الآية رقم (28) - لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا

﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾: ليعلم رسول الله محمّد ﷺ أنّ الرّسل قبله قد أبلغوا رسالات ربّهم، وأنّ جبريل عليه السلام قد أبلغه رسالات ربّه؛ أوامره ونواهيه وأحكامه، فلو لم يكن هناك رصَد من الملائكة للجنّ والشّياطين لأفشوا أوامر السّماء إلى الكهنة، فلم يبق بينهم وبين الأنبياء فرقٌ، ولا يكون للأنبياء آية ولا معجزة ولا دلالة، ثمّ لا يُقبَل قولهم، فرسالات ربّهم تُبَلَّغ كما هي محروسة من الزّيادة والنّقصان، وقد قال بعض العلماء في تأويل هذه الآية أقوال وتأويلات كثيرة، منها: أي: ليعلم إبليس أنّ الرّسل قد بلّغوا رسالات ربّهم سليمةً من تخليطه وإسراف أصحابه، ومحاولات استراق السّمع قد فشلت.

﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾: فلا يجدون معه منفذاً للفكاك، والإحاطة تقتضي العلم بهم والقدرة عليهم، فلن يفلتوا من علم الله عز وجل ولا من قدرته عز وجل، فالله تعالى علم ما عند الرّسل، فلا يخفى شيءٌ من أمورهم، وأحاط بما عندهم من الحكم والشّرائع، لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها.

﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾: أحصى تعالى ما خلق، وعرف ما خلق، لم يفته شيءٌ حتّى مثاقيل الذّرّ والخردل، فكلّ شيءٍ عنده معدود ومُحصى لا يغفل عز وجل عن معرفة عدده.

﴿عَدَدًا﴾: قد تُنصَب على أنّها حال، وقد تُنصَب على أنّها مفعول مُطلَق بتقدير فعل (عدَّ)؛ أي: عدّ عدداً.

فلا شيء يخفى على الله تعالى كثيراً كان أم قليلاً، جليلاً أم دقيقاً، فالله تبارك وتعالى أحصى كلّ شيء من القَطر والرّمل وورق الأشجار وزَبَد البحر، فكيف لا يُحيط بما عند الرّسل من وحيه وكلامه؟ وهو تعالى المحصي العالم الحافظ لكلّ شيءٍ.

وهنا تنتهي سورة الجنّ الّتي تهزّ الوجدان والقلوب، فهي تتحدّث عن عالم غير مرئيّ لنا، يرانا ولا نراه، قد لا نهتمّ كثيراً لعالم الملائكة؛ لأنّهم مأمونو الجانب، فهم جانب الخير، إنّما دائماً نتوجّس من عالم الجنّ.

وهنا في هذه السّورة جنٌّ يبحثون عن الدّين والعقيدة الحقّ، فيجدونها في قرآنٍ سمعوه من فم خاتَم الرّسل والأنبياء، فإذا بهم قد أصبحوا دعاة لقومهم من الجنّ، فالجنّ منهم مؤمنون وكافرون، ومنهم عصاة وطائعون.. ولا يمكن لنا أن نتحدّث للنّاس عن أمور الغيب إلّا بالخبر الصّادق، بما أخبرنا الله تعالى ورسوله الكريم ﷺ، وبما أنّنا آمنّا بأنّ القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل، وأنّ محمّداً هو رسول الله ﷺ، فإنّنا نؤمن بكلّ كلمة وبكلّ حرف ورد في كتاب الله عز وجل، نؤمن بعالم الغيب الّذي لم يُطلِع المولى تعالى عباده عليه إلّا مَنْ ارتضى من رسولٍ، فنكتفي بما ورد في القرآن الكريم ولا نأخذ تصوّرات عن عالم الجنّ من هنا وهناك، ونقول آمنّا وصدّقنا بما جاء في كتابنا العظيم وما قاله رسولنا الكريم ﷺ، فهو: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النّجم]، فعالم الغيب من ملائكة ومن جنّ ومن حياة البرزخ ومن جنّة ومن نار ومن صراط ومن صحائف ومن نشور وبعث… كلّها نؤمن بما ورد عنها في القرآن الكريم؛ لأنّنا آمنّا بهذا القرآن الكريم، آمنّا بصدق بلاغ سيّدنا رسول الله ﷺ الصّادق الأمين عن ربّه تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[آل عمران].

الآية رقم (23) - إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

﴿إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ﴾: فالّذي يُجيرني من عذاب الله عز وجل هو البلاغ عن الله تعالى، ففيه الجوار والأمان والنّجاة، وذلك الّذي أملكه، فأنا لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً، فالرّشد والخذلان بيد الله تعالى وحده دون سائر خَلْقه يهدي مَنْ يشاء ويخذل مَنْ أراد.

وبعض العلماء نظر إلى كلمة: ﴿إِلَّا﴾ في أوّل الآية أنّها مكوّنة من حرفين: (إنْ) و(لا)، فتكون (لا) منقطعة من (إن)، فيكون معنى الكلام: (قلْ إنّي لن يجيرني من الله أحدٌ إنْ لم أبلغ رسالاته)، إنّ الأمر جدّيّ فلن يجيرني من الله تعالى أحدٌ، ولن أجد من دونه ملجأً أو حماية إلّا أنْ أُبَلِّغ هذا الأمر وأؤدّي هذه الأمانة، فهذا هو الملجأ الوحيد، وهذه هي الإجارة المأمونة.

﴿ وَرِسَالَاتِهِ﴾: وقد جمع الحقّ تعالى كلمة: (رسالة)، فقال: ﴿وَرِسَالَاتِهِ﴾، وقد مدح الله تعالى الّذين يُبلِّغون رسالاته فقال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب]، ويقول تبارك وتعالى على لسان رسوله ﷺ: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ [الأعراف: من الآية 93]، والمقصود برسالات الله تعالى ما أرسله الله عز وجل به من أوامر ونواهٍ وشرائع وتكاليف، فكأنّ كلّاً منها رسالة.

﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾: المعصية هنا ليست هي ارتكاب الذّنوب والآثام، إنّما هي المعصية في الإيمان نفسه، ورَفْض الإيمان بالله عز وجل وكتبه ورسالاته ورسله، وقد قال رسول الله ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»([1])، فَـمَنْ يَعْصِ الله عز وجل فيما أمره ونهاه، ويُكَذِّب به وبرسوله وجحد رسالاته، فإنّ له نار جهنّم يصلاها، ماكثاً فيها أبداً إلى غير نهاية، ولكنّ أبديّة الخلود في النّار لم تُذكَر إلّا في هذه الآية في سورة الجنّ: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، ولفظ ﴿أَبَدًا﴾ يدلّ على ملحظ يزيد على معنى الخلود دون تأبيد، فالقرآن الكريم كلام الله عز وجل، وكلام الله تعالى مُنَزَّه عن العبث أو التّكرار، فكلّ لفظ من القرآن الكريم مُحكَم وله معنى، فكلمة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾لا تُفيد التّأبيد الّذي لا نهاية له، فكلمة: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾تعني: أنّ المكث في النّار ينتقل من المكث طويلاً إلى المكث الدّائم الّذي لا ينتهي.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ ,، الحديث رقم (7280).

الآية رقم (24) - حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا

يثبت الحقّ تعالى لهم هنا الرّؤية، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾  [الكهف: من الآية 53]، بينما في آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا﴾ [الإسراء: من الآية 97]، والمتأمّل في حال هؤلاء يجد أنّ العمى كان ساعة البعث، حيث قاموا من قبورهم عُمياً ليتحقّق لهم الإذلال والحيرة والارتباك، ثمّ بعد ذلك يعودون إلى توازنهم، ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصّة بهم، وهكذا جمع الله تعالى عليهم الذّلّ في الحالين: حال العمى، وحال البصر، والحقّ تعالى يقول في آيةٍ أخرى: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ [مريم: من الآية 75].

