الآية رقم (27) - وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ

فهم مع أنّهم من: ﴿ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾، ومع أنّ في أموالهم حقّاً معلوماً للسّائلين والمحرومين، وأنّهم يؤمنون ويُصَدِّقون بيوم الدّين، إلّا أنّهم مشفقون من عذاب الله عز وجل، فهم خائفون وجلون خشيةً من الله عز وجل، سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يقول: لو نادى منادٍ أنّ كلّ النّاس يدخلون الجنّة إلّا رجلاً واحداً لاعتقدت أنّه عمر، وهذا من خشية الله تعالى، فالخوف من الله عز وجل مصحوبٌ بالمهابة، والخوف من السّاعة مصحوبٌ بالحذر منها، وأن نعمل لها، فالإيمان ليس كلاماً فقط، وهم مُشفقون من عذاب ربّهم.

الآية رقم (11-12-13-14) - يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ () وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ () وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ () وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ

﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾: أي: يرونهم ويعرفونهم، ولكنّهم لتشاغلهم بأنفسهم لم يتمكّنوا من تساؤلهم، أو لأنّهم لا يرون جدوى لذلك، فهذا المجرم الآثم الظّالم الّذي تناهى إجرامه بكفره بربّه واستكباره عن عبادته عز وجل.

﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾: وهو لإجرامه يريد أن ينجو من عذاب الله عز وجل له على آثامه وذنوبه، فيودّ لو يُقَدِّم بنيه الّذين كان يترجّاهم  ويطلبهم من الله تعالى وهو في الدّنيا، ولو يُقَدِّم صاحبته الّتي هي زوجته الّتي شاركته دنياه، بل ويُقَدِّم أخاه، بل ويُقَدِّم فصيلته وعشيرته وأهله وناسه، بل يُقَدِّم مَن في الأرض جميعاً، هو على استعداد أن يُقَدِّم الجميع فداءً لنفسه في سبيل أن يُنجيه الله عز وجل من العذاب، ولكن هيهات، فقد قطع الله عز وجل أمل الكافرين والظّالمين والمجرمين في الافتداء من العذاب، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران].

الآية رقم (15) - كَلَّا إِنَّهَا لَظَى

فهذه هي الحقيقة تقولها عبارة: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾، فهذا الظّنّ، وهو إمكانيّة الافتداء، غير صادق، ولن يتحقّق، فالعذاب واقعٌ بكم لا محالة، فعندما: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ يُجيب الله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾.

﴿ كَلَّا﴾: ردعٌ وزجرٌ للمجرم عن أن يودّ ذلك، فلن ينفعه الافتداء ولن يُنجيه من العذاب.

﴿إِنَّهَا لَظَى﴾: إنّها نار شديدة السّعير، عظيمة التّلظّي، وهي: ﴿ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾، فلا تأخذها رحمة ولا شفقة ولا هوادة في أخْذ المجرمين وتعذيبهم، فهي تشويهم بنارها ولظاها فيحترقون فيها: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾  [النّساء: من الآية 56].

﴿لَظَى﴾: اسمٌ من أسماء النّار، وهي تتلظّى؛ أي: تتلهّب بلهب خالص، وقد وصف الحقّ تعالى ذلك اللّهب في آيةٍ أخرى: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ [المرسلات]، شُعَب النّار لهبها الّذي إذا سطع وارتفع تشعَّب وتفرّق ثلاث شُعَب.

الآية رقم (16) - نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى

فالنّار تنزع الأطراف، كاليدين والرّجلين فلا تترك عليها لحماً ولا جلداً، فالشّوى: جمع شواة، وهو الطّرف، كاليد والرّجل وأطراف الأصابع وجلدة الرّأس.. إنّه عذابٌ ما بعده عذاب، فهذا الّذي يسأل ويستهزئ بالعذاب سيرى هذا الأمر، وسيرى هذا العذاب.

