الآية رقم (12) - إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا

إذا كنّا أمهلنا هؤلاء المكذّبين في الدّنيا إلى أجل قليل أنزلنا بهم بعده عقاباً في الدّنيا كهذا العذاب الّذي نزل بهم في معركة بدر، فإنّه ينتظرهم في الآخرة عذابٌ أشدّ جزاءَ تكذيبهم رسلنا ورسالاتنا إليهم.

﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا﴾: أي: عندنا في الآخرة قيود عظام ثقال لا تنفكّ أبداً، فالأنكال عقوبة من ألوان العذاب، فالسّلاسل والقيود في حدّ ذاتها عذابٌ نفسيٌّ للمقيّد بالقيود وإذلال وقهر له، فيا مَنْ كنتَ تكذِّب بآيات الله عز وجل وتصدّ عن سبيله وتحارب دينه ورسله والمؤمنين بمنهجه عز وجل قد تركناك في الدّنيا حرّاً، وأعطيناك المهلة والإملاء، وها أنت الآن مقيّد بالقيود والسّلاسل.

﴿وَجَحِيمًا﴾: الجحيم اسمٌ من أسماء النّار، وهو ما عَظُمَ منها، فالجحيم مأخوذة من الجموح، جمحت النّار: اضطربت، وعندما ترى النّار متأجّجة يُقال: جحمت النّار؛ أي: أصبح لهيبها مُضَاعفاً.

الآية رقم (13) - وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا

﴿وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ﴾: ممّا أعدّه الله تعالى للمكذّبين طعاماً ذا غصّة، والطّعام ذو الغصّة هو طعام كريه غير سائغ كأنّ فيه شوكاً ناشزاً يعلق في الحلق لا ينزل ولا يخرج، وهو الزّقوم والضّريع، لا يستطيع الإنسان ابتلاعه لحقارته ونتنه وخبث رائحته، وقد ذكر لنا الحقّ تعالى ثلاثة أنواع من الطّعام الّذي أعدّه لأهل النّار ممّا لا يُستساغ: الزّقوم، الضّريع، الغسلين، أمّا الزّقوم فهي شجرة في أصل الجحيم، قال عنها الحقّ تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ [الصّافّات]، ويقول في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾[الدّخان]، أمّا الضّريع فقد قال عنه الحقّ تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾[الغاشية]، والضّريع شيءٌ في النّار يُشبه الشّوك، أمّا الغسلين فقد قال تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقّة]، والغسلين هو صديد أهل النّار، مأخوذٌ من الغسل، كأنّه غُسَالة جروحهم وقروحهم.

﴿وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾: الألم على قدر ما فعل في الحياة الدّنيا من آثام، أعدّ الله تعالى أنكالاً وجحيماً، وطعاماً ذا غُصَّةٍ، وفوق ذلك العذاب الأليم بالنّار المحرقة في جهنّم.

الآية رقم (14) - يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾: تتزلزل وتهتزّ وتضطرب وتتزعزع، مثلها قوله جلّ وعلا: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ [النّازعات]، وذلك يوم القيامة، لذلك قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾، وذلك للنّفخة الأولى في الصّور، أمّا الثّانية فهي الّتي قال عنها الحقّ تعالى: ﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ [النّازعات]، ورجف الشّيء رجفاً ورجفاناً كما يرجف الشّجر إذا أرجفته الرّيح، فحتّى الأرض الّتي تعيشون عليها ستتزلزل زلزالاً شديداً، وقد قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزّلزلة]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجّ: من الآية 1]، والزّلزلة هي الحركة الشّديدة الّتي تزيل الأشياء عن أماكنها، واستخدم الحقّ تعالى أيضاً لفظ (الرّجّ)، فقال تعالى: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا﴾  [الواقعة]، والزّلزال أو الرّجفة أو الرّجّة يوم القيامة ليس زلزالاً كالّذي نراه من هزّات أرضيّة تهدم بعض البيوت، أو حتّى تبتلع بعض القرى، فهذه مجرّد صورة مصغّرة لما سيحدث في الآخرة، وتنبّهنا إلى الزّلزال الكبير في الآخرة، حتّى لا يغترّ الإنسان، فهذا زلزال مخصوص منسوب إلى الأرض بوحيٍ من الله عز وجل، وبأمرٍ منه عز وجل أنْ تتزلزل، لذلك وُصِف زلزال يوم القيامة بأنّه شيءٌ عظيم: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجّ: من الآية 1]، رجفة عظيمة ليست بمقاييسنا، بل بمقياس الحقّ تعالى، والأرض تتزلزل وترجف بما عليها من جبال مع أنّ الجبال خلقها الله تعالى رواسي للأرض لكي لا تضطرب ولا تختل، يقول تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النّحل: من الآية 15]، ولكن في يوم القيامة الأمر مختلف، فالجبال الّتي هي رواسي للأرض، ستُنسَف، حينها يضطرب نظام الأرض وتتزلزل وتميد وتتحرّك ويضطرب كلّ شيءٍ فيها.

﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾: أي: تُصبح الجبال رملاً سائلاً، مجرّد رمال متحرّكة، بعد أنْ كانت صخوراً صلبة تستعصي على النّحت فيها أو التّقطيع إلّا بوسائل خاصّة، الآن أصبحت مجرّد كثبان رمليّة مهيلة؛ أي: إذا حُرِّك تبع بعضه بعضاً، وقد قال تعالى في آيةٍ أخرى أنّها ستصبح: ﴿هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾[الواقعة: من الآية 6]، وتصبح: ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: من الآية 5]؛ أي: الصّوف المندوف، فالجبال تُنسَف فتصبح رمالاً متحرّكة وتصبح كالصّوف المندوف.

الآية رقم (15) - إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾: الحقّ تعالى يخاطب أهل مكّة الّذين لم يؤمنوا بمحمّد ﷺ، بل كذّبوه وآذوه ورفضوا رسالته، وراحوا يصدّون عنه مَنْ يريد أن يؤمن به، فيقول لهم الحقّ تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾، لقد أرسل الله تعالى محمّداً ﷺ رسولاً ليبلّغهم بمنهج السّماء، وأرسل معه القرآن الكريم كلام الله تعالى المعجز، وهو رسولٌ أمّيّ، سألوه عن أشياء حدثت فأوحى الله تعالى بها إليه بالتّفصيل، جاء القرآن الكريم ليتحدّى في أحداث المستقبل وفي أسرار النّفس البشريّة، وكان ذلك يكفيهم لو أنّهم استخدموا عقولهم، ولكنّهم أرادوا العناد كلّما جاءتهم آية كذّبوا بها وطلبوا آية أخرى، ويخاطب الحقّ تعالى نبيّه ورسوله محمّداً ﷺ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾[البقرة].

﴿شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾: والرّسول ﷺ هو شاهدٌ على الأمّة الّتي أُرسِل إليها، هل آمنوا أو لا؟ والحقّ تعالى يقول في آيةٍ أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب]؛ أي: أرسلناك شاهداً على أمّتك وعلى مَنْ سَبَقك من الرّسل أنّهم قد بلّغوا الرّسالة، فهو شاهدٌ عليكم بما أخبره الله تعالى به من القرآن الكريم، وشاهد عليكم يوم القيامة أنّه قد بلّغكم رسالات الله عز وجل، وفي آياتٍ أخرى وصفه بأنّه شهيد عليكم، قال تعالى: ﴿وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحجّ: من الآية 78]، فكلٌّ منّا كأنّه مبعوثٌ من الله عز وجل، وكما شهد رسول الله ﷺ عليه أنّه أبلغه، كذلك هو يشهد أنّه بلّغ من بعد رسول الله ﷺ، لذلك يقول ﷺ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»([1])، لذلك جاءت هذه الآية للأمرين ليكون الرّسول ﷺ شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على النّاس، فرسول الله ﷺ شاهدٌ عليهم بكلّ ما قالوه وفعلوه به وبأصحابه الّذين آمنوا به، وبصدّهم عن سبيل الله عز وجل ومحاولات قتله وإيذائه.

﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾: فرسول الله ﷺ ليس بِدعاً من الرّسل، فالحقّ تعالى أرسله إليكم كما أرسل موسى بن عمران عليه السلام رسولاً إلى فرعون مصر، وقد يسأل سائل: لماذا ذُكِرَ هنا فرعون وإرسال موسى عليه السلام له، ولم يذكر أقواماً آخرين في الجزيرة العربيّة وعلى أطرافها؟ نقول: إنّ فرعون ازْدَرى موسى عليه السلام باعتبار أنّ موسى عليه السلام تربَّى في بيته، فكيف يتبع مَنْ ربّاه هو؟ وقد قال فرعون لموسى عليه السلام: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾[الشّعراء]، فهنا فرعون يمتنّ على موسى عليه السلام ويُذَكِّره بأنّه ربّاه في قصره إلى أن كبر، ولكنّ موسى عليه السلام لا يُجَامل في الحقّ؛ لأنّ الحقّ تعالى هو مَنْ ربّاه، قال تعالى يُخاطب موسى عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: من الآية 39]، فتربية فرعون لم تكن منّةً منه، ولكن هي بقَدَر الله تعالى، وعندما يُذَكِّر المولى هنا بموضوع فرعون وموسى عليه السلام؛ لأنّ سيّدنا موسى عليه السلام قد عانى من فرعون ومن شعب بني إسرائيل ما لم يُعانيه أيّ نبيّ قبل النّبيّ محمّد ﷺ، لذلك كان الرّسول ﷺ دائماً يضرب المثل في صبر أخيه موسى عليه السلام.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ، بَابُ مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الحديث رقم (3461).

الآية رقم (16) - فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا

والمثال الواضح العظيم كيف أنّ فرعون عصى واستكبر وقال: أنا ربّكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وقد عصى فرعونُ موسى عليه السلام فأغرقه الله تعالى في البحر.

﴿وَبِيلًا﴾: شديداً ثقيلاً، فيه وبال.

الحقّ تعالى هنا يُخوِّف كفّار مكّة من عاقبة كفرهم وتكذيبهم في الدّنيا، فأعطى لهم مثلاً ممّا حدث لفرعون الّذي لم يؤمن برسول الله إليه، وهو موسى ومعه هارون رسولاً أيضاً عليهما السلام، وكلمة فرعون ليست اسماً لشخص، بل هو توصيف لوظيفة، وكان لقب كلّ حاكم لمصر قديماً هو (فرعون)، ونحن نعلم مِن التّاريخ أنّ الأسر الحاكمة توالت وكانوا فراعنة يحكمون مصر، ويضطهدون النّاس حتّى أرسل الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون، وقال لهما: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[طه].

الآية رقم (17) - فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا

هذا اليوم يجب أن نحتاط له حيطة كبرى، وأن نترقّبه؛ لأنّه يومٌ عظيم، والحقّ تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[الحجّ].

﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ﴾: كيف تقون أنفسكم وتحمونها من يومٍ عظيم مهول كهذا إنْ كفرتم بالله عز وجل ولم تؤمنوا به وبرسوله وكتابه؟ وهو يوم آتٍ لا محالة، فبأيّ شيءٍ تتحصّنون من عذاب ذلك اليوم، وكيف تنجون منه إنْ كفرتم في الدّنيا؟ والحقّ تعالى يصف لنا هذا اليوم العظيم الشّديد بقوله:

﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾: فالشّيب لا يوجد في الدّنيا للولدان الصّغار، إنّما يوجد للإنسان بسبب كِبَره في السّنّ غالباً، ولكن في هذا اليوم العظيم يرى الوليد ما يشيب له شعره من النّار والعذاب والجحيم، فيجعلهم ذلك اليوم شيوخاً، وذلك حين يُقال لآدم عليه السلام -كما أخبر النّبيّ ﷺ-: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟، قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»([1])، فهذا اليوم العظيم: ﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾، وشيباً هنا جمع شائب، وشايب؛ أي: الرّجل أو المرأة الّتي شاب شعرها فابيضّ، فإنّما تشيب الولدان من شدّة هَوْل وكَرْب هذا اليوم.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ، بَابُ قِصَّةِ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ، الحديث رقم (3348).

الآية رقم (18) - السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا

﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾: فالسّماء مع عظمها تنفطر وتتشقّق في هذا اليوم، فما ظنّك بغيرها من الخلائق؟ فالحقّ تعالى هنا يُنَبِّه إلى يوم الهول الأعظم الّذي تنشقّ فيه السّماء وتتساقط فيه الكواكب فلا يؤدّي أيّ شيءٍ منها مهمّته، فالله تعالى قد سلبها ما كانت به صالحة، يقول تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار]؛ أي: تسقط قطعاً صغيرة، فالسّموات بقوّتها وعظمها تنفطر؛ أي: تتشقّق وتكاد تكون مِزَعاً.

﴿مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾: بعض العلماء قال: إنّ ﴿بِهِ﴾ هنا معناها بأمر الله تعالى، والسّماء مُثقلة بذلك اليوم مُتَصدِّعَة مُتَشقِّقة، ونلحظ أنّ الحقّ تعالى لم يقل: (السّماء منفطرة به)، فالسّماء مؤنّث، ولكنّه قال: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾؛ أي: ذات انفطار، فعبّر بها كما يُعبِّر عن الذّكور، كما يُقال: امرأة مُرضع؛ أي: ذات إرضاع، وقد يكون عبّر عن السّماء بالمذكَّر نظراً للمعنى، فالسّماء معناها السّقف، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء: من الآية 32]، والحقّ تعالى يقول في آيةٍ أخرى عن تشقّق السّماء: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان]، ولهذا قال بعض العلماء: إنّ السّماء تنفطر وتتشقّق بنزول الملائكة من السّماء في هذا اليوم، فيوم تنشقّ السّماء بالغمام وينزل الغمام من الشّقوق، وقد ذُكِرَ الغمام أيضاً في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ [البقرة: من الآية 210].

﴿مُنْفَطِرٌ﴾: الانفطار: التّصدّع والانشقاق على غير نظام وبغير قصد، والضّمير في: ﴿بِهِ﴾، قال المنذر وغيره: هو عائدٌ على اليوم، وقال مجاهد: هو عائدٌ على المولى تعالى.

﴿كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا﴾: لأنّ الحقّ تعالى بقدرته الشّاملة وصفات جلاله الكاملة لا يتخلّف شيء في وجوده عن أمره، فإذا وعد بشيءٍ فلا بدّ أنْ يحدث، فأمر الله تعالى غير أوامر البشر.   

الآية رقم (19) - إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا

وردت هذه الآية بهذا النّصّ في القرآن الكريم مرّتين، هذه الّتي في سورة المزمّل، والثّانية ستأتي في سورة الإنسان (آية 29)، وكلاهما جاءت بعد الكلام عن اليوم العظيم، في المزّمّل قال تعالى فيها: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴾ [المزّمّل]، أمّا في الإنسان فقال تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾[الإنسان]، فهذه تذكرة لهم لعلّهم يتفكّرون في منطق الحقّ ويخشون الله عز وجل، ويُبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل.

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾: أي: تذكيراً بهول ذلك اليوم العظيم وما فيه.

﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾: فمن شاء أن ينجو في هذا اليوم فليتّخذ إلى ربّه سبيلاً بالإيمان والطّاعة.

الآية رقم (20) - إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

يخاطب الحقّ تعالى نبيّه ﷺ في الخلوة اللّيليّة معه:

﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾: المرضى غير قادرين على العمل، فعلى القادر أن يعمل ليسدّ حاجته وحاجة غير القادر.

﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: فقانون الإصلاح الّذي جعله الله تعالى لحياة البشر يقوم على الضّرب في الأرض والسّعي في مناكبها، وفيه مقوّمات الحياة، هذا هو المنهج الرّبّانيّ، هذا المنهج للقالب، نأكل ونشرب ونعيش، والمنهج الآخر هو للقيم، للقلب، فإن قعدتْ الأمّة أو تكاسلت عن أيّ من هاتين الدّعامتين ضاعت وصارت مطمعاً لأعدائها، لذلك نجد الآن الأمم المتخلّفة فقيرة تعيش على مساعدات الأمم الغنيّة؛ لأنّها سترت أنعم الله عز وجل، ولم تعمل على استنباطها، وقعدت عن عمران الأرض واستصلاحها.

وقد كان النّبيّ ﷺ والمؤمنون يقومون في أوّل الإسلام من اللّيل نصفه وثلثه، وهذا قبل أن تُفرَض الصّلوات الخمس، فقاموا سنَة فشقّ ذلك عليهم فنزلت الرّخصة بعد ذلك عند السّنة، ففي أوّل سورة المزّمّل قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزّمّل]، فكان الأمر شاقّاً عليهم، ووجدوا حرجاً في الاستمرار، لذلك نزل قوله تعالى بالرّخصة لهم في آخر سورة المزّمّل: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾، وقد علم الله عز وجل أنّكم لن تُحصوه ولن تستطيعوه ولن تداوموا عليه: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: فتجاوز عنكم وخفَّف عنكم، فقال: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾، فلم يفرض وقتاً من اللّيل ولا مقداراً منه، بل جعله على السّعة وحسب الاستطاعة، وكان بين أوّل سورة المزّمّل وآخرها سنة حتّى فُرِضَت الصّلوات الخمس والزّكاة، فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾، وأسلوب القرآن الكريم أسلوب معجز، فقد استخدم الحقّ تعالى كلمة: ﴿أَدْنَى﴾، وهي تشمل ثلاث حالات فأجملها؛ أي: أدنى من ثلثي اللّيل، وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، وأدنى؛ أي: أقرب من الثّلث أو النّصف أو الثّلثين على حسب حال كلّ قائم للّيل وقارئ للقرآن الكريم فيه.

﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾: فالله تعالى هو العالِـم بمقادير اللّيل والنّهار وأجزائهما وساعاتهما، لا يفوته علم ما يفعلون، فيعلم القدر الّذي يقومون من اللّيل والّذي ينامون منه، ومقدّر اللّيل والنّهار ومدبّرهما واحدٌ هو الحقّ تعالى، لذلك نجد النّظم القرآنيّ يُقَدِّم لفظ الجلالة فيقول: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ﴾دلالة على انحصار تقدير اللّيل والنّهار في يد الله عز وجل.

﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾: فالله تعالى علم أنّكم لن تُطيقوه؛ أي: لن تُطيقوا قيام اللّيل نصفه أو ثلثه أو ثلثيه، وقد كان الرّجل يُصلّي اللّيل كلّه مخافة ألّا يُصيب ما أمر الله تعالى به من القيام، والإحصاء إطاقة الشّيء والقيام به والتزامه، ومثلها قوله ﷺ: «خَلَّتَانِ لاَ يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ، أَلَا وَهُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ: يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْراً، وَيَحْمَدُهُ عَشْراً، وَيُكَبِّرُهُ عَشْراً»([1])، وفي حديث أسماء الله الحسنى قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِئَةً إِلَّا وَاحِداً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ»([2])، والإحصاء في اللّغة على وجهين: أحدهما بمعنى الإحاطة بعلم عدد الشّيء وقدره، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾[الجنّ: من الآية 28]، والثّاني بمعنى الإطاقة له، كقوله تعالى هنا: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾؛ أي: لن تطيقوه، ولن تستطيعوا القيام به على الوجه الّذي أُمرتم به.

﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾: فردّهم إلى الفريضة ووضع عنهم النّافلة إلّا ما تطوّعوا به، وكلمة: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ هنا لها عدّة معانٍ: فتعني العفو عنهم، وهذا يدلّ على أنّه كان فيهم مَنْ ترك بعض ما أُمِرَ به، وتعني فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التّوبة الرّجوع.

﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾: يعني صلّوا ما تيسّر لكم أن يكون، فجعل ذلك إليهم، فلتُصَلّوا متى شئتم تطوّعاً غير متحرّين أوقاتاً معيّنة أو أجزاء من اللّيل، فكان ذلك تخفيفاً عنهم، فإنّهم كانوا قد قاموا حَوْلاً حتّى ورمتْ أقدامهم.

﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: ثلاثة أصناف كانوا سبباً في تخفيف الله عز وجل: مرضى لا يستطيعون القيام، مسافرون في الأرض يسعون على أرزاقهم يبتغون الرّزق من فضل الله تعالى، ومجاهدون في سبيل الله عز وجل، فالمريض يضعف عن التّهجّد باللّيل، فخفّف الله عز وجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه، وكذلك المسافر والمجاهد في سبيل الله عز وجل.

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: قرن الحقّ تعالى بين الصّلاة والزّكاة في آياتٍ كثيرة، وإقامة الصّلاة هي الرّكن الّذي لا يسقط عن الإنسان أبداً، فالتفتوا إلى نداءات ربّكم للصّلاة، وعندما يرتفع صوت المؤذِّن بقوله: الله أكبر، فهذه دعوةٌ للإقبال على الله عز وجل، إقبالٌ في ساعة معلومة لتقفوا أمامه تعالى، وتكونوا في حضرته يُعطيكم الله تعالى المدد، وذكر إقامة الصّلاة هنا ثمّ إيتاء الزّكاة بعد الضّرب في الأرض والضّرب في سبيل الله عز وجل، في الأولى ابتغوا من فضل الله فعليهم أن يحمدوا الله عز وجل على فضله ورزقه لهم، وأن يُخرجوا ممّا أنعم الله تعالى عليهم به زكاة تطهِّر مالهم وتشيع التّكافل والتّعاون والإحساس بالفقير بين أبناء المجتمع، والحقّ تعالى يُعقِّب الزّكاة بالقول:

﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾: والقرض شيءٌ غير الزّكاة وغير الصّدقة، فلا يتوقّف إنفاقك على ما فُرِض عليك أو ما تطوَّعتَ به، بل أيضاً يطلب منك أن تقرض قرضاً حسناً، والله تعالى لا يحتاج منك قرضاً فهو المتفضّل عليك بالنّعم والمال، ومع هذا يسألك أن تُقرضه هو، والحقّ تعالى يقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة]، والقرض في اللّغة معناه: قَضْم الشّيء بالنّاب، ولذلك الحقّ تعالى هو يُقدِّر الجزاء على قَدْر صعوبة القرض، والقرض شيء تُخرجه من مالك على أمل أن تستعيده، وهو تعالى يُطمئنك على أنّه هو الّذي سيقترض منك، وأنّه سيردّ ما اقترضه لكن ليس في صورة ما قدّمت، إنّما في صورة مستثمرة أضعافاً مضاعفة، فأصْل مالك محفوظ ومُستثمر، فهي أضعاف كثيرة بمقاييس الله عز وجل، لا بمقاييسنا نحن كبشر، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة].

﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾: فلا شيء يضيع عند الله عز وجل، فليطمئنّ المؤمن أنّ حركة حياته مقدّرة عند الله عز وجل، وسنجد ثواب هذا عند الله تعالى، فكلّ ما نفعله من منهج الله تعالى له أجر، ليس أجراً بقدر العمل، بل أضعاف العمل أضعافاً مضاعفة، والله تعالى يقول في آيةٍ أخرى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النّحل: من الآية 96]، فما عند الله عز وجل باقٍ لا نفاد له، فخزائن الله عز وجل ملأى لا ينفد ما فيها، وما عند الله تعالى ليس هيّناً، بل: ﴿هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾.

﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾: فالحقّ تعالى يعلم أنّ بني آدم لا يمكن لهم أنْ يراعوا حقوقه كما يجب أنْ تُراعى، فلا بدّ أنْ تفلت منهم أشياء، وهو تعالى يعلم ذلك؛ لأنّه خالقهم، فأمَرَهم جلّت حكمته أن يستغفروه ليكفّروا عن سيّئاتهم.

﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: المغفرة والرّحمة تقتضيان ذنوباً، والله تعالى: ﴿غَفُورٌ﴾ لما قد بدر وحصل منّا من ذنوب استغفرنا ربّنا منها، وهو: ﴿رَحِيمٌ﴾ بنا، فلا يُعاجلنا بالعقوبة شفقةً علينا وحبّاً في رجوعنا إليه، فالله تعالى غفورٌ رحيمٌ حتّى لمن توانى قليلاً، وذلك حتّى يلحق بالرْكب الإيمانيّ ويتدارك ما فاته؛ لأنّ الله تعالى يُحبُّ توبة العبد.

والله تعالى غفورٌ قبل أن يوجد مغفورٌ له أو مرحوم، وصفة المغفرة وصفة الرّحمة كلٌّ في مُطلقها تكون لله عز وجل وحده، وهي توبة للجاني ورحمة للمجنى عليه، والحقّ تعالى له طلاقة القدرة في أنْ يغفر وأنْ يرحم، فإيّاك أن تقول: إنّ فلاناً لا يستحقّ المغفرة والرّحمة؛ لأنّه تعالى مالك السّماء والأرض، وهو الّذي أعطى للبشر ما يستحقّون بالحقّ الّذي أوجبه على نفسه.

([1]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ الدَّعَوَاتِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ,، بَاب 25، الحديث رقم (3410).

([2]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابٌ: إِنَّ لِلَّهِ مِئَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِداً، الحديث رقم (7392).

الآية رقم (3 , 4) - نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا () أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا

قم نصف اللّيل أو انقص من النّصف قليلاً إلى الثّلث، أو زِدْ على النّصف قليلاً إلى الثّلثين، فخيّره ربّه بين ثلاثة مقامات: النّصف، الثّلث، الثّلثين، يقوم بأيّتهنّ شاء، فكان رسول الله ﷺ وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير، وقد سئلت السّيّدة عائشة رضي الله عنها: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: “أَلَسْتَ تَقْرَأُ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾؟”، قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: “فَإِنَّ اللهَ عز وجل افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً، وَأَمْسَكَ اللهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعاً بَعْدَ فَرِيضَةٍ”([1]).

﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾: قُمْ ليلك مُتعبِّداً راغباً في فضل الله عز وجل، وليكُنْ زادك في ليلك هو القرآن الكريم فرتّله ترتيلاً؛ أي: بيّنه بياناً، وترسّل في قراءته، وتمهّل، وبيّن حروفه حرفاً حرفاً، وأعطِ لكلّ حرفٍ حقّه بالمدّ والإشباع والتّحقيق، حتّى أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما كان يقول: “اقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعاً وخمساً”، أحضر قلبك وعقلك عند قراءتك للقرآن الكريم في صلاتك في تأمّل وتفكّر في حقائق الآيات ومعانيها، ذكر لله عز وجل وتعظيمه وذكر لوعده للمؤمنين بالجنّة والثّواب العظيم، وذكر لوعيده للكافرين بالنّار وسوء المصير، وذكر لقصص الأنبياء والأمم السّابقة للاعتبار بما حدث مع الأمم السّالفة الماضية، فالمقصود بالتّرتيل إنّما هو حضور القلب عند قراءة القرآن الكريم، وقد سُئِلَ أَنَس بن مالك رضي الله عنه: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ ﷺ؟ فَقَالَ: “كَانَتْ مَدّاً”، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾[الفاتحة]، يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ”([2]).

والقرآن الكريم لم ينزل لمجرّد قراءته فقط، ولكن نزل ليُقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة لئلّا يذهب ولا يُنسَى، ولنتذكّر ما فيه ولفهم ما أودع فيه من الأحكام، وما لله عز وجل على العباد من حقوق، وما لبعضهم على بعض من حقوق، والقرآن الكريم نزل ليُعمَل بما فيه ويُتَّعظ بمواعظه ولنجعله إماماً نتّبع أمره، وننتهي عن نهيه، وهذا كلّه لا يُدرَك إلّا بالتّأمّل وذلك عند قراءته على التّرتيل، قراءة بتؤدة وتبيين حروفه ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكّن السّامع من عدّها، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمّد]، فـ ﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾ و﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ هما أمّ المعاني كلّها، علينا أن نفهم آيات القرآن الكريم ونتدبّرها ونتفكّرها ونتفهّمها عن معرفة وعلم، ويقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص].

([1]) صحيح مسلم: كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، بَابُ جَامِعِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَمَنْ نَامَ عَنْهُ أَوْ مَرِضَ، الحديث رقم (139).

([2]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ، بَابُ مَدِّ القِرَاءَةِ، الحديث رقم (5046).

الآية رقم (5) - إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا

كأنّ الحقّ تعالى كان يعدُّ رسول الله ﷺ للمهمّة الكبرى لحمل الرّسالة، فأعدّه إعداداً ربّانيّاً بقيام اللّيل والتّهجّد والقرب منه تعالى، والوقوف بين يديه في جوف اللّيل، فكأنّ التّهجّد ليلاً والوقوف بين يدي الله عز وجل في هذا الوقت سيعطي رسول الله ﷺ القوّة والطّاقة اللّازمة للقيام بهذه المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، ألا وهي مسؤوليّة حمل المنهج وتبليغه للنّاس، والقول الثّقيل هنا هو الوحي، والحقّ تعالى لم يقُلْ: (سننزل عليك قولاً ثقيلاً)، بل قال: ﴿سَنُلْقِي﴾؛ لأنّ كلمة ﴿سَنُلْقِي﴾ تناسب ﴿قَوْلًا ثَقِيلًا﴾، فالإلقاء فيه قوّة وشدّة وصعوبة، والوحي كان كذلك، فقد كان رسول الله ﷺ يتفصّد جبينه عرقاً عندما ينزل عليه الوحي عليه السلام، وقد أخبر أحد الصّحابة أنّه بينما كان جالساً بجوار رسول الله ﷺ، والرّسول ﷺ يضع ركبته على ركبته، فلمّا نزل الوحي على رسول الله ﷺ قال الصّحابي رضي الله عنه: شعرت بركبة رسول الله ﷺ وكأنّها جبل، فهذا من ثِقل الوحي، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾، فكان النّبيّ ﷺ يتعب بعد هذا اللّقاء، ويشقّ عليه حتّى يذهب إلى السّيّدة خديجة رضي الله عنها، يقول: زمّلوني، زمّلوني، أو: دثّروني، دثّروني؛ ولأنّ الوحي كان قولاً ثقيلاً يشقّ على رسول الله ﷺ كان يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقّته، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التّعب بقيتْ له حلاوة ما نزل من الوحي فيتشوَّق إليه من جديد، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشّرح]، والوزر هو الحمل الثّقيل الّذي كان يحمله رسول الله ﷺ في نزول الوحي عليه.

الآية رقم (6) - إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا

ففي الوقت الّذي ينام فيه النّاس ويخلدون إلى الرّاحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، يقوم ﷺ بين يدي ربّه مُناجياً مُتضرِّعاً، فتتنزّل عليه الرّحمات والفيوضات، فَـمَنْ قام من النّاس في هذا الوقت واقتدى برسولنا ﷺ فله نصيبٌ من هذه الرّحمات، وحظٌّ من هذه الفيوضات، ومَنْ تثاقلت رأسه عن القيام فلا حظَّ له، ففي قيام اللّيل قوّة إيمانيّة وطاقة روحيّة، ولـمّا كانت مهمّة الرّسول فوق مهمّة الخَلْق كان حظّه من قيام اللّيل أزيد من حظّهم، فأعباء الرّسول ﷺ كثيرة، والعبء الثّقيل يحتاج الاتّصال بالحقّ الأحد القيّوم، حتّى يستعين بلقاء ربّه على قضاء مصالحه.

﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾: هي ساعاته، وكلّ ساعة منها ناشئة؛ لأنّها تنشأ عن الّتي قبلها، فكلّ صلاة بعد العشاء الآخرة هي ناشئة اللّيل، وقد تُنسَب النّاشئة إلى قائم اللّيل نفسه، فهو الّذي يُنشئ عبادته اللّيليّة لله عز وجل، في أيّ ساعة من ساعات اللّيل، فالله تعالى في بداية السّورة أعطى قائم اللّيل ثلاثة اختيارات، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾.

﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾: من المواطأة، فساعات اللّيل أكثر موافقة لكي تُصَلّي وتقترب فيها من الله تعالى من ساعات النّهار، فالقلب يكون أفرغ في اللّيل لإدراك وتأمّل الآيات وتدبّر معانيها، وكذلك السّمع والبصر يكون أحفظ للقرآن الكريم، وقد تكون ﴿وَطْئًا﴾ بمعنى الوطأة، كالوطء بالأقدام، فقيام اللّيل أشدّ على البدن وأصعب؛ لأنّ اللّيل هو وقت راحة الإنسان.

﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾: فترتيل القرآن الكريم وقراءتُه أصوب قراءةً وأصحّ قولاً من النّهار لهدأة النّاس وسكون الأصوات، إنّه خير ما تقرأه في ليلك، وأصوب ما ينطقه اللّسان بعيداً عن الرّياء، وملاحظة نظر الآخرين.

الآية رقم (7) - إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا

ففي النّهار لك فرصة وتوسّع وفراغ لتقضي حوائجك، وإقبالاً وإدباراً وذهاباً ومجيئاً.

﴿سَبْحًا﴾: أصل السّبح الجري والدّوران، ومنه السّابح في الماء لتقلّبه، ولكنّ السّبح أيضاً النّوم، والتّسبّح التّمدّد، فمعنى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾؛ أي: لك وقت طويل، فاجعل ناشئة اللّيل لعبادتك، ومن أهمّ مهمّات رسول الله ﷺ في نهاره تبليغ رسالته تعالى، وتعليم أمّته، وجهاد عدوّه، فالحقّ تبارك وتعالى يُعدّ نبيّه ورسوله محمّداً ﷺ ليتلقّى القول الثّقيل، وينهض بالعبء الجسيم، قياماً لله تعالى في اللّيل، وفراغاً في النّهار لمشاغله ونشاطه.

الآية رقم (8) - وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا

﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ذ: اذكر ربّك الّذي شرع لك ثمّ وفّقك وأعانك، والحقّ تعالى يقول: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾[الأعراف: من الآية 205]، ويقول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾[الأحزاب]، وهناك فارقٌ بين: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ [الأعراف: من الآية 205]، و ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: من الآية 41]، فقوله: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾[الأحزاب: من الآية 41]، يستشعر سامعها التّكاليف؛ لأنّ الله تعالى هو المعبود، والمعبود هو المطاع في الأوامر والنّواهي، أمّا قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾  [الأعراف: من الآية 205]، فهو تذكير لك بما حباك به من أفضالٍ ونِعَم، خلقك وربّاك، وأعطاك من فيض نِعَمه ما لا يُعدّ ولا يُحصى، فاذكر ربّك؛ لأنّك إن لم تعشقه تكليفاً فأنت قد عشقته؛ لأنّه مُتَفضِّلٌ عليك بالنّعم، واذكره على حالين: الأوّل تضرّعاً؛ أي: بذلّةٍ؛ لأنّك قد تذكر واحداً بكبرياء، إنّما الله تعالى الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلّة عبوديّة لمقام الرّبوبيّة، واذكر ربّك خيفةً؛ أي: خائفاً متضرِّعاً؛ لأنّك كلّما ذلَلْت له عزّك:

اجْعَل لِرَبِّكَ كُلَّ عِزِّكَ يَسْتَقِرُّ وَيَثْبُتُ                     . فَإِذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ
.

وأنت عندما تكون بين يدي الله تعالى تُقيم اللّيل، اذكر اسم ربّك بربوبيّته لك، وقِفْ أمامه خاشعاً خاضعاً، فأنت ترفع دعاءك للخالق المربّي، فاذكر اسم ربّك بالتّوحيد والتّعظيم والتّقديس والتّسبيح والإخلاص.

﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾: التّبتّل: الانقطاع عن الدّنيا، ورفض الدّنيا وما فيها، والتماس ما عند الله تعالى، فأخلص لله عز وجل إخلاصاً وتفرّغ لعبادته، واقطع نفسك عن الشّهوات واللّذّات، وأصل التّبتّل القطع، ولذلك قيل لمريم العذراء: البتول، فالتّبتّل الانقطاع عن كلّ شيء إلّا من عبادة الله عز وجل وطاعته، وقد يسأل سائلٌ: نظم السّياق كان يقتضي أن يقول: (وتبتّل إليه تبتُّلاً)، ولكنّ الحقّ تعالى قال: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾، فتقدير الكلام: وبتّل نفسك إليه تبتّلاً، فكأنّه لا يحدث التّبتيل إلّا إذا حدث التّبتّل، فبتّل نفسك واجتهد، فكأنّ الأمر يحتاج إلى مجاهدة للنّفس شديدة تجعلك تنقطع عن ملذّات الدّنيا وراحتها لتقف بين يدي الله تعالى تذكره وتعبده.

الآية رقم (9) - رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا

﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾: الحقّ تعالى ربّ المشرق والمغرب، وقد جعلنا التّقدّم العلميّ نفهم بعمق معنى هذه الآية، فكلّ مكان على الأرض له مشرق وله مغرب، ثمّ عرفنا أنّ الشّمس حين تُشرق عندنا تغرب عند قومٍ آخرين، وحين تغرب عندنا تُشرِق عند قومٍ آخرين، فمع كلّ مشرقٍ مغرب، ومع كلّ مغرب مشرق، فيكون هناك مشرقان ومغربان، ثمّ عرفنا أنّ الشّمس لها مشرق كلّ يوم ومغرب كلّ يوم يختلف عن الآخر، وفي كلّ ثانية هناك شروق وغروب، فالحقّ تعالى ربّ المشرق والمغرب، ربّ اللّيل والنّهار، وهذا يُناسب قوله تعالى قبلها: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾، وكلٌّ من المشرق والمغرب له مهمّته الّتي يقوم بها في الكون، فاللّيل والنّهار إنّما ينتج عنهما، وأنت لك مهمّة في ليلك تختلف عن مهمّتك في نهارك، فكن حيث يريدك الله تبارك وتعالى.

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: هذا تعبير عن وحدانيّة الله عز وجل، فلا ربّ ولا معبود بحقٍّ إلّا الله تعالى، هو وحده المستحقّ للرّبوبيّة والعبوديّة والألوهيّة، فتبتّل إليه تبتيلاً، وأخلِص له وحده التّوجّه.

﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾: إذا كان الحقّ تعالى ربّ المشرق والمغرب الّذي بهما معاش النّاس، وإذا كان هو وحده المستحقّ للعبادة فلا يسعك إلّا أن تتّخذه وكيلاً، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النّساء: من الآية 81]، فأنت محدود القدرة، محدود الحيلة، محدود العدّة، فتوكّل عليه وحده، واتّخذه وكيلاً عنك؛ أي: أنّه تعالى يكون وكيلاً عنك، فلماذا تقلق؟ أنت وكّلت ربّ العالمين عنك فدَعْكَ من الدّنيا وما فيها: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾.

الآية رقم (10) - وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾: الحقّ تعالى يُعدُّ نبيَّه ورسولَه ﷺ لأمرٍ عظيم، وهو أمر دعوة قومه للإسلام، ويعلم تعالى أنّهم لا بدّ سيؤذونه بالقول والفعل، وسيقاتلونه ويضربونه.. فلا بدّ من الصّبر، لذلك أراد تعالى أن يُعدّه إعداداً ربّانيّاً، وقد كان رسول الله ﷺ يقول: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»([1])، وهي علامة الإيمان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزّمر: من الآية 10]، فالصّبر هو نصف الإيمان، وهو علامة حمل الأعباء، فمهما قالوا عن النّبيّ ﷺ: ساحر ومجنون.. فقد قال له تعالى:

﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾: فإذا كان الصّبر فيه إيلامٌ لك، فليكُنْ صبرك عليهم صبراً جميلاً، وليكُنْ هجرك لهم واعتزالك إيّاهم هَجراً جميلاً، ومادّة هجر وما يُشتقّ منها تدلُّ على تَرْك شيءٍ إلى شيءٍ آخر، والهجر فيه كراهيّة النّفس للشّيء المؤدّي إلى قطْع الصّلة بين رسول الله ﷺ وبين قومه، لكنّنا دائماً نجد الحسن والأحسن والخير من رسول الله ﷺ.

﴿هَجْرًا جَمِيلًا﴾: أي: اعتزلهم اعتزالاً حسناً لا جزع فيه، مع أنّهم آذوك بأنواع الأذى كلِّها، فالاعتزال والهجر الجميل ألّا يدع شفقته عليهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رُشْدهم وصلاحهم، ولذلك تروي لنا سيرة رسول الله ﷺ أنّه قال في وقت أذاهم إيّاه: «اللّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»([2])، ونجد أنّ النّبيّ ﷺ وقد جاء له جبريل عليه السلام قائلاً: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»([3])، وهذا من رحمة رسول الله ﷺ بقومه، بل بالعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء]، فهم محتاجون لأدبك الجمّ، ولتواضعك الوافر، ولجمال خُلُقك، ولبسمتك الحانية، ولنظرتك المواسية، هذا هو الإسلام، فتنازل عن هفوات خصومك وليسعها خُلُقك، وليسعها حِلمك، ولا تغضب لأيّ بادرة تبدر منهم، وقد كان رسول الله ﷺ يؤلمه ويؤذيه تكذيب قومه له؛ لأنّه كان يريد هدايتهم ونجاتهم، وكاد أن يُهلك نفسه، لذلك قال له الحقّ تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: من الآية 8].

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الـمَغَازِي، بَابُ غَزْوَةِ الطَّائِفِ، الحديث رقم (4335).

([2]) شعب الإيمان للبيهقيّ: حبّ النّبيّ ,، فصل في بيان النّبيّ , وفصاحته، الحديث رقم (1375).

([3]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بَابُ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ وَالـمَلاَئِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، الحديث رقم (3231).

الآية رقم (11) - وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا

﴿وَذَرْنِي﴾: أي: اتركهم لي فأنا الّذي أعاقبهم، وأنا الّذي بيدي أجَل الإمهال وأجَل العقوبة، وهو فعل أمر، مثاله قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر]، فهو أمرٌ للنّبيّ ﷺ بأن يدعهم ويتركهم، ويستعمل من مادّة هذا الفعل فعل مضارع هو (يذر)، وقد قال الحقّ تعالى: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: من الآية 127]، ويُشارك في هذا الفعل فعلٌ آخر هو (دع)، بمعنى (اترك).

﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾: فدعني ومَنْ كذَّبك لا تهتمّ به، فإنّه عقبة في طريق دعوتك والرّسالة وتطبيق شرع الله عز وجل، فأصحاب العيش المترف المنعّمون لا يحبّون منهج الله تعالى؛ لأنّه يُقيّد حركتهم، ويمنع تصرّفاتهم الفاسدة، لذلك يحاربون الدّعاة إلى الله عز وجل، الدّاعين للالتزام بمنهج الله عز وجل، والمحافظة على حقوق النّاس، فأهل الخِصْب ورغد العيش ورفاهيته هم الّذين اشتغلوا بالتّكذيب، وهم الّذين كانوا يصدّون النّاس عن سبيل الله تعالى، وقد قال عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾[الأنعام: من الآية 123]، فالإجرام يجعل الإنسان يريد كلّ شيء لنفسه، لذلك تجد المجرمين، وخاصّة أكابرهم يسعَوْن دائماً إلى التّسلّط وارتكاب الرّذائل، ويريدون من المجتمع كلّه أن تنتشر فيه مثل هذه الرّذائل؛ لأنّهم لا يستطيعون أن يعيشوا إلّا في جوّ الفساد والرّشوة والإجرام والانحلال الخُلُقيّ، ويقول الحقّ تعالى أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ]، فأولو النّعمة هم أصحاب المال والغنى، والنّعمة التّنعّم والتّرفُّه، والنَّعمة بالفتح: التّنعّم، والنِّعمة بالكسر: الإنعام، والنُّعمة بالضّمّ: المسرّة، وقد اختلفوا فيـمَنْ عُني بـ ﴿أُولِي النَّعْمَةِ﴾على ثلاثة أقوال: أحدها أنّهم الـمُطعمون ببدر، والثّاني: أنّهم بنو المغيرة بن عبد الله، والثّالث: أنّهم المستهزئون وهم صناديد قريش، فأولو النّعمة المكذّبون للرّسل هم أهل المعصية المترفون من كلّ صنفٍ من أصناف الفساد البشريّ.

فقوله تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾تهديدٌ مزلزل مُفزع لهؤلاء السّادة الـمُتَنَعِّمين من مشركي القوم، فإنّهم الرّؤوس العفنة الّتي تقود تلك الحملة الضّالّة الّتي تؤذي النّبيّ ﷺ وتقف لدعوته بالمرصاد.

﴿وَمَهِّلْهُمْ﴾: الإمهال لا يعني الإهمال والتّرك، بل يعني أنّ الله تعالى يُملي للكافر ويُمهله لأجَل، فإذا جاء أَجَل العقاب أخذه، وقد قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾[الحجّ]، فأمليت لهم؛ أي: أمهلتهم، ثمّ يحدث الأخْذ، وأخْذ الشّيء يتناسب مع قوّة الآخِذ وقدرته، وعنف الانتقام بحسب المنتقم، فإذا كان الآخذ هو الله عز وجل فكيف سيكون أخْذه؟

﴿قَلِيلًا﴾: قال بعض المفسّرين: إنّ الأجل هنا إلى يوم بدر، فلم يمكثوا كثيراً بعد هذا التّهديد حتّى قُتِلوا ببدر، فالمراد من القليل تلك المدّة القليلة الباقية إلى يوم بدر، فإنّ الله تعالى أهلكهم في ذلك اليوم، وهناك قولٌ آخر: إنّ أجلهم هو عمر الدّنيا كلّها، وهو مهما طال فهو قليل.

الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ

يُخاطِب الحقّ تعالى نبيّه وحبيبه محمّداً ﷺ ليقرّبه إليه أكثر، ويطلب منه أن يقوم من اللّيل متهجِّداً عابداً متقرِّباً إليه تعالى، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾[الإسراء]، فالهجود هو النّوم، وتهجَّد؛ أي: أزاح النّوم والهجودَ عن نفسه، وهو خصوصيّة لرسول الله ﷺ وزيادة على ما فرض على أمّته أن يتهجّد لله عز وجل في اللّيل، وإن كانت فرضاً عليه، إلّا أنّها ليست في قالبٍ من حديد، بل له ﷺ مساحة من الحريّة في هذه العبادة، المهمّ أن يقوم لله تعالى جزءاً من اللّيل، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾[الفرقان]، فحين يأوي الإنسان إلى بيته بعد عناء اليوم وسعيه يتذكّر نِعَم الله عز وجل الّتي تجلّت عليه في ذلك اليوم، وهي نِعَم ليست ذاتيّة فيه، وإنّما موهوبة له من الله تعالى، لذلك يتوجّه إليه تعالى بالشّكر عليها فيبيت لله تعالى ساجداً وقائماً، وليس المراد قيام اللّيل كلّه، إنّما جزءٌ منه، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: “مَنْ صلّى بعد العشاء ركعتين فأكثر كان كـمَنْ بات لله ساجداً وقائماً”.

﴿الْمُزَّمِّلُ﴾: أصله المتزمّل، وهو الّذي تزمَّل في ثيابه؛ أي: تلفّف، وقد كان النّبيّ ﷺ يتزمّل في ثيابه أوّل ما جاءه جبريل عليه السلام فَرَقاً منه، فكان يقول: زمّلوني، زمّلوني، حتّى أنس به.

والمزّمّل أيضاً حامل النّبوّة، والمعنى زملتَ هذا الأمر فقُمْ به واحمله، فإنّه أمرٌ عظيم.

ويُروى في سبب نزول هذه السّورة أنّ قريشاً اجتمعت في دار النّدوة تكيد لرسول الله ﷺ، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فاغتمّ له والتفّ بثيابه وتزمّل ونام مهموماً، فجاءه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، كأنّ الحقّ تعالى يقول لنبيّه ﷺ: لا تغتمّ ولا تحزن، فراحتك في قُرْبِك منّي، قُمْ بين يديّ يذهب عنك ما تشعر من ألم من قومك، لذلك كان رسول الله ﷺ يقول دائماً لبلال رضي الله عنه: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»([1])، فالصّلاة راحةٌ لقلبه ونفسه وروحه من تعب وشقاء الحياة وأكدارها، فمن حبّه لله عز وجل أصبحت طاعته تعالى وعبادته مرغوبة مُحبّبة إلى النّفس، وهناك أناس ألفوا وعشقوا الرّاحة بالصّلاة حينما يحزبهم ويشتدّ عليهم أمرٌ خارجٌ عن نطاق أسبابهم، فعشق التّكليف يدلّ على أنّك ذقت حلاوة الطّاعة.

([1]) سنن أبي داود: كِتَاب الْأَدَبِ، بَابٌ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ، الحديث رقم (4985).

الآية رقم (2) - قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا

قَامَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً»([1])، فقُم اللّيل للصّلاة والعبادة، واهجر فراشك وما تتزمّل به وتتغطّى وانهض لتقوم بين يديّ، فصلِّ اللّيل إلّا قليلاً تنام فيه وهو الثّلث، تقوم مُصليّاً ثلثي اللّيل وتنام الثّلث الباقي، وقد يسأل سائل: هل هذا الخطاب لرسول الله تعالى وحده، أو أنّ أمّته مخاطبة أيضاً، وقد ورد ما يثبت أنّ الخطاب كان لرسول الله ﷺ ومعه أمّته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَتْ لَنَا حَصِيرَةٌ نَبْسُطُهَا بِالنَّهَارِ، وَنَتَحَجَّرُهَا عَلَيْنَا بِاللَّيْلِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةً، فَسَمِعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ صَلَاتَهُ، فَأَصْبَحُوا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّاسِ، فَكَثُرَ النَّاسُ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: ” كَانَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَدْوَمَهَا، وَإِنْ قَلَّ”([2])، وقد كان الرّجل يربط الحبل ويتعلّق فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرحمهم الله تعالى فردّهم إلى الفريضة وترك قيام اللّيل.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، بَابُ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕﱖ [الفتح]، الحديث رقم (4836).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند النّساء، مُسْنَدُ الصِّدِّيقَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ 7، الحديث رقم (24323).