الآية رقم (42) - فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ

﴿فَذَرْهُمْ﴾: أمرٌ بأن يدعهم ويتركهم، ويُستَعمَل مِن (ذرهم) فعل مضارع هو (يذر)، ولم يستعمل منها في اللّغة فعل ماض، ويُشارك في هذا الفعل فعل آخر هو (دع) بمعنى: اترك، وقيل: أهملت العرب ماض (يدع) و(يذر) إلّا في قراءةٍ في قول الحقّ تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضّحى].

والمعنى: ذرهم لي أنا أتولّى عقابهم وأفعل بهم ما أشاء، أو ذرهم يفعلون ما يشاؤون ليستحقّوا العقاب وينزل بهم العذاب.

﴿يَخُوضُوا﴾: هذه الكلمة تُعطي معنى واضحاً مُجَسَّماً؛ لأنّ الأصل في الخوض أن تدخل في سائل، مثل الخوض في المياه أو الطّين، فكلمة (الخوض) تُشعِرنا بالدّخول في الماء الكثير.

﴿وَيَلْعَبُوا﴾: اللّعب هو شغل النّفس بشيءٍ غير مطلوب.

﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾: ذرهم في خوضهم ولعبهم وعمايتهم عن الحقائق حتّى يلاقوا يوم القيامة الّذي وُعِدوه، ولاحظ أنّ الحقّ تعالى يقول: ﴿يُلَاقُوا﴾؛ أي: أنّهم هم السّاعون للقاء هذا اليوم مع أنّهم يفرّون منه ويكرهون لقاءه ويُنكرونه.

﴿يَوْمَهُمُ﴾: ينسب اليوم إليهم، فلن يستطيعوا منه فِكاكاً ولا مفرّاً، وهو يومهم الّذي ينتظرهم لإيقاع الجزاء بهم على كفرهم وعدم إيمانهم.

﴿الَّذِي يُوعَدُونَ﴾: هذا الوعد جاء على لسان رسل الله جميعهم.

الآية رقم (43) - يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ

ماذا سيحدث في ذلك اليوم الّذي يُوعَدون به؟ ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا﴾، ففي هذا اليوم العظيم الهول يُنفَخ في الصّور النّفخة الآخرة، فيخرج النّاس جميعاً من أجداثهم؛ أي: يخرجون من قبورهم، يقول تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ [يس]؛ أي: يُسرعون، وهي كلمة ﴿سِرَاعًا﴾ ذاتها الّتي ذُكِرَت هنا في سورة المعارج، ولننظر إلى عظمة تصوير الحقّ تعالى لهذا المشهد: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس]، إنّها الحقيقة الّتي طالما كذّبوا بها، وماتوا وقُبِروا وفي يقينهم أنّهم لن يُبعَثوا: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ [يس: من الآية 52]، فيقول لهم الله تعالى، أو تقول لهم الملائكة: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾[يس: من الآية 52]، ولننظر إلى القوّة في إحضار هؤلاء رغماً عنهم: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس]، ومُحضَر اسم مفعول من أحضر، يعني أُجبِر على الحضور والمثول بين يدي الله تعالى للحساب.

ويُضيف الحقّ تعالى هنا الوصف إيضاحاً، فيقول تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾، والنّصب: الشّيء المنصوب، وهي من الكلمات الّتي وردت مفرداً ووردت جمعاً، وهي في الأصل حجارة كانت منصوبة حول الكعبة يذبح عليها المشركون الذّبائح تقرّباً للآلهة، فالنّصب عَلَم يُنصَب ويُوقَف يستبق العابدون له إليه، كذلك إسراع هؤلاء واستباقهم وانطلاقهم، وفي هذه الحركة خروج من القبور وإسراع فيه قلق واضطرابٌ على مصيرهم، فهم ممّن كفر بالله عز وجل وجحد أمره عز وجل، ورفضوا منهج الله تعالى وتمرّدوا عليه، وقتلوا الأنبياء وقتلوا ورثة الأنبياء، فيخرجون فزعين مضطربين، أعينهم زائغة تذهب في كلّ مكان تستطلع ما يحدث غير مصدِّقَة أنّهم قاموا من قبورهم، إنّهم في مشهد مهيب، مليارات الجثث الآدميّة تقوم من أجداثها، لا يعرف أحدٌ منهم مصيره، وهذه هي اللّحظات الّتي قال الله تعالى فيها: ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النّور: من الآية 37]، يعني رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، وكذلك تضطرب الأبصار وتتقلّب هنا وهناك؛ لأنّها حين ترى الفزع الّذي يُخيفها تتقلّب، تنظر هنا وهناك علّها ترى ما يُطمئنها أو يُخَفِّف عنها ماتجد، لكن هيهات فلن ترى إلّا فزعاً آخر شديداً أشدّ وأنكى، وعندما يتأكّد من مصيره المحتوم تجده ذليلاً منكسراً، هنا يأتي وصف الحقّ تعالى:

