الآية رقم (186) - مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾: إذاً لماذا الدّعوة إلى الهداية؟ لماذا يحاسب الله سبحانه وتعالى  النّاس على ضلالهم ما دام أنّه يقول: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾؟ الجواب: أوّلاً يجب أن ننتبه إلى نقطةٍ مهمّة وهي أنّ كلّ ما يتعلّق بصفات الله وأسمائه وأفعاله وكلامه سبحانه وتعالى  يجب ألّا نأخذه على مقاييس قول البشر، أو على مقاييس فعل البشر أو على مقاييس صفة البشر؛ لأنّ صفات الله سبحانه وتعالى  هي صفات الكمال، وهي صفاتٌ مطلقةٌ، فإذا قلنا: بأنّ الله سبحانه وتعالى  حيٌّ فهو حيٌّ لا يموت، بينما تقول عن إنسانٍ: إنّه حيٌّ، لكنّه يموت، وتقول عن إنسانٍ: بأنّه كريمٌ، هو كريمٌ ضمن نطاقٍ محدودٍ، وضمن الموارد الـمُتاحة له لأن يكون كريماً بها، فكيف بمالك الـمُلك؟ وهذا الكريم قد يكون اليوم كريماً وغداً بخيلاً، هو عالم أغيارٍ، وقد يبقى كريماً لكنّه يموت، أمّا الحيّ الّذي لا يموت فهو يملك خزائن السّماوات والأرض.

الآية رقم (176) - وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾: المشيئة المطلقة لله سبحانه وتعالى، ولو شاء الله سبحانه وتعالى لرفعه بهذه العلوم الّتي أعطاه إيّاها.

﴿وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾: لكنّه اختار أن يهوي وينزل إلى الأسفل إلى الأرض.

﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾: سبب خلوده ونزوله إلى الأرض وعدم ارتفاعه وسموّه هو اتّباعه الهوى.

﴿فَمَثَلُهُ﴾: ضرب الله مثلاً بهذا الّذي أعطاه العلم وهذه الآيات.

﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾: الحيوانات عادةً لا تلهث إلّا إذا فزعت، لكنّ الكلب يلهث باستمرار، إن تحمل عليه؛ أي إن تجبره أو تضربه يلهث، وإن تتركه من غير أيّ شيءٍ يلهث، فتنفّسه هو اللّهث، مع إخراج لسانه وهذا من طبيعته؛ لأنّه يتنفّس بسرعة، والله سبحانه وتعالى  ضرب هذا المثل ببلعام بن باعوراء؛ لأنّه سبحانه وتعالى  أعطاه من الآيات والعلوم والتّمكين فعوضاً عن أن يرتفع بها إلى السّماء أخلد بها إلى الأرض، فهو كالكلب الّذي يسير وراء شهواته.

الآية رقم (187) - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾: هناك خمس عشرة آية وردت فيها أسئلةٌ للنّبيّ : جاءت كلّها بصيغة المضارع؛ أي أنّ السّؤال يحدث الآن: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج﴾ ]البقرة: من الآية 189[، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ ]البقرة: من الآية 215[، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير﴾ ]البقرة: من الآية 217[، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ ]البقرة: من الآية 219[، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾]البقرة: من الآية 220[، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى﴾]البقرة: من الآية 222[، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾]المائدة: من الآية 4[، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾]الأعراف: من الآية 187[، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ۖ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾]الأنفال: من الآية 1[، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّ﴾ ]الإسراء: من الآية 85[، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾  ]الكهف[، كلّها جاء بعدها: ﴿قُلْ﴾، لكن في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ﴾ يوجد فيها (فاء)؛ أي أنّهم لم يسألوا بعد وإنّما سيسألون عن الجبال، أمّا بقيّة الأسئلة فقد سألوا، فجاء بعدها: ﴿قُلْ﴾ يا محمّد، باستثناء سؤالٍ واحدٍ وهو قوله سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ]البقرة: من الآية 186[، لم يأتِ بصيغة المضارع ولم يأتِ معه (قل) فحذف الله سبحانه وتعالى  كلمة (قل)؛ لأنّه بوجودها يصبح هناك حاجزٌ، بل قال مباشرةً: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ حتّى نشعر بقرب المسافات بيننا وبين ربّ الأرض والسّماوات جلّ وعلا.

﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: هنا يسألونك كبقيّة الأسئلة، فمن الّذي سأل؟ اليهود سألوا عن ثلاث قضايا؛ سألوا عن ذي القرنين وعن السّاعة وعن المدّة الّتي مكث فيها فتية الكهف.

﴿عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾: مرساها؛ أي ترسو، متى إثباتها ووقوعها؟

﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾: والإجابة لليهود وللعالم أجمع بأنّ السّاعة والوقت الّذي ستنتهي فيه حياة الكائنات كلّها علمها عند ربّي.

﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾: أي لا يظهرها لوقتها إلّا الله سبحانه وتعالى.

﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: ثقلت؛ أي واقعها فوق احتمال السّماوات وأهل السّماوات وهم الملائكة، ولا يعرفون شيئاً عنها، وكذلك أهل الأرض.

﴿لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾: لن تأتي السّاعة إلّا بشكلٍ مُفاجئ.

﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾: حفيٌّ؛ أي دائم السّؤال عنها.

الآية رقم (177) - سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ

﴿سَاءَ مَثَلًا﴾: أي قبُح هذا المثل، مثل الكلب الّذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

﴿وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾: لأنّك لا تستطيع أن تؤذي أو تظلم الله سبحانه وتعالى، وإنّما تظلم نفسك عندما تكذّب بآيات الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (188) - قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

أراد الله سبحانه وتعالى من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للنّاس: إنّما أنا عبدٌ من عباد الله لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلّا ما شاء الله جلّ جلاله، فكلّ شيءٍ متعلّقٌ بالمشيئة. فأنا بشرٌ أمرض وأقاتل وأنتصر وأُهزم وتمرّ عليّ أحوال البشر، فلو كنت أعلم الغيب ما كان مسّني السّوء، وهذه عظمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه صادقٌ في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى في كلماته كلّها.

﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾: وظيفتي أن أنذر النّاس من عذاب يوم القيامة، وأن أُبشّر الطّائعين بالجنّة، وأنا بشيرٌ ونذيرٌ لقوم يؤمنون بالله وليس لمن لا يؤمنون به جلّ جلاله، فهؤلاء لا ينفعهم إنذارٌ ولا بشارةٌ.

الآية رقم (178) - مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾: وهذه قضيّةٌ شغلت فكر المفسّرين والعلماء والفلاسفة وعلماء الكلام والمعتزلة، هل أفعال العباد مخلوقةٌ أو غير مخلوقةٍ؟ ما ذنب النّاس إن كان الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف]؟ الأمر هنا يحتاج إلى بيانٍ، إذا كان الله سبحانه وتعالى  عمّم حكماً ثمّ خصّصه فالتّخصيص يحكم التّعميم؛ أي عندما يخصّص بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ [النّساء]، فالّذي يظلم نفسه ويكذّب ويجحد بآيات الله سبحانه وتعالى  هو الّذي حكم على نفسه بعدم هداية المعونة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى  يهدي البشريّة جمعاء، قال سبحانه وتعالى : ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: من الآية 9]، للنّاس كلّهم، لكنّه يقول في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: من الآية 56]، وهذه هداية المعونة، فالاختيار هو الأساس، والأفعال مخلوقةٌ لله سبحانه وتعالى ، مثلاً اللّسان وفعله من خلق الله سبحانه وتعالى ، لكن توجيه اللّسان هو ما سيحاسب عليه الإنسان، فيستطيع أن يقول بلسانه: لا إله إلّا الله، ويستطيع -والعياذ بالله- أن يشرك بالله جلّ جلاله وأن يقول كلاماً سيّئاً، إذاً الأفعال مخلوقةٌ لله سبحانه وتعالى ، لكن توجيه هذه الأفعال هو الّذي يُحاسب عليه الإنسان، وقد تسأل: لماذا لم يعط الله سبحانه وتعالى  للجميع هداية المعونة؟ الجواب: لأنّه أعطى هداية الدّلالة للجميع، فمن اختار هداية الدّلالة أعطاه الله سبحانه وتعالى هداية المعونة.

﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: لأنّ الله تعالى بيّن له فاختار طريق الضّلال فزاده في ضلاله وغيّه.

الآية رقم (189) - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾: هذا ثابت علميّاً وتاريخيّاً، وطالما أنّ القرآن قال فقد صدق، والنّفس الواحدة هي آدم عليه السلام.

﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾: أي حوّاء.

﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾: الزّوجة سكن ومودّة ورحمة، سكن الرّوح وسكن البشريّة، وهو أساس عمارة البيوت والعائلات.

﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾: تعبيرٌ مهذّبٌ راقٍ عن عمليّة الجماع بين الرّجل والمرأة الّتي تتمّ بالحلال، بأسلوب راقٍ يرتقي إلى أنّ هذه العمليّة هي عمليّة من أجل النّسل والذّريّة.

﴿حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ﴾: بداية الحمل.

﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾: مرّت بمراحل الحمل حتّى أثقلت في الشّهور الأخيرة.

﴿دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا﴾: عندما اقتربت الولادة دعا الأبُ والأمُّ اللهَ.

﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا﴾: أي صالح القوام والخُلقة وصالح الخُلُق أيضاً، هنا تنطبق على المعنيين، في هذه اللّحظات وقبل الولادة يلجأ الأب والأمّ إلى الدّعاء إلى الله؛ لأنّها لحظات شدّة يدعوان بأن يكون هذا المولود صالح البنيان وصالحاً في حياته، صالحاً لعمارة الأرض، صالحاً في أخلاقه.

﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: أي نشكرك يا ربّ، والشّاكر هو الطّائع.

الآية رقم (179) - وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾: ذرأ؛ أي بثّ ونشر.

﴿لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾: ما دام الله سبحانه وتعالى بثّ ونشر كثيراً من الإنس والجنّ لجهنّم فلماذا يُحاسبهم؟ وهل خلقهم سبحانه وتعالى  ليذرأهم لجهنّم كما هو ظاهر الآية؟ هنا يجب أن نبيّن أنّ العلم في اللّغة العربيّة وبأوجه الإعراب فيها وبعلم تفسير كتاب الله سبحانه وتعالى  يغيب عن أذهان الجاحدين والجاهلين، فالدّين الإسلاميّ هو دين العقل والعلم والعمل، والإسلام لا يقبل شيئاً إلّا إذا محَّصه العقل، وكان أداةً من أدوات التّفكير، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى  هذا في كتابه الكريم فقال: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النّحل: من الآية 44]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ [النّساء: من الآية 82]، التّدبّر تقليب الأمور وفق العقل، فإذاً لا يزايدنّ أحدٌ بموضوع العقل على الإسلام ولا على القرآن الكريم ولا على سنّة النّبيّ محمّد :، فهذا هو عين الجهل، وإنّما العقل في الحقيقة إعمال الفكر بالبدائل والبراهين والإثباتات، فعندما نقول مثلاً هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ نحن نعلم أنّ الكون فيه أشياءٌ عابدةٌ بطبيعتها، خلقها الله سبحانه وتعالى  طائعةً: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصِّلت]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحجّ: من الآية 18]، فعندما ذكر النّاس قال: كثيرٌ من النّاس يؤمن وكثيرٌ أيضاً يكفر ويشرك بالله جلّ جلاله؛ لأنّ هذا الإنسان أُعطي أمانة الاختيار، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ نعلم أنّ هذه اللّام لام الصّيرورة، لام العاقبة، وليست لام التّعليل؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى  لم يخلق البشر من أجل جهنّم، إنّما خلقهم من أجل العبادة بدليل قوله سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذّاريات]، هذه لام التّعليل، والعبادة ليست هي الصّلاة والصّيام والحجّ والزكاة فقط، بل هي كلّ فعل خيرٍ يعود على الغير بالخير، الفلّاح في حقله إذا كان يعمل بتقوى الله فهو في عبادة، والعامل في مصنعه إذا عمل واستغلّ وقته فهو في عبادة، والموظّف في وظيفته في عبادة، كلّ إنسانٍ يقوم بعملٍ يؤدّي إلى الخير فهو في عبادة، فلا يقولنّ قائلٌ: لماذا يُحاسب الله سبحانه وتعالى  النّاس ما دام أنّه ذرأ؛ أي بثّ ونشر كثيراً من الجنّ والإنس من أجل جهنّم؟ الجواب: أنّ هذا من أجل العبادة، فإن أنت عصيت فإنّك تدخل جهنّم، فإذاً هذه لام المآل لام الصّيرورة، كالآية عندما ألقت أمّ موسى موسى في اليمّ فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: من الآية 8]، اللّام هنا ليست لام تعليلٍ، هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً؟ كانوا تركوه ليغرق، التقطه آل فرعون ليكون فرحاً وحبّاً وليس ليكون عدوّاً، لكن اللّام هنا لام الصّيرورة؛ أي أنّ مآل هذا الأمر أنّه صار عدوّاً لفرعون.

الآية رقم (190) - فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾: انظر للإنسان كيف هو كنودٌ كفّارٌ! عندما آتاهما الله سبحانه وتعالى المولود وكان صالحاً جعلا له شركاء، قال بعض المفسّرين: من شركهم أن يسمّونه: عبد الدّار وعبد العُزّى… المهمّ أنّ الكناية في هذا الأمر بأنّ الإنسان عندما يكون في شدّة يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ، وعندما تذهب عنه الشّدّة يُشرك به عزّ وجلّ، وليس المقصود أن يضع وثناً أو حجراً أو صنماً يعبده، بل يعتقد بالأسباب بدلاً من الله سبحانه وتعالى .

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾: تعالى علوّاً كبيراً عن إشراك النّاس.

عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه قال: بينما أنا عند رسول الله : إذ رأيت بوجهه أمراً ساءني فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ما الّذي أرى بوجهك؟ قال: «أمر أتخوّفه على أمّتي من بعدي»، قلت: وما هو؟ قال: «الشّرك وشهوة خفيّة»، قال: قلت: يا رسول الله، أتشرك أمّتك من بعدك؟ قال: «يا شدّاد، أما إنّهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولا حجراً ولكن يراؤون النّاس بأعمالهم»([1])، أي عندما تعمل العمل فهذا العمل يكون رياءً ونفاقاً فتعالى الله سبحانه وتعالى  عمّا يشركون، كما يقول الله جلّ جلاله في الحديث القدسيّ: «أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»([2])، فعندما تعمل العمل يجب أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى.

 


([1]) المستدرك على الصّحيحين للحاكم: ج4، ص/366، الحديث رقم (7940).
([2]) صحيح مسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، الحديث رقم (2985).

الآية رقم (180) - وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا﴾: الحسنى تأنيثٌ لكلمة الأحسن، اسم تفضيلٍ، فما هي أسماء الله الحسنى؟ هذا الموضوع كثيراً ما يتردّد في أذهان النّاس، وحتّى نبسّط الأمر نحن نعلم أنّ أسماء الله الحسنى توقيفيّة، وأسماء الله الحسنى هي صفاتٌ لله سبحانه وتعالى، ارتقت لأن تكون أسماء، أمّا بالنّسبة للإنسان فلا يوجد لأيّ إنسانٍ اسمٌ يوصف بـ(الحسنى) لماذا؟ لأنّه عرضٌ لحدث؛ أي أقول: فلانٌ كريمٌ، اليوم كريمٌ وقد يكون غداً ليس كريماً، فهو صفة وليس اسماً، لا يصبح (كريم) اسماً إلّا إن كان لله سبحانه وتعالى ؛ أي كريمٌ أزلاً أبداً، فهذا الفعل وهذه الصّفة ارتقت لأن تكون اسماً فتبقى ثابتةً غير متغيّرةٍ، أمّا بالنّسبة للإنسان فاليوم كريمٌ وغداً بخيلٌ، اليوم قويٌّ وغداً ضعيفٌ، اليوم رحيمٌ وغداً غضوبٌ، فالإنسان عالم أغيار، لذلك هذه الصّفات لا تصبح أسماءً إلّا في حالةٍ واحدةٍ إذا كانت دائمةً، فإذا وجدت هذه الأسماء في غير الله سبحانه وتعالى  فهي صفاتٌ محدودةٌ؛ لأنّ ما سوى الله سبحانه وتعالى  متغيّر، أمّا بالنّسبة لله سبحانه وتعالى  فهي دائمةٌ، وهي أسماءٌ هو سمّاها، لذلك نجد في دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله: «اللّهمّ إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسمٍ هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همّي»([1]).

الآية رقم (191) - أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ

كيف يشركون بعبادة الأوثان أو الأصنام الّتي لا تغني شيئاً ولا تستطيع أن تخلق شيئاً وهم مخلوقات لله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (181) - وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ

﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ﴾: هناك الكثير من النّاس هادون ومهتدون، لكن لماذا قال: أمّة؟ الجواب: لأنّ صفات الكمال لا تتحقّق إلّا بالمجموع، هذا كريم وهذا حليم وهذا قويّ وهذا ذكيّ و… فصفات الكمال تحتاج إلى أمّة حتّى تنهض بها.

﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾: لا تخلو الأرض من هداة مهديين يعدلون وعدلهم نابعٌ من الحقّ، والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر، قال سبحانه وتعالى  عن القرآن الكريم: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: من الآية 105].

الآية رقم (182) - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ

هذه الآية كقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام]، سنستدرجهم؛ أي نعطيهم نعمةً وراء نعمةٍ نستدرجهم بذلك، فإن شكروا فقد نجحوا وإن عصوا وأبوا فقد ضلّوا، فهذا هو الاستدراج؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى  يُنعم ويرى أثر نعمته على عبده كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم]، فعندما يقول سبحانه وتعالى : ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ يعني أنّ الإنسان الّذي يكذّب بآيات الله يعطيه الله سبحانه وتعالى  من نِعَمه؛ لأنّه يمهله، فالله سبحانه وتعالى  يعطي ويمهل ويرى أثر ذلك على العبد.

الآية رقم (161) - وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ﴾: القرآن الكريم لم يبيّن أيّ قريةٍ، القرية؛ أي تجمّع سكنيّ.

﴿وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾: أعطاهم الله سبحانه وتعالى فيها كلّ أنواع الثّمرات والطّعام.

﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾: هو دعاءٌ، يا ربّ، حطّ عنّا خطايانا وذنوبنا.

﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾: كان لكلّ قريةٍ بابٌ، فعند الدّخول يجب أن تكونوا ساجدين خاضعين لله سبحانه وتعالى.

﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ﴾: مرّ بنا شبيه بهذه الآية في سورة (البقرة)، ويعتقد الإنسان عندما يقرأ القرآن الكريم أنّ هناك تكراراً، فما الفارق بين الآيتين؟ فبالكلمة الواحدة أو بحرف عطف يتغيّر المعنى.

الآية رقم (172) - وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ

سنتوّقف عند هذه الآية؛ لأنّها تثير إشكالاً عقليّاً كيف أخذ الله تعالى من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم؟ وكيف أشهدهم على أنفسهم؟ وكيف تكلّم معهم؟ وكيف ردّوا؟ لنحلّل الأمر أوّلاً:

﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾: الأخذ هو للرّبّ.

﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾: بنو آدم هم المأخوذ منهم.

كلّ إنسان منّا هو ذرّةٌ من أبيه قبل أن تحمل به أمّه، وكان أبوه ذرّة من ظهر أبيه، وأبوه ذرّة من ظهر أبيه.. وهكذا إلى أن تصل إلى الأب الأساسيّ الّذي هو آدم عليه السلام، فإذاً هؤلاء البشر كلّهم أُخذوا من ظهر آدم، جمع سبحانه وتعالى هذه الذّرّات في عالم الذّرّ.

﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾: خاطب البشريّة جمعاء في عالم الذّرّ.

الآية رقم (162) - فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ

هؤلاء الّذين ظلموا أنفسهم بدّلوا قولاً غير الّذي قيل لهم، فماذا قيل لهم؟ قيل لهم: قولوا حطّة، فأصبحوا يطالبون بالطّعام ويقولون: (حنطة) بدّلوا قولاً غير الّذي قيل لهم.

﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾: رجزاً؛ أي عذاباً من السّماء، وقد جاءت في سورة (المدّثر) بمعنى الذّنوب، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدّثر]، وهنا الرّجز العذاب؛ أي نتيجة الذّنوب، وذلك نتيجة لظلمهم وعتوّهم وطغيانهم ونقضهم للمواثيق.

الآية رقم (173) - أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ

إذاً هناك طريقان: طريق الإشراك إمّا أن يكون عن طريق الغفلة وإمّا عن طريق الآباء والأجداد، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزّخرف: من الآية 23]، التّقليد الأعمى، وجدوا آباءهم يعبدون الأصنام فعبدوها، وجدوا آباءهم يعبدون الأوثان فعبدوها، لكن هل كان هناك عبادة أصنامٍ وأوثانٍ من البداية؟ الجواب: لا؛ لأنّ آدم عليه السلام  جاء بالإيمان بالله سبحانه وتعالى  وأولاد آدم كانوا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ، بعد ذلك طرأت غفلةٌ، بعد الغفلة عبد النّاس الأصنام والحجارة وأصبح هناك تقليدٌ من الأبناء للآباء، لذلك جاءت هنا: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾، ليست مسؤوليّة أن تقول: بأنّ الآباء كانوا… لذلك تجد أنّ الله سبحانه وتعالى  لا يكلّف الإنسان عندما يكون صغيراً في حضن أمّه وأبيه، حتّى لا تقول: هكذا كان آباؤنا، بل يبدأ التّكليف عند سنّ البلوغ عندما يكون هناك عقلٌ يستطيع أن يختار بين البدائل، فعندما يكون هناك العقل الّذي يختار بين البدائل يفرض التّكليف على الإنسان.

الآية رقم (163) - واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾: السّؤال من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو سؤال توبيخٍ وتقريعٍ، وهو سؤال من يعلم، الّذي علّمك هو من أرسلك يا محمّد، وعندما يسأل فإنّما يسأل ليقرّر واقعةً، وبأنّ هذا الأمر موجودٌ في كتبهم؛ لأنّ النّقاش والجدال والمحاجّة الكثيرة كانت من يهود المدينة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان يحاججهم بما في كتبهم.

﴿الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾: أي القرية المطلّة على البحر، حاضرة من حَضَر أي أنّه موجود، إذاً هي قريةٌ ساحليّةٌ على البحر.

﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾: أي يتجاوزون حدود الله سبحانه وتعالى ويعتدون في السّبت، وقضيّة السّبت هي أنّ الله سبحانه وتعالى جعل لليهود يوم السّبت يوم راحةٍ ومنعهم من العمل فيه، حيث كانوا في هذه القرية المطلّة على البحر يعملون بصيد السّمك.

الآية رقم (164) - وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

وهذا قانون صيانة الاحتمال، فبعضهم مؤمنون.

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾:  منهم مجموعةٌ أصبحوا يقولون للّذين كانوا يعظون النّاس ويقولون لهم: لا يجوز أن تخالفوا أوامر الله سبحانه وتعالى ، ما دمتم تعلمون أنّهم لا يستجيبون لكم، والله سبحانه وتعالى  سيهلكهم؛ لأنّهم خالفوا الميثاق والأوامر، فما الفائدة من الموعظة؟

﴿قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾: لدينا سببان: السّبب الأوّل أن يقدّموا العذر بين يديّ الله سبحانه وتعالى بأنّنا بيّنا ووضحّنا لهم، وأنّنا نصحناهم ووعظناهم، والسّبب الثّاني: لعلّهم يعودون عن غيّهم وعن ضلالهم وعن فسوقهم.

الآية رقم (165) - فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾: ذُكّروا: وعظوا ونُصحوا، ومع ذلك أعرضوا ونسوا.

﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾: الّذين كانوا ينهون النّاس عن السّوء.

﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾: شديدٍ وأليم.

﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾: سبب الأخذ بالعذاب هو دائماً الفسوق والخروج عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمولى سبحانه وتعالى يبعث الأنبياء والرّسل عليهم السلام مبشّرين ومنذرين ومذكّرين، ويكون بعد ذلك المصلحون في كلّ أمّةٍ يعظون وينهون النّاس عن السّوء، فعندما ينسى النّاس ويبتعدون يأتي العذاب وينجّي الله الّذين آمنوا بمفازتهم، فإذاً لم يظلمهم الله عزّ وجلّ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.