الآية رقم (26-27) - فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ () بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

فهؤلاء اتّفقوا على قطف ثمار بستانهم في الصّباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، فدمّرها الله تعالى وأهلكها وهم نائمون، وفي الصّباح انطلقوا إلى جنّتهم وهم يقولون فيما بينهم: ﴿ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾، وهكذا قطعوا الطّريق على أنفسهم حينما حرموا المساكين: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، ثمّ تنبّهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ، وعادوا إلى صوابهم، فقالوا: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ، فهؤلاء لـمّا وقفوا أمام جنّتهم في الصّباح ورأوها قد احترق ثمرها وحرثها وشجرها، ظنّوا أنّهم قد ضلّوا الطّريق إلى جنّتهم، فالضّلال المقصود هنا هو التّيه؛ أي: أنّهم تاهوا عن جنّتهم، لذلك قال بعضهم: أخطأنا الطّريق، ما هذه بجنّتنا، فلقد تركوها بالأمس عامرة بالثّمار، واليوم وجدوها حطاماً وشجراً محترقاً يعلوه السّواد، قد احترقت الثّمار الّتي كانوا يريدون قطعها وصَرْمِها في الصّباح من غير أن يُعطوا الفقراء حقّهم من الحصاد الّذي كانوا يأخذونه سابقاً، لذلك شكّوا أن تكون هذه جنّتهم الّتي رأوها بالأمس وظنّوا أنّهم تاهوا في الطّريق إليها، وأنّ هذه جنّة غير جنّتهم، ولكنّ بعضهم قالوا: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، مؤكّدين أنّها جنّتهم فعلاً، وأنّهم لم يضلّوا الطّريق إليها، بل إنّها الحقيقة ماثلة أمامهم، هي جنّتهم وهم حُرِموا خيرها وحُرِموا من ثمرها بسبب نيّتهم السّيّئة في عدم إعطاء الفقراء حقّهم، فكان عقابهم حرمانهم من ثمار جنّتهم أصلاً.

﴿مَحْرُومُونَ: المحروم: الّذي يُصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته، فيكون له حقّ على مَن لم يصبه ذلك من النّاس، وهنا لفتة عجيبة فهم قد أصبحوا محرومين؛ أي: مستحقّين للزّكاة، وكأنّهم بعد أن كانوا أصحاب مال يتمثّل في جنّتهم، وكانوا أغنياء عن أن يمدّوا أيديهم للنّاس، تحوّلوا إلى فقراء يستحقّون عطف الآخرين عليهم، لقد أنكروا على الفقراء حقّهم في زرعهم وزكاتهم وحصادهم، فما بالهم اليوم؟ لقد غفلوا عن حكمة الزّكاة والصّدقة، وإعطاء الفقير ممّا رزقهم الله عز وجل، فالضّعيف حين يجد نفسه في مجتمعٍ متكافل ويجد صاحب القوّة قد عدّى من أثر قوّته وحركته إليه، فإنّه لا يحقد عليه؛ لأنّ خيره يأتيه، لذلك نقول للّذين يصلون إلى المرتبة العالية في الغنى أو الجاه أو أيّ مجال: احذروا حين تتمّ لكم النّعمة؛ لأنّ النّعمة إن تمّت لكم عُلُوّاً وغنى وعافية وأولاداً، فيجب أن تعلموا أنّكم من الأغيار، وما دامت النّعمة قد تمّت وصارت إلى النّهاية وأنتم لا شكّ من الأغيار، فإنّ النّعمة لا بدّ أنّها ستتغيّر إلى الأقلّ، فإذا ما صعد إنسانٌ إلى القمّة وهو مُتغيّر فلا بدّ أن ينزل عن هذه القمّة، ولذا يقول الشّاعر:

إذا تمّ شيءٌ بَدَا نقصُه    ترقَّبْ زَوالاً إذا قِيلَ: تَـمّ

وخيرات الحياة من مال وثروة إنّما تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرّك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزاً ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش؟ إنّ الله تعالى لا بدّ أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله، لقد جعل الله تعالى الزكاة عوضاً للفقير وحقّاً في مال الأغنياء الّذي هو مال الله عز وجل، وقد قال رسول الله ﷺ لأنس بن مالك رضي الله عنه: «وَيْلٌ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، ظَلَمُونَا حُقُوقَنَا الَّتِي فُرِضَتْ لَنَا عَلَيْهِمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَأُدْنِيَنَّكُمْ وَلَأُبَاعِدَنَّهُمْ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[المعارج]([1])، وقد كان رجلٌ من أهل اليمامة له مال، فجاء سيلٌ فذهب بماله، فقال رجل من أصحاب النّبيّ ﷺ: هذا المحروم فاقسموا له([2])، فالمحروم ضدّ المرزوق، فهم ممنوعون من الانتفاع بثمرة كدِّهم وتعبهم؛ لأنّهم أرادوا قطع الثّمر وألّا يُعطُوا للفقراء حقّهم، فهؤلاء انقلب حالهم من الغنى إلى الفقر، وأصبحوا محرومين مُستحقِّين للصّدقة والزّكاة بسبب نيّتهم وإرادتهم السّيّئة.

وهنا بدأ الإخوة يتلاومون، ويحاول كلّ منهم التّملّص من مسؤوليّة ما حدث، فيقول الحقّ تعالى عنهم:

([1]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب العين، من اسمه عبيد، الحديث رقم (4813).

([2]) الكشف والبيان للثّعلبيّ: ج9، ص 112.

الآية رقم (28) - قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ

﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ: وسط الشّيء منتصفه، أو ما بين طرفين متناقضين، ولا بُدّ أن تعرف الطّرفين أوّلاً ثمّ تُحدِّد؛ لأنّ الوسط لا يُعرَف إلّا بتحديد الطّرفين، وعادةً ما يُعَدّ الوسط هو نقطة المنتصف تماماً، وما على يمينها يُقسَم إلى عشرة أجزاء مثلاً، وما على يسارها يُقسَم إلى عشرة أجزاء أخرى، وكلّ قسمٍ من تلك الأجزاء الّتي على اليمين أو على اليسار يُعَدّ طرفاً، ومعنى أنّ الحقّ تعالى يقول: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْهذا معناه أنّ الإخوة بعد أن عاينوا ما حدث لجنّتهم وبستانهم وثمارهم لم يُصبحوا على رأيٍ واحد، بينما عند الاتّفاق على قطع الثّمار والحصاد في الصّباح الباكر قبل أن يأتي الفقراء، كانوا على رأيٍ واحد، لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾.

﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ: أيقنوا بأنّهم نسوا الله عز وجل، ورأي أوسطهم أنّ المشكلة كانت أنّهم لم يُسبِّحوا الله تعالى؛ أي: لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله، وقد يسأل أحدهم سؤالاً: هؤلاء أصابتهم الجائحة لنيّتهم السّيّئة؛ لأنّهم ظلموا أنفسهم، فهل أصحاب النّيّة الحسنة، والّذين لم يظلموا أنفسهم لا تُصيبهم الجوائح والمصائب؟ نقول: إنّ الجوائح تُصيب الجميع، فالحقّ تعالى يقول في حقّ الّذين ظلموا أنفسهم: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[آل عمران]، فالّذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة، والباقي تقع عليهم سنن الله عز وجل، منها هكذا ومنها هكذا.

كلمة: ﴿لَوْلَا هنا تحضيضيّة؛ أي: ألم أقل لكم هلّا تُسَبِّحون، وهذا معناه أنّه حثّهم على تسبيح الله عز وجل، ونسب الفعل إلى الفاعل الحقيقيّ، وقول: إن شاء الله، فأوسطهم قال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ؛ أي: هلّا تستثنون في قسمكم الّذي أقسمتموه ويمينكم الّذي حلفتموه، فلولا قلتم: سبحان الله، فندموا على فعلهم.

الآية رقم (29) - قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ

﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا: لقد رأوا أنّ ما قاله أوسطهم هو الصّواب الآن، فجنّتهم قد احترقت وفقدوا حصاد هذا العام، فبعد كلّ ما جرى قالوا مع أخيهم: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا، فنزّهوا الله عز وجل عن أن يكون قد ظلمهم في شيءٍ ممّا حدث، لذلك اعترفوا أنّهم كانوا ظالمين، ولذلك استحقّوا ما حدث لهم، فـ ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَاتنزيهٌ لذاته عز وجل عن كلّ صفة نقص من الممكن أن تلحق به تعالى، فصفاته وأفعاله كلّها هي صفات الكمال، وهي أفعال الكمال، والله تعالى لا يظلم أحداً، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النّساء: من الآية 40].

الآية رقم (30) - فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ

أقبل بعضهم على بعضٍ يلوم بعضهم بعضاً على تفريطهم فيما فرّطوا فيه من عدم تسبيح الله عز وجل، وعزمهم على ما كانوا عليه من ترك إطعام المساكين من جنّتهم، فيقول كلّ واحد منهم للآخر: أنت السّبب فيما حدث والذّنب عليك، وهكذا كلّ واحد يحاول أن يلقي المسّؤوليّة على غيره.

الآية رقم (31) - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ

﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا: وهذا مثل المجرم يُعزِّي نفسه نادماً، يقول: أنا مُخطِئٌ، أنا أستحقّ السّجن، هي حالةٌ من تأنيب الضّمير، وكلمة: (الويل) تُستَعمل للتّحسّر على غفلة الإنسان عن العذاب، فقولهم: ﴿يَا وَيْلَنَا: هو نداء على العذاب، كما تقول: يا بؤسي، أو يا شقائي.

﴿إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ: أي: إنّا كنّا متجاوزين حدود الله عز وجل، فمنعنا حقّ الفقراء وتركنا تقديم مشيئة الله عز وجل، وتركنا تسبيحه، وهو صاحب النّعمة.

الآية رقم (32) - عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ

﴿عَسَى: معناها في اللّغة الرّجاء، كقول أحدهم: عسى أن يأتي فلان؛ أي: أرجو أن يأتي فلان، أو قول أحدهم مخاطباً صاحباً له: عسى أن يأتيك فلان بخير، وقد يأتي فلان بالخير وقد لا يأتي، لكنّ الرّجاء حدث.

وأصحاب الجنّة هنا يرجون أن يُبدلهم الله تعالى جنّة أخرى خيراً ممّا كانت لهم واحترقت بسبب نيّتهم السّيّئة، فيقولون: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا، و﴿عَسَى تُستَخدم حين يأتي بعدها أمرٌ محجوبٌ نحبّ أن يقع.

﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا: وقد قيل: إنّ الله تعالى أبدلهم جنّةً خيراً من جنّتهم لعلمه تعالى بصدق توبتهم وصدق إقرارهم بالخطأ، حتّى أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بلغني أنّ القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصّدق، فأبدلهم بها جنّة فيها عنب.

﴿ أَنْ يُبْدِلَنَا: وقد فرّق بعض العلماء بين التّبديل والإبدال، فهل الحقّ تعالى غيّر حال جنّتهم وصفتها من الحطام والحريق إلى النّضارة والإزهار مرّةً أخرى؟ أو أنّه تعالى أبدلهم بها جنّة أخرى تماماً في مكانٍ آخر غير هذه؟ لقد اختلف العلماء في ذلك.

﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ: الرّغبة في الشّيء تعني حبّه وعشقه، والرّغبة في الطّريق الموصل إليه، إلّا أنّك لم تسلك هذا الطّريق بالفعل، ولم تأخذ بالأسباب الّتي توصلك إلى ما ترغب فيه.

الآية رقم (21-22) - فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ () أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ

﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ﴾: وعندما جاء الصّباح تنادَوا ونادى كلّ واحد على الآخر: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِين﴾، فهم لم يصلهم أنّ بستانهم قد احترق، وأنّ زرعهم قد ضاع وذهب، وهم ينسبون الثّمر إلى أنفسهم، فيقولون:

﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ﴾: والحرث: محلّ الإنبات والزّرع ومحلّ الاستنبات، والحرث أيضاً هو الزّرع الـمُستَنبَت من الأرض.

والله تعالى يذكّرهم: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الواقعة]، وهم قد تنادَوا مُصبحين: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِين﴾.

﴿إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِين﴾: أي: إن كنتم جادّين في تنفيذ ما تواعدنا عليه من قطع الثّمر وجذّه والاحتفاظ به لأنفسنا؛ أي: إن كنتم حاصدي زرعكم قبل أن يحضر المساكين، وكلمة: ﴿صَارِمِين﴾ من معانيها: عازمين؛ أي: إن كنتم عازمين على صرم حرثكم في هذا اليوم.

الآية رقم (23) - فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ

﴿فَانْطَلَقُوا﴾: الانطلاق فيه اندفاعٌ وتصميم وإرادة على فعل شيءٍ ما، وإرادتهم هنا متّجهة إلى منع الخير عن الفقراء والمساكين، وهذا يتوافق ومثالٌ لما ذكره الحقّ تعالى قبل آيات: ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ [القلم: من الآية 12].

﴿وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾: ولأنّهم عزموا على فعل شيءٍ سيّءٍ، ولا يريدون أن يطّلع عليه أحدٌ خرجوا بعد أن تنادَوا وهم يتخافتون، وهذه جملة حاليّة تصف حالهم حين الانطلاق، فهم يتحرّكون في الظّلام كالأشباح يُحدِّثون بعضهم بأصوات خفيضة حتّى لا يسمعهم أحد ولا ينتبه إليهم أحد، والله تعالى يستخدم واو الجماعة هنا دليلاً على اجتماع رأيهم على هذا الفعل، فليس فيهم أحدٌ به نزعة خيرٍ أو دليل تراجعٍ، فنجد: ﴿أَقْسَمُوا﴾، ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾، ﴿فَتَنَادَوْا﴾، ﴿ أَنِ اغْدُوا﴾، ﴿فَانْطَلَقُوا﴾، ﴿وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾ ، ﴿وَغَدَوْا﴾، فهناك اجتماعٌ على نيّة القطع، واجتماع على المسارعة فيه، واجتماعٌ على أمرٍ خبيثٍ، فلم يعلنوه ولكنّهم تخافتوا وأسرّوا القول فيه، فتخافتوا على ألّا يعطوا المساكين شيئاً، وهم لا يمنعون المساكين حقّهم من الحصاد والثّمر، بل إنّهم سيمنعونهم حتّى من مجرّد الدّخول، فقالوا:

الآية رقم (24) - أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ

فسيمنعون المساكين والفقراء من الدّخول أصلاً، ولو بالقوّة فضلاً عن الطّرد والزّجر وإغلاق الأبواب واتّخاذ كلّ وسائل المنع، وهم يؤكّدون كلامهم باستخدام النّون المشدّدة: ﴿ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا﴾، وقد كان المساكين يدخلون هذه الحديقة لأخذ نصيبهم منها، هذا ما اعتادوا عليه من الأب، أمّا الأبناء فكانوا مانعين للخير بخلاء قد أُشرِبوا حبّ الدّنيا في قلوبهم، ولا يجدون لأحدٍ عندهم حقّاً، وهم أنفسهم يقولون: ﴿أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾، فهم يعترفون أنّ هؤلاء النّاس مساكين.

الآية رقم (25) - وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ

﴿وَغَدَوْا: الغدوّ: الإبكار والإصباح.

﴿حَرْدٍ: الحرد: القصد.

وهم كان قصدهم المنع، والمحاردة: المنع، فما اتّفقوا عليه وقصدوه بَنوه على قصد ومؤامرة بينهم قادرين على ذلك في ظنّهم، وهو ما نقول عنه: سبق الإصرار والتّرصّد، وهذا يعني أنّ الله تعالى قد غاب عن بالهم مدّة التّحضير لهذا التّآمر، اتّفقوا وافترقوا وناموا وأصبحوا في الصّباح مصمّمين على إنفاذ ما اتّفقوا عليه، وخرجوا معاً عامدين إلى منع المساكين من دخول حديقتهم بكلّ الوسائل.

الآية رقم (16) - سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ

أي: سنضربه بالسّيف ضربةً تجعل على أنفه علامةً في أعلى منطقةٍ فيه، هذا الكلام كان في مكّة، ويأتي يوم بدر في المدينة فيجدون الضّربة على أنف الوليد، لقد قالها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ في زمنٍ ماضٍ، ويأتي بها الزّمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالّذين آمنوا بمحمّد ﷺ وبالقرآن الكريم الّذي نزل عليه يتأكّدون من صدق رسول الله ﷺ في كلّ شيء، وها هو سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يسمع قول الله عز وجل: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر]، فيقول: أيّ جمعٍ هذا، ونحن لا نقدر أن نحمي أنفسنا؟! وبعد ذلك تأتي غزوة بدر فتثبت له صدق هذا، وصدق قوله تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، والعجيب أنّ الآية تنزل وهم لا يستطيعون أن يُدافعوا عن أنفسهم، فلا يمكن أن يُقال: إنّ هناك مقدِّمات لذلك بحيث تُستَنتَج النّتيجة، فالمقدِّمات لا توحي بأيّ نصرٍ، لكنّ ربّنا عز وجل هو الّذي قال، ورأوا صحيحاً أنّ الوليد بن المغيرة ضُرِب على أنفه وتركت الضّربة علامةً عليه؛ لأنّ الّذي قال ذلك من قبل قادرٌ على إنفاذ ما يقول، وحين نزلت الآية: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِفي حقّ الوليد بن المغيرة تساءل بعض المسلمين: هل نحن قادرون على أن نصل إليه؟ وبعد ذلك تأتي غزوة بدر فينظرون إلى أنفه فيجدون السّيف قد خرطه وترك سمةً وعلامةً عليه، فمَن الّذي خرق حجاب الزّمن المستقبل؟ إنّه الله عز وجل، والنّبيّ ﷺ مُبَلِّغٌ عن الله عز وجل، وقد نزل هذا القول في القرآن الكريم: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ في وقت ضعف المسلمين، ثمّ يأتي خبر ضربه على أنفه الّذي هو محلّ الأنفة والكبرياء والعنجهيّة، إنّه كلامٌ إلهيٌّ يُتحدّى به ويُتَعبَّد بتلاوته، وهكذا تصدق كلّ قضيّةٍ يأتي بها الله عز وجل، فالأمر الّذي جرى مع الوليد بن المغيرة كان دليلاً على كذب ادّعائهم أنّ القرآن الكريم أساطير الأوّلين، وهذا من دقّة الأداء القرآنيّ، ويأتي الواقع بما يؤيّد صدق الرّسول ﷺ، وعندما أشار إلى مواقع مصرع القوم في بدر قبل أن تقع المعركة، قال: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَداً، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَداً»([1])، فمن الّذي يتحكّم في مواقع الموت؟ إنّ ذلك لا يتأتّى إلّا من إلهٍ هو الله تعالى، وهو الّذي أخبر محمّداً ﷺ بهذا الخبر.

ونلاحظ أنّ الحقّ تعالى استخدم (السّين) في التّعبير عن المستقبل ولم يستخدم (سوف)، فـ (سوف) فيها تسويفٌ وإمهالٌ وامتداد فترة ما يعدِ الله تعالى بتحقيقه في المستقبل، يقول تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر]، ويقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾  [مريم]، وهذا تحقّقه في الآخرة، وهنا يقول تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، فاستخدم السّين دلالةً على أنّ العقاب واقعٌ بهم سريعاً.

﴿سَنَسِمُهُ: أي: سنخطمه بالسّيف، فنجعل ذلك علامةً باقيةً وَسِمَةً ثابتة فيه، فسنبيّن أمره بياناً واضحاً ليعرفوه، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السّمة على الخرطوم.

﴿الْخُرْطُومِ: الأنف تعبيراً عن الوجه، والوجه أشرف ما في الإنسان، وعندما يرى الإنسان جبّاراً يشمخ بأنفه ويتكبّر، يقول: أريد أن أكسر أنفه، والخرطوم يُستَعار في أنف الإنسان، وبعض العلماء قال: إنّه في هذه الدّنيا، وقد حلّ به هذا في يوم بدر، وبعضهم قال: إنّ ذلك في عذاب الآخرة.

([1]) مسند أبي داود الطّيالسيّ: أَحَادِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رَبَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ t، الْأَفْرَادُ عَنْ عُمَرَ، الحديث رقم (40).

الآية رقم (17) - إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ

هذه قصّة الإخوة الّذين يملكون جنّة من جنان الأرض، فمنعوا حقّ الفقير والمسكين واليتيم، فذهب الله تعالى بثمر الجنّة كلّها وأحرق أشجارها، لقد جزاهم الله تعالى بظلمهم، وهنا يجب أن نتوقّف عند هذه الآيات، إنّنا نرى ذلك في الحياة، وكيف يمكن أن تُصيب الزّراعة أو غيرها كارثة، وكيف يكون الجزاء والثّواب.

﴿ بَلَوْنَاهُمْ : أي: اختبرناهم، وهناك ابتلاءٌ بالخير وابتلاءٌ بالشّرّ، والبلاء كلمة لا تُخِيف، أمّا الّذي يُخِيف فهو نتيجة هذا البلاء، فالبلاء هو امتحان أو اختبار، إن أدّيته ونجحت فيه كان خيراً لك، وإن لم تُؤَدِّه كان وبالاً عليك. والحقّ تعالى يقول: ﴿ بَلَوْنَاهُمْ فـ: (هم) هنا تعني أهل مكّة، امتحنّا واختبرنا مشركي قريش حين دعا عليهم رسول الله ﷺ فقال: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»([1]).

﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: وابتلاؤهم هنا كان عقوبة لهم، والجنّة المقصودة هنا هي بستان كان لهؤلاء، وكلمة (الجنّة) مأخوذةٌ من (الجنّ) والسّتر، والجنّة هي البستان الّذي به شجرٌ عالٍ كثيف إذا سار فيه الإنسان ستره، وهو غير البساتين الزّهريّة الّتي تُخرِج زهراً قريباً من الأرض تمثّل ترفاً للعيون فقط، فـ (جنّ) تُفيد السّتر والتّغطية، ومنها الجنون؛ أي: ستر العقل، و(جنّ الليل)؛ أي أظلم وستر عنك، فلا ترى غيرك ولا غيرك يراك، فالمادّة كلّها تُفيد السّتر.

وأصحاب الجنّة هؤلاء ورثوها عن أبيهم الّذي كان يجعل من كلّ شيءٍ فيها حظّاً للمساكين عند الحصاد والصّرام، فقال بنوه: المال قليل، والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا، وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله تعالى في كتابه.

﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ: الصّرم: القطع؛ أي: حلفوا ليقطعنّ ثمر نخيلهم من غير أن يشعر المساكين، واتّفقوا على قطف ثمار بستانهم في الصّباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، فدمّرها الله عز وجل وأهلكها وهم نائمون، وفي الصّباح انطلقوا إلى جنّتهم وهم يقولون فيما بينهم: ﴿أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾ ، وهكذا قطعوا الطّريق على أنفسهم حينما حرموا المسكين: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾، ثمّ تنبّهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأٍ وعادوا إلى صوابهم، فقالوا: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأذان، بَابٌ: يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ، الحديث رقم (804).

الآية رقم (18) - وَلَا يَسْتَثْنُونَ

﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ: أي: لم يقولوا: إن شاء الله، فإيّاك أن تقول: إنّي سأفعل شيئاً إلّا أن تربطه بمشيئة الله عز وجل؛ لأنّك إن قلت فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، وإنّك لن تفعل شيئاً إلّا بإرادة الله عز وجل، لذلك فلا تعد إلّا بالمشيئة، لذلك قال تعالى﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: الآية 23- من الآية 24]، فالإنسان لا يملك الزّمان ولا المكان، ولا يملك أن يظلّ السّبب قائماً ليفعل ما كان يريد أن يفعله، فكلّ هذه العناصر الفاعل والمفعول والزّمان والمكان والسّبب لا يملكها إلّا الله عز وجل.

ولكنّ بعض العلماء ذهبوا إلى تأويل قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَسْتَثْنُونَأنّ معناه لا يتركون شيئاً من ثمر أشجار جنّتهم يوزّعونه على الفقراء والمساكين كما كان يفعل أبوهم.

والحقّ تعالى قرّر حقّاً للسّائل والمحروم، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج]، فالحقّ المعلوم هو الزّكاة، أمّا المحسن فللسّائل والمحروم في ماله حقّ غير معلوم، فلا يصحّ أن ينسب الإنسان المال كلّه إلى نفسه؛ لأنّ له شركاء فيه هما السّائل والمحروم، فالمال ملكيّة صاحبه باستثناء حقّ السّائل والمحروم، ولم يحدّد المولى تعالى هنا هذا الحقّ بـأنّه حقٌّ معلومٌ، بل جعله حقّاً غير معلوم أو محدّد، والله تعالى لم يفرض على المسلم إلّا الزّكاة، ولكن مَنْ يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسّائل والمحروم، والشّارع الحكيم حين كفل هذا الحقّ للفقراء فإنّما يحمي به الفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء، وقد حدّد الشّارع هذا الحقّ حتّى لا نزهد في العطاء خاصّة في الزّكاة.

وهؤلاء مكروا سيّئاً فحاق بهم ما مكروه، يقول تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: من الآية 43]، فكان عقابهم:

الآية رقم (19) - فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ

أي: أرسل الله تعالى مَنْ طاف بها؛ أي: مشى في كلّ جزءٍ منها فأحرق أشجارها، فالطّائف هو الّذي يطوف ليلاً، وهو أمرٌ من أمر الله عز وجل، فأرسل الله تعالى عليها عذاباً من السّماء فاحترقت كلّها، وصارت سوداء كاللّيل المظلم.

الآية رقم (20) - فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ

﴿كَالصَّرِيمِ: الصّريم: الرّماد الأسود، فأصبحت سوداء محترقة كاللّيل، وقد ذهب ما فيها من الثّمر، فكأنّه قد صُرِمَ وقُطِع وجُذّ، وهم أقسموا أنّهم سيصرمونها ويجذّون ثمرها قبل أن يصبح الصّباح وقبل مجيء الفقراء لأخذ صدقاتهم، واستخدام الله تعالى لمادّة (صرم) ذاتها دليلٌ، فكأنّ الحقّ تعالى يقول لهم: أنتم أردتم صرمها وقطع ثمرها لأنفسكم فقط، وها نحن صرمناها لكم فلم تستفيدوا بها عقاباً لكم على مكركم السّيّء.

الآية رقم (10) - وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ

﴿حَلَّافٍ: كلمة حلف: هي القَسَم أو اليمين، والحلّاف: كثير الحلف.

وحين نتمعّن في القرآن الكريم نجد أنّ الحلف لا يُطلَق إلّا على اليمين الكاذبة، أمّا القَسَم فإنّه يُطلَق على اليمين الصّادقة واليمين الكاذبة، فمثلاً: عندما نقرأ في سورة المائدة: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة: من الآية 89]، وما دامت هناك كفّارة يمين يكون الحلف كاذباً؛ لأنّ الّذي يستوجب الكفّارة هو الكذب، وإذا استعرضنا بعد ذلك كلّ (حلف) في القرآن الكريم نجد أنّه يُقصَد بها اليمين الكاذبة، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ، فالحلف هنا مقصود به القَسَم الكاذب، ولكن إذا قال الله تعالى: (أقسَموا)، فقد يكون اليمين صادقاً وقد يكون كاذباً، والله تعالى يقول: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التّوبة: من الآية 62]، ومن العجيب أنّ سورة التّوبة فيها أكبر عدد من لفظ: ﴿يَحْلِفُونَ ، ولم ترد مادّة (يحلف) في سورة المائدة إلّا مرّة واحدة، وفي سورة النّساء مرّة، وفي سورة المجادلة ثلاث مرّات، أمّا في سورة التّوبة فقد جاءت سبع مرّات، وفي سورة القلم الّتي معنا جاءت: ﴿حَلَّافٍ، حتّى أنّ سورة التّوبة سُمّيت (سورة يحلف)؛ لأنّ فيها أكبر عدد من ﴿يَحْلِفُونَ  في القرآن الكريم.

﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ: فلا تُطِع يا محمّد كلّ ذي إكثار للحلف الباطل، وقد نزلت في الأخنس بن شُرَيق، وبعضهم قال: إنّها نزلت في حقّ الوليد بن المغيرة أو الأسود بن عبد يغوث، والآية لا تخصّ واحداً بعينه بل هي على العموم.

﴿مَهِينٍ: أي: حقير، ومعناه هنا قلّة الرّأي والتّمييز، والواجب أن يحفظ الإنسان يمينه، يقول تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ[المائدة: من الآية 89]، وقد كان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أنّ مَن حلف في كلّ قليلٍ وكثيرٍ بالله تعالى انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقعٌ، فلا يُؤمَن إقدامه على اليمين الكاذبة.

والطّاعة هي استجابة للأمر في: (افعل) والنّهي في (لا تفعل)، وهم قد طلبوا منه ﷺ ألّا يجمعهم مع المستضعفين في مجلسٍ واحدٍ، ولكنّ الله تعالى أراده أن يُكرم هؤلاء القوم المستضعفين بعد أن نهاه عن طردهم.

فلا تُطِع من يعرض عليك المال على أن ترجع عن دينك، كالوليد بن المغيرة الّذي كان تاجراً ضعيف القلب مهيناً، وذلك كقوله تعالى أيضاً: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: من الآية 24]، والمهين: الكذّاب الضّعيف المكثار في الشّرّ، الضّعيف الرّأي والتّمييز.

ثمّ يذكر المولى تعالى صفات أخرى لهذا الحلّاف المهين، فيقول:

الآية رقم (11) - هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ

﴿ هَمَّازٍ: ويقول تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة]، والهمزة هو الّذي يسخر من النّاس ولو بالإشارة، يرى إنساناً مُصاباً بعاهةٍ في قدمه يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلّده بطريقة تثير السّخرية، إمّا بالإشارة وإمّا بالكلام، وهناك همز وهُمُزة، فالهمز والاستهزاء والسّخرية من النّاس علامة عدم الإيمان، والهمّاز مُغتَاب للنّاس، فالهمز الاغتياب وذكر النّاس بما يكرهون، فيأكل لحومهم، ويطعن في أعراضهم ويُعيبهم، فهو فتّان طعّان يلوي شدقيه من وراء النّاس، والمراد كسر أعراض النّاس والغضّ منهم والطّعن فيهم.

فالهمزة هو مَن يعيب في الآخرين عيباً خفيّاً، ويسخر منهم خُفية، ويكون ذلك بإشارةٍ من عينه، أو بأيّ حركةٍ من جوارحه، أمّا اللّمزة العيّابون في غيرهم في حضورهم، وتُطلَق على مَن يعيب كثيراً في النّاس، فهناك القويّ الّذي يكشف العيوب بصراحة ووقاحة وهو اللّمّاز، أمّا الضّعيف فهو يُعيب خُفيةً وهو الهمّاز، وقد كان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك وهو من عادة السّقّاط، ويدخل فيه مَنْ يُحَاكي النّاس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليُضحِك النّاس.

وهمزة لُمَزة: من صيغ المبالغة (فُعلة)، وتدلّ على كثرة فعل الشّيء، ومن اللّمز قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التّوبة].

وهو أيضاً:

﴿مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ : فهو يمشي بالنّميمة؛ أي: يسعى بين النّاس بالنّميمة، والسّعاية عادةً تأخذ جانب الشّرّ، وتعني الوشاية والسّعي بين النّاس بالنّميمة، تقول: فلان سعَّاء بين الخلق، يعني بالشّرّ ينقله بين النّاس بقصد الأذى، وهؤلاء إن علموا الخير أخفوه، وإن علموا الشّرّ أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا.

﴿مَشَّاءٍ : صيغة مبالغة (فعّال)، فالمشي بالنّميمة طبيعة فيه، يقوم بها بقصد وبكثرة ومبالغة، فهو يمشي بحديث النّاس بعضهم في بعض، ينقل حديث بعضهم إلى بعض ويمشي بالكذب، فالمشّاء بنميم يُفسد ذات البين، فيسعى بالنّمائم بين النّاس، ورسول الله ﷺ يقول: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ»([1])؛ أي: نمّام، فهو يقتّ الحديث قتّاً فيسمع الحديث من النّاس على بعضهم وينقله، فيفسد الأواصر الاجتماعيّة والعلاقات الإنسانيّة بين النّاس، وقد روت أسماء بنت يزيد بن السّكن أنّ النّبيّ ﷺ قال: «أَلَا أُخْبِركُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ»([2])، وإفساد ذات البين من أخطر الأمور، لذلك قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «أَلَا أُخْبِركُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ»([3]).

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّمِيمَةِ، الحديث رقم (6056).

([2]) مسند الإمام أحمد: مسند القبائل، مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بْنتِ يَزِيدَ، الحديث رقم (27599).

([3]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ، الحديث رقم (2509).

الآية رقم (12) - مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ

﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ: فقد كان صناديد قريش يمنعون الخير عن النّاس، يمنعونهم عن الإيمان وعن كلّ خير، فالمنّاع للخير بخيلٌ بالمال ضنين به عن الحقوق، والوليد بن المغيرة كان رجلاً موسراً كثير المال، وكان له عشرة من البنين، فكان يقول لهم: من أسلم منكم منعته رفدي؛ أي: حرمته من عطائي، لذلك قال تعالى: ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، فهو كثير المنع للخير، يمنعه حتّى عن نفسه بعد أن منعه عن الآخرين حين وقف في وجه الدّعوة للإيمان، وحين منع ماله ولم يُعطِ المحتاجين.

﴿مُعْتَدٍ : وهو لم يكتفِ بمنْع الخير، بل تعدّى على الخير عند غيره، فأخذه من غير وجه حقّ، أخذه مرّةً بالسّرقة، ومرّةً بالرّشوة، ومرّةً بالخطف والغصب، ومرّةً بالتّدليس، ومرّةً بالغشّ، فهو معتدٍ بأيّ وجهٍ من وجوه التّعدّي.

﴿أَثِيمٍ: وأثيم (فعيل) من صيغ المبالغة، وهو أثيم لا مجرّد آثم، بل هو أثيم لغشمه وظلمه، وهو مُتمادٍ في الإثم لا ينزجر عنه، ولا يتّعظ بموعظة، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿مُعْتَدٍ مُرِيبٍ [ق: من الآية 25]، فهو مريب؛ أي: شاكّ مرتاب في اليوم الآخر، فلو كان مؤمناً به وبالحساب والجزاء ما منع الخير عن أهله ونفسه، وما كان منعهم من الإيمان، وما كان منع حقّ الله تعالى.

والمريب أثيم يخشى أن يراه النّاسُ فيكشفوا أمره، وفي أمثال النّاس: (يكاد المريب يقول: خذوني)؛ لأنّه فاعلٌ للإثم مُقيمٌ عليه، فهو أثيم.

الآية رقم (13) - عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ

﴿عُتُلٍّ: العتل: هو الرّجل الفاحش اللّئيم، الجافي الشّديد في كفره، وكلّ شديد قويّ فالعرب تُسمّيه عُتُلّاً، وهو الشّديد الخصومة، وأصله من العتل، وهو الدّفع بقوّة وعنف، ومنه قوله تعالى: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ[الدّخان: من الآية 47]؛ أي: ادفعوه على وجهه إلى سواء الجحيم، فالعَتل: السَّوق والدّفع والجذب، فالعتل أن يؤخَذ فيُمضَى به بعسفٍ وشدّةٍ.

فـ (العُتُلّ الزّنيم): هو الرّجل يُعرَف بالشّرّ كما تُعرَف الشّاة بزنمتها الّتي تُعلَّق في لحى الشّاة.

﴿زَنِيمٍ: الزّنيم في كلام العرب الملصَق بالقوم وليس منهم، فلا يُعرَف مَن أبوه، فهو منتسبٌ لغير أبيه، دخيلٌ في قومه، وليس معنى هذا أنّ كلّ نمّام هو زنيم لا يُعرَف له أب، إنّما الشّخص المقصود هنا كانت تجتمع فيه هذه الصّفات كلّها، لذلك قال تعالى: ﴿ بَعْدَ ذَلِكَ؛ أي: إضافة إلى ما سبق، وهو هنا يشير إلى ما سبق من صفات، فهي صفات متوالية متتابعة، كلّ خصلةٍ أشدّ من الأخرى، فهو حلّاف كثير الحلف، يعلم من نفسه عدم صدقه، وشكّ النّاس فيه، مهين حقير، والمهانة صفة نفسيّة تُلصَق بالمرء، ولو كان ذا جاهٍ أو مالٍ أو جمالٍ، وهو همّاز غمّاز لـمّاز بالنّظرة واللّفظ والإشارة في الحضور والغيبة، منّاعٍ للخير عن نفسه وعن غيره، مُعتَدٍ متجاوزٍ للحقّ والعدل والإنصاف، أثيم واقع في الآثام والذّنوب، عُتُلّ فظّ قاسٍ مكروه، يستمتع بزرع الأحقاد بين النّاس، نـمّام يُقَابِل هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ، مُتَلوِّن واشٍ يشتغل بعيوب غيره، إن علم خيراً أخفاه، وإن علم شرّاً أفشاه، وإن لم يكن تجده يكذب ويختلق الشّائعات، وهو فوق ذلك كلّه: ﴿زَنِيمٍ، من أراذل القوم، لو فتّشت في حقيقته ستجده لا أب له معروف، مُلصَق بالقوم وليس منهم، وكأنّه صدر في هذه الصّفات كلّها عن أصله الوضيع.

الآية رقم (14) - أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ

أصله هذا ليس له علاقة بــ ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، فالله تعالى جمع له بين المال والبنين، والحقّ تعالى يقول: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ[المؤمنون]، أيظنّون أنّ هذا خير لهم، لا، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغياناً، فلا تُطعه ليساره وما عنده، ولا تُطعه وإن كان ذا مالٍ وبنين، وقد قيل: إنّ المقصود هنا هو الوليد ابن المغيرة، حيث كانت له حديقة بالطّائف، وله اثنا عشر ابناً، ولكنّ ماله وأبناؤه لم يجعلاه ينفكّ عن أصله الزّنيم، فجاءت صفاته مناسبة لأصله الوضيع، وقد قال رسول الله ﷺ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَيُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ عز وجل بِعِقَابٍ»([1])، حتّى أنّ عكرمة قال: “إذا كثر ولد الزّنا قحط المطر”، وقد قال تعالى في سورة المدّثّر: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا [المدّثّر]، بسطت له في المال والولد، ثمّ يرجو أن أزيده في ماله وولده، كلا لا أزيده، بل أقطع ذلك عنه وأهلكه، ثمّ منعه الله تعالى المال فلم يُعطه شيئاً حتّى افتقر.

([1]) مسند الإمام أحمد: مسند النّساء، حَدِيثُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ زَوْجِ النَّبِيِّ ,، الحديث رقم (26831).