الآية رقم (17) - تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى

هذا خبرٌ ثانٍ عن النّار، فالنّار لظى، وهي تدعو مَن أدبر وتولّى، ودعاء النّار ونداؤها ليس على الحقيقة، بل هو لونٌ من ألوان المجاز، وذلك كقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمّد: من الآية 4]، فليست الحرب هي الّتي تضع أوزارها حقيقة، إنّما مَن أوقدوها والمنغمسون فيها والواقعون فيها، فالنّار تدعو إليها الكافرين والمجرمين الّذين يحاولون الفرار منها، كما تدعو الأغنياء والمترفين الّذين كانوا يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله عز وجل، ويمنعون الفقراء والمساكين من حَقِّ الله تعالى، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ النّار تُناديهم بأسمائهم واحداً واحداً، فهي تدعو مَنْ أدبر عن الإيمان وتولّى عن الحقّ، فتقول: إليّ يا مشرك.. إليّ يا كذا.. حتّى أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: “تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسانٍ فصيح، ثمّ تلتقطهم كما يلتقط الطّير الحَبَّ”، هذا عن دعاء النّار وندائها، ولكن مَنْ تدعو النّار وتناديهم؟ إنّها تدعو: ﴿مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾، فهي تدعو مَن أعرَض عن الإيمان ونأى بجانبه وكفر بدعوة الرّسل إلى توحيد الله عز وجل وعبادته وحده.

﴿أَدْبَرَ﴾: أي: أعطى ظهره للحقّ، وأعرض عن الطّاعة للدّخول فيها.

﴿وَتَوَلَّى﴾: أعرض عن الحقّ وعن الإيمان بكتابه ورسله.

وإذا كان قد أدبر وتولى عن الحقّ، ففي أيّ شيءٍ قضى حياته وأنفق عمره؟ إنّ إدباره وتولّيه كان؛ لأنّه اختار الدّنيا على الآخرة.

الآية رقم (18) - وَجَمَعَ فَأَوْعَى

فهو مع كفره وفسقه ونفاقه يجمع المال من كلّ طريق، من حلِّه ومن غير حلِّه، ويكنزه، ولم يُؤَدِّ حقّ الله عز وجل فيه، وقد قال عنه الحقّ تعالى في موضعٍ آخر: ﴿ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ [الهمزة]، فهذا قد أطغاه الغِنى والمال حتّى أنّه نظر إلى مَن هو دونه من الفقراء نظرة تحقير وازدراء، وهو يظنّ أنّ ماله سيمنحه الخلود فلا يموت حتّى يفنى ماله، فلم ينفعه ماله، ولم يُنجِه كنزه للمال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾[الهمزة].

كانت هذه بداية سورة المعارج، وينتقل الحقّ تعالى هنا إلى حقيقة الإنسان:

الآية رقم (19) - إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا

﴿هَلُوعًا﴾: صيغة مبالغة تدلّ على شدّة الهلع، فهي فعول، والهلع: شدّة الحرص وقلّة الصّبر، فهو ضَجِر ملول مُتَقَلِّب يسعى وراء شهواته ونزواته وهواه، فالهلع شدّة الجزع إذا أصابه شرٌّ أو خاف من شيءٍ ما، وتراه مع جزعه شديد الحرص بخيلاً شحيحاً إذا رزقه الله تعالى رزقاً تجده منوعاً لما في يده، لا يُنفِقه في طاعة الله عز وجل، ولا يُؤَدِّي حقّ الله تعالى منه، وإذا قلّ ماله وناله الفقر والعدم تجده لا صبر له.

وكلمة (إنسان) هنا تُفيد عموم جنس الإنسان، ويُحَدِّثنا الحقّ تعالى في آيةٍ أخرى عن صفات الإنسان، فيقول: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴾ [هود]، فالنّعمة حين يشاء الحقّ تعالى أن تُصيب الإنسان ثمّ تُنزَع منه يُصاب الإنسان حينها بالقلق أو الحزن أو الهلع أو اليأس، والنّعمة مهما قلّت فالإنسان يستطيبها، وإن نُزِعَت منه فهو يؤوسٌ كفور، فاليؤوس الكفور هو أيضاً الهلوع الجزوع المنوع، ولاحظ أنّها كلّها صيغ مبالغة، فالمقصود به الإنسان الشّديد الجزع، المنَّاع للخير، الشّديد الكفر بالله عز وجل، اليؤوس من رحمة الله عز وجل.

الآية رقم (9) - وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ

أي: حينها تكون الجبال كالصّوف المندوف، كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾[القارعة]، فالجبال يوم القيامة ستتفتّت وتتناثر، وتصبح كالصّوف المندوف.

