الآية رقم (4) - وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا

﴿سَفِيهُنَا﴾: سفيه الجنّ هو إبليس الّذي ردّ الأمر على الآمر، وعصى ربّه في السّجود لآدم عليه السلام الّذي خلقه الله عز وجل بيديه، وقوله: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾[الإسراء: من الآية 61]، فهو عدّ رأيه أفضل من رأي الله عز وجل، لذلك اعتُبِرَ سفيهاً، وليس معنى هذا أنّه سفيهٌ واحد هو إبليس، فإنّ إبليس هو رمزٌ لكلّ سفيهٍ يردّ الأمر على الله عز وجل، ويرفض ما يأمر به عز وجل.

﴿شَطَطًا﴾: الشّطط: البعد عن الصّواب في القول، وأصل الشّطط الزّيادة في الحدّ، فالشّطط هو القول الّذي يُنَافي الحقيقة، ويخرج عن حدود الصّواب.

الآية رقم (5) - وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا﴾: الظّنّ هنا بمعنى الشّكّ؛ أي: شككنا أن لن يقول الإنس والجنّ، على الله عز وجل قولاً كاذباً مُفترى، فلمّا تحقّق عندهم الكذب خافوا على أنفسهم أن يُبتَلوا به، وأن يشتبه عليهم الصّراط السّويّ، فهم كانوا قد اعتقدوا أنّ لله تعالى صاحبة وولداً بما سمعوا الجنّ والإنس يقولون ذلك، فتبرّؤوا من أقوال إبليس.

﴿أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾: لقد ظننّا أنّ الإنس والجنّ لا يصدر عنهم الكذب على الله عز وجل.

الآية رقم (6) - وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا

الّذي يستعين بالجنّ ينقلب عليه ويُذيقه ألواناً من العذاب، وقد حكى ربّنا تعالى كثيراً أنّ الشّياطين لهم التصاقٌ واتّصالٌ بكثير من الإنس، فرجال الإنس هم السّحرة، كانوا يعوذون برجالٍ من الجنّ، وإنّ مَن يتبع هؤلاء السّحرة ويقصدهم ليفكّوا له السّحر، أو ليسحروا له الخصوم، يعيش طوال عمره مُرهقاً، صحيح أنّهم يستطيعون أن يسحروا، لكنّ ذلك السّحر يزيد الـمُتَسبِّب فيه رهقاً وتعباً، لذلك تجد العاملين بالسّحر والشّعوذة يموتون فقراء، بَشِعي الهيئة، مُصابين في الذّرّيّة؛ لأنّ الواحد منهم استغلّ فرصةً لا توجد لكلّ واحدٍ من جنسه البشريّ، وذلك للإضرار بالنّاس.

الآية رقم (7) - وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا

لم يكونوا يعتقدون أنّ هناك رسولاً بعد عيسى بن مريم عليه السلام، فرجال الجنّ كانوا مثل رجال الإنس في هذا، فقد اعتقد هؤلاء وأولئك أنّ الله تعالى لن يبعث أحداً رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، وقد أوضح الله تعالى هذا في سورة ص: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص].

الآية رقم (8) - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا

قبل نزول القرآن الكريم كان الشّياطين يسترقون السّمع، ولكن عند بعث رسول الله ﷺ امتنع ذلك كلّه، فعرفوا أنّ نبيّاً ورسولاً آخر سيُبعَث؛ لأنّ الله تعالى أراد ألّا تضع الشّياطين خرافاتهم في منهج الله عز وجل.

ولننظر إلى دقّة الأداء القرآنيّ في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾، كأنّهم صعدوا إلى السّماء حتّى بلغوها لدرجة أنّها أصبحت قريبة لهم حتّى كادوا يلمسونها.

﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾: اللّمس إدراك بظاهر البشرة، كالمسّ، ويُعَبَّر به عن الطّلب، فهم طلبوا السّماء ليتسمّعوا أخبارها والأوامر والوحي النّازل فلم يستطيعوا، لمسوا والتمسوا غيب السّماء وطلبوا سماعه.

﴿فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾: لقد أراد الجنّ أن يستمعوا خبر السّماء فوجدوها ملئت حرساً من الملائكة يحرسونها من كلّ جانب، يمنعونهم من الوصول إلى أرجاء السّماء، أو حتّى الدّنوّ والقرب منها، لقد تمّت حراسة السّماء من أن يقترب منها الجنّ والشّياطين لنزول آيات القرآن الكريم على محمّد ﷺ.

