الآية رقم (53) - كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ

فالمسألة بالنّسبة إليهم ليست أنّهم يريدون كتباً وصحفاً تنزل عليهم فعلاً، فلو نزلت عليهم فعلاً ما آمنوا، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام]، هم لن يؤمنوا على أيّ حال كان الأمر، إنّما هي مبرّرات يُعطونها لأنفسهم حتّى لا يؤمنوا، وإن تحقّق ما يريدونه لن يؤمنوا أيضاً؛ لأنّهم يريدون أن يهربوا من البعث والحساب واليوم الآخر، ولا يريدون أن يُلزمهم أحد بمنهج وأوامر ونواهي، فلا يريدون أن يتركوا الفساد الّذي يتقلّبون فيه حتّى يأتيهم الموت.

الآية رقم (54 و 55) - كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ () فَمَن شَاء ذَكَرَهُ

نجد في نصوص القرآن الكريم عجيباً فتجد نصّاً مساوياً لنصّ، ثمّ يختلف السّياق فيختلف النّصّ، فيقول الحقّ تعالى هنا: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾، ومرّة أخرى يقول: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾[عبس]، ومرّة أخرى يقول: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾[الإنسان]، فهذا لون ونوع من المتشابه من الآيات ليقول لنا الحقّ تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾[القيامة]، فالمسألة ليست ثابتة، وليست عمليّة صمّاء، إنّه كلام ربّ حكيم.

﴿إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾: إنّه عظة عظيمة، فليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في هذا القرآن الكريم من أنّه سحر يؤثر، وأنّه قول البشر، ولكنّه تذكرة من الله عز وجل لخلْقِه.

﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾: فَـمَنْ شاء اتّعظ به، فإنّما يعود نَفْع ذلك عليه، فاستعمل ما فيه من أمر الله تعالى ونهيه، فليس أحد بممنوع ولا مجبور على الفعل، فَـمَنْ ترك التّذكّر فهو الّذي ضيّع ذلك، حيث آثر واختار ضدّه واشتغل بغيره وأعرض عن ذكره.

الآية رقم (56) - وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ

 ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾: فإذا شاء الله تعالى لهم الهدى تذكَّروا واتّعظوا، فلا أحد يقدر على شيء إلّا أنْ يشاء الله تعالى بأن يقدِّره عليه، ويُعطيه القدرة عليه.

﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾: يُنهِي الحقّ تعالى سورة المدّثّر بالثّناء على ذاته العليّة، فهو تعالى حقيق وجدير بأنْ يتّقيه عباده ويخافوا عقابه، وأن يؤمنوا به ويطيعوه، وهو حقيق بأنْ يغفر لهم ما سلف من كفرهم وذنوبهم.

عن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال في هذه الآية: «قَالَ رَبُّكُمْ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلَا يُجْعَلْ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنْ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهاً، كَانَ أَهْلاً أَنْ أَغْفِرَ لَهُ»([1]).

([1]) مُسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t، الحديث رقم (12442).

الآية رقم (52) - بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً

فالمشركون هؤلاء المكذّبون طلبوا أنْ يصبحوا عند رأس كلّ رجل منهم كتاب منشور من الله تعالى أنّ محمّداً رسول الله، ويأمر فيه باتّباعه، وكانوا يقولون: كان الرّجل من بني إسرائيل ذنبه وكفّارة ذنبه يصبح مكتوباً عند رأسه فهلّا تُرينا مثل تلك الآيات إن كنتَ رسولاً كما تزعم، فقال جبريل عليه السلام: إن شئت فعلنا بهم كفعلنا ببني إسرائيل، وأخذناهم بما أخذنا به بني إسرائيل، فكره النّبيّ ﷺ ذلك لقومه، والغريب أنّهم يكذبون ولا يؤمنون، ومع هذا يريدون أن يُنزل الله عز وجل على كلّ واحدٍ منهم كتاباً خاصّاً به، يأمره فيه الله تعالى بأنْ يؤمن بمحمّد ﷺ.