الآية رقم (10) - وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا

فليس لأحدٍ قريب أو صديق يدفع عنه ويحزن عليه، فهم يفرّون منه، وهم أنفسهم لا يجدون مدافعين عنهم، فكلّ واحدٍ ينشغل بنفسه، فلا يسأل صديقٌ عن صديق، ولا قريب عن قريب، إنّه لا يستطيع حتّى أن يسأله عن حاله، ولا أن يقول له: كيف حالك؟ لهول ذلك اليوم وشدَّته.

الآية رقم (2) - لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ

﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: فهو عذاب للكافرين خاصّة، واللّام هنا في: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ بمعنى: (على)؛ أي: واقع على الكافرين، ويُحتَمل أن تكون بمعنى: (الباء)؛ أي: بالكافرين واقع.

﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ : الدّافع: المانع الّذي يدفع ويمنع العذاب عنه، فليس له دافع يردُّ عنه العذاب.

الآية رقم (3) - مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ

هذا العذاب واقعٌ على الكافرين من الله ذي المعارج، والمعارج هي المصاعد والدّرجات الّتي تصعد فيها الملائكة من سماء إلى سماء، فهي مراقٍ في السّماء يُرتقى فيها بالنّسبة إلى الملائكة، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزّخرف: من الآية 33]، ويظهرون: يعني: يصعدون ويرتقون.

الآية رقم (4) - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ

وقول الله عز وجل: ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ يُدخِل الخوف والرّهبة في قلوب الكافرين، إذ إنّ المخلوقات كلّها تحت قهر سلطانه تعالى، والملائكة هي من هذه المخلوقات تصعد إليه في معارج السّموات.

﴿الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾: الرّوح هو جبريل عليه السلام، ذكره الحقّ تعالى بعد ذكر الملائكة، فذكْر الخاصّ بعد العامّ يُعطي أهمّـيّة وعظمة للخاصِّ لتميُّزه وفضله.

والملائكة إنّما تعرج إلى الله عز وجل كما تصعد أرواحُ بني آدم إليه عند قبضها حين الموت، فالهاء في: ﴿إِلَيْهِ﴾ عائدة على اسم الله تعالى، وقد قال بعض أهل التّأويل: إنّ الضّمير في: ﴿إِلَيْهِ﴾ يعود إلى الموضع الّذي لا يجري لأحدٍ سواه فيه حكمٌ، فجعل عروجهم إلى ذلك الموضوع عروجاً إليه.

﴿فِي يَوْمٍ﴾: لكي نعرف معنى كلمة: ﴿يَوْمٍ﴾ عند الله عز وجل كان لا بدّ أن نضمّ إلى هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحجّ]، فالله عز وجل هو خالق الزّمن، فلذلك فإنّه يستطيع أن يخلق يوماً مقداره ساعة، ويوماً كأيّام الدّنيا مقداره أربع وعشرون ساعة، ويوماً مقداره ألف سنة، ويوماً مقداره خمسون ألف سنة، ويوماً مقداره مليون سنة، فذلك خاضعٌ لمشيئة الله عز وجل، فالأزمنة متعدّدة ومنوّعة وتختلف من قياسٍ إلى آخر، ومن كوكب إلى آخر، وما أظهره الله تعالى لنا في القرآن الكريم من الأزمنة إنّما يدلّ على اختلافها لا على التّعارض والتّناقض، فإذا كان الحقّ تعالى يتحدّث عن العروج إليه هنا، فيقول: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، فإنّه تعالى ينقص هذه المدّة فيقول تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السّجدة]، فلا نستطيع أن نرى الحقيقة، كما أنّ الله تعالى عندما يتحدّث عن اليوم فإنّه يتحدّث عن مدّة زمنيّة، ولا يتحدّث عن اليوم الّذي نعرفه نحن في الدّنيا، لماذا؟ لأنّ الزّمن عندنا في هذه الحالة مُعَطّل، وقد سُئِل رسول الله ﷺ عن: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا»([1])، فيوم القيامة هو في حقّ المؤمن أهون عليه من صلاة مكتوبة يُصلّيها في الدّنيا، وكأنّه خمس دقائق، أمّا الكافر فهو في شدّة استطالته وشدّته وكأنّه خمسون ألف سنة، وقد يسأل سائل: هل تحتاج الملائكة إلى خمسين ألف سنة لتعرج إلى ربّها؟ لذلك قيل: إنّه يوم في حساب الملائكة، ولكن حساب هذا اليوم بحسابكم أنتم هو خمسون ألف سنة، فالملائكة يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة.