﴿يُوعَدُونَ﴾: من أوعد، من الوعيد والتّهديد، والله تعالى حين يوعد قادرٌ على إنفاذ ما أوعد به، ولن يُفلِت أحدٌ منه أبداً، فإذا أوعد فلا بدّ أن يأتي وعيده، قال تعالى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾[الأنعام].

﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا﴾: فـمَنْ أضعف ناصراً، كفّار مكّة أم المؤمنون؟ ومَنْ أقلّ عدداً؛ أي: جُنداً؟ فلا ناصر لهم في الآخرة، وقد كان المشركون يُعيِّرون النّبيّ ﷺ والمؤمنين بقلّة النّاصر وقلّة العدد، فقال: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا﴾؛ أي: في يوم القيامة، وهذا تهديد ظاهر.

الآية رقم (25) - قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا

﴿إِنْ﴾ هنا للنّفي، معناها: (ما)؛ أي: ما أدري أقريب ما أوعدكم الله تعالى به وهدّدكم به من عذاب خُلْد أبديّ، أم بعيد، وهو قوله تعالى:

﴿أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا﴾: الأمد: الوقت والزّمن والدّهر، ومادّة الأمد (أ م د) وردت في القرآن الكريم أربع مرّات: قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[الحديد: من الآية 16]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: من الآية 30]، ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾[الكهف]، فقوله تعالى: ﴿أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا﴾؛ أي: أجلاً وغايةً تطول مدّتها فيكون أجلاً بعيداً.

الآية رقم (26) - عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾: فالغيب هو ما لا يعلمه إلّا الله تعالى، وهذا ما استأثر الله تعالى بعلمه، فالله تعالى هو عالم الغيب، فلا يُطلع أحداً من خَلْقه على غيبه إلّا مَنْ ارتضاه واصطفاه من البشر، فالحقّ تعالى لا يُعطي المفتاح لأحد من خَلْقه، والغيب هو ما غاب عن الكلّ، وهو الغيب المطلق، أمّا الأمر المخفي في الكون وكان غيباً على بعض من الخلق، ثمّ يصبح مشهداً لخَلْق آخرين فلا يُقال: إنّه غيب.

﴿فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾: أي: لا يُطلِع أحداً على غيبه، ومثل هذا قوله تعالى في سورة التّحريم: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾[التّحريم: من الآية 3]، والحقّ تعالى استثنى من هؤلاء الّذين لا يطلعهم على الغيب، استثنى فقال:

الآية رقم (27) - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا

﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾: فالحقّ تعالى استثنى مَنْ ارتضاه تعالى من الرّسل فأطلعهم على بعض الغيب ممّا أراده الله تعالى، فالرّسل لا يعلمون الغيب، ولكنّ الله تعالى يعلمهم بما يشاء من الغيب، ويكون هذا معجزة لهم ولمن اتّبعوهم، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: من الآية 59]، ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: من الآية 50]، فرسول الله ﷺ ينفي عن نفسه علم الغيب، ولقائلٍ أن يقول: ولكن ماذا عن الأشياء والأحداث الّتي أخبرنا بها رسول الله ﷺ، وهي أحداثٌ مُستقبليّة؟ نقول: إنّ ذلك ليس علماً للغيب، ولكنّ الرّسول ﷺ مُعلَّم غيبٍ؛ أي: أنّ ربّه تعالى قد علّمه، ومثال ذلك قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران]، فالحقّ تعالى هو الّذي علّم رسوله ﷺ تلك الأخبار الّتي كانت من أنباء الغيب، وهذا اختراق لحجاب الزّمن الماضي، أمّا الشّيء الّذي سوف يحدث في المستقبل فهو محجوب عنك بحجاب الزّمن المستقبل، فالحقّ تبارك وتعالى يفيض من غيبه الذّاتيّ على بعض خَلْقه من الأنبياء والرّسل الكرام، والقرآن الكريم فيه كثير من الغيب، وأفاضه الله تعالى على رسوله ﷺ، وتحقّقت الأحداث كما جاءت في القرآن الكريم، والحقّ تعالى يهب بعضاً من خَلْقِه بعضاً من فيوضاته، وقد أعطى الله تعالى رسوله ﷺ بعضاً من الهبات والعطاءات، وحدّد مَنْ يعطيه بعضاً من الغيب، فقال عز وجل: ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾.

﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾: لقد حفظ الله تعالى رسولَه ﷺ من محاولات استراق الجنّ لأخبار السّماء والوحي، فالضّمير في ﴿يَدَيْهِ﴾، ﴿خَلْفِهِ﴾ يعود على الرّسول ﷺ؛ أي: من بين يدي الرّسول ومن خلفه.

وقد يسأل سائل: لماذا خصّص الحقّ تعالى الجهات بالأمام والخلف، ولم يذكر باقي الجهات، نقول: ذِكْر بعض الجهات دالٌّ على جميعها، فيبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً؛ أي: طائفة من الملائكة تكون مهمّتها رصد الجنّ والشّياطين فيحرسونه منهم ويطردون الشّيطان عنه، وقد تولّى الله تعالى حفظ الذّكر الحكيم بحراسة السّموات وغيرها، والرّصد من الملائكة يدفعون الشّياطين عن أنْ تستمع ما ينزل من الوحي، فهم رصدٌ لمن يأتي للرّسول ليخطف الخَطْفة من أوامر السّماء.

الآية رقم (19) - وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا

لـمّا قام رسول الله يدعو ربّه، ويقرأ القرآن الكريم تجمّع هؤلاء الجنّ التّسعة ليستمعوا منه القرآن الكريم، فعبد الله هو رسول الله محمّد ﷺ قام يعبد ربّه في بطن نخلة بين مكّة والطّائف، وكان يقرأ القرآن، فكان الجنّ من حبّهم لما استمعوه من رسول الله ﷺ من آي الذّكر الحكيم ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾؛ أي: كادوا أن يقعوا عليه من تراكبهم عليه من شدّة حرصهم على استماعه، من الازدحام حوله حرصاً على استماع القرآن الكريم، فكادوا يكونون على محمّد ﷺ جماعات بعضها فوق بعض.

﴿لِبَدًا﴾: واحدها (لبدة)، وفي كلامنا العامّي نقول: شعرٌ مُلَبَّد؛ أي: متشابك متراكب داخل في بعضه، بعضه فوق بعض.

الآية رقم (20) - قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا

قل يا محمّد: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا﴾، فرسول الله ﷺ يعلن لهم إعلاناً واضحاً عن رسالته وما جاء به، فأنا إنّما أعبد ربّي عز وجل، وما جئتُ إلّا بتوحيده وعدم الإشراك به شيئاً أو أحداً، فلا أصنام ولا أوثان، ولا بشر ولا حجر، ولا كواكب ولا نجوم، ولا حيوانات، ولا شمس ولا قمر، إنّما هو الله الواحد الأحد، لا ربّ سواه، ولا إله غيره، وبعض العلماء تأوّل هذه الآيات أنّ المقصود بها كفّار مكّة، قالوا للنّبيّ ﷺ: لقد جئت بأمرٍ عظيم فارجع عنه، فنحن نُجيرك، فقال لهم النّبيّ ﷺ: ﴿ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا﴾ ([1]).

([1]) أورده الخازن في تفسيره (لباب التّأويل في معاني التّنزيل) ج4، ص352.

