يخاطب الحقّ تعالى نبيّه ﷺ في الخلوة اللّيليّة معه:
﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾: المرضى غير قادرين على العمل، فعلى القادر أن يعمل ليسدّ حاجته وحاجة غير القادر.
﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: فقانون الإصلاح الّذي جعله الله تعالى لحياة البشر يقوم على الضّرب في الأرض والسّعي في مناكبها، وفيه مقوّمات الحياة، هذا هو المنهج الرّبّانيّ، هذا المنهج للقالب، نأكل ونشرب ونعيش، والمنهج الآخر هو للقيم، للقلب، فإن قعدتْ الأمّة أو تكاسلت عن أيّ من هاتين الدّعامتين ضاعت وصارت مطمعاً لأعدائها، لذلك نجد الآن الأمم المتخلّفة فقيرة تعيش على مساعدات الأمم الغنيّة؛ لأنّها سترت أنعم الله عز وجل، ولم تعمل على استنباطها، وقعدت عن عمران الأرض واستصلاحها.
وقد كان النّبيّ ﷺ والمؤمنون يقومون في أوّل الإسلام من اللّيل نصفه وثلثه، وهذا قبل أن تُفرَض الصّلوات الخمس، فقاموا سنَة فشقّ ذلك عليهم فنزلت الرّخصة بعد ذلك عند السّنة، ففي أوّل سورة المزّمّل قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزّمّل]، فكان الأمر شاقّاً عليهم، ووجدوا حرجاً في الاستمرار، لذلك نزل قوله تعالى بالرّخصة لهم في آخر سورة المزّمّل: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾، وقد علم الله عز وجل أنّكم لن تُحصوه ولن تستطيعوه ولن تداوموا عليه: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: فتجاوز عنكم وخفَّف عنكم، فقال: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾، فلم يفرض وقتاً من اللّيل ولا مقداراً منه، بل جعله على السّعة وحسب الاستطاعة، وكان بين أوّل سورة المزّمّل وآخرها سنة حتّى فُرِضَت الصّلوات الخمس والزّكاة، فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾، وأسلوب القرآن الكريم أسلوب معجز، فقد استخدم الحقّ تعالى كلمة: ﴿أَدْنَى﴾، وهي تشمل ثلاث حالات فأجملها؛ أي: أدنى من ثلثي اللّيل، وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، وأدنى؛ أي: أقرب من الثّلث أو النّصف أو الثّلثين على حسب حال كلّ قائم للّيل وقارئ للقرآن الكريم فيه.
﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾: فالله تعالى هو العالِـم بمقادير اللّيل والنّهار وأجزائهما وساعاتهما، لا يفوته علم ما يفعلون، فيعلم القدر الّذي يقومون من اللّيل والّذي ينامون منه، ومقدّر اللّيل والنّهار ومدبّرهما واحدٌ هو الحقّ تعالى، لذلك نجد النّظم القرآنيّ يُقَدِّم لفظ الجلالة فيقول: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ﴾دلالة على انحصار تقدير اللّيل والنّهار في يد الله عز وجل.
﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾: فالله تعالى علم أنّكم لن تُطيقوه؛ أي: لن تُطيقوا قيام اللّيل نصفه أو ثلثه أو ثلثيه، وقد كان الرّجل يُصلّي اللّيل كلّه مخافة ألّا يُصيب ما أمر الله تعالى به من القيام، والإحصاء إطاقة الشّيء والقيام به والتزامه، ومثلها قوله ﷺ: «خَلَّتَانِ لاَ يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ، أَلَا وَهُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ: يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْراً، وَيَحْمَدُهُ عَشْراً، وَيُكَبِّرُهُ عَشْراً»([1])، وفي حديث أسماء الله الحسنى قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِئَةً إِلَّا وَاحِداً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ»([2])، والإحصاء في اللّغة على وجهين: أحدهما بمعنى الإحاطة بعلم عدد الشّيء وقدره، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾[الجنّ: من الآية 28]، والثّاني بمعنى الإطاقة له، كقوله تعالى هنا: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾؛ أي: لن تطيقوه، ولن تستطيعوا القيام به على الوجه الّذي أُمرتم به.
﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾: فردّهم إلى الفريضة ووضع عنهم النّافلة إلّا ما تطوّعوا به، وكلمة: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ هنا لها عدّة معانٍ: فتعني العفو عنهم، وهذا يدلّ على أنّه كان فيهم مَنْ ترك بعض ما أُمِرَ به، وتعني فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التّوبة الرّجوع.
﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾: يعني صلّوا ما تيسّر لكم أن يكون، فجعل ذلك إليهم، فلتُصَلّوا متى شئتم تطوّعاً غير متحرّين أوقاتاً معيّنة أو أجزاء من اللّيل، فكان ذلك تخفيفاً عنهم، فإنّهم كانوا قد قاموا حَوْلاً حتّى ورمتْ أقدامهم.
﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: ثلاثة أصناف كانوا سبباً في تخفيف الله عز وجل: مرضى لا يستطيعون القيام، مسافرون في الأرض يسعون على أرزاقهم يبتغون الرّزق من فضل الله تعالى، ومجاهدون في سبيل الله عز وجل، فالمريض يضعف عن التّهجّد باللّيل، فخفّف الله عز وجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه، وكذلك المسافر والمجاهد في سبيل الله عز وجل.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: قرن الحقّ تعالى بين الصّلاة والزّكاة في آياتٍ كثيرة، وإقامة الصّلاة هي الرّكن الّذي لا يسقط عن الإنسان أبداً، فالتفتوا إلى نداءات ربّكم للصّلاة، وعندما يرتفع صوت المؤذِّن بقوله: الله أكبر، فهذه دعوةٌ للإقبال على الله عز وجل، إقبالٌ في ساعة معلومة لتقفوا أمامه تعالى، وتكونوا في حضرته يُعطيكم الله تعالى المدد، وذكر إقامة الصّلاة هنا ثمّ إيتاء الزّكاة بعد الضّرب في الأرض والضّرب في سبيل الله عز وجل، في الأولى ابتغوا من فضل الله فعليهم أن يحمدوا الله عز وجل على فضله ورزقه لهم، وأن يُخرجوا ممّا أنعم الله تعالى عليهم به زكاة تطهِّر مالهم وتشيع التّكافل والتّعاون والإحساس بالفقير بين أبناء المجتمع، والحقّ تعالى يُعقِّب الزّكاة بالقول:
﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾: والقرض شيءٌ غير الزّكاة وغير الصّدقة، فلا يتوقّف إنفاقك على ما فُرِض عليك أو ما تطوَّعتَ به، بل أيضاً يطلب منك أن تقرض قرضاً حسناً، والله تعالى لا يحتاج منك قرضاً فهو المتفضّل عليك بالنّعم والمال، ومع هذا يسألك أن تُقرضه هو، والحقّ تعالى يقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة]، والقرض في اللّغة معناه: قَضْم الشّيء بالنّاب، ولذلك الحقّ تعالى هو يُقدِّر الجزاء على قَدْر صعوبة القرض، والقرض شيء تُخرجه من مالك على أمل أن تستعيده، وهو تعالى يُطمئنك على أنّه هو الّذي سيقترض منك، وأنّه سيردّ ما اقترضه لكن ليس في صورة ما قدّمت، إنّما في صورة مستثمرة أضعافاً مضاعفة، فأصْل مالك محفوظ ومُستثمر، فهي أضعاف كثيرة بمقاييس الله عز وجل، لا بمقاييسنا نحن كبشر، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة].
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾: فلا شيء يضيع عند الله عز وجل، فليطمئنّ المؤمن أنّ حركة حياته مقدّرة عند الله عز وجل، وسنجد ثواب هذا عند الله تعالى، فكلّ ما نفعله من منهج الله تعالى له أجر، ليس أجراً بقدر العمل، بل أضعاف العمل أضعافاً مضاعفة، والله تعالى يقول في آيةٍ أخرى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النّحل: من الآية 96]، فما عند الله عز وجل باقٍ لا نفاد له، فخزائن الله عز وجل ملأى لا ينفد ما فيها، وما عند الله تعالى ليس هيّناً، بل: ﴿هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾.
﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾: فالحقّ تعالى يعلم أنّ بني آدم لا يمكن لهم أنْ يراعوا حقوقه كما يجب أنْ تُراعى، فلا بدّ أنْ تفلت منهم أشياء، وهو تعالى يعلم ذلك؛ لأنّه خالقهم، فأمَرَهم جلّت حكمته أن يستغفروه ليكفّروا عن سيّئاتهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: المغفرة والرّحمة تقتضيان ذنوباً، والله تعالى: ﴿غَفُورٌ﴾ لما قد بدر وحصل منّا من ذنوب استغفرنا ربّنا منها، وهو: ﴿رَحِيمٌ﴾ بنا، فلا يُعاجلنا بالعقوبة شفقةً علينا وحبّاً في رجوعنا إليه، فالله تعالى غفورٌ رحيمٌ حتّى لمن توانى قليلاً، وذلك حتّى يلحق بالرْكب الإيمانيّ ويتدارك ما فاته؛ لأنّ الله تعالى يُحبُّ توبة العبد.
والله تعالى غفورٌ قبل أن يوجد مغفورٌ له أو مرحوم، وصفة المغفرة وصفة الرّحمة كلٌّ في مُطلقها تكون لله عز وجل وحده، وهي توبة للجاني ورحمة للمجنى عليه، والحقّ تعالى له طلاقة القدرة في أنْ يغفر وأنْ يرحم، فإيّاك أن تقول: إنّ فلاناً لا يستحقّ المغفرة والرّحمة؛ لأنّه تعالى مالك السّماء والأرض، وهو الّذي أعطى للبشر ما يستحقّون بالحقّ الّذي أوجبه على نفسه.
([1]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ الدَّعَوَاتِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ,، بَاب 25، الحديث رقم (3410).
([2]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابٌ: إِنَّ لِلَّهِ مِئَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِداً، الحديث رقم (7392).