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ t، الحديث رقم (11717).

الآية رقم (5) - فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا

فاصبر يا محمّد صبراً جميلاً؛ أي: صبراً حسناً لا جَزَع فيه، اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك، ولا يُثنيك ولا يصرفك ما تلقاه منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك الله تعالى به، فاصبر صبراً لا يشوبه استعجال واضطراب قلب، واصبر على سؤالهم: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾؛ لأنّ السّؤال كان عن استهزاء وتعنّت، وهو سؤال يستبعد وقوع يوم القيامة ووقوع العذاب بهم، لذلك كان قول الحقّ تعالى: ﴿لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ فلن يستطيع أحد أن يدفع عنهم شدّة هذا اليوم.

وقد ذكر الحقّ تعالى الصّبر الجميل في حقّ نبيّ الله يعقوب عليه السلام وعلى لسانه فقال لأبنائه: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: من الآية 18]، والصّبر عادةً يكون مؤلماً، فكيف يكون جميلاً؟ يكون جميلاً حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع، وهناك الهجر الجميل في قوله تعالى: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزّمّل: من الآية 10]، وهو الّذي لا يقترن بغيبة أو نميمة  أو جدال، وقد أمر الحقّ تعالى رسولَه محمّداً بالصّبر على قومه في آياتٍ كثيرة من قرآنه الكريم: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: من الآية 130]، وكأنّ التّسبيح يجعل صبره صبراً جميلاً، فعندما يُسَبِّح الإنسان تهون أمامه هذه الاتّهامات الّتي تأتي منهم، وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾[ص].

الآية رقم (6) - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا

أي: يرونه غير متحقّق، ويرونه سيحدث في زمنٍ بعيد، بل يستبعدون حدوثه، لذلك كان قوله تعالى بعده:

الآية رقم (7) - وَنَرَاهُ قَرِيبًا

أي: نراه متحقِّقاً كائناً لا رَيب في حدوثه، فهم يرونه غير واقع، ونحن نراه قريباً؛ لأنّه آتٍ، وكلّ ما هو آتٍ قريب.

ثمّ يذكر لنا الحقّ تعالى أهوال هذا اليوم ومشاهده، فيقول تعالى:

الآية رقم (8) - يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ

فالسّماء يوم القيامة تتشقّق وتتداعى، فيتغيّر لونها من الزُّرقة إلى الحمرة.

﴿كَالْمُهْلِ﴾: المهل: هو عكر الزّيت في أسفل الإناء، أو هو ما يُذاب من المعادن كالنّحاس والرّصاص والحديد.

فالقرآن الكريم يقرّر أنّ أحداثاً كونيّة كبرى ستقع في هذا اليوم، تتغيّر بسببها أوضاع الكواكب والنّجوم والمجرّات وتتغيّر صفاتها.

الآية رقم (1) - سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ

﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾: طلب ودعا داعٍ، حيث طلب كافر من كفّار مكّة لنفسه ولقومه نزول عذاب، والسّائل هو النّضر بن الحارث، فعندما خوّفهم رسول الله ﷺ نزول العذاب، قال استهزاءً وإنكاراً: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[الأنفال: من الآية 32]، وقد بلغ العجز بالكفّار إلى أن قالوا: إن كان هذا القرآن هو الحقّ القادم من عندك فأمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذاب أليم، وهذا هو منطق العمي، ومنطق الكفر، المنطق الّذي يطلب الموت بدلاً من الهداية، وهذا دعاء مَن لا عقل له، ولو كانوا يعقلون لقالوا: إن كان هذا الحقّ من عندك فاهْدِنا يا ربّ إليه، ولكنّهم من فرط حقدهم وضلالهم تمنّوا العذاب على الإيمان بالحقّ، وهذا يُنبِئ عن تفاهة عقولهم، وهذا الدّعاء وبال عليهم، ومَن قال هذا القول هم العاص ابن وائل السّهميّ، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد المطّلب، وآخرين، وكانوا قد وصلوا إلى قمّة الاضطراب، يطعنون في كلّ مرّة، قالوا: كاهن، وقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا: إنّ القرآن الكريم شعر، والقرآن ليس كذلك، حتّى وصل بهم الأمر إلى أن يطلبوا العذاب الّذي يتوعّدهم به النّبيّ ﷺ.

﴿بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾: أي: بعذابٍ نازل بهم وحاصل لا محالة.