الآية رقم (21) - قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا

نلحظ أنّ الحقّ تعالى كرّر في هذه السّورة مادّة (ر ش د) عدّة مرّات: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾، ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾، ﴿فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾، ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا﴾، أربعة مواضع: الرُّشد، ثمّ رَشَداً ثلاث مرّات، ولماذا لم يقل الحقّ تعالى: (قل إنّي لا أملك لكم ضرّاً ولا نفعاً)؟ فإنّ الضّرّ يقابله النّفع، نقول: لم يكن الجنّ الّذين استمعوا لرسول الله ﷺ يبحثون عن نفع، وإنّما كانوا يبحثون عن الحقّ، لذلك لـمّا سمعوا القرآن الكريم قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾، كانوا يبحثون عن الهدى وعن الرُّشد والرَّشَد، ولا يبحثون عن نَفْعٍ دنيويّ، والرُّشد والرَّشَد والرّشاد كلّها واحد، وهي نقيض الغيّ، ولو قلنا: إنّ المقصود بهذه الآيات هم كفّار مكّة، فإنّ الله عز وجل يقول لنبيّه محمّد ﷺ: يا محمّد، قل لمشركي العرب إنّي لا أملك لكم ضرّاً في دينكم ولا دنياكم ولا رشداً أرشدكم؛ لأنّ الّذي يملك ذلك هو الله تعالى الّذي يملك كلّ شيء.

الآية رقم (22) - قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا

﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾: لا أحد يُجير إلّا الله تعالى، ولنعلم أنّه لا سلطان لأحدٍ أبداً، ولا أحد يُجير على أحدٍ، فهو تعالى الّذي يُجير ولا يُجار عليه، ولن يُجير شيء على الله تعالى، فإن خرجتُ عمّا أرسلني الله تعالى به فلن يستطيع أحدٌ حمايتي من الله عز وجل إن أراد بي إنزال عقوبة إن عصيته.

﴿وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾: كلمة ﴿مُلْتَحَدًا﴾ وردت في القرآن الكريم مرّتين، هذه الّتي معنا في سورة الجنّ، والأخرى في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الكهف]؛ أي: ملجأً تلجأ إليه، فلن تجد من دون الله تعالى ملجأ تلوذ به، فالمعنى: إن لم أتبع ما جئت به، فلن أجد من دونه تعالى حرزاً أعدل إليه وألجأ، وقيل: مدخلاً في الأرض، مثل السّرب أدخل فيه.

﴿مُلْتَحَدًا﴾: من اللّحد، يكون في شِقٍّ من الأرض، يُوضَع فيه الميّت، كأنّ الأرض تحتضنه وتُخفيه في داخلها.

الآية رقم (11) - وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا

﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾: فلأنّهم لم يدروا أيُصَدِّقون الرّسل أم يكذِّبونهم انقسموا، فمنهم مَنْ آمن، ومنهم مَن كان دون ذلك، فالجنّ منهم العاصون والطّائعون والمؤمنون، فهم كبني آدم، منهم الصّالحون المصلحون الّذين يُعينون على الخير، ومنهم مَنْ هو أقلّ من ذلك صالحٌ غير مُصلِح، مُهتدٍ غير هادٍ، فمنهم الطّائع ومنهم العاصي، ومنهم المتمرّد، وقد يكون مَنْ هو دون الصّالحين، وهم الّذين كفروا وهم الشّياطين.

﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾: أي: كنّا أهل ملل شتّى، مؤمنين وكافرين؛ أي: أنّهم كانوا ذوي أهواء مختلفة.

﴿طَرَائِقَ﴾: الطّرائق: جمع طريقة، وهي طريقة الرّجل ومذهبه.

﴿قِدَدًا﴾: القدد: جمع قدّة، وهي الضّروب والأجناس المختلفة، فكانوا فِرقاً شتّى، فيهم هكذا وهكذا وهكذا.

الآية رقم (12) - وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا

﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا﴾: الظّنّ هنا بمعنى: أيقنّا وآمنّا أنّنا: ﴿لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا﴾، فهم آمنوا أنّهم لن يستطيعوا الإفلات من عقاب الله عز وجل، ولن يُعجزوه، ولن يعجز عنهم أبداً، وهو تعالى مدركهم لا محالة؛ أي: وإنْ دخلنا تحت تخوم الأرضين، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض، وهذا إقرارٌ منهم بأنّهم لا يستطيعون بحيلهم وأسبابهم أن يحترزوا من عذاب الله تعالى.