الآية رقم (43) - قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ

إنّهم كفّار، وقد يسأل سائل: إذا كانوا كفّاراً فكيف يصلّون؟ إنّه اعتراف منهم بأنّهم كفّار، ولم يكونوا يسلكون سلك الإيمان، وأوّل سلك الإيمان هي الصّلاة، فالصّلاة عماد الدّين، من أقامها فقد أقام الدّين، ومن هدمها فقد هدم الدّين، وإسلاكهم في سقر إدخالهم، لَـمْ نَكُ في الدّنيا من المصلّين لله عز وجل.

الآية رقم (44) - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ

فلم نكن نتصدّق على المساكين، وهل مجرّد عدم التّصدّق موجب لدخول سقر؟ لا بالتّأكيد، فهم لم يقرّوا بالصّلاة ولم يؤدّوها، ولم يقرّوا بالزّكاة ولا بحقّ المسكين في مالهم فلم يؤدّوها.

الآية رقم (45) - وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ

فكنّا نخوض في الباطل مع مَنْ خاضوا في الاستهزاء بالرّسول ﷺ وبالمسلمين وبكتاب الله عز وجل القرآن الكريم، وقد قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾[النّساء]، وكلمة: ﴿نَخُوضُ﴾ تُعطي معنى واضحاً مُجسّماً؛ لأنّ الأصل في الخوض أنْ تدخل في مائع؛ أي: سائل، مثل الخوض في المياه أو الطّين، وساعة تخوض في مائع، فالمائع لا ينفصل حتّى يصير جزءاً هنا وجزءاً هناك ويفسح لك طريقاً، بل مجرّد أنْ يمشي الإنسان ويترك المائع يختلط المائع مرّة أخرى، ولذلك يستحيل أنْ تصنع في المائع طريقاً لك، والخوض هو الدّخول في كلام الباطل، فدخلوا وخلطوا أنفسهم مع الّذين يخوضون في القرآن الكريم، وفي الرّسول ﷺ، وفي المؤمنين، وفي عذابهم، وفي التّنكيل بهم، فاستحقّوا سقر.

الآية رقم (46) - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ

فكنّا نكذّب بيوم الجزاء على الأعمال، يوم المجازاة والثّواب والعذاب، وهو يوم القيامة، ولا نصدّق بثواب ولا عقاب ولا حساب.

الآية رقم (47) - حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ

لم نحاول أن نتوب، واليقين هو الموت، واليقين هو الأمر الثّابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذّهن ليناقش من جديد أو يتغيّر، ولا شيء ثابت في الواقع والأعماق مثل الموت الّذي يراه ويُقرّ به الجميع، فالنّاس لا يختلفون حول حتميّة موت الإنسان، فهؤلاء بقوا على كفرهم وغيّهم وضلالهم، ولم يصلّوا ولم يزكّوا، وبقوا يكذّبون بيوم الدّين حتّى فاجأهم الموت.

الآية رقم (48) - فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ

فلن تنفعهم شفاعة الشّافعين، والشّافعون جمع شافع أو شفيع، والحقّ تبارك وتعالى يقول: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة]، والشّفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً عنده ومشفوعاً له ومشفوعاً فيه، هذه هي العناصر الأربعة في الشّفاعة، والمشفوع عنده هو الله تعالى، والمشفوع فيه هو الذّنوب، وهي معروفة، والله تعالى لا يقبل الشّفاعة من أيّ أحد، إنّما يقبلها ممّن يرتضي قوله، قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾[طه].

الآية رقم (49) - فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ

وهذا مثل قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق]، فالقياس كان يقتضي أن يؤمنوا، وكذا هنا كان القياس ألّا يُعرضوا عن التّذكرة، فأسلوب (فما له) و (فما لك) و(فما لهم) و(فما لكم) على أن العمل يجب أن يُستَقبل أوّلاً بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع، أمّا أن يفعل الأفعال جزافاً من غير تفكير في حيثيّات فعلها أو في حيثيّات عدم فعلها، فهذا ليس عمل العاقلين، وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾[الحجر]؛ أي: تكبّروا وأعرضوا عن المنهج.

