّه بالفعل.

﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾ المقدّم.

﴿جَمْعَهُ﴾: اسمها المؤخّر.

﴿وَقُرْآنَهُ﴾: معطوف على ما قبله، والجملة تعليل للنّهي لا محلّ لها.

الآية رقم (19) - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ

﴿عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾: بيان الشّيء: توضيحه وشرحه وتأويله، بعد أنْ تحفظه وتقرأه كما أقرأناه لك فسنوضحه لك، وسنبيّن لك معناه وتفسيره، وسنبيّن لك حلاله وحرامه، وقد خاطب الحقّ تعالى النّبيّ ﷺ في آيةٍ أخرى، فقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النّحل: من الآية 44]، فالبيان من الله تعالى، والتّبيين من النّبيّ ﷺ، ثمّ إنّ علينا بيان ما فيه من حلاله وحرامه وأحكامه نبيّنها لك مفصّلة، وكلمة: ﴿عَلَيْنَا﴾ تُعطي معنى أنّ الله تعالى ألزم نفسه أنْ يجمع له آيات القرآن الكريم في صدره، وأنّ عليه أن يُبَيِّنه ويُبيّن له أحكامه، فسنبيّن لك ما أجملناه، فنفصّله لك بفرائضه وآدابه وأركانه.