الآية رقم (13) - وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا

الهدى: القرآن الّذي سمعوه من فم رسول الله ﷺ، وهو هدى؛ لأنّه يهدي إلى الطّريق المستقيم، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾[الإسراء]، والجنّ يقولون: ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ﴾، فبدلاً من أن يقولوا: (وأنّا لـمّا سمعنا القرآن)، انتقلوا إلى وصفه مباشرةً على اعتبار أنّ القرآن الكريم هو الهدى.

﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴾: إيمانك بالقرآن الكريم هو إيمانٌ بالهدى، وإيمانك بالهدى هو إيمانٌ بمَنْ أنزل القرآن الكريم على رسوله محمّد ﷺ، ولهذا الإيمان بربّك عاقبة وهي: ﴿فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴾، فالإنسان إنّما يخاف من البَخْس والرَّهَق، فإن كنت لا تريد الوقوع فيهما فآمن بربّك يكفك الأمرين، فما هو البَخْس، وما هو الرَّهَق؟

البَخْس: هو إنقاصُ الحقّ، يقول تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾[يوسف]، ويقول عز وجل: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾[الشّعراء: من الآية 183].

أمّا الرَّهَق: فهو ألوانٌ من العذاب، والمراد أن يُحمَل عليه من سيّئات غيره.

فالإنسان لا يخاف بَخْسَاً فيُبخَس حقّه كلّه، ولا رَهَقاً يُبخس بعض حقّه طالما أنّه آمن بربّه وبالهدى الّذي جاء به رسول الله ﷺ.

الآية رقم (14) - وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا

﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾: فالجنّ فيهم المؤمن والكافر.

﴿الْقَاسِطُونَ﴾: الجائرون على حقوق غيرهم، الظّالمون.

ولكنّ القاسطين هنا مقابلون للمسلمين، فيكون القاسطون هم الظّالمون الّذين ظلموا أنفسهم بأنّهم عدلوا بالله غيره تعالى، فالمسلمون هم الّذين خضعوا لله تعالى بالطّاعة، أمّا القاسطون فهم الجائرون عن الإسلام وقصد السّبيل.

﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾: فـمَنْ أسلم وخضع لله عز وجل بالطّاعة فأولئك ترجّوا رشداً في دينهم، والتّحرّي والتّوخّي هو القصد، فهم قصدوا نوراً وقصدوا طريق الحقّ.

الآية رقم (15) - وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا

وأمّا الظّالمون الجائرون فقد جعلناهم حطباً للنّار، ليرى المؤمن كيف يتلذّذ بالنّعيم، وكيف يصبح الكافر حطباً ووقوداً لهذه النّار.

الآية رقم (16-17) - وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا () لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا

يُعَرِّج الحقّ تعالى على كفّار مكّة فيقول:

﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾: أي: طريقة الهدى.

﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾: أي: ماءً كثيراً من السّماء.

فلو آمنوا واستقاموا على طريقة الحقّ والاستقامة لوسّعنا عليهم في الرّزق وبسطنا لهم في الدّنيا.

والماء الغدق قد يكون المطر، ويقول بعضهم: قد يكون المال؛ لأنّ المال يأتي نتيجة لعطاء السّماء من الأمطار؛ لأنّه يقول بعدها: ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾؛ أي: لنبتليهم به ونختبرهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة، فرزق الدّنيا فتنة وابتلاء، ومن فُتِنَ برزق الدّنيا مالاً أو جاهاً أو نساء فقد خسر وخاب، ويكون الابتلاء والفتنة شرّاً له.

﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾: ففي الآية السّابقة قال: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾، ماذا يحدث لهم؟ ﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾، هذا لِـمَنْ آمن واستقام على منهج الله عز وجل وشرعه، أمّا مَنْ لم يؤمن، بل أعرض ونأى بجانبه وصدّ عن سبيل الله تعالى: ﴿يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾، كان مطلوباً منه أن يسلك سبيل الرّشاد والهدى والاستقامة على الطّريقة ولكنّه أعرض، لذلك ﴿يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾؛ أي: يُدخِله الله تعالى عذاباً شديداً شاقّاً متصاعداً لا راحة فيه، وقد أعطانا الحقّ تعالى مثالاً لهذا العذاب الشّديد الشّاقّ المتصاعد، فقال: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾[المدّثّر]، ثمّ يذكر لنا الحقّ تعالى قضيّة لا بدّ أن نضعها في أذهاننا، وهي:

الآية رقم (18) - وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾: المساجد جمع مسجد، وهو المكان الّذي يُسجَد فيه لله تعالى وحده، فهو مكانٌ للعبادة، فإذا دخلت المسجد للعبادة فإنّ لحظة دخولك هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربّك وتناجيه وتعيش في حضن عنايته فلا تأتِ بالدّنيا معك، وقد كان أحدُ الصّحابة يقول: كنّا نخلع أمر الدّنيا مع نعالنا على باب المسجد، والمسجد لن يأخذ منك إلّا الوقت القليل فضَعْ قدرك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بلا قدر إلّا قدر إيمانك بالله تعالى، ادخل بعبوديّتك لله عز وجل، ولا تلحظ لك قدْراً إلّا بمقدار قربك من ربّك، فالمساجد هي فيوضات الحقّ النّورانيّة على خَلْقه، فالّذي يريد فَيْض الحقّ بنوره، فليذهب إلى المسجد، فالمسجد هو مكان لا يزاول فيه إلّا لقاء الله عز وجل، فليخصّص الإنسان المؤمن ساعةً لله عز وجل وحده في اليوم، وليخلع أعراض الحياة الدّنيا كلّها كما يخلع النّعال على باب المسجد، فليس من حُسن الأدب واللّياقة أن ينشغل الإنسان بأيّ شيء غير لقاء الله تعالى في الوقت المخصّص للقائه عز وجل، وفي المكان المخصّص لهذا اللّقاء، فعلينا ألّا نناقش أمورنا الدّنيويّة من بيع وشراء في المسجد، فكأنّنا لا يكفينا حبّ الدّنيا خارج المسجد ونطمع في الدّقائق الّتي نخصّصها للصّلاة فنجرجر الدّنيا معنا إلى المسجد، ومع أنّ الأرض كلّها تصلح للصّلاة لكنّك حين تأتي إلى المسجد اصحب معك أخلاقَ التّعبّد، ويجب أن يكون الانفعال والتّفاعل والحركة والنّشاط كلّه في الله تبارك وتعالى، فالمساجد لله تعالى.

﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾: الدّعاء هو العبادة، فلا تعبدوا مع الله تعالى أحداً، بل قوموا بما يجب لله تعالى من توحيد، والحقّ تعالى يقول عن المساجد: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[التّوبة]، ومن العجيب أنّه يقول: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾، وفي نهاية الآية يقول: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾، فكيف يؤمن بالله تعالى ويخشى أحداً سوى الله تعالى؟ هذا يدلّ على أنّ أيّ مباشرة لأمور الدّنيا في المساجد هو كأنّك تخشى غير الله تعالى، فالمسجد لا يُعصَى الله عز وجل فيه، والمسجد لا تكون فيه الدّعوة إلّا لله تعالى، فالإيمان يقتضي ذلك.