الآية رقم (44) - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ

﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾: فأبصارهم ذليلة منكسرة حيث لا مفرّ ولا منجى، ووجوههم ترهقهم ذلّة؛ أي: تغشاهم ذلّة، ويكسو وجوههم هوان عند تحقّق عذابهم، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [هود]، ثُمّ يُنهي الحقّ تعالى سورة المعارج بقوله تعالى:

﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ : يُكرّر الحقّ تعالى أنّ ذلك اليوم هو الّذي أوعدناهم إيّاه على لسان الرّسل جميعهم، من لدن آدم عليه السلام حتّى خاتم المرسلين محمّد ﷺ، فليس لكم حجّة، حذّرناكم يومكم هذا وحذّرناكم هذا الموقف، فما استجبتم لوعيدنا، وما اهتممتم بالإيمان فظلمتم أنفسكم، وها أنتم واجهتم ما كنتم تُكَذِّبون.

الآية رقم (39) - كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ

إن كانوا يسخرون من نبيّي ورسولي محمّد، ويستهزئون بكتابي القرآن ويقولون: لو كان هناك جنّة لأدخلنا الجنّة مع مَن آمن بها، يقولون هذا استهزاءً وسُخرية، كلا، ليس لهم أن يطمعوا في جنّة نعيم، فليس لهم فيها نصيب، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف]، فمن أيّ شيءٍ يسخرون ويستهزئون وقد خلقناهم ممّا يعلمون، من ماء مهين من نطفة: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ [القيامة]، فلماذا يتكبّرون؟! ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطّور].

الآية رقم (40) - فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾: كلّ مكان على الأرض له مشرق ومغرب، فالشّمس حين تُشرق عندنا تغرب عند قومٍ آخرين، وحين تغرب عندنا تشرق عند قومٍ آخرين، فمع كلّ مشرق مغرب، ومع كلّ مغرب مشرق، فيكون هناك مشرقان ومغربان، لذلك قال تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرّحمن]، ثمّ إنّ الشّمس لها مشرق كلّ يوم ومغرب كلّ يوم يختلف عن الآخر، وفي كلّ ثانية هناك شروق وغروب، فالقسم هنا: ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾؛ لأنّ المشارق والمغارب تختلف على مدار السّنة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم، وهذا لم يكن معلوماً للنّاس، فقوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ إشارة إلى اختلاف مطالع الشّمس وتنقّلها في كلّ يوم، إضافة إلى ما يتضمّنه الشّروق والغروب في حدّ ذاتهما من المنافع والفوائد للإنسان وبقيّة الأحياء.

﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾: قوله تعالى: ﴿إِنَّا﴾ عبارة عن (إنّ) الّتي للتّوكيد، و(نا) الّتي تعبّر عن العظمة، وأصلها: (إنّنا).

فنحن قادرون على إهلاكهم، وعلى أن نخلق أمثلَ منهم وأطوع لله تعالى وأرضى منهم.

الآية رقم (41) - عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ

﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ﴾: بعضهم قال: بدّل الله تعالى بهم الأنصار والمهاجرين.

﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾: فما نحن بعاجزين ولا مغلوبين، فلا يفوتنا شيءٌ نريده، ولا يمتنع منّا أحد، فلسنا بعاجزين عن إبدالهم بآخرين ثمّ لا يكونون أمثالهم، فلا أحد يسبق إرادة الله تعالى أو مشيئته، أو يعجزها عن أن تصل لمرادها، فهو تعالى ربّ المشارق والمغارب، وهذا ليس محدوداً بالأرض الّتي نعيش عليها فقط، فالأرض هي كوكب من تسعة كواكب ضمن مجموعة شمسنا، ولكن هناك مجموعات شمسيّة تُعَدّ بالملايين ضمن مجرّات في الفضاء الواسع، كلّ مجموعة شمسيّة لها شمسٌ تشرق وتُغرب، فالله تعالى إنّما هو ربٌّ للكون كلّه، وليس ربّاً لأرضنا وشمسناً فقط، من هنا فهو (ربّ المشارق والمغارب) القادر القدير الّذي لا يعجزه شيءٌ.

الآية رقم (32) - وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ﴾: الأمانة: كلّ ما استُؤْمنت عليه، وأوّل شيءٍ استُؤْمِنّا عليه هو عهد الإيمان بالله عز وجل، أخذه الله تعالى منّا منذ كنّا في ظهر آدم عليه السلام، قال عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾  [الأعراف].

﴿وَعَهْدِهِمْ﴾: العهد: هو كلّ ما يتعهّد به الإنسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به؛ لأنّك حين تعاهد إنساناً على شيء فقد ربطت حركته وقيّدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد، فإذا أخلفت عهدك ووعدك له فقد خالفت الأمانة، وخالفت الأخلاق والقيم.

ومعنى الأمانة هو ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمينٌ عليها إن شئت رددتها وإن شئت لم تردّها، فأنت تقول: أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة؛ لأنّ هناك دليلاً، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود فلا تكون أمانة أيضاً، فالأمانة أن تودع عند إنسان شيئاً وضميره ودينه هو الحكم، إن شاء أقرّ بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يُقرّ به، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب]، والحقّ تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾  [النّساء: من الآية 58]، ورسول الله ﷺ يقول: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»([1])، فأداء الأمانة إلى أهلها من أعظم القربات إلى الله عز وجل، وعلينا أن نكون راعين لها.

﴿رَاعُونَ﴾: الرّعاية هنا أن تبقى قائماً على الأمانة حتّى تؤدّيها، ولا تحاول أن تدخل في بابٍ من أبواب الحيل للاستيلاء عليها، ولأكل أموال النّاس بالباطل، ونلحظ أنّ الحقّ تعالى هنا نسب الأمانات والعهود إلى مَن تحمّل هذه الأمانات والعهود، فقال: ﴿ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ﴾، فما دُمتم قد تحمّلتموها فقد أصبحت ملازمة لكم، وأصبحتم مسؤولين عنها تؤدّونها كاملةً غير منقوصة عند طلبها أو مجيء موعدها.

والمتأمّل في هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ والآيات قبلها: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ يجد رابطاً يربط بينها، فكلٌّ من الفروج والأمانات والعهود ينبغي أن تُحفظ وتُراعى حقّ رعايتها، ومَن لم يحفظ الأمانات والعهود فهو ملوم كما هو شأن مَن لم يحفظ فرجه، ومَن ابتغى ما لا يحلّ له بالزّنا فهو عادٍ معتدٍ، كذلك الباغي على الأمانة غير الملتزم بعهد الله تعالى.

([1]) سنن أبي داود: أَبْوَابُ الْإِجَارَةِ، بَابٌ فِي الرَّجُلِ يَأْخُذُ حَقَّهُ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ، الحديث رقم (3534).

الآية رقم (33) - وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ

بدأت الآيات المفصِّلة لمنهج الله عز وجل بالمصلّين الّذين هم على صلاتهم دائمون، أناس أتقياء عبادٌ لله عز وجل، لا يتركون صلاة، بل يتطوّعون من الصّلوات النّوافل وقيام اللّيل، وينتقلون إلى مقام الإحسان، ثمّ إنّهم يعطفون ويشفقون على الفقراء والمساكين من السّائلين والمحرومين فيتصدَّقون عليهم ويجعلون لهم حقّاً في أموالهم، وما هذا إلّا لأنّهم يخافون ربّاً ويخشون عذابه ويتّقون ناره، فهم من عذاب ربّهم مشفقون، ثمّ إنّهم محافظون على فروجهم عفيفون لا يقتربون من حرام، فيحفظون فروجهم إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ثمّ إنّهم يراعون الأمانات، ويحافظون على عهودهم الّتي قطعوها على أنفسهم، كلّ هذا يجعل من الإنسان عبداً ربّانيّاً لله تعالى، سَمْتُه سَمْتُ المؤمنين الصّادقين، ولكن هناك ما هو الأهمّ، التّنفيذ العمليّ لمنهج الله عز وجل فيه، وهو قول الحقّ وشهادة الحقّ، يقول تعالى:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ﴾: فالشّهادة احتكاكٌ بمجتمع لتشهد فيه وتعرف ما يحدث، والشّهادة هي الإخبار بـمُشَاهد، والقاضي يسأل الشّهود؛ لأنّهم رأوا الحادث فيروون ما شاهدوا، والحقّ تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النّساء]، وحين تكون شاهداً بالقسط والعدل لا يتمادى ظالمٌ في ظلمه، فتدليس الشّهادة يقود إلى خراب المجتمعات، والمجتمع حينما يرى أنّ شهادة أفراده هي شهادةٌ بالقسط وشهادة بالعدل، فإنّ كلّ فرد فيه إذا همّ بظلمٍ يرتدع قبل أن يفعل الظّلم، والمؤمن مُطَالبٌ بالقيام لله تعالى بإصلاح ذاته، ومُطَالبٌ ثانياً أن يشهد بالقسط والعدل لإصلاح غيره، فشهادة الزّور ركنٌ من أركان فساد المجتمعات كلّها؛ لأنّها لا تجعل المؤمن مطمئنّاً على حقّه، وهي جماع لكلّ حيثيّات الظّلم، لكنّ قول الزّور غير شهادة الزّور، فشهادة الزّور أن تشهد بالزّور، أمّا قول الزّور فهو أن تزورّ عن الحقيقة، وتكذب، لذلك قال النّبيّ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟»، ثَلَاثاً «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -أَوْ قَوْلُ الزُّورِ-»، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَّكِئاً، فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ([1]).

([1]) صحيح مسلم: كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِهَا، الحديث رقم (87).

الآية رقم (34) - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

بدأت آيات الحديث عن منهج الله تعالى بالصّلاة: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾، وانتهت بالكلام عن الصّلاة أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾، وذلك لعظم الوصية بالصّلاة، فالصّلاة إعلان ولاء إيمانيّ كامل لله تعالى كلّ يوم خمس مرّات، نترك ما في الدّنيا كلّه ونتّجه إلى الله تعالى بالصّلاة، إنّها عماد الدّين وأساسه، فالصّلاة عمدة أركان الإسلام، وقد اشتملت على الأركان كلّها، وهي إدامة ولاء العبوديّة لله تعالى، وتهب المؤمنين الاطمئنان، وهي علامة الخضوع لله عز وجل، والصّلاة تجعلنا منضبطين مع منهج الله تعالى، وتنهانا عن المخالفة والتّمرّد عليه، أمّا ترك الصّلاة فمعناه أنّنا تمرّدنا على إعلان العبوديّة والولاء للحقّ تعالى، والمحافظة على الصّلاة هو فعلها لوقتها، والمحافظة على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها، ومراعاة شروطها، وإكمال فرائضها وسننها ومستحبّاتها، وهذا شيءٌ غير الدّوام على الصّلاة، فالدّوام عليها هو عدم تركها حتّى يمرّ وقتها، فهو مثل قول رسول الله ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ»([1]).

([1]) سنن ابن ماجه: كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ، بَابُ لُزُومِ الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، الحديث رقم (802).

الآية رقم (35) - أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ

﴿أُولَئِكَ﴾: إشارة إلى ما سبق من المؤمنين المصلّين، المتصدّقين، المصدِّقين بيوم الدّين، المشفقين من عذاب ربّهم، الحافظين لفروجهم إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، المراعين لأماناتهم وعهودهم، القائمين بشهاداتهم، المحافظين على صلاتهم، كلّ أولئك:

﴿فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾: إخبارٌ عن أولئك أنّهم في جنّات، وتكون ﴿مُكْرَمُونَ﴾ خبراً ثانياً، ويحتمل أن تكون ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ ظرف مكان لـ ﴿مُكْرَمُونَ﴾ ؛ أي: أنّ محلّ الإكرام ومكانه هو ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ ، فيكون تقدير الآية: أولئك مكرمون في جنّات.

وقد وردت لفظة: ﴿مُكْرَمُونَ﴾ في القرآن الكريم ثلاث مرّات؛ إحداها في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء]، وهؤلاء هنا هم الملائكة، لصفاء عبادتهم لربّهم وإخلاصهم له وطاعتهم المطلقة، ثمّ وردت مرّتين في حقّ مَن أكرمهم الله تعالى؛ لأنّهم استحقّوا هذا، فقال تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الصّافّات]، وهنا في المعارج قال عز وجل: ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾، أهناك إكرامٌ أكثر من أنّهم يشابهون الملائكة في أنّهم ﴿مُكْرَمُونَ﴾ تتألّق وجوههم بنضرة النّعيم، فلا يلحقها قتر، ولا تلحقها ذلّة وانكسار؟!

والإكرام لا يقتصر على هذا، بل يشمله ويشمل غيره، كما قال ﷺ في الحديث القدسيّ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»([1]).

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، الحديث رقم (3244).

الآية رقم (36-37) - فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ () عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ

﴿مُهْطِعِينَ﴾: جمع مهطع، والمهطع: هو مَن يظهر من فَرْط تسرّعه وكأنّ رقبته قد طالت، فالمهطع هو مَن فيه طول، فهم مسرعون في الابتعاد عنك وعن دعوتك، نافرين، معرضين، مثل قوله تعالى عنهم: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدّثّر]، والحقّ تعالى هنا يُعطينا صورة لما كان عليه حال الكافرين برسول الله ﷺ، وقد نزلت الآية في جماعة منهم كانوا يجتمعون حوله ﷺ يسمعون كلامه ويستهزئون به ويكذِّبونه، فوصف الحقّ تعالى صنيعهم وموقفهم من رسول الله ﷺ ودعوته بهاتين الآيتين، أناس معرضون عن رسول الله ﷺ، لكنّهم يجتمعون حوله في حِلق ومجموعات متفرّقة غير مقبلين عليه ﷺ، بل يجلسون بعضهم عن اليمين وبعضهم عن اليسار، فهم لا يُسرعون ﴿ قِبَلَكَ﴾؛ أي: تجاهك ليسمعوا ما تقول ويهتدوا، إنّما فقط ليستطلعوا في دهشة ومن ثمّ ينصرفون عنك متحلِّقين في حِلَق متفرّقة ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾.

الآية رقم (38) - أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ

عند كلّ واحدٍ منهم أملٌ كاذب بأنّهم سينالون جنّة النّعيم في النّهاية، كيف، وهم لم يكونوا من المؤمنين بالله ورسوله وكتابه القرآن، ولم يلتزموا بمنهج الله عز وجل؛ لأنّهم كفروا به وردّوا الأمر على الآمر، ففي أيّ شيءٍ يطمعون؟ قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النّساء]، والطّمع شيءٌ فوق الأمنية والأماني، وقد ذكر الحقّ تعالى أحد هؤلاء الطّامعين، فقال تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ [المدّثّر].

الآية رقم (28) - إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ

لا يستطيع إنسانٌ أن يقطع بأنّه أدّى الواجبات، ولا اجتنبَ المحظورات كما ينبغي، بل قد يكون قد وقع منه تقصيرٌ في أحد الجانبين، فعذاب الله عز وجل غير مأمون.

الآية رقم (29) - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ﴾: المقصود سَوْءَتا كلّ من الرّجل والمرأة، والله تعالى يريد ألّا يلتقي رجلٌ وامرأة إلّا على نور من الله عز وجل وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنّه عز وجل هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما فيه صلاحٌ له، فلا بدّ أن يلتقي الزّوجان على ما شرع الله تعالى في وضح النّهار، لا أن يندسّ كلّ منهما على الآخر في ظلمة الإثم، فيحدث المحظور الّذي تختلط به الأنساب، ويتفكّك به رباط المجتمع.

﴿حَافِظُونَ﴾: فيها الحفظ والصّيانة، وجاءت بصيغة فاعل، كاسم، والاسم دائماً يعبّر عن الثّبات والدّيمومة، ولكي نعرف الفارق علينا أن ننظر إلى قوله تعالى بالنّسبة إلى الصّلاة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [المعارج]، عبّر هنا بالفعل، وهو أقلّ درجة في الدّيمومة والثّبات، فقد تحافظ أيّاماً ولكنّك لا تحافظ على الصّلاة على وقتها، وفي المسجد أيّاماً أخرى لظروفٍ قد تعرض لك، أمّا حفظ الفروج والعورات عن ملابسة الفاحشة فهذا لا بدّ أن يكون صفة ثابتة لا تنفكّ عنك مهما كانت المغريات والظّروف، فهي أمر يمسّ الأعراض والشّرف فلا يصلح معه إلّا: ﴿حَافِظُونَ﴾، هذا الحفظ يشمل الرّجال والنّساء، ويجب أن ننظر هنا إلى الميثاق الغليظ الّذي جعله الله تعالى في الزّواج، وكيف أراد عز وجل أن يكون اللّقاء وإنتاج الأسرة الجديدة في المجتمع في طهارةٍ وصفاءٍ ونقاءٍ، وقد قال النّبيّ ﷺ: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»([1])، ما أجمل أن يجتمع النّاس بالشّهود والمهر ويقول: زوّجتك على كتاب الله تعالى، وعلى سنّة رسول الله ﷺ، ويكون هذا الأمر كلّه في قدسيّة الإيمان والإسلام، وهذا هو الفارق الّذي لا يستطيع الغرب أن يصل إليه بالنّسبة إلينا بالعلاقات الاجتماعيّة، وبناء الأسر، والبرّ بالوالدين، وصلة الأرحام، وحقوق الأولاد، والميراث، وأحكام الزّواج، وما يتعلّق بذلك كلّه، صاغها الإسلام صياغةً تضمن وتكفل سلامة المجتمعات وطهرها.

([1]) صحيح مسلم: كِتَابُ الْحَجِّ، بَابُ حَجَّةِ النَّبِيِّ ,، الحديث رقم (1218).

الآية رقم (30) - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾: أي: إلّا من أزواجهم اللّاتي أحلّ الله تعالى لهم، وهذا يقتضي تحريم ما سوى ذلك كلّه، فلا زواج مؤقّت ولا غير ذلك.

وقد يسأل سائل: استخدم الحقّ تعالى هنا لفظة: ﴿عَلَى﴾، ولم يستخدم (عن)، مع أنّه مطلوبٌ من الرّجل حفظ فرجه إلّا (عن) أزواجه لا (على)، نقول: ﴿عَلَى﴾ هنا بمعنى: (عن)، وقد يكون متعلّقاً بمحذوف تقديره: فلا يرسلون فروجهم إلّا على أزواجهم.

﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾: والحقّ تعالى استثنى هنا صنفين، وهذه الآية يقف عندها المستشرقون وغيرهم، وهذان الصّنفان هما الأزواج وملك اليمين، فما هو ملك اليمين؟ ملك اليمين له شروط، هذه الشّروط كانت تتعلّق بفترةٍ زمنيّة، ولم يعد له محلّ الآن؛ لأنّه لم يعد يوجد ما يتعلّق بقوانين الرّقّ والعبوديّة، والحروب على هذا الأساس، فهذا الحكم مُعَطَّل، وهناك فرقٌ بين أن يُعَطَّل الحكم لعدم وجود موضوعه، وبين أن يُلغَى الحُكم، فملك اليمين حُكم لم يُلغ، لكن لا يوجد له موضوع، فلا يتمّ تفعيله، انتهى زمنه على أرض الواقع، وقد يسأل سائل: لماذا يبقى؟ نقول: هل نعلم بعد مئات السّنين ما سيجري؟ الإسلام أراد أن يُكافح الرّقّ والعبوديّة وجاء ليحرّر العبيد، فرتّب أحكاماً على مَن ارتكب ذنباً بوجوب فكّ رقبة؛ أي: إعتاق عبد، فمَن قتل مؤمناً على سبيل الخطأ عليه أن يحرّر رقبة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾[النّساء: من الآية 92]، حتّى اليمين المنعقدة المغلّظة إذا أراد المؤمن الرّجوع فيها كان أحد إمكانات تحليله من هذا القسم هو تحرير رقبة، قال عز وجل: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة: من الآية 89]، فتحرير الرّقّ والعبوديّة عالجه الإسلام، ومن ضمن هذا التّشريع ملك اليمين، فهو علاج لظاهرة الرّقّ في ذلك الوقت، وقد يستغرب بعض النّاس هذا، ثمّ إنّ تشريع ملك اليمين هو نتيجة سبي النّساء في الحروب، فقد كان هذا عرفٌ موجودٌ في المجتمعات، فوضع هذا التّشريع لهذا العرف، وعندما أُوقِف العرف أُوقِف الحكم، فلا يأتي أحدٌ الآن ويقول: تحلّ لي زوجتي وملك اليمين، أيُّ ملك يمين هذا؟؟!! فهل بقي الآن ملك يمين؟؟؟!!

﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾: فإنّهم لا يُلامون، إذا لم يحفظوا فروجهم على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، إنّما يُلامون في غير ذلك؛ أي: إذا تعدّوا إلى الزّنا أو غير ذلك، فهذه الأمور وضّحها القرآن الكريم بشكلٍ قاطع، ويقول الحقّ تعالى بعدها:

الآية رقم (31) - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ

﴿فَمَنِ ابْتَغَى﴾: أي: فمن طلب وأراد، ولكن ابتغى فيها معنى السّعي إلى الشّيء بإلحاح، فهو يسعى وراء أمرٍ قد حرّمه الله عز وجل، فهو يسعى وراء معصية الله عز وجل.

﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾: كلمة: ﴿ وَرَاءَ﴾ تأتي في القرآن الكريم بمعانٍ كثيرة، وهي هنا بمعنى: (غير)؛ أي: فمَن ابتغى غير ذلك، ولكن هنا في الآية كلمة: ﴿وَرَاءَ﴾  تؤدّي معنى أعمق من كلمة: (غير)، فقد يكون أحد الرّجال عنده الزّوجة، ولكن قد يبتغي وراء ذلك؛ أي: أكثر من ذلك، فتجده يبتغي الحرام مع وجود الحلال عنده، فكلمة ﴿ وَرَاءَ﴾  تحتمل المعنيين معاً، معنى (غير)، ومعنى (فوق)، لذلك قال تعالى عن هؤلاء المبتغين وراء ذلك:

﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾: أي: أولئك الزُّناة هم العادون المتخطّون حدود ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، فهم المتجاوزون من الحلال إلى الحرام.

ثمّ ينقلنا الحقّ تعالى إلى أمرٍ آخر، فيقول:

الآية رقم (20-21) - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا () وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا

﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾: المتأمّل هنا يجد أنّ الحقّ تعالى استخدم لفظة: ﴿مَسَّهُ﴾، بينما في سورة هود قال تعالى: ﴿أَذَقْنَا﴾ [هود: من الآية 9]، فهما أمران: (المسّ) و(الإذاقة)، والذّوق هو للإدراك لا للأكل، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع: تفضَّل ذُق، فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها، والذّوق قد يكون بأن تدع لسانك يلمس مطعوماً ما لذوقه فقط، فيقرّب الشّيء من لسانه ويمسّه، وهذا معنى المسّ؛ أي: اللّمس الخفيف، أو اقتراب شيءٍ من شيءٍ، وقد يكون المسُّ للحظة، فهذا الإنسان الهلوع لعدم إيمانه الّذي كان من الممكن أن يُكسبه طمأنينة وسكينة وتقبُّلاً لتقلّبات الحياة تجده جزوعاً شديد الجزع والهلع والخوف مع أوّل مسّ من فقرٍ أو احتياج أو مصيبة أو شرّ، وإذا أصابته نعمة صغرت أو كبرت تجده لا يعترف بفضل الله تعالى عليه أنّه رزقه: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾[القصص: من الآية 78]، فيعتقد أنّه رِزْقه، من تعبه واجتهاده، ويمنع الخير الّذي وصله عن النّاس، فلا يُؤدّي حقّ الله تعالى عليه؛ لأنّه لا يؤمن بالله عز وجل.

الآية رقم (22-23) - إِلَّا الْمُصَلِّينَ () الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ

إذا كان الحقّ تعالى في الآيات الثّلاث السّابقة ذكر الإنسان وقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾، فإنّه تعالى هنا استثنى فقال: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾، وعندما نستقرئ القرآن الكريم نجد أنّ كلّ خبر عن الإنسان وهو معزول عن منهج الله تعالى هو خبر كلّه شرّ، فيقول تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[العصر]، إنّ الإنسان على إطلاقه لفي خُسرٍ، ولكن مَن الّذي ينجو من الخسران؟ وتأتي الإجابة من الحقّ تعالى فيقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر]، فكلّ كلامٍ في القرآن الكريم عن الإنسان على إطلاقه يأتي من ناحية الشّرّ، ولكن ما الّذي يُنجيه من ذلك؟ إنّه منهج الله عز وجل، منهج الخير، والحقّ تعالى يضع لنا منهجه بداية من هذه الآية: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾حتّى قوله تعالى: ﴿﴾، أوّل عناصر هذا المنهج الإلهيّ قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾، فأوّله الصّلاة وطاعة الله تعالى بأداء ما افترض عليه منها، ولا تكون الصّلاة إلّا عن إيمان بالله عز وجل وبرسوله ﷺ وبكتابه الكريم، فاستغنى الأمر عن ذكر الإيمان، فعندما يسمع نداء (الله أكبر) يعلم بأنّ الله عز وجل أكبر من  المشاغل كلّها.

﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾: يُقيمونها في أوقاتها، لا يَدعونها باللّيل والنّهار، فلا يتركون صلاة مكتوبة إلّا أتَوْها حيث يُنادى بها، يُصَلّونها بحقِّها، والصّلاة هي الصّلة مع الله تعالى، وهي ركن الإسلام الأوّل، وهي النّجاة، قال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدّثر]، فالاستدامة على إقامة الصّلاة تؤدّي إلى الاستقرار، وقد كان أحبّ الأعمال إلى رسول الله ﷺ ما دام وإن قلّ.

ثمّ يُعطي لنا الحقّ تعالى صفة أخرى، ورُكناً آخر من أركان منهج الله عز وجل، فيقول تعالى:

الآية رقم (24-25) - وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ () لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

﴿حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾: الحقّ المعلوم في أموال المكلّفين هو الزّكاة، أمّا في مقام الإحسان الّذي يعلو مقام الإيمان فإنّ الله تعالى يجعل في أمواله حقّاً، ولكن ليس معلوماً، فيطلقها الحقّ تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذّاريات]؛ أي: لم يُحَدَّد، وهذا في مصلحة الفقير، فهنا لا يوجد تقييد للعطاء، فالإنسان في مقام الإيمان قد يقيّد الإخراج من ماله بحدود الزّكاة أو فوقها قليلاً، أمّا في مقام الإحسان فلا حدود لما يخرج من المال.

﴿فِي أَمْوَالِهِمْ﴾: الحقّ تعالى ينسب أموالهم إليهم، وهو تعالى صاحبُ المال يُعطيه لمن يشاء؛ ولأنّه تعالى صاحب المال فهو يفرض فيه حقّاً معلوماً، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التّوبة: من الآية 103]، وكلمة: ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾ وردت في القرآن الكريم إحدى وثلاثين مرّة، بضمير الغائب المتّصل: (هم)، ووردت كلمة: (أموالكم) بضمير المخاطَب أربع عشرة مرّة، فالمال هو مال الله تعالى ونسبه إليك، فإذا أراد أن يُظهِر فضله عليك، خلق ونسب إليك، ولو أراد الله تعالى أن يسلبكم إيّاه ما استطعتم حيلةً، وما استطعتم لهذا دفعاً، وما دام المالُ مالَ الله عز وجل على الحقيقة فقد فرض هذا الحقّ المعلوم وهو الزّكاة المفروضة ذات المقادير والأنصبة المحدّدة، لكن بعض السّادة العلماء قالوا: إنّ سورة المعارج سورة مكّيّة، لم تكن قد فُرِضَت الزّكاة بعد، فكيف يكون ذلك؟ والزّكاة إنّما فُرِضَت في المدينة المنوّرة، فالمقصود هنا هو قدرٌ معيّن يستوجبونه على أنفسهم تقرّباً إلى الله عز وجل، يخرجه الإنسان وذلك قبل أن تُحَدَّد مصارف الزّكاة الشّرعيّة الّتي ذكرها الله تعالى في قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[التّوبة]، فهذه الفريضة إنّما فُرِضَت في المدينة المنوّرة، وأصبحت مصارف الزّكاة معروفة للنّاس جميعاً، هنا أوجب الله تعالى على النّاس زكاةً في أموالهم معلومة المقدار، معلومة النّصاب، معلومة الحدود، وعندما سُئِل ابن عمر رضي الله عنهما عن قوله: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أهي الزّكاة؟ قال: إنّ عليك حقوقاً سوى ذلك، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمّة وتُرجمان القرآن الكريم: هو حقّ سوى الصّدقة، لذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، فهو حقٌّ لصنفين: السّائل، والمحروم، فالسّائل هو الّذي يسأل النّاس، أمّا المحروم فهو الفقير المتعفِّف عن السّؤال، ويحسبه النّاس غنيّاً، والسّائل أوصى به الله تعالى، فقال: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضّحى]، وبعضهم لمح في قوله تعالى: ﴿وَالْمَحْرُومِ﴾،  معاني أخرى غير الفقير المتعفِّف، فالمحروم قد يكون الّذي لا يُنمى له مال، فتجارته كاسدة بائرة، أو أنّه  لا يكسب ما يُعينه على الحياة وعلى ازدياد احتياجاته، فنجد معيشته ضيّقة، وليست عنده القدرة على الكسب، لذلك يسمّى محروماً، من هذا المنطلق نلحظ أنّ الإسلام لم يترك باباً في مساعدة الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل إلّا وقام به، إن كان عن طريق الزكاة، أو عن طريق الصّدقات، وإن كانت مصارف الزكاة محدّدة، فإنّ مصارف الصّدقات غير محدّدة وهي متّسعة للجميع، وبعضهم يسأل: هل قوله تعالى: ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾ يُقصَد بها المال بمعنى النّقود أو الذّهب والفضّة فقط؟ نقول: لا، بل إنّ المال قد يكون زرعاً أو ماشية أو إطعاماً، فالمال هو كلّ ما يُتموّل، فهذه الأمور كلّها ينطبق عليها معنى الزكاة والصّدقات.

الآية رقم (26) - وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ

﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ﴾: الإيمان بيوم الدّين هو أساس الدّين؛ لأنّ الّذي لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء، فما دام يعتقد أنّه ليس هناك آخرة وليس هناك حساب فمِمَّ يخاف؟ ومن أجل مَن يُقيّد حركته في الحياة؟ إنّ الدّين بطاعاته كلّها ومنهجه كلّه قائم على أنّ هناك حساباً في الآخرة، وأنّ هناك يوماً نقف فيه جميعاً أمام الله تعالى ليُحَاسب المخطئ ويُثيب الطّائع، وهذا هو الحكم في تصرّفاتنا الإيمانيّة كلّها، فلو لم يكن هناك يوم يُحاسب فيه الإنسان، فلماذا نُصَلّي؟ ولماذا نصوم؟ ولماذا نتصدّق؟ ومن عدل الله تعالى أنّ هناك يوماً للحساب؛ لأنّ بعض النّاس الّذين ظَلَموا وبَغوا في الأرض ربّما يفلتون من عقاب الدّنيا، هل هؤلاء الّذين أفلتوا في الدّنيا من العقاب، هل يفلتون من عدل الله عز وجل؟ فـ (يوم الدّين) هو يوم الجزاء على الطّاعة وعلى المعصية، والحقّ تبارك وتعالى هنا لا يقول: (والّذين يؤمنون بيوم الدّين)، بل يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾، فالتّصديق شيءٌ أقوى، فهم يُصَدِّقون لإيمانهم بأعمالهم، وهو أن يُتعب نفسه ويبذل ماله للسّائل والمحروم، طمعاً في المثوبة الأخرويّة، فمعنى: ﴿يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾؛ أي: يوقنون بالميعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل مَن يرجو الثّواب ويخاف العقاب، فمجرّد الإيمان بالقلب والنّطق باللّسان، وإن كان يُنجي من الخلود في النّار إلّا أنّه لا بدّ من تصديق هذا بالعمل بمقتضى الإيمان، فالمصدّق هو الّذي يعمل بما يعتقد، والمصدّق يستمرّ في تصديقه إلى أن يُصبَح بمرتبة الصّدّيقين.