الآية رقم (2) - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ

الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة، ولذلك لنا أن نتصوّر أنّ للموت حقيقة، فإذا ما تسلّل للإنسان فإنّه يسلب الرّوح منه.

وبذلك نستطيع أن نفهم قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾، فالموت ليس عمليّةً سلبيّةً كما يتوهّم بعض النّاس، بل هو عمليّةٌ إيجابيّة، وهو مخلوقٌ بسرٍّ دقيق للغاية يناسب دقّة الصّانع.

والحقّ سبحانه وتعالى هنا قدّم الموت على الحياة، مع أنّنا في ظاهر الأمر نرى أنّ الحياة تأتي أوّلاً ثمّ يأتي الموت، لا، إنّ الموت يكون أوّلاً، ومن بعده تكون الحياة، فالحياة تعطي للإنسان ذاتيّةً ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته، ويمتّع به سمعه وبصره فيظنّ أنّ الحياة هي المخلوقة أوّلاً.

ينبّهنا الله سبحانه وتعالى هنا ويقول: لا تستقبلوا الحياة إلّا إذا استقبلتم قبلها ما يناقضها، وبما أنّ الإنسان خُلق فهو ميّت، فيقول لنا عن نفسه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾، وهذا ما يسهّل علينا فهم الحديث القدسيّ الشّريف الّذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار، ويأتي الحقّ سبحانه وتعالى بالموت في صورة كبش ويذبحه، فعن أبي هريرة t قال، قال رسول الله ﷺ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَطَّلِعُونَ مُسْتَبْشِرِينَ فَرِحِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا: خُلُودٌ فِيمَا تَجِدُونَ، لَا مَوْتَ فِيهَا أَبَداً»([1])، وتجسيد الموت في صورة كبش كما جاء في الحديث معناه أنّ للموت كينونة،  فيعلّمنا الله سبحانه وتعالى أنّه يقضي على الموت فنحيا في خلودٍ بلا موت.

والله سبحانه وتعالى هو الّذي خلق الموت والحياة وهو الباقي الّذي لا يموت، وليس في حاجةٍ لاستبقاء حياته إلى أحدٍ من البشر؛ فهو سبحانه وتعالى قادرٌ على كلّ شيءٍ ولا يَخرُجُ شيءٌ عن نطاق قدرته، وهو سبحانه وتعالى قبل أن يمتنّ علينا بالحياة، فهو يحذّرنا أن يأخذنا الغرور بها، وينبّهنا إلى أن نستقبلها ونحن نعرف أنّه جل جلاله أوجد ناقض الحياة، وهو الموت، والله سبحانه وتعالى لم يقل: إنّه خلق الحياة والموت، بل قال: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾، وذلك حتّى نستقبل جميعاً الحياة وقد سبق في أذهاننا الموت، وحتّى لا نتعالى ونتغافل عن هذه النّهاية، فلنرتّب حركة الحياة على هذا الأساس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، وقال جل جلاله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران]، وكان نقش خاتم سيّدنا عمر t: “كفى بالموت واعظاً يا عمر”([2])، وقال سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه: “النَّاسُ نِيَامٌ، فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا”([3])، وممّا قيل عن الموت:

نسير إلى الآجال في كلّ لحظةٍ
ولم أَرَ مثلَ الموتِ حقّاً كَأنّما
وما أصعب التّفريط في زمنِ الصِّبا
تَرَحَّلْ من الدُّنيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى                     .
وأعمَارُنا تُطوى وهُنَّ مَرَاحِلُ
إذا ما تخَطّته الأمَانيُّ بَاطِلُ
فكيفَ بِهِ والشَّيبُ للرّأسِ شَامِلُ
فَعُمرُكَ أيّــــــامٌ وَهُنَّ قلائلُ
.

هذه حقيقة الموت، وقد كان سيّدنا عمر بن عبد العزيز يقول: “يا ساكن القبر غداً، ما غرّك من الدّنيا، هل تعلم أنّك تبقى أو تبقى لك؟! جاء الأمر من السّماء، جاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر الأجل ما يمتنع منه، هيهات، يا مغمض الوالد والولد والأخ ومكفّنه، يا مغسّل الميت ومخلّيه، يا تاركه وذاهباً عنه، ماذا تقول لملك الموت؟”، فهذا أمرٌ منتهٍ، وكلّنا يرى بعينه: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه]، من التّراب وإلى التّراب، هذه حقيقة:

إنَّ الطّبيبَ لهُ علمٌ يُدِلُّ بِه
حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه                     .
إن كان للمرءِ في الأيّامِ تأخيرُ
حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ
.

انتهى أمر الأجل، مهما بلغ الإنسان من مال وسطوة وسلطان…

هَبْ أنّك قد ملكت الأرض طُرّاً
أليس غداً مصيرك جوف قبرٍ                     .
ودانَ لك البلاد فكان ماذا؟!
ويحثو التّرب هذا ثمّ هذا؟!
.