الآية رقم (50 و 51) - كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ () فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ

﴿حُمُرٌ﴾: كلمة (حمار) تُجمع فنقول: (حُمر)، وهي حُمُر مستنفرة؛ أي: نافرة فرَّتْ من رجال أقوياء، وكلّ ضخم شديد عند العرب قسورة، والقسورة أيضاً الأسد، تهرب منه الحُمر المستنفرة النّافرة، فالحُمُر إمّا أنّها هاربة من الرّماة والصّيّادين، وإمّا أنّها هاربة من الأسد، فلننظر كيف جَرْيُها وكيف فرارها، فتعجّب من فرارهم من دعوة الله تعالى ودينه ورسله ﷺ، وكأنّهم حُمُر في البريّة تهرب ممّن يريد اصطيادها.

الآية رقم (39) - إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ

استثنى الله تعالى أصحاب اليمين من المرتهنين المحبوسين في النّار، فأصحاب اليمين غير مرتهنين بذنوبهم في النّار، ولكنّ الله تعالى يغفرها لهم، فهم قد فكّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الصّالحة كما يفكّ الرّاهنُ رهنه بأداء الحقّ الّذي عليه، فأصحاب اليمين الّذين أُعطوا كتبهم بأيمانهم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الحاقّة: من الآية 19]، فاستثنى الحقّ تعالى أصحاب اليمين من جملة المرتهنين.

الآية رقم (40 و 41) - فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ () عَنِ الْمُجْرِمِينَ

فهم في جنّات يتساءلون فيما بينهم عن المجرمين الّذين رأوهم في الدّنيا، وقاسوا من إجرامهم وظلمهم.

الآية رقم (42) - مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ

ما أدخلكم وحبسكم في سقر؟ سألوهم توبيخاً وتقريعاً لهم: ما جعلكم فيها وكان سبباً في دخولكم النّار؟ و﴿سَقَرَ﴾: دركة من دركات النّار.

الآية رقم (31) - وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ

﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ﴾: أصحاب النّار؛ أي: أهل النّار الّذين اختاروا صاحبهم الّذي هو النّار بأفعالهم في الدّنيا، أمّا هنا فأصحاب النّار من الملائكة والمقصود بهم خزنة النّار، وكأنّهم هم يملكون التّصرّف فيها، فقال عنهم: ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾، ففرّق بين أصحاب النّار الّذين يتعذّبون بالنّار، وبين أصحاب النّار من الملائكة الّذين يتصرّفون فيها، وحتّى أنّ أهل النّار يناشدون خزنة النّار، فيقولون: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر]، فيأتيهم الرّدّ: ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾[غافر].

﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾: فلم نجعل خزنة النّار وحرّاسها رجالاً آدميّين بل هم ملائكة، فهم ليسوا من جنس الـمُعَذَّبين.

﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾: فما جعلنا عددهم الّذي قلناه، وهو تسعة عشر، وهو قليلٌ في نظركم إلّا فتنة؛ أي: اختباراً وامتحاناً، أو ضلالة لهم حتّى قالوا ما قالوا، فهم قد قالوا: كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع مَنْ في النّار؟ حتّى قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْماً وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّمَا جُنُودُ اللَّهِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَكُمْ فِي النَّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَدَداً، وَكَثْرَةً، أَفَيَعْجِزُ كُلُّ مئَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾[1])، فأمْرُ العدد كان فتنة لهم أوقعهم في الضّلال؛ لأنّهم لم يؤمنوا بالله عز وجل وبقدرته وعظمته، أمّا مَنْ آمن بالله تعالى حقّاً ونظر في آياته تعالى لم يزده ذلك إلّا إيماناً وتصديقاً.

﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: وذلك أنّ أهل الكتاب وجدوا في كتابهم أنّ مالكاً عليه السلام رئيسهم وثمانية عشر من الرّؤساء، فتبيّن لهم أنّ ما يقوله النّبيّ ﷺ يقوله الوحي.

﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾: يزدادون إيماناً إلى إيمانهم وتصديقاً إلى تصديقهم إذا وجدوا أنّ ما يخبرهم به من عدد خزنة جهنّم موافقاً لِـمَا في كتابهم.

﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: الارتياب محلّه القلب؛ أي: لا يتردّدون، فالارتياب: التّردّد، والشّكّ باتّهامٍ.

﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾: فالّذين في قلوبهم مرض ضعيفو الإيمان، مسلمون ساعة الرّخاء فارّون من الدّين ساعة الشّدّة، والّذين في قلوبهم مرض ليسوا منافقين ولكنّهم ضعيفو الإسلام، وقد فرّق الحقّ تعالى بين الّذين في قلوبهم مرضٌ وبين المنافقين، فقال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ٌ﴾[الأنفال: من الآية 49]، وفرّق هنا بين الّذين في قلوبهم مرض وبين الكافرين، وإنْ كانوا قد اشتركوا معاً في قولهم: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾.

﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: فالله تعالى يُخبرنا بـمَنْ يستحقّ هدايته ومَنْ لا يدخل فيها، وقلنا: إنّ هناك هداية للنّاس جميعاً، وهي هداية الدّلالة، فإذا أخذ الإنسان هداية الدّلالة أعانه الله تعالى بهداية المعونة، وإذا لم يأخذ بها واختار طريق الكفر والظّلم لم يُعنه الله عز وجل، فإذا جاء أحد يجادلك ويقول لك: إنّ الله تعالى قد قال: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، لك أنْ تقول له: لقد بيّن الله تعالى مَنْ شاء له الهداية ومَنْ شاء له الضّلال، فإذا كنت تريد أن تكون من هؤلاء فاختر طريق الهداية، خذ بهداية الدّلالة، فإذا أخذت بها، فكما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمّد]، أعانهم الله تعالى على منهجه، وعلى الطّاعة، فقد بيّن الله عز وجل طريق الهداية للجميع، وأنت مسؤولٌ عن اختيارك.

﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾: الله تعالى يملك  طلاقة القدرة على إرسال الجنود الّذين نعلمهم ولا نعلمهم، من أصغر بكتيريا إلى أكبر الأجرام الموجودة في الأكوان، تكون جنداً من جند الله عز وجل يستخدمها تعالى في ما يشاء وكيفما شاء، فلا تُعوِّل فقط على قوّتك، وتحسب مدى تكافئك مع عدوّك، دعك من هذه الحسابات، وما عليك إلّا أن تستنفد وسائلك وأسبابك ثمّ تدع المجال لأسباب السّماء، وأقلّ جنود ربّك أنْ يُلقي الرّعب في قلوب الأعداء، وهذه وحدها كافية، وكثير من المعارك الّتي تمّت بين المسلمين وخصومهم كان سبب انتصار النّبيّ ﷺ والّذين معه إلقاء الرّعب في قلوب الأعداء.

﴿وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾: ضمير ﴿ هِيَ﴾المنفصل يعود على النّار؛ أي: أنّ النّار ما هي إلّا تذكرة للبشر وموعظة للنّاس، وهي سقر الّتي ذكرها الحقّ تعالى فقال: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾ [المدّثّر]، تلك النّار الّتي عليها تسعة عشر من الملائكة الغلاظ الشّداد، وقد جعل الله تعالى عددهم فتنة للّذين كفروا واختلف في موقفهم، منهم النّاس الّذين كفروا، ومنهم الّذين أوتوا الكتاب، ومنهم الّذين آمنوا، ومنهم الّذين في قلوبهم مرض، كلّ فرقة لها موقف مخالف للآخر من هذه النّار وما عليها من ملائكة، ولكنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ الذّكرى هنا هي القرآن الكريم ومواعظه، فهو تذكرة للنّاس وموعظة، ولكن تسلسل الكلام في الآيات هنا هو عن النّار.

([1]) السّيرة النّبويّة لابن هشام: ج1، ص313.

الآية رقم (32 و 33 و 34) - كَلَّا وَالْقَمَرِ () وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ () وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ

﴿كَلَّا﴾: ليس الأمر كما قالوا أنّهم يستطيعون هزيمة ملائكة النّار، فجهلهم أطمعهم أنّ عدَّتهم تسعة عشر، ونسوا أنّ هؤلاء خزنة جهنّم فقط، لا زبانية جهنّم الّذين يأتمرون بأمر التّسعة عشر وعددهم بالآلاف، كلّهم يفعلون ما يُؤمرون ولا يعصون الله تعالى ولا يجاملون، ولن يفلت أحدٌ من العقاب الّذي قُـرِّر له من الواحد الدّيّان.