الآية رقم (10) - وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا

هذا استمرار لكلام الجنّ، فهم لا يدرون سبب حراسة السّماء الشّديدة بالملائكة، ورمي الجنّ بالشّهب لمنعهم من الاستماع، هل هذا لشرّ أُريد بِـمَنْ في الأرض حتّى لا يفطنوا لِـمَا قد يحدث لأرضهم، أم أنّ الله تعالى قد أراد بهم رشداً وهدى، فالأمر قد اختلط على الشّياطين؛ لأنّهم لم يعودوا يستطيعون استراق السّمع، ولذلك لم يعرفوا هل الّذي ينزل من السّماء خيرٌ أو شرّ؟ فالجنّ لا يعلمون السّرّ في حراسة السّماء، وهل في ذلك شرّ بالبشر، أو أراد الله تعالى بهم خيراً وهُدى، والشّرّ قد يكون عذاباً ينزل بأهل الأرض، أمّا الرّشد فهو الهدى بأنْ يبعث منهم رسولاً مرشداً يرشدهم إلى الحقّ، ونلاحظ هنا أنّ الآية لم تقل: (وأنّا لا ندري أراد الله بهم شرّاً)، فالشّرّ لا ينسب إلى الله عز وجل، بل قالوا: ﴿أَشَرٌّ أُرِيدَ﴾ بالمبني للمجهول، ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾، فالرَّشَد نُسِب إلى الله تعالى، أمّا الشّرّ فلا يُنسَب إليه عز وجل، وعند الحديث عن عالم الجنّ، لا نسأل كيف؟ فنحن نتحاكم بالعقل الّذي أعطانا االله تعالى إيّاه بما هو خاضعٌ لحواسّنا وللعلم البشريّ، أمّا عند الحديث عن الغيبيّات فنحن آمنّا بالقائل تعالى، آمنّا بصدق التّبليغ عن الله عز وجل، آمنّا بسيّدنا رسول الله ﷺ، فعندما يتحدّث القرآن الكريم في سورةٍ كاملةٍ عن الجنّ، ويُعطي بعض هذه المواصفات، فنحن لم نستطع ولن نستطيع أن نُخضِع الغيب للتّجارب، حتّى نقول: إنّ هذا الأمر منطقيّ أو غير منطقيّ، فهو لا يخضع للمنطق العامّ الّذي يعيشه البشر؛ لأنّه خلف علوم البشر،  فهو من الغيبيّات، والغيبيّات لا سبيل لنا إليها إلّا من الخبر الصّادق فقط، فمثلاً عندما أقول: الأرض تدور، والأرض كرويّة، وقد جاء في القرآن الكريم عدّة آيات تتعلّق بالأرض، فعندما تأتي الآيات هناك دلائل يأتي العلم والتّجربة والبرهان فتثبت، أمّا إذا كان  لما بعد الموت، وآمنت أنّ القرآن الكريم من عند الله عز وجل، وأنّ رسول الله ﷺ مُبَلِّغ عن ربّه عز وجل فنأخذ الآيات ونأخذ المواضيع الغيبيّة كما وردت في القرآن الكريم، فبما أنّ هناك سورة جنّ، وبما أنّ الله تعالى تحدّث عن الجنّ، وبما أنّه قال: إنّهم كانوا يقعدون مقاعد للسّمع، وإنّهم يسترقون السّمع، وإنّ هناك شهباً ترصدهم، وإنّه يعوذ بهم رجالٌ من الإنس، وإنّهم زادوهم رهقاً…، فنقول: صدق الله العظيم فيما أخبر.

الآية رقم (2) - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا

﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾: الرّشد: هو طريق النّجاة، فالقرآن الكريم يهدي إلى سبيل النّجاة، أمّا الغيّ فهو طريق الهلاك، ويقول الحقّ تعالى إيضاحاً للرّشد والغيّ في آيةٍ أخرى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف]، فالقرآن الكريم يهدي إلى الرّشد؛ أي: يدلّ عليه، فمَن آمن به رشد، ومَن كفر به غوى، قال ﷺ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الـمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الـمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»([1]).

﴿فَآمَنَّا بِهِ﴾: هذا الرّشد آمنّا به.

﴿وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾: فقد فهموا باستماعهم للقرآن الكريم أنّ مقتضى إيمانهم ألّا يُشرِكوا بالله تعالى أحداً، وكلمة: ﴿أَحَدًا﴾ تقطع الطّريق على الإشراك بأيّ أحد.

([1]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ القُرْآنِ، الحديث رقم (2906).

الآية رقم (3) - وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا

﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى﴾: معطوفة على قوله: ﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ﴾، فيكون هذا من قول الوحي: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾كذا وكذا، فـ (أنّه) بالفتح.

﴿جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾: وكأنّ الله تعالى يقول: اطمئنّوا، فربّكم ليس له صاحبة تؤثِّر عليه، ولا ولد يُحابيه، فالخلق جميعاً سواء عنده عز وجل، وكلّهم عباده لا يُحَابي منهم أحداً، ولا يميّز أحداً على أحد.