﴿وَشُهُبًا﴾: وليست الحراسة فقط، بل مُلِئَت السّماء شهباً، والشّهب جمع شهاب، وهي النّجوم المحترقة الّتي كانت تُرجَم بها الشّياطين، فالجنّ وجدوا السّماء مُلِئَت حرساً شديداً من الملائكة وشُهباً مُحرقة تترصّد مَنْ يقترب من السّماء، فكانت الشّياطين عندما تحاول الاستماع إلى ما ينزل من السّماء ينزل عليهم شهاب يحرقهم، والله تعالى يقول عن السّماء: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾[الحجر]، فقد كان العاصون من الجنّ قبل رسول الله ﷺ يسترقون السّمع للمنهج المنزّل على الرّسل السّابقين لرسول الله ﷺ، واختلف الأمر بعد رسالته الكريمة، حيث شاء الحقّ تعالى أن يحرس السّماء، وما إن يقترب منها شيطان حتّى يتبعه شهابٌ ثاقب، والشّهاب عبارة عن جذوة تشبه قطعة الفحم المشتعلة يخرج منها اللّهب.   

الآية رقم (9) - وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا

﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾: فالشّياطين كان لها مقاعد في السّماء تقعد فيها لتستمع لما ينزل من السّماء إلى الأرض ليتمّ تنفيذه، فكانوا يأخذون بضعاً من كلمات المنهج ويزيدون عليها، فتبدو بها حقيقة واحدة وألف كذبة، فلمّا بعث الله تعالى رسولَ الله ﷺ مُنِعوا من تلك المقاعد، يقول الله تعالى عن الجنّ والشّياطين الّذين كانوا يقعدون هذه المقاعد للسّمع:﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشّعراء]، فَعُزِلوا عن السّمع برجمهم بالكواكب والنّجوم والنّيازك، وهي الشّهب، فكانوا معزولين عن استماع الوحي والأمر من السّماء، وممنوعين من استماع كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيثٍ أو أمر.

﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾: بعض الجنّ كانوا يحاولون الاستماع فكانوا يُقَابلون بالشّهب، شهاب نار قد رصد لكلّ مَن يحاول أن يتسمّع، لذلك كان استماعهم استراقاً وخطفاً، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾[الصّافّات]، فبعض هؤلاء المردة سيستطيعون خطف بعض الأخبار، لكن لن يتمكّنوا من الفرار بها وتوصيلها إلى أوليائهم، وهيهات لهم ذلك؛ لأنّه: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾[الصّافّات: من الآية 10]، يعني كوكب ينقضّ عليه، ومعنى: ﴿ثَاقِبٌ﴾: نافذ يخترق الأجواء حتّى يصل إلى هدفه في أسرع وقت، فإن سأل سائل: لماذا لا يُمنَع الجنّيّ بدايةً من استراق السّمع؟ قالوا: فرْقٌ بين أن يُمنَع من الشّيء أصلاً، وبين أن يناله ثمّ لا ينفذ به ولا يستفيد منه، فالله تعالى يمكّنه من بعض الأخبار فيسمعها، لكن تُعاجله الزّاجرات والشّهب من كلّ ناحية، فتكون حسرته أعظم، حسرة أنّه تَعِب وتحمَّل المشاقّ في استراق السّمع والخطف، وحسرة أنّه لم ينتفع بما سمع.

الآية رقم (1) - قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا

جعل الحقّ تعالى سورة للجنّ أسماها سورة الجنّ، كما جعل سورة للإنسان أسماها سورة الإنسان، وهناك سورة فاطر أسماها بعض العلماء سورة الملائكة، لمناسبة قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[فاطر]، فَخَلْق الله عز وجل الّذي قدَّر أن يسكن الأرض والسّماء هم الإنس والجنّ والملائكة، ولكلّ خَلْقٍ من خلقه تعالى صفات تميّزه عن الخَلْق الآخرين، فالإنس إنسٌ؛ لأنّهم مرئيّون بالنّسبة إلى الجنّ والملائكة، أمّا الجنّ والملائكة فهم غير مرئيّين للإنس، يقول تعالى عن الجنّ: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ [الأعراف: من الآية 27]، فالجنّ مستورٌ عنّا، ومثله من المادّة اللّغويّة نفسها الجنين الّذي لا نراه، ومنه الجنّة؛ لأنّها تستر الشّخص عن أعين النّاس، والجنّ يمتاز بخفّة الحركة وسرعتها، وفيهم المؤمن والكافر، والمؤمنون من الجنّ فيهم الطّائع والعاصي، والشّياطين هم مردة الجنّ المتمرّدون على منهج الله عز وجل، وكلّ متمرّدٍ على منهج الله تعالى نسمّيه شيطاناً، سواء كان من الجنّ أم من الإنس، والجنّ أمّةٌ من الأمم مُطَالبون برسالات الله تعالى إلى البشر، وليس منهم أنبياء ولا رسل.

﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾: أي: قل يا محمّد أنّه قد أوحي إليك، والوحي لرسول الله يأتي عن طريق جبريل عليه السلام فهو أمين الوحي.

﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾: مادة (سمع) منها: سمع واستمع وتسمّع، (سمع)؛ أي: مصادفة، وأنت تسير في الطّريق تسمع كلاماً كثيراً، منه ما يهمّك ومنه ما لا يهمّك، فليس على الأذن حجاب يمنع السّمع، كالجفن للعين، فأنت تسمع ما يصل إلى أذنك كلّه، فليس لك فيه خيار، أمّا ﴿اسْتَمَعَ﴾ تعني أن تتكلّف السّماع، والمتكلّم حرٌّ في أن يتكلّم أو لا يتكلّم، وتسمّع؛ أي: تكلّف أشدّ التّكلّف لكي يسمع، ومعنى ﴿اسْتَمَعَ﴾ ؛ أي: جنّد جوارحه كلّها، وهيّأ حواسّه كلّها أن يسمع، فإن كانت الأذن للسّمع فهناك حواسٌّ أخرى يمكن أن تشغلها عن الانتباه، فالعين تُبصِر والأنف يشمّ واللّسان يتكلّم.

فهؤلاء النّفر من الجنّ عندما سمعوا القرآن الكريم من فم رسول الله ﷺ أعطوه آذانهم وحواسّهم فأصبح سماعهم استماعاً، واتّجهوا بكلّيّتهم لسماع القرآن الكريم من رسول الله ﷺ، وقد حدث أنّ رسول الله ﷺ انطلق في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السّماء، وأُرسِلَت عليهم الشّهب، فرجعت الشّياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السّماء وأُرسِلَت علينا الشّهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السّماء إلّا شيءٌ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء؟ فانصرف أولئك الّذين توجّهوا نحو تهامة إلى النّبيّ ﷺ وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن الكريم استمعوا له، فقالوا: هذا والله الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، وقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾، فأنزل الله عز وجل على نبيّه ﷺ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾، وإنّما أوحي إليه قول الجنّ، وحديث رسول الله ﷺ يُبيّن بوضوحٍ الفرق بين: (سمع) و(استمع)، كما جاء عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: “فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ”([1])، وفي آيةٍ أخرى يقول الله عز وجل لرسوله ﷺ: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾[طه]؛ أي: استقبل وحيي بحواسّك كلّها ومُدركاتك وكيانك.

﴿نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾: النّفر: من ثلاثة إلى عشرة، فهي طائفة وفرقة من الجنّ، وكانوا تسعة، وأيّاً كان عددهم فقد استمعوا إلى القرآن الكريم من فم رسول الله ﷺ، وانقلبوا إلى أهلهم من الجنّ، فقالوا لهم: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾، قد تقول: لماذا لم يقولوا: استمعنا؟، إنّ سمع هنا مع ما بعدها: ﴿قُرْآنًا عَجَبًا﴾ تؤدّي معنى الاستماع؛ لأنّهم أدركوا أنّ ما سمعوه قرآناً، والأكثر من هذا أنّه: ﴿قُرْآنًا عَجَبًا﴾ ، ومعنى عجباً: فريداً، وهذه الكلمة العجيبة جاءت في عدّة آيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: من الآية 2]، وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف].

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الأَذَانِ، بَابُ الجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلاَةِ الفَجْرِ، الحديث رقم (773).