ثمّ يُقسم الله تعالى بالقمر وباللّيل وبالصّبح، وكلّها مخلوقات خلقها الله عز وجل، والحقّ تعالى وحده له أنْ يُقسِم بما يشاء على ما يشاء، فيُقسِم مرّة بالضّحى واللّيل، فيقول تعالى: ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضّحى]، وأقسم بالرّيح والملائكة، بل إنّ الحقّ تعالى يُقسِم بحياة رسول الله ﷺ، فيقول: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾[الحجر]، وأقسم بالنّجم: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾[النّجم]، وهو تعالى الخالق العليم بكلّ ما خلق، ولا يعرف عظمة المخلوق إلّا خالقه، وهو العالم بمهمّة كلّ كائن خَلَقَه، لكنّه أمرنا ألّا نُقسِم إلّا به وحده؛ لأنّنا نجهل حقائق الأشياء مكتملة، أمّا الله تعالى فيُقسِم بما شاء على ما شاء.

والحقّ تعالى يُقسِم هنا بالمشَاهَد لهم، كالقمر واللّيل، وبعد اللّيل يأتي النّهار، فيذكر أوّل وقتٍ فيه، وهو الصّبح؛ لأنّ في الصّبح شيئاً ليس في باقي أوقات النّهار، قاله الحقّ تعالى في آيةٍ أخرى وهو يُقسِم بالصّبح: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ [التّكوير]، وهنا يقول: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ ، وإسفار الصّبح يكون بعد إدبار اللّيل وذهابه، فأسفر الصّبح؛ أي: أضاء وتبيّن؛ أي: أسفر ضوؤه عن ظلمة اللّيل، فأضاء وأقبل وأنار، ومنه: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته.

والصّبح إذا أسفر تجد لإقباله رَوْحاً ونسيماً، فجعل الله عز وجل له نفساً على المجاز كأنّه إنسانٌ يتنفّس، فقال تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ [التّكوير]، ورسول الله ﷺ يقول: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ»([1])؛ أي: صلّوا صلاة الصّبح مُسفرين حتّى تُنير السّماء، والإسفار الإنارة، والمراد بالحديث: الإسفار الّذي يُعلَم به أنّه الصّبح يقيناً، فلا دلالة فيه على أولويّة التّأخير، والله تعالى أعلم.

([1]) مُسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ، حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، الحديث رقم (17279).

الآية رقم (35) - إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ

﴿الْكُبَرِ﴾: جمع كبرى، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾ [طه]، العُلى: جمع عُليا، فـ (سقر) إحدى الأمور العظام، ثمّ إنّ عذاب أهل النّار ألوان، وفي جهنّم دركات، سقر هي إحدى دركاتها، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ جواب القسم: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾.

الآية رقم (36) - نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ

النّار نذير للبشر، حتّى أنّ الحسن البصريّ قال: “والله ما أُنذِرَ بشيءٍ أدهى من النّار”، والنّار هنا تشمل دركاتها وعذابها وخزنة جهنّم وزبانيّتها، فهؤلاء جميعاً إنذارٌ للبشر، وتأوّل بعض العلماء هذه الآية أنّها عائدة على رسول الله ﷺ، فقد قال الحقّ تعالى في أوّل السّورة: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾، فأنت يا محمّد نذير للبشر، تُنذِرهم عقاب الله عز وجل وعذابه ناراً موقدة، فمحمّد ﷺ نذير للخلق جميعاً.

الآية رقم (37) - لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ

أي: يسبق غيره في عمل الخير أو يتأخّر عنه، فلكم الخيار في أن تتقدّموا فيما أُمِرْتم به أو تتأخّروا، والتّقدّم والتّأخّر قد يكون في الطّاعة والمعصية، أو في الخير والشّرّ، أو في التّقدّم إلى النّار أو التّأخّر عن الجنّة، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[الكهف: من الآية 29]، فلك. أنْ تؤمن ولك أنْ تكفر، وفائدة إيمانك تعود عليك أنت ولا تعود على الله عز وجل.