وكان سيّدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول: “مسكينٌ ابنُ آدَمَ، مَكتومُ الأجل، مَكنونُ العِلَل، محفوظ العمل، تؤلِمه البقَّة، وتقتله الشَّرْقَةُ، وَتُنتِنهُ العَرْقَة، عجبت كيف يفرح بالدّنيا مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح بالدّنيا مَن تقوده حياته إلى موته ويقوده عمره إلى أجله”. هذه هي حقيقة الحياة والموت، ليس هذا الكلام لكي يزهد الإنسان وينتظر الموت، بل ليجعل حساباته صحيحة ودقيقة، ولينظر بأنّ هذه الحياة لها نهاية، وأنّ الصّورة لم تكتمل، وأنّه عليه أن يصبر، ويتوقّع الابتلاءات والأمراض والموت، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة]، لماذا قدّم الله سبحانه وتعالى الصّبر؟ لأنّ هذه الحياة فيها موتٌ وأمراضٌ وابتلاءات، ولا يستطيع إنسان أبداً مهما حاول أن يُبعد الابتلاءات عن حياته، مهما بلغ من شأنه، فعندما تكون معادلة الحياة أمامنا هكذا فالإنسان يُحسن العمل والأخلاق، فلا يسرق ولا يرتشي ولا يكذب ولا ينمّ.. ويُحبّ الآخرين ويتقبّلهم، ويعيش بأمنٍ واطمئنان وسلامٍ ورضىً بقضاء الله سبحانه وتعالى، فيكون إصلاح الحياة بفكرة الموت في معادلة الحياة، وهي موجودة، فهل استطاع أحدٌ أن يؤخِّر إنساناً عن الموت ولو للحظة واحدة؟! قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[الأعراف: من الآية 34]، فهذا الأمر محسوم، فلماذا لا يكون الإنسان كما قال بعضهم: “اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً”؟!، وقد بيّن لنا القرآن الكريم ذلك فقال: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: من الآية 77]، هذا اختصار المعادلة كلّها الّتي يجب أن يعيش الإنسان من خلالها.

﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: وجودنا في الحياة هو ابتلاء، فالإنسان يحاسب على عمله، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النّجم]، فالإنسان على عمله، والإنسان بما يقدّم في حياته الدّنيا من عمل، ويصل بها إلى رحمات الله سبحانه وتعالى.

﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾: العزيز؛ أي المستغني عن عبادة خلقه، فالله سبحانه وتعالى لا يضرّه كُفْرُنَا ولا ينفعه إيمانُنَا، ولكن هي أعمالنا يحصيها لنا، وفي الحديث القدسيّ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»([4])، فهو مستغنٍ عن عبادة خلقه، ولولا مغفرته لذنوب عباده ما دخل أحدٌ الجنّة، قال ﷺ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»([5])، فمن صفاته سبحانه وتعالى بأنّه غفورٌ، وأنّه يجازي الإنسان على عمله، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزّلزلة]، فهو العزيز الغالب القادر لا يستطيع أحدٌ أن يعلو عليه، وهو سبحانه وتعالى العزيز المطلق، لا إله إلّا هو: ﴿ رَبِّ الْعِزَّةِ ﴾ [الصّافّات: من الآية 180]، العزّة في كلّ ألوانها له سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى الغفور؛ لأنّه سبحانه وتعالى بعزّته يغفر ويصفح عن المذنبين: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[المائدة].

([1]) سنن ابن ماجه: كتاب الزّهد، بَابُ ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ، الحديث رقم (4327).

([2]) موطّأ الإمام مالك: رجال الموطّأ، عمر بن الخطّاب t، الحديث رقم (266).

([3]) كشف الخفاء ومزيل الإلباس: المجلّد الثّاني، حرف النّون، الحديث رقم (2795).

([4]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).

([5]) صحيح البخاريّ: كتاب المرضى، بَابُ تَمَنِّي الـمَرِيضِ الـمَوْتَ، الحديث رقم (5673).

الآية رقم (3) - الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ

﴿الَّذِي خَلَقَ﴾: الله تعالى هو الإله الخالق للكون، وهو تعالى الخالق البديع الحكيم الرّحيم بعباده، وهو الخالق لكلّ ما في السّموات والأرض، ومنزّه عز وجل عن أن يكون له شريكٌ فيما خلق فهو ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾.

والله تعالى خالقٌ، ورحمنٌ، ورحيمٌ، وقهّارٌ، وهو خالق حتّى قبل أن يظهر ما خلق؛ لأنّه بصفة الخالقيّة فيه خَلَقَ، وهو رازقٌ قبل أن يخلق المرزوق، فالصّفة موجودةٌ فيه قائمةٌ به، ونقول نقاشاً: بوجود هذه الصّفات فيه تعالى يقول للشّيء: ﴿كن﴾ فيكون، وإذا جاء الرّسول وأبلغنا أنّ الله تعالى هو الّذي خلق الشّمس، فإمّا أن يكون صادقاً فنسلّم جميعاً بأنّ الله هو الخالق والموجد، وإمّا أنّه غير صادق، فنقول: فلماذا لم يخرج أحدٌ يدّعي أنّه هو الّذي خلقها؟! ولكن دقّة وإعجاز الخلق الّذي لا يمكن أن تصل إليه قوّةٌ بشريّةٌ مفردة، أو قوى بشريّة متعدّدة متعاونة، جعل القضيّة -بالنّقاش الفلسفيّ- محسومة لله تعالى، بما أنّه لا يوجد منازع، وعندما يأتي رسولٌ ليقول: إنّ خالق الأرض والشّمس والسّموات والكون هو الله تعالى، ولم يأت أحدٌ يدّعي أنّه خلق شيئاً من هذا، فصحّة الدّعوى تبقى حتّى يأتي من ينقضها، فالله تعالى قوّةٌ بلا حدود، وقدرةٌ بلا قيود، والله تعالى يسأل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطّور]، فإذا كان الجواب: لا هذا ولا هذه، فلا هم خُلِقوا هكذا من غير شيءٍ ولا هم الخالقون، وأبلغنا الله تعالى: بأنّه خلقنا وخلق الكون، وبيّن ذلك في كثيرٍ من الآيات القرآنيّة الّتي تتوافق مع العلم، ولله تعالى آياتٌ في كونه، فحينما نتأمّل في الكون من حولنا نجد آياتٍ تدلّ على إبداع الخالق تعالى وعجيب صنعته، ونجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونيّة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصّلت: من الآية 37]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ [الشّورى]، وهذه الآيات وغيرها تلفتنا إلى قدرة الله الخالق تعالى.

والخالق جلّ وعلا خلق الكون بأرضه وسمائه، وخلق الخلق، وأنزل القرآن الكريم، ولم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكيّاً، ولم ينعزل عن كونه وعن خلقه؛ لأنّهم في حاجةٍ إلى قيّوميّته تعالى في خلقه.

وقد يشترك الخلق مع الخالق في بعض الصّفات، كما في قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 14]، فهناك من يخلق، ولكنّ الخلق هو الإيجاد من عدم، وهو لله تعالى فقط، فالّذي جاء بالرّمل وصنع منه كوباً فهو خالقٌ للكوب صانعٌ له، أوجد شيئاً لم يكن موجوداً، لكن من شيءٍ موجود، أمّا الله تعالى فأوجد الوجود من لا موجود، والله تعالى احترم إيجاد الإنسان فسمّاه خالقاً له، فهو تعالى أحسن الخالقين، وخير الرّازقين، وخير الوارثين، وخير الماكرين، ومن الأولى أن نلتفت إلى الخالق العظيم الّذي أبدع لنا هذا الكون، وإلى بديع صنعه، وضرورة الإيمان به، فالله تعالى خلق لنا السّموات والأرض، وأوجد لنا الماء والهواء، ووضع في الأرض أقواتها إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر]، ولذلك عندما جاء الإسلام ليعرض العلم التّجريبيّ أو المادّيّ لفتنا إلى آيات الخالق في الكون، وطلب منّا أن نتأمّل في هذه الآيات ونُعْمِلَ فيها العقل والإدراك، يقول تعالى﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف]، فيلفتنا الله عز وجل إلى آياته لنُعمل فيها العقل ونستنبط منها ما يعطينا الحضارة، والله تعالى خلق السّموات والأرض على غير مثالٍ سابق، قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: من الآية 117]؛ أي لم يكن هناك سماءٌ أو أرضٌ أو ملائكة أو جنّ أو إنسان، ثمّ أوجد الله تعالى متشابهاً لهم في شكل أو حجم أو قدرة؛ أي: أنّه تعالى لم يلجأ إلى ما نسمّيه نحن بالقالب، فمسألة خلق السّموات والأرض يجب أن يبدأ منها التّعجّب، وأن نفطن ونشهد أنّه لا إله إلّا الله.

﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾:: وكلمة السّموات في اللّغة جمع، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصّلت]، وقديماً كانوا يقولون: إنّ المقصود بالسّبع سموات هو الكواكب: الشّمس والقمر وعطارد والزّهرة والمرّيخ والمشتري والأرض، وشاء تعالى أن يكذّب هذا القول وأصحابه أحياء، فرأى علماء الفلك كواكب أخرى، مثل: نبتون وبلوتو… وكان في ذلك لفتة سماويّة لمن قالوا: إنّ المقصود بالسّموات السّبع هو الكواكب، وبعضهم قالوا هذا القول بحسن نيّة وبرغبةٍ في ربط القرآن الكريم بالعلم، لكنّهم نسوا أن يدقِّقوا الفهم لما في كتاب الله عز وجل، فسبحانه قد أوضح أنّ الشّمس والقمر والكواكب زينة السّماء الدّنيا، فما بالنا بطبيعة وزينة بقيّة السّموات؟ ويقول الحقّ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 17]، وطرائق: جمع طريقة؛ أي: مطروقة للملائكة، والشّيء المطروق ما له حجم يتسّع بالطّرق، كما تطرق قطعة من الحديد مثلاً، فلننظر إلى السّماء واتّساعها ولنَقُل: سبحان من طرقها، ونلحظ أنّ الله تعالى لم يذكر هنا الأرض، لماذا؟ قالوا: لأنّ الأرض نقف عليها ثابتين لا نخاف من شيءٍ، إنّما الخوف من السّماء أن تندكّ فوقنا، لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 17]، فلن نغفل عن السّماء من فوقكم وسوف نُمسكها بأيدينا، والحقّ تعالى يعطينا الدّليل الحسّيّ على هذا، وكيف أنّ الله تعالى رفع السّماء فوقنا بلا عمد، ومثال ذلك الطّير يُمسكه الله تعالى في السّماء: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك].

والسّماء: هي كلّ ما علاك فأظلّك، هذا معنى السّماء في اللّغة، لكن هل السّماء الّتي يريدها الله تعالى هي كلّ ما علانا؟  إنّ النّجم هو ما علانا، وقد يُقال: إنّ الشّمس علتنا والقمر كذلك.

وقد خلق الله تعالى السّموات طبقات فوق بعضها، والحقّ تعالى يقول: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق]، يعني: طبقاً بعد طبق، فلا يرى النّاظر أيّ خللٍ في هذا الخلق، وليُعِد الإنسان النّظر إلى السّماء فلن يجد أيّ خلل من شقوق أو فروق.

﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ ﴾: فبرحمته تعالى خلق الكون على هذه الكيفيّة، فأتى الحقّ تعالى بالاسم الذّي كان يجب أن نقدّره حقّ قدره وهو (الرّحمن)، فنحن نعيش في كونه الّذي أعدّه لنا برحمته.

﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾: انظر إلى أمهر الصّنّاع الآن يسوّي سقفاً لعدّة حجرات ويستخدم مادّةً واحدةً، ويلوّنها بلونٍ واحدٍ، لا بدّ أن تجد اختلافاً من واحدة للأخرى.

وقوله تعالى: ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾: من أيّ اختلاف.

فنحن لا نرى في خلق الله عز وجل اختلافا في الخلقة والصّنعة، فهي مستوية لا تنافر فيها ولا نقص ولا عيب ولا خلل، ولا نرى في السّماء اضطراباً ولا اعوجاجاً.

﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾: فليعد الإنسان النّظر إلى السّماء مرّةً أخرى، وليس مجرّد النّظر، بل النّظر المقترن بالتّأمّل والتّفكّر في خلق الله تعالى، فهو بصر وليس نظراً حسّيّاً مجرّداً، لذلك قال تعالى:  ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾.

وقد نظنّ أنّ بعض الألفاظ معناها واحدٌ في الجملة، إلّا أنّ لكلّ لفظٍ منها ملحظاً، فمثلاً: رأى، نظر، لمح، رمق، رنا.. كلّ هذه تدلّ على البصر والرّؤية؛ لكن لكلّ لفظ معنى: فـــ: رمق: رأى بمؤخّر عينه، ولمح: شاهد من بعد، رنا: نظر بإطالة… وهكذا. والبصر مهمّة العين في الأمور الحسّيّة، لكن عندما يقترن البصر بالبصيرة فيضيء القلب بالنّور حتّى يصل ببصره إلى إدراك أنّ خلق الله تعالى لا يعتريه تفاوتٌ ولا خلل، فمَنْ وهبه الله عز وجل دقّة العلم يرى يإشعاعات البصر والعلم عالم الملكوت، ويستخرج الأسرار ويستنبط الحقائق.

﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾: فليُعد الإنسان النّظر إلى السّماء مرّة أخرى فلن يجد أيّ خلل من شقوق أو فروق.

﴿ فُطُورٍ ﴾: هنا معناها شقوق.

فالسّماء العليا هي بشكلٍ واحدٍ لا ترى فيها من فطور، والحقّ تعالى قد أحكم خلق السّماء، فقال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذّاريات]، وفي آيةٍ أخرى قال عز وجل: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾ [الذّاريات]، يعني محبوكة ومحكمة، والحبكة معناها أنّ ذرّاتها ملتحمة مع بعضها، ليس التحاماً كلّيّاً، إنّما التحام ذرّات، لذلك ترى السّماء ملساء، وقد قال عنها الخالق عز وجل: ﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾ [النّازعات]، وعلينا أن ننظر إلى السّماء حال صفائها وسوف نراها ملساء لا نتوء فيها ولا اعوجاج على اتّساعها، هكذا قائمة بلا عمد. ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾: ، إنّه نظامٌ دقيقٌ مُحكم، لا دخل للإنسان فيه.

اصنعوا ميزاناً في الأمور كلّها الّتي لكم فيها اختيار حتّى لا تطغوا في الميزان، فكمال قدرة الله تعالى أحكمت خلق السّماء، ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴾ [الرّحمن]، هذا ميزان السّماء فليستقم وليتوازن ميزان الأرض.

الآية رقم (4) - ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ

﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾: أعد البصر مرّة بعد أخرى، فانظر هل ترى من فطور أو تفاوت أو خلل؟ فإن لم تستدرك التّثبّت والتّأمّل بالمرّة الأولى فردّ البصر مرّة أخرى مستقصياً، وردّ البصر مرّة أخرى بعد مرّة؛ لأنّنا إذا نظرنا عدّة مرّات فلا بدّ أن ينقلب إلينا البصر خاسئاً؛ أي: كليلاً ضعيفاً لا يقوى على مواجهة الضّوء الشّديد، كما لو واجهت بعينيك ضوء الشّمس، فإنّه يمنعك من الرّؤية؛ لأنّ الضّوء الأصل فيه أن نرى به ما لا نراه.

﴿ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا ﴾: أي: يرجع إليك البصر ﴿ خَاسِئًا ﴾؛ أي: صاغراً بمنزلة الخاسئ، وهو المطرود الذّليل المبعد عن أن ينظر باستدامة، فالخاسئ الّذي لم ير ما يهوى، فهو خاسئ ولم يحصل له ما طلب من رؤية التّشقّق والخلل.

﴿ وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾: ولن ينقلب ويرجع إليك البصر خاسئاً فقط، بل سينقلب ﴿ وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾؛ أي: كليل ضعيف عن تحمّل الضّوء، والحسرة: شدّة التّلهّف على الشّيء الفائت.

الآية رقم (5) - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ

﴿ وَلَقَدْ ﴾: (قد): حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر، وهو حرف يدخل على الفعل، ويدخل على الماضي والمضارع، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ ﴾ الواو استئنافيّة، واللّام واقعة في جواب القسم، و(قد) حرف تحقيق.

﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾: والله سبحانه وتعالى قد زيّن السّماء الدّنيا بمصابيح، والمصابيح هي النّجوم، ونحن نذهل عندما نعرف أنّ بعض النّجوم يصل ضوؤها إلينا في خمسين سنة ضوئيّة، وعندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النّجوم فلسوف نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الأصفار أمام رقم ما، وقد وضع علماء الفلك وحدة ملائمة لقياس أبعاد النّجوم، وهي ما سمّوه السّنة الضّوئيّة، ونحن نعرف أنّ سرعة الضّوء حوالي ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثّانية. والشّمس كنجم مضيء كبير بيننا وبينها ثلاثة وتسعون مليوناً من الأميال، ويصلنا ضوؤها في خلال ثماني دقائق وثلث الدّقيقة، والشّعرى، وهي ألمع نجوم السّماء يصل إلينا ضوؤها في تسع سنوات ضوئيّة.

والله سبحانه وتعالى قد أوضح أنّ الشّمس والقمر والكواكب زينة السّماء الدّنيا، فما بالنا بطبيعة وزينة بقيّة السّموات؟ وهذه المصابيح والنّجوم والكواكب هي الزّينة المدلّاة من السّماء الدّنيا، تضيء لنا ولكنّها ليست السّماء الدّنيا، والله عز وجل يقول: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ [فصّلت: من الآية 12]، فأين السّماء الدّنيا من النّجوم المضيئة الّتي نشاهدها؟ وبيننا وبين الشّمس ثماني دقائق ضوئيّة، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مئة سنة ضوئيّة، وبيننا وبين المجرّة مليون سنة ضوئيّة، ولنا أن نضرب مليون سنة في ٣٦٥ يوماً، ونضرب النّتائج في ٢٤ساعة، ونضرب النّتائج في ٦٠ دقيقة، ثمّ في ستّين ثانية، ثمّ نضرب النّتائج من ذلك في ٣٠٠ ألف كيلو، ثمّ نتأمّل الرّقم الّذي وصلنا إليه.

والشّمس هي أكبر نجم تزيّن سماءنا، يستفيد منه الخلق كلّهم، المؤمن والعاصي، والكافر والمشرك، فإذا غابت الشّمس نجد كلّ واحد منّا يستعين بنورٍ يعطيه الضّوء في حيّز محدود وعلى قدر إمكاناته، فواحد يوقد شمعة، وواحد يأتي بمصباح صغير، وواحد يستخدم الكهرباء، وآخر يأتي بالعديد من مصابيح الكهرباء ليملأ المكان بالنّور، كلٌّ على قدر إمكاناته، فإذا طلعت شمس الله عز وجل فهل يُبقِي أحدٌ على مصباحه مُضاءً؟ بالتّأكيد لا؛ لأنّ شمس الله سبحانه وتعالى قد سطعت تنير للجميع، ذلك هو النّور الحسّيّ، والفرق بين نورٍ بقدرات الإنسان ونورٍ من خلق ربّ الإنسان يتمثّل في أنّ النّور الّذي من خلق الله عز وجل يُطفِئ المصابيح كلّها؛ لأنّه يغمر الجميع. والله سبحانه وتعالى لم يجعل النّجوم مجرّد مصابيح تزيّن السّماء فقط، بل جعلها علامات يهتدي بها النّاس، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النّحل]، ونعلم أنّ كلّ من يسير في البحر إنّما يهتدي بالنّجم، وكذلك في الصّحراء، وقد كانت لقريش رحلتان في العام، رحلة الشّتاء ورحلة الصّيف، حيث يسلكون سبلاً متعدّدة مهتدين بالنّجوم، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام]، وقد جعل الله سبحانه وتعالى النّجوم ليهتدي بها هؤلاء الّذين يسهرون أو يضربون في الأرض أو يمشون في البحر بسفنهم، وهم يحتاجون إلى ضوءٍ قليل ليهديهم، ولكنّ النّجوم ليست فقط للاهتداء في ظلمات البرّ والبحر؛ لأنّه لو كان هذا القصد منها لكانت كلّها متساوية في الأحجام، لكنّنا نرى نجماً كبيراً وآخر صغيراً، وقد يكون النّجم الصّغير أكبر في الواقع من النّجم الكبير لكنّه يبعد عنّا بمسافة أكبر، وإنّما قد جعل الله سبحانه وتعالى للنّجوم مهمّة جماليّة، وهي أن تكون زينة لكلّ من ينظر إليها، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الحجر: من الآية 16]؛ ذلك أنّ الشّيء قد يكون نافعاً، لكن ليس له قيمة جماليّة، والجمال قيمة ونعمة ينعم الله سبحانه وتعالى بها على النّاس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [النّحل: من الآية 8]، وقال عن الدّوابّ: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾[النّحل]، فهناك أغراض متعدّدة بيّن الله سبحانه وتعالى بعضها، وبعضها الآخر لم يُبيّنه، والله سبحانه وتعالى بتزيين السّماء الدّنيا بمصابيح يشيع نعمه جل جلاله على خلقه، فالله سبحانه وتعالى يعطي فائدة حمل الأثقال لمن يملك الأثقال، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النّحل]، أمّا الّذي لا يملك الأثقال فهو يرى الحصان يسير بجمال فيسعد برؤيته فيستمتع بما لا يملك، وهذه إشاعة لنعم الله تعالى على خلقه.

﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾: هناك مهمّة أخرى، وهي مهمّة كبيرة جدّاً، تغفلون عنها، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾[الصّافّات]، فحين ننظر إلى السّماء ليلاً نجدها مزدانة بالنّجوم تتلألأ، والحقّ سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾، ويقول جل جلاله: ﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصّلت: من الآية 12]، فالله سبحانه وتعالى جعل المصابيح الّتي زيّن بها السّماء الدّنيا رجوماً للشّياطين تُرجم بها. ﴿ وَحِفْظًا ﴾؛ أي: حرساً من الشّياطين أن تستمع للملأ الأعلى.

﴿ وَجَعَلْنَاهَا ﴾: يعود على جنس المصابيح لا على عين المصابيح؛ لأنّه لا يرمى بالكواكب الّتي في السّماء، بل يرمى بشهب من دون الكواكب، وقد تكون مستمدّة منها.

فالسّماء الدّنيا كالسّقف المرفوع المزيّن بمصابيح معلّقة به، وقد وصف الله تبارك وتعالى هذه النّجوم بأنّها مصابيح ملحوظ فيها إضاءتها، تُعطي ضوءاً، أمّا القمر فيعطي نوراً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: من الآية 5]، وقال جل جلاله: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾  [نوح]، فالشّمس تعطي ضياءً؛ ولذلك فهي سراجٌ، والفرق بين الضّياء والنّور يتمثّل في أنّ الضّياء تصحبه الحرارة والدّفء، أمّا النّور فهو ضوءٌ ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلّا حين يكون الضّوء ذاتيّاً من المضيء مثل الشّمس، أمّا القمر فنوره غير ذاتيّ ومُكتَسب من أشعّة الشّمس حين تنعكس عليه، فهو مثل المرآة حين تسلّط عليها بعضاً من الضّوء فتعكسه.

والرّجوم والرّجم هي الشّهب الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى مرامي للشّياطين، فالشّياطين لا يُرمَون بالنّجوم نفسها إنّما بشهبٍ أُخذت من النّجوم، وما ذاك إلّا كقبسٍ يؤخَذ من نار، والنّار في مكانها، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ [طه]، سيأتيهم بقبسٍ من النّار؛ والقبس هو الشّعلة الّتي تُتَّخذ من النّار، فتأخذ منها عوداً مشتعلاً مثل الشّمعة، وتبقى النّار كما هي.

﴿رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾: كان للشّياطين قبل نزول القرآن الكريم مقاعد للسّمع في السّماء، تقعد فيها لتستمع إلى ما ينزل من السّماء إلى الأرض ليتمّ تنفيذه، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾ [الجنّ]، فيسترقون السّمع ويأخذون بضعاً من كلمات المنهج، ثمّ يزيدون عليها فتبدو بها حقيقة واحدة وألف كذبة، ولذلك نجد الشّياطين تقول ما ذكره الله تعالى على ألسنتهم في كتابه العزيز: ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾  [الجنّ].

﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ أي: أعددنا للشّياطين في الآخرة عذاب السّعير، فرجمهم بالشّهب هو في الدّنيا، وعذاب السّعير هو عذابهم في الآخرة.

والمقصود بالشّياطين مردة الجنّ، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾[الصّافّات].

﴿السَّعِيرِ﴾: اسمٌ من أسماء الجحيم، وقسمٌ من أقسام النّار، فهناك لظى، وهناك الحطمة، وهناك سقر، وهناك الهاوية، والسّعير هي النّار المتوهّجة الّتي لا تخمد ولا تنطفئ، فالسّعير اسمٌ للنّار المسعورة.

الآية رقم (6-7') - وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ () إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ

﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ : وإذا كان للشّياطين عذاب السّعير فإنّ للّذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم الّذي يبدأ بسماع شهيق جهنّم في أثناء فورانها.

﴿ سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ﴾: الشّهيق: هو قوّة تجذب وتسحب الهواء إلى الأنف والصّدر، فما بالنا بقوّة شهيق جهنّم وهي تجذب وتسحب الّذين وقع عليهم الأمر بالعذاب من الّذين كفروا بالله سبحانه وتعالى؟! وهذه النّار نفسها تردّ على سؤال الحقّ لها عندما تسمع قوله جل جلاله: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق]، فقوّة العذاب الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى مَهمّة لجهنّم هي الّتي تلحّ وتندفع لطلب المزيد من عقاب الكافرين، ولأنّ للنّار شهيقاً فهي تستنشق المكتوب عليهم العذاب، والشّهيق يتمّ بسرعة أكبر من الزّفير، فهي تشهق لتبتلع العصاة، وقد اشتاقت لأهلها الكفّار وانتظرتهم وتلهّفت عليهم، كما يقول سبحانه وتعالى﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴾ [ق]، وكما للنّار شهيقٌ فإنّ لها زفيراً أيضاً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾ [الفرقان]، والزّفير: النّفس الخارج، ومن يدخل النّار سيكون له شهيقٌ وزفيرٌ أيضاً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾[هود: من الآية 106]، ونحن نعلم أنّ الّذي يتنفّس في النّار سيخرج الهواء من صدره ساخناً مثلما يأخذ الشّهيق ساخناً، فكيف سيكون الأمر؟!

﴿ وَهِيَ تَفُورُ ﴾: ومعنى كلمة: ﴿ تَفُورُ ﴾؛ أي: أنّها وصلت إلى درجة الغليان كالماء، والماء يحتوي على هواء، بدليل أنّ السّمك يتنفّس من الماء، وحين نغلي الماء نرى فقاقيع الهواء، وهي تخرج من الماء.

﴿ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ﴾: فهم عند إلقائهم في النّار يسمعون للنّار شهيقاً وهي تلتهمهم وتبلعهم، كأنّها عمليّة شفط لهم.

فالمشهد مريع، وكيف تبتلع وكيف تغلي وكيف تفور؟! وقد وصف الحقّ تبارك وتعالى هذا المصير، فقال:

﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾: والمصير: هو المرجع الأخير لأيّ شيء، وهنا معناها؛ أي: ساءت نهايتكم ومرجعكم، ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [المائدة]، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾؛ أي عذابٌ دائمٌ، فإن كان العذاب أليماً يبقى الألم على شدّته ولا يخفّف أبداً، وإن كان مهيناً تبقى الإهانة مستمرّة ولا تزول أبداً، وفي كلتا الحالتين هو عذابٌ فيه إقامة، وفيه دوامٌ واستمرارٌ.

الآية رقم (8) - تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ

﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾: النّار من فورانها وغليانها وشهيقها وزفيرها ﴿تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾  تتميّز من الغيظ على الكافرين، مثلما ترى قدراً يفور ويغلي ما فيه، فبعض الفقاقيع تخرج منه وتنفصل عمّا في القدر.

والإنسان منّا عندما يكون في حالةٍ من الغيظ تخرج منه وتنفصل عنه أشياء كفقاقيع غليان القدر، إنّه يرغي ويزبد؛ أي: يشتدّ غضبه، وهذه الفقاقيع من شدّة فورانها تتميّز وتنفصل عن بعضها وتنفصل عن القدر، كذلك النّار تتميّز من الغيظ، وتؤدّي مهمّتها بغيظٍ؛ لأنّ الكافر من هؤلاء لم يعرف قيمة الإيمان، فالنّار مغتاظةٌ منهم، تتأهّب لهم وتنتظرهم، وما دام الغيظ فوق تحمّل النّفس وسعتها فلا بدّ أن يشعر الإنسان بالضّيق وأنّه يكاد ينفجر.

فمعنى: ﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ ﴾؛ أي: تكاد أبعاضها تنفصل بعضها عن بعض، والغيظ هو انفعالٌ محبوسٌ في الصّدور، وهو حالة غليان بالغضب أو القهر. فالغيظ نوعٌ من الغضب مصحوبٌ ومشوبٌ بحزنٍ وأسى وحسرة، والغيظ يقع للمؤمن والكافر، فحين نرى عناد الكفّار وسخريتهم واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ، لكنّ الله سبحانه وتعالى يُذهِب غيظ قلوبنا.

﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ﴾: أهل النّار إنّما كانوا يلقون في النّار فوجاً وراء فوج، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ﴾ [ص].

﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾: خزنة جهنّم من الملائكة، مالكٌ وأعوانه، وهذا السّؤال نفسه قد ساقه الله سبحانه وتعالى في آية سورة الزّمر، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الزّمر]. فـ ﴿خَزَنَتُهَا﴾؛ أي: خزنة النّار قالوا لهم على سبيل التّقريع والتّوبيخ: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ [الزّمر: من الآية 71]، هذا الاستفهام ألزمهم الحجّة وأفحمهم، فربّهم عز وجل لم يأخذهم على غرّة، إنّما أرسل لهم رسلاً، وهؤلاء الرّسل ﴿ مِنْكُمْ ﴾؛ أي: من جنسكم ومن أوسطكم، والأقرب إليكم لتسهل القدوة بهم.

وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾، والإنذارات الّتي تحدث للنّاس في حياتهم من تمام رحمة الله عز وجل بالخلق، والنّذير يكون شهيداً على أمّةٍ من الأمم أنّه بلّغها المنهج، ورسول الله ﷺ شهيدٌ على أمّته أنّه بلّغ.

والجنّ والإنس يرسل المولى سبحانه وتعالى لهم من يُنذرهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [الأنعام].

الآية رقم (9) - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ

فالحقّ سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُرْمٍ، وقبل أن يُـجَرِّم يُنزِل النّصّ بواسطة الرّسل؛ أي: أنّ الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، وإنّما هناك بلاغٌ، ولا عذر بعد البلاغ، فالحكمة من إرسال الرّسل إقامة الحجّة على الـمُرْسَل إليهم.

وهنا لـمّا سُئل الكافرون عن الإتيان بهم والإلقاء بهم في النّار: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾، كان جوابهم:

﴿ قَالُوا بَلَى ﴾: و﴿ بَلَى ﴾: حرف جواب مثل (نعم) تماماً، ولكن ﴿ بَلَى ﴾ حرف جواب لإثبات ما بعد النّفي، فـ ﴿ بَلَى ﴾ تأتي بعد النّفي لإبطاله، فإذا قال إنسانٌ: ليس لك عندي شيءٌ، قلت: بلى، فمعنى ذلك أنّ لك عنده شيئاً.

﴿ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ﴾: هم يعترفون بأنّه قد جاءهم نذيرٌ ولكنّهم كذّبوا، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى إليهم الرّسول على فترةٍ حتّى يقطع عنهم الحجّة والعذر، فلا يقولوا: ﴿ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾ [المائدة: من الآية 19]، فقد جاءنا نذيرٌ فأنذرنا وخوّفنا وأخبرنا بهذا اليوم، فكذّبنا ذلك النّذير، وكذّبنا الرّسل، وأفرطنا في التّكذيب حتّى نفينا الإنزال والإرسال كلّه.

﴿ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾: التّكذيب مسألةٌ منكرة، وهو تأبٍّ من المكذِّب، والتّكذيب هو الصّدّ عن سبيل الله عز وجل.

وممّن قالوا: ﴿ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ بعضٌ من أهل الكتاب، ففي السّيرة نجد واحداً من الأحبار كان دائب الخوض في الإسلام، وكان اسمه: (مالك بن الصّيف)، والحَبر هو عالمٌ يهوديٌّ، والمفترض فيه أن يكون من الزّهّاد فيهم، منقطعاً للعلم، إلّا أنّه كان سميناً مع أنّ من عادة المنقطعين للعبادة والعلم أنّهم لا يأخذون من الزّاد إلّا ما يقيتهم، فلمّا علم رسول الله ﷺ أنّ مالك بن الصّيف يخوض كثيراً في الإسلام قال له: «أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى هل تجد فيها: إنّ الله يبغض الحبر السّمين؟!»([1])، فغضب، وقال: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾[الأنعام: من الآية 91]، يعني: ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ من الّذي أنت تقوله، وهكذا نعلم أنّ مثل هذا القول قد يأتي من أهل الكتاب، وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجالٌ من اليهود، وقالوا له: كيف تقول: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: من الآية 91]؟ فقال لهم: أغضبني محمّد، فرددت على الغضب بباطل، وهنا قال مَنْ سمعه من اليهود: فأنت لا تصلح أن تكون حبراً؛ لأنّك فضحتنا، وعزلوه، وجاؤوا بكعب بن الأشرف وولّوه مكانه.

ويحكم الله سبحانه وتعالى عليهم فيصفهم:

﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾: يعني: ما أنتم إلّا في ضلال كبيرٍ، واستخدام ﴿ إِنْ أَنْتُمْ ﴾ موجودٌ في القرآن الكريم كثيراً، لذلك قال جل جلاله لهم: ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾ ، والضّلال: هو أن تسلك سبيلاً لا يؤدّي بك إلى غايتك، فأهل الضّلال أغواهم ضلالهم فلم يعد لهم هاد.

والضّلال يأتي على معانٍ متعدّدة:

– فقد يأتي الضّلال مرّة بمعنى: الذّهاب والفناء في الشّيء، مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السّجدة].

– وقد يأتي الضّلال مرّة أخرى بمعنى: عدم اهتداء الإنسان إلى وجه الحقّ، كما قال سبحانه وتعالى واصفاً رسوله ﷺ: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضّحى]؛ أي: أنّك لم يعجبك يا محمّد منهج قريش في عبادة الأصنام، وظللت تبحث عن المنهج الحقّ إلى أن هداك الله سبحانه وتعالى فأنزل إليك هذا المنهج القويم، لقد كنت ضالّاً تبحث عن الهداية فجاءتك النّعمة الكاملة من الله جل جلاله.

– وهُناك لونٌ آخر من الضّلال: أن يتعرّف الإنسان على الحقّ لكنّه ينحرف عنه، ويتّجه بعيداً عن منهجيّته، وهذا الأمر يكون نابعاً من الأهواء الّتي تقود إلى الضّلال.

فالضّلال أن يسلك الإنسان سبيلاً غير موصلٍ للغاية، وكلّما خطا الإنسان خطوة في هذا السّبيل ابتعد عنها، وهذا الابتعاد عن الغاية هو الضّلال البعيد.

﴿ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾: أي ضلال عظيم كثير، فهم لم يكتفوا بمجرّد الضّلال، بل جعلوا ضلالهم كبيراً، وفي ذهابٍ عن الحقّ وبُعدٍ عن الصّواب كبير.

وبعض العلماء ذهب إلى أنّ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾، هو من قول الكافرين أنفسهم تكملةً لقولهم: ﴿ وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾، ثمّ يستطردون أنّهم خاطبوا رسلهم قائلين: ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾.

ثمّ يستطردون بكلامهم، فيقولون كما أخبرنا الحقّ سبحانه وتعالى:

([1]) كشف الخفاء ومزيل الإلباس: حرف الهمزة مع النّون، الحديث رقم (761)، قال: أخرجه الواحديّ في أسباب النّزول، وكذا الطّبرانيّ عن سعيد بن جُبير مرسلاً، وعزاه القرطبيّ أيضاً للحسن البصريّ.

الآية رقم (10) - وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ

أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله سبحانه وتعالى من الحقّ، وقال بعض العلماء: لو كنّا نسمع سمع من يعي ويتفكّر، أو نعقل عقل من يميّز وينظر ما كنّا من أهل النّار.

ووسائل الإدراك والهدى هي السّمع والعقل، فالسّمع لما أنزل الله عز وجل وما جاءت به الرّسل، والعقل ينتفع بما يسمع ويوقفه على حقائق الأشياء، أمّا هم فلا سمع لهم ولا عقل، فوسائل الإدراك عندهم تعطّلت، فآذانهم صُمَّت فهي لا تسