الآية رقم (52) - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ

فنزّه الحقّ تعالى عن أن يكون له شريك، بل هو تعالى العظيم في قدرته، العظيم في رحمته، العظيم في حكمته، العظيم في قيّوميّته على كَوْنِه وخَلْقِه، العظيم في علمه، العظيم في ثوابه، العظيم في جزائه.

سبحان الله: تنزيه لله عز وجل في ذاته وصفاته وأفعاله، سبحان الله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الشّورى: من الآية 11].

الآية رقم (46) - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ

﴿الْوَتِينَ﴾: عرق في القلب إذا قُطِع مات صاحبه، وقال ابن عبّاس 8: يعني نياط القلب، وقال بعض العلماء: ليس المقصود أنّنا نقطعه بعينه، بل المراد أنّه لو كذب علينا لأمتناه فكان كمن قُطِع وتينه، فالوتين هو ما نعرفه بالشّريان الأبهر.

الآية رقم (47) - فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ

فلا يقدر أحدٌ من النّاس أن يحجزنا ويمنعنا ويحول بيننا وبينه في أخذه بيميننا أو في قطعنا وتينه، وهذا الكلام كلّه ليؤكّد صدق بلاغ رسول الله ﷺ عن الله عز وجل، وأنّ القرآن الكريم هو من عند الله تعالى.

وقد يسأل سائلٌ: الحقّ تعالى قال: ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾بالمفرد، ثمّ عبّر تعالى بالجمع: ﴿حَاجِزِينَ﴾، نقول: قد قال: ﴿حَاجِزِينَ﴾ بلفظ الجمع وهو وصف ﴿أَحَدٍ﴾ ردّاً على معناه، يعني لو اجتمع آحادٌ كثيرون، والعرب تجعل (أحداً) للواحد والاثنين والجمع، وليس هناك من أحد -أيّاً كان هذا الأحد- مهما كانت قوّته ومكانته يستطيع أن يحجزنا عنه، ويمنعنا من معاقبته إذا تقوَّل علينا في القرآن الكريم ما لم نقله.

الآية رقم (48) - وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ

فالقرآن الكريم ليس شِعراً ولا هو بسجع الكهّان، إنّما هو: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقّة]، وهذا القرآن لم يُنزله الله عز وجل بلا هدف، ولا هو لمجرّد القصّ والتّلاوة، إنّما للتّذكرة، لذلك يقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾[المدّثّر]، فهذا يُعطينا حكمة التّنزيل وغايته، ويقول تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [طه]؛ أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وإنّما أنزلناه ﴿تَذْكِرَةً﴾؛ أي: تذكيراً لمن يخشى ويخاف، فالقرآن الكريم تذكرةٌ للمتّقين، والحقّ تعالى يؤكّد هذا باستخدام (إنّ) فيقول: ﴿وَإِنَّهُ﴾، ثمّ اللّام: ﴿لَتَذْكِرَةٌ﴾، وهو تذكرةٌ للمتّقين، فالمتّقون هم الّذين يخشون ربّهم عز وجل ويخافون عذابه.

الآية رقم (49) - وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ

ما زال الحقّ تعالى يؤكّد بـ (إنّ) ثمّ (اللّام) فيقول: ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ﴾، وعلمنا ليس لمن يصرِّح ويُجَاهر بالتّكذيب فقط، إنّما نحن نعلم حتّى مَنْ يُخفِي التّكذيب في قلبه ولم يُصَرِّح به، فهم مُكَذِّبون بالله عز وجل وبالآخرة، ولو لم يكونوا مُكَذِّبين بالآخرة لآمنوا واتّبعوا منهج الله عز وجل، وهم أيضاً مُكَذِّبون أنّه رسولٌ من الله عز وجل.

وهذا وعيدٌ وتهديد للمكذِّبين، فنحن نعلم أنّ منكم مَنْ يُكَذِّب بالقرآن الكريم مع وضوح إعجازه.

الآية رقم (50) - وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ

﴿وَإِنَّهُ﴾: الهاء في: ﴿وَإِنَّهُ﴾ عائدة على التّكذيب المفهوم من فحوى الآية قبلها، بينما الهاء في: ﴿وَإِنَّهُ﴾  في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ عائدةٌ على القرآن الكريم الّذي جاء به محمّد ﷺ من عند الله عز وجل، الّذي هو: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقّة]، والحقّ تعالى يستخدم أدوات التّوكيد ذاتها: ﴿وَإِنَّهُ﴾  ثمّ اللّام في: ﴿لَحَسْرَةٌ﴾.

﴿لَحَسْرَةٌ﴾: الحسرة: ألـمٌ في القلب، ولا تكون الحسرة إلّا إذا أُصيب الإنسان بمصيبة لا منأى من النّجاة منها، وقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾[البقرة: من الآية 167]، فالخاسر الّذي خسر دنياه وآخرته بتكذيبه لله تعالى وللرّسول ﷺ وللقرآن الكريم.

الآية رقم (51) - وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ

فحقّ اليقين وهو يوم يدخل المكذّب الكافر النّار ويُبَاشر حرَّها، يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة]، فعندنا علم اليقين، وهو الصّورة العلميّة للنّار، وعين اليقين في الآخرة عندما نمرّ على الصّراط ونرى النّار رؤيا العين، ثمّ حقّ اليقين وهذه للكفّار حين يُلقون فيها ويُبَاشرونها فعلاً.

فهل هي تعود على القرآن الكريم، أو على العذاب الّذي سيتلقّاه المكذّبون؟ القرآن الكريم هو حقّ اليقين من غير أدنى شكّ، وممكن أيضاً أن نقول: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾؛ أي: أنّ الحسرة على الكافرين ستتحقّق حقّ اليقين.. فحقّ اليقين محضة وخالصة، وهو من إضافة الشّيء إلى نعته أو صفته، فاليقين هنا صفة للحقّ، وهو حقّ لا شكّ فيه ولا شبهة بأنّه مُنَزَّل من لدنّا، فهو حقٌّ لا بطلان فيه، ويقينٌ لا ريب فيه، ثمّ أُضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتّأكيد.

الآية رقم (42) - وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ

﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾: فليس القرآن الكريم بقول شاعر، ولا هو أيضاً بقول كاهن، فالكهّان تمدّهم الشّياطين بالغيّ والضّلال، والله تعالى طهّر القرآن الكريم من الكهانة وعصمه منها، فهو ليس بقول رجلٍ كاهن، ولا هو من جنس الكهانة، فمحمّد ليس بكاهن، والقرآن الكريم ليس من سجع الكهّان، والكاهن هو المنجّم الّذي يُخبِر عن أشياء أغلبها غير صحيحٍ، ويُنَصِّب نفسه للدّلالة على الضّوائع؛ أي: ما يضيع من النّاس، ويُخبِرهم بمغيّبات يتوهّمها، ويأخذ أجراً على هذا، ويدَّعي أنّ الجنّ تُخبِره، وقد يستعين بالتّنجيم واستطلاع النّجوم أو الحسابات الفلكيّة.

﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾: أي: قليلاً ما تتذكّرون، وأمثال هذه الآية وردت في آياتٍ كثيرة، فقد قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف]، وقال عز وجل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾[النّمل]، فلو تفكّرتم وتذكّرتم لعرفتم أنّ محمّداً ﷺ ليس بشاعرٍ ولا بكاهن، وأنّ ما جاء به من عند الله عز وجل.

الآية رقم (43) - تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ

فهو تنزيلٌ من لدن عزيزٍ حكيم، والتّنزيل معناه موالاة النّزول لأبعاض القرآن الكريم، فالقرآن الكريم قد أُنزل كلّه دفعةً واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ بعد ذلك نزل به جبريل عليه السلام على سيّدنا محمّد ﷺ، فالحقّ تعالى يوالي تنزيل القرآن الكريم عليهم آيةً بعد آية، وليس القرآن الكريم وحده تنزيلاً من ربّ العالمين، فالكتب السّماويّة كلّها كانت تنزيل ربّ العالمين، لكنّ الفرق بين القرآن الكريم والكتب السّابقة أنّها كانت تأتي بمنهج الرّسول فقط، ثمّ تكون له معجزة في أمرٍ آخر تُثبت صدقه في البلاغ عن الله عز وجل، أمّا رسول الله محمّد ﷺ فمعجزته عَيْن المنهج، القرآن الكريم المنزّل من عند الله تعالى.

الآية رقم (44-45) - وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ () لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ

هذا مجال تهديد ووعيد، ولأنّه وحيٌ من عند الله عز وجل فإنّ رسول الله ﷺ لم يكتم حرفاً واحداً من الوحي المنزّل إليه من ربّ العالمين، إنّها الأمانة المطلقة والصّدق الّذي لا يُخفي شيئاً، ألم يكن جديراً بالقوم أن يفقهوا هذه النّاحية من رسول الله ﷺ، ويتفكّروا في صدقه ﷺ حين يُخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها، وكان من المنتظر أن يُخفيها عنهم؟ أليس في ذلك دليلٌ قاطعٌ على صدقه فيما يقول؟ فاطمئنّوا إلى أنّ القرآن الكريم الّذي بين أيديكم هو كلام الله تعالى الّذي جاء من علمه تعالى في اللّوح المحفوظ الّذي قال عنه: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾[الواقعة]، ثمّ نزل به الرّوح الأمين وهو مؤتمنٌ عليه لم يتصرّف فيه، ثمّ نزل على قلب سيّد المرسلين الّذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾، فحُفظ القرآن الكريم علماً في اللّوح المحفوظ، وحُفظ في أمانة مَن نزل به من السّماء وهو جبريل عليه السلام، وحُفظ في مَن استقبله وهو النّبيّ ﷺ، فلا حجّة لنا بعد أن جمع الحقّ تعالى للقرآن الكريم ألوان الحفظ كلّها، وكان بوسع رسول الله ﷺ أن يكتم الآيات الّتي عاتبه الله تعالى فيها، نحو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التّحريم: من الآية 1]، وقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾[التّوبة: من الآية 43]، لكنّه ﷺ كان أميناً يقول ما له وما عليه، فالقرآن الكريم كما نزل من عند الله تعالى لم يُغيَّر فيه حرفٌ واحد، وسيظلّ كذلك محفوظاً بحفظ الله عز وجل له إلى أن تقوم السّاعة.

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا﴾: أي: افترى وادَّعى واختلق؛ أي: أتى بشيءٍ من عند نفسه لم نقله نحن، قاله من تلقاء نفسه، ولم نأذن له فيه، فلو فُرِض أنّه افترى علينا كلمةً واحدةً أو قولاً من الأقوال ونحن لم نقُله له: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾؛ أي: بقوّةٍ شديدة، فاليمين عند العرب أقوى من اليسار، وإن كانت كلتا يدَي ربّي يميناً مباركة، لكن لتقريب المعنى للنّاس.

﴿الْأَقَاوِيلِ ﴾: الأكاذيب المفتراة الّتي لا تعدو أن تكون أقاويل لا حقيقة لها، والحقّ تعالى يقول في سورة الطّور: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[الطّور]، فـ ﴿تَقَوَّلَهُ﴾؛ أي: اختلقه وأتى به من عند نفسه، وإذا كان محمّد ﷺ قد اختلقه وافتراه فلتأتوا بمثله.

الآية رقم (33) - إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ

فلا يُصَدِّق بوحدانيّة الله عز وجل وعظمته فهو قد ظلم نفسه، وكأنّه يقول لخزنة جهنّم: افعلوا ذلك به جزاءً له على كفره بالله عز وجل في الدّنيا، فهذه حيثيّات حكمه تعالى عليه، ودائماً تأتي الحيثيّات بعد إصدار الحكم، فأنت عندما ترى حكماً من القاضي تجد أنّ هناك حيثيّات الحكم؛ أي: التّبرير القانونيّ للعقوبة أو البراءة، فيقول القاضي: بما أنّه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادّة كذا، وهذه هي الحيثيّات، و(الحيثيّات) مأخوذة من: (حيث إنّه حدث كذا فحكمنا كذا)، أو (حيث إنّه لم يحدث كذا فحكمنا كذا)، فحيثيّات الحكم معناها التّبريرات الّتي تدلّ على سند الحكم لمن حكم، فحيثيّة تعذيبه أنّه كفر بالله عز وجل، ولا يؤمن بوحدانيّة الله تعالى، ولا يؤمن بعظمته.

الآية رقم (34) - وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ

وهو كما لا يشعر ولا يستحضر عظمة الله عز وجل، فهو أيضاً لا يحسّ ولا يشعر بالمساكين والفقراء من حوله، فتجد: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، وفي آياتٍ أخرى يقول تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الفجر]، فالمال الموجود عند إنسان لا يرعى حقّ الضّعفاء والفقراء والأيتام وذوي الاحتياجات فيه هو وبال وشرّ، ومَنْ لا يملك يمكنه أن يكلّم النّاس ويحضّهم على إعطاء المساكين، لذلك عُدّ عدم التّحاضّ والتّواصي على إطعام المسكين قبيحاً مُسْتَنْكَراً، فلو كان يؤمن بالله عز وجل ويستحضر عظمته تعالى، ولو صدّق بالدّين حقّاً، ولو استقرّت حقيقة التّصديق في قلبه ما كان ليدعّ اليتيم، وما كان ليقعد عن الحضّ على طعام المسكين، إنّ حقيقة التّصديق بالله جلّ وعلا وبالدّين ليست كلمةً تُقال باللّسان، إنّما هي تحوّلٌ في القلب يدفعه إلى الخير والبرّ بإخوانه في البشريّة، المحتاجين إلى الرّعاية والحماية.

الآية رقم (35) - فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ

إنّه لم يؤمن بالله العظيم في الدّنيا، ولم يحضّ على طعام المسكين، فلن يجد له نصيراً، ولن يقف أحدٌ إلى جانبه.

﴿حَمِيمٌ﴾: الحميم: القريب المشفق الّذي يرقّ ويحترق قلبه له أو يحميه ممّا نزل به، فليس له في الآخرة قريبٌ يدفعٌ عنه، ويحزن عليه.

الآية رقم (36) - وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ

﴿غِسْلِينٍ﴾: الغسلين: هو غُسالة أهل جهنّم من قيحٍ وصديد، وما يسيل من أبدانهم من القيح والصّديد والدّم؛ أي: ليس لهؤلاء الأشقياء التّعساء طعام يطعمونه إلّا هذا الصّنف البشع المنتن، وهكذا تصير النّكبة نكبتين، نكبة عدم وجود نصير، ثمّ نكبة أكل الصّديد، وقد قال ابن عبّاس 8: “الغسلين ما يسقط عن عروقهم وذاب من أجسادهم”، ولكي نعرف مدى بشاعة هذا الطّعام ننصت لابن عبّاس 8 وهو يقول: “لو أنّ قطرة من الغسلين وقعت في الأرض لأفسدت على النّاس معايشهم”.

الآية رقم (37) - لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ

فهذا الطّعام مخصّص ومقتصر على الخاطئين، فالخاطئون: جمع خاطئ، وهو الّذي يتعمّد فعل الذّنب، بينما المخطئ لا يتعمّده، فهؤلاء الّذين يتعمّدون ويقصدون فعل الآثام والذّنوب، ولذا لا يدخلون تحت عفو الله عز وجل وغفرانه؛ لأنّهم جاهروا الله عز وجل بالمعاصي، وقد قال رسول الله ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ»([1])، والخاطئون أيضاً هم المذنبون الّذين ذنوبهم كفر بالله عز وجل.

والخاطئ: اسم فاعل من خطئ: إذا فعل غير الصّواب متعمّداً.

([1]) مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: كِتَابُ التّوبة، بَابٌ فِيمَنْ يَسْتُرُهُ اللَّهُ I فَيَفْضَحُ نَفْسَهُ، الحديث رقم (17475).

الآية رقم (38-39) - فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ () وَمَا لَا تُبْصِرُونَ

﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾: أقسم المولى تعالى بالمشاهدات المرئيّات والمغيبات المستورات، فأقسم وأحلف بما تبصرونه وتشاهدونه ممّا خلق الله تعالى وأبدعه، وجعله دليلاً على كمال قدرته وعظيم إتقانه وإبداعه.

وكلمة (لا) في قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ لتأكيد القسم، وليست للنّفي، ومعنى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أنّ هذا الأمر واضحٌ جليٌّ وضوحاً لا يحتاج إلى القسم، ولو كنت مُقسِماً لأقسمتُ به، والقسم هنا بعموم ما نبصره وما لا نبصره، سواء كانت هي الدّنيا الّتي نراها أم الآخرة الّتي لا نراها، وسواء كان ما نبصره هو ما في ظاهر السّماء والأرض أم ما في باطنها، وسواءٌ كان ما نبصره هو الأجسام، وما لا نبصره ما غاب عنّا من رؤية الأرواح، وقد يكون ما نبصره هو الإنس، وما لا نبصره هو الجنّ والملائكة.

الآية رقم (40) - إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾، جاء في القرآن الكريم مرّتين، الّتي هنا في سورة الحاقّة: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾، ويقصد بها رسول الله محمّد ﷺ، أمّا الثّانية فهي قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التّكوير]، فالرّسول هنا جبريل عليه السلام، فتارةً يكون الرّسول من البشر، وتارةً من الملائكة، وفي الحالتين هو رسولٌ ليس عليه إلّا البلاغ، فجبريل عليه السلام لم يأت بهذا القرآن من عنده هو، بل من عند الله تعالى بالحقّ، وكذا محمّد ﷺ لم يأت بالقرآن من عنده، فالقرآن الكريم من عند الله عز وجل.

وهو رسولٌ كريم، والكريم لا يكتم شيئاً ممّا أوحي إليه، فهذا القرآن قول رسول كريم على الله تعالى، يعني جبريل عليه السلام، ويُقال: قول رسول كريم، يعني قول رسول الله محمّداً ﷺ، والرّسول الكريم: هو الوجيه عند الله عز وجل، المكرّم، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾هو جواب القسم: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾.

الآية رقم (41) - وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ

﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾: لقد قالوا: إنّ الرّسول ﷺ شاعر فردّ تعالى عليهم.

﴿قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾: وقال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾[سبأ: من الآية 13]، يستخدم المولى عز وجل دائماً عبارة (القليل) بالنّسبة إلى الشّاكرين والمؤمنين، فـ ﴿مَا﴾ هنا إن كانت نافية فهو نفي للإيمان بالجملة، وإن كانت ﴿مَا﴾  مصدريّة، فهو وصفٌ لإيمانهم بالقلّة.

الآية رقم (32) - ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ

﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ﴾: السّلسلة حِلَقٌ منتظمة، كلّ حلقةٍ منها في حلقةٍ.

﴿ذَرْعُهَا﴾: أي: مقدارها.

﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا﴾: كلّ ذراع سبعون باعاً، كلّ باع أبعد ممّا بين الكوفة ومكّة.

﴿فَاسْلُكُوهُ﴾: تسلك فيه حتّى تخرج من منخريه حتّى لا يقوم على رجليه، والسّلسلة حِلَق منتظمة، وكلّ شيء مستمرّ بعد شيء على الولاء والنّظام فهو مسلسل، والحقّ تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾[الإنسان]، ويقول عز وجل: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾[غافر]، فمعنى: ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾؛ أي: فأدخلوه، فالسّلسلة تُلفُّ على جسده مرّات حتّى تستغرقه فيكون قد أُدخِل فيها؛ لأنّ معنى السِّلْك: الإدخال.

الآية رقم (22) - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ

وذلك مثل قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾[القارعة]؛ أي: في حالة من العيش مرضية في الجنّة يرضاها صاحبها، فلا يسخط بعد دخولها أبداً، فهو يعيش في الجنّة لا موت فيها ولا فقر ولا مرض ولا خوف ولا جنون، فهو آمن من ذلك كلّه.

﴿ رَاضِيَةٍ : اسم فاعل بمعنى اسم المفعول: مرضيّة، فهي عيشة مرضيّة تنال رضا مَن يعيشها، ولكنّها أيضاً (راضية) عن أنّ هذا المؤمن يتمتّع بها، فالجنّة تشتاق للمؤمنين بها الدّاخلين إليها، إنّه النّعيم الّذي يجعل الوجوه ناضرة، فيقول تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾[القيامة]، ويقول الحقّ تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾[المطفّفين].