الآية رقم (38) - كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ

فكلّ نفسٍ من نفوس الكفّار مرتهنة في النّار بكسبها، ومأخوذة بعملها، فكلّ كافر مرتهن بذنوبه في النّار، والرّهن في اللّغة الثّبوت والدّوام، وهو أيضاً من الحبس، فهم محبوسون نتيجة معاصيهم وذنوبهم، فهي معتقلة بعملها يوم القيامة، فكلّ امرئٍ مرتهنٌ بعمله لا يُحمَل عليه ذنب غيره من النّاس سواء كان أباً أم ابناً، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾[النّجم]، فهم دائمون في الارتهان في سقر لا تنفعهم شفاعة شافع.

الآية رقم (27) - وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ

ما أعلمك يا محمّد أيّ شيءٍ هي سقر، والمقصود ما أعظم هولها وشدّتها!.

الآية رقم (28) - لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ

فلا تُبقي أحداً من المستحقّين للعذاب إلّا أخذته، ولا تذر منهم شيئاً إلّا أكلته وأهلكته.

الآية رقم (29) - لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ

البشر جمع بشرة، فهذه النّار لوَّاحة لأبشار المعذّبين، مغيّرة للجلد حتّى تجعله أسود، فهي محرقة للجلد لافحة له.

الآية رقم (30) - عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ

أي: على النّار تسعة عشر من الملائكة، وهم خزنتها مالك عليه السلام ومعه ثمانية عشر، وقد رُويَ عن ترجمان القرآن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنّ خزنة جهنّم مع كلّ واحد من الأعوان ما لا يُحصى، وذكر أنّ ستّة منهم يقودون الكفرة إلى النّار، وستّة يسوقونهم، وستّة يضربونهم بمقامع من الحديد والنّار، والآخر هو الخازن الأكبر وهو مالك عليه السلام: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾[الزّخرف]، وقد وصفهم الحقّ تعالى في آيةٍ أخرى، فقال: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التّحريم: من الآية 6]، فهم فِظاظ على أهل النّار شداد أقوياء.

الآية رقم (21 و 22) - ثُمَّ نَظَرَ () ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ

قطّب وجهه وحاجبيه، فقد أخذ يفكّر ويفكّر حتّى ضاق صدره بالفكر، فبدأ أثر العبوس والبسور في وجه، إنّه في آخر التّفكير والتّقدير والنّظر والعبوس والبسور قال: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾  هذا ما انتهى إليه تفكيره.

الآية رقم (23) - ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ

﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾: الاستكبار: إباء ورفض للإيمان، حاول أن يجعل نفسه فوق النّاس كلّهم، وفوق قدره.

الآية رقم (24) - فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ

ما توصّل إليه الوليد بن المغيرة بعد طول تفكير أنْ قال: ما هذا القرآن إلّا سحر، هو سحرٌ ﴿يُؤْثَرُ ﴾؛ أي: يؤثره عن غيره؛ أي: يرويه عن غيره، وقد ذكر الحقّ تعالى فاء التّعقيب في: ﴿فَقَالَ﴾ ليُعلَم أنّه لَـمّا ولَّى واستكبر ذكر هذه الشّبهة أنّ القرآن سحر، وأنّه يُفرّق بين الرّجل وامرأته، والأب وابنه، وهو ﴿سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾أخذه عمّنْ تقدّمه، ويحتمل وجهاً آخر أنّه سحر يُؤَثِّر في النّاس لحلاوته، فكأنّ القرآن الكريم سحر يُظهر الباطل في صورة الحقّ، فأطلقوا على رسول الله ﷺ أنّه ساحر، فلا يَلقى أحدٌ منهم النّبيّ ﷺ إلّا يقول له: يا ساحر، يا ساحر، فاشتدّ ذلك على رسول الله ﷺ، فهؤلاء لم يجدوا حجّة يواجهون بها القرآن الكريم فقالوا: سحر، كما علّمهم الوليد بن المغيرة.

الآية رقم (25) - إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ

ولم يكتف الوليد بن المغيرة بوصف القرآن الكريم بأنّه سحر، بل قال أيضاً: إنّه من قول البشر، ويعني هنا أنّ هذا القول قول إنسانٍ وليس قول الله عز وجل، قول بشر يستطيعون أن يأتوا بمثله، فردّ عليهم بأنّ القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، والله تعالى تحدّاهم بأن يأتوا بسورة من مثله.

الآية رقم (26) - سَأُصْلِيهِ سَقَرَ

سأورده باباً من أبواب جهنّم اسمه سقر، فهذا وعيد من الله تعالى بأن يُصليه سقر، وهي الدّركة الخامسة من دركات النّار، فــ ﴿سَقَرَ﴾ إمّا بابٌ من أبواب جهنّم، وإمّا دركة من دركات جهنّم.

﴿سَأُصْلِيهِ﴾: أي: سأدخله سقر، ويقول تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾ [اللّيل].

الآية رقم (12 و 13) - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا () وَبَنِينَ شُهُودًا

فأنا لم أخلقه وأوجده في الدّنيا، وتركته هملاً، بل تكفّلت برزقه، والنّعم كلّها الّتي في الدّنيا هي من عطاء الرّبوبيّة لله تعالى لخَلْقِه جميعاً.

﴿مَالًا مَمْدُودًا﴾أي: مالاً كثيراً غير منقطع، يمدّ بعضه بعضاً دائماً، وهو ما يُـمَدُّ بالنّماء، كالزّرع والضّرع والتّجارة.

ثمّ إنّ الحقّ تعالى لم يُعطِه مالاً فقط، بل أعطاه البنين أيضاً، فقال تعالى: ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾، والمال والبنون قال عنهم الحقّ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: من الآية 46]، فهو أنعم عليه بالمال الممدود وغير المنقطع، وأنعم عليه بالبنين الشّهود؛ أي: الرّجال الّذين يشهدون معه المحافل والمجامع، وقد كانوا عشرة من الرّجال، ومن معنى: ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ أنّهم كانوا لا يغيبون عنه أبداً في تجارةٍ ولا في غيرها لكثرة أموالهم بمكّة، فهو لم يَحْتَج إلى تفريق أولاده في الجمع والاكتساب، لذلك متّعه الله عز وجل برؤيتهم حوله، فمتعة الأب برؤية أبنائه حوله لا تعدلها متعة.

الآية رقم (14 و 15) - وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا () ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ

أي: بسطت له في العيش وطول العمر بَسْطاً مع الجاه العريض والزّعامة في قومه، والتّمهيد هو التّمكين، فقد مهّد الله تعالى له سبل العيش الرّغيد، فمكّنه الله عز وجل بأنْ أعطاه المال الوفير، وأعطاه القوّة المتمثّلة في أبنائه الّذين هم في حضرته، ودائماً معه، ولكنّه مع هذا كلّه، المال والثّروة الواسعة والبنين الشّهود والتّمهيد والتّمكين والسّلطان والجاه، فإنّه يطمع فيما هو أكثر، قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾فهو يطمع في المزيد من المال والولد والتّمهيد، إنّ الله تعالى أعطاه مالاً لم يُعطه لأحدٍ في قريش، حتّى أنّه كان يقول: لو قسمت مالي يميناً وشمالاً على قريش ما دمت حيّاً ما فني، فكيف تعدني الفقر يا محمّد؟ فقال ﷺ: «أما والله إنّ الّذي أعطاك قادرٌ أنْ يأخذه منك»، فوقع في قلبه من ذلك شيءٌ، ثمّ عمد إلى ماله، ما كان من ذهبٍ وفضّةٍ أو حديقةٍ أو رقيقٍ فعدّه وأحصاه([1])، ومع هذا يطمع أن أزيده من المال والولد والجاه والسّلطان، ولكن الله عز وجل يقطع أمله في الزّيادة، فيقول تعالى:

([1]) أورده مقاتل بن سليمان في تفسيره: ج 4، ص 838.

الآية رقم (16) - كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا

﴿كَلَّا﴾: قاطعة حاسمة من الحقّ تعالى فيها الهيبة، قطع الله تعالى بها أملَ هذا المكذِّب لآيات الله عز وجل، والمتبطّر بنعمته، فلن ينال ما يرجو ويأمل من زيادة المال والولد فوق ما أخذ، وقد أخذ أمره في النّقصان من بعد قوله تعالى هذا، فأخذ ماله في النّقصان لا الزّيادة، وذهب سلطانه وجاهه بموت أبنائه، وقد أسلم من أولاد الوليد بن المغيرة اثنان: خالد بن الوليد، وهشام بن الوليد رضي الله عنهما، فما زال الوليد بن المغيرة بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتّى هلك، والحقّ تعالى يعطينا سبب ﴿كَلَّا﴾ القاطعة الحاسمة هذه بأنّ الوليد بن المغيرة ﴿كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ إنّه لم يكن مُكذِّباً عاديّاً لرسول الله ﷺ ولقرآنه الكريم، ولم يكن مجرّد كافر يرفض الإيمان، إنّما كان: ﴿عَنِيدًا﴾ ، فكان عنيداً في رَفْض جميع دلائل التّوحيد والقدرة والبعث والنّبوّة منكراً لذلك كلّه، وقد قال بعضهم: إنّ كفره كفر عناد، لا أنّه كان لا يؤمن بالبعث حقيقةً أو أنّه كان لا يؤمن أنّ القرآن الكريم من عند الله تعالى فعلاً، وكلمة: ﴿عَنِيدًا﴾ هنا تعطينا دلالة أنّ كفره كان لمجرّد العنْد، وهذا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ  [الأنعام: من الآية 33]، إنّهم يعرفون أنّك يا محمّد صادق لا تكذب أبداً، لكنّ عنادهم جعلهم يصرّون على الكفر.  

الآية رقم (17) - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا

أي: سأكلّفه مشقّة من العذاب لا راحة له فيها، وقد وصف رسول الله ﷺ هذا فقال: «الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَتَصَعَّدُ فِيهِ الكَافِرُ سَبْعِينَ خَرِيفاً، ثُمَّ يَهْوِي بِهِ كَذَلِكَ أَبَداً»([1])، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴾ [الجنّ: من الآية 17]، فهم يُكلّفون الصّعود على جبل من نار فلا يقدرون على صعوده إلّا بعد شدّة عظيمة.

([1]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ,، بَاب وَمِنْ سُورَةِ الـمُدَّثِّرِ، الحديث رقم (3326).

الآية رقم (18 و 19) - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ () فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ

أي: فكّر في الأمر الّذي يريده ونظر فيه وتدبَّره ورتّب في قلبه كلاماً وهيّأه لذلك، وذلك أنّ الله تعالى لَـمّا أنزل على نبيّه ﷺ: ﴿حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [غافر]، إلى قوله: ﴿الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: من الآية 3]، قام النّبيّ ﷺ في المسجد يُصَلّي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، ففطن رسول الله ﷺ لاستماعه فأعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتّى أتى مجلس قومه من بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه يعلو وما يُعلى عليه، ثمّ انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، وضجّت قريش، فقام الوليد حتّى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أنّ محمّداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق قطّ؟ قالوا: اللّهمّ لا، قال: تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتموه قطّ تكهّن؟ قالوا: اللّهمّ لا، قال: تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعرٍ قطّ؟ قالوا: اللّهمّ لا، قال: تزعمون أنّه كذّاب، فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا: اللّهمّ لا، وكان رسول الله ﷺ يُسمّى الأمين قبل النّبوّة لصدقه، فقالت قريش: فما هو؟ فتفكَّر في نفسه، فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ لقد ثبت كذبهم في أنّ محمّداً مجنون أو كاهن أو شاعر، لذلك أخذ الوليد يفكّر، وقد فكّر كثيراً: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ فكّر فيما أنزل الله عز وجل على نبيّه من القرآن الكريم، وقدَّر فيما يقول فيه.

الآية رقم (20) - ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ

أي: لُعِن لعنة وطُرِد من رحمة الله عز وجل بسبب ما فكّر فيه فيما يقول في محمّد وفيما قدّر.

الآية رقم (9 و 10) - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ () عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ

فيوم النّفخة، وهو يوم القيامة، يومٌ عسير شديد شاقّ، وليس معنى وصفه لهذا اليوم بأنّه عسير أنّ هذا على إطلاقه، بل هو عسيرٌ على فريق، يسيرٌ على غيرهم، لذلك قال تعالى بعدها: ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾، وإنّما يقع العذاب على الكفرة ويحقّ عليهم، فلذلك سمّاه عسيراً، وهو إذا كان عسيراً على فريقٍ فهو يسير على غيرهم، وقد يكون عسيراً على الخلائق أجمع من شدّة هول ذلك اليوم، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحجّ: من الآية 2]، فالنّاس هنا تشمل الجميع، ثمّ إنّ المؤمنين تفرج عنهم الأهوال بما يأتيهم من البشارات والكرامات عن الله تعالى، ويبقى عُسْره على أصحاب النّار.

﴿غَيْرُ يَسِيرٍ﴾: أي: غير هيّن، ورسول الله ﷺ يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا»([1]).

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الـمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ t، الحديث رقم (11717).

الآية رقم (11) - ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا

فذرني ومَنْ خلقته في بطن أمّه وحيداً فريداً لا مالَ له ولا ولد، فذرني وإيّاه فأنا أكفيكه، وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة، وكان يُسمّى: الوحيد في قومه، فخلّ بيني يا محمّد وبين مَنْ خلقته وحدي لم يشترك أحدٌ معي في خلْقِه، فأنا وحدي الخالق خلقتُ كلّ شيءٍ وحدي، وهذا تهديدٌ مُرعِب ومُفزع، فكأنّ الحقّ تعالى يقول: (إنّي أتولّى عذابه يوم القيامة وحدي كما تفرّدت بخَلْقي إيّاه وحدي).

الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ

يُخاطب الحقّ تعالى رسوله هنا بـ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، وفي السّورة الّتي قبلها خاطبه بوصفه المزّمّل، فقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزّمّل]، وقد حدّث النّبيّ ﷺ عن فترة الوحي، فقال: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الـمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْباً، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ إِلَى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾»([1])، وأصل ﴿الْمُدَّثِّرُ﴾ المتدثّر بثيابه إذا نام، فأُدغِمَت التّاء في الدّال وشُدِّدَت، والدّثار الثّوب الّذي يتدثّر به الإنسان عند نومه، وهذا على أنّ التّدثّر هنا على ظاهره، وأنّه متغطٍّ فعلاً بدثاره وغطائه، ولكنّ الآية تحتمل تأويلاً آخر، أنّه ليس المراد من المدّثّر المتدثّر بالثّياب، بل هو دثارٌ معنويّ، وهو هنا التّدثّر بدثار النّبوّة والرّسالة، فيا أيّها المتدثّر بأثواب العلم العظيم، والخُلُق الكريم، والرّحمة الكاملة:

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، بَابُ ﲣ ﲤﲥ، الحديث رقم (4925).

الآية رقم (2) - قُمْ فَأَنذِرْ

والقيام في لغة العرب قيام جِدٍّ وعزم، فأنذر النّاس وأهل مكّة إن لم يؤمنوا عذاب ربّك ووقائعه في الأمم، وشدّة نقمته إذا انتقم، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[الشّعراء]، فبعد أن كان متوجّهاً إلى الله تعالى، مُشتغلاً بعبادته، ومُتَحنِّثاً في غار حراء؛ أي: يتعبّد في اللّيالي ذوات العدد، كان: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ توجيهٌ له ﷺ أنْ يخرج من تحنّثه وعبادته للقيام بالمهمّة الّتي كُلِّف بها وهي الإنذار وتبليغ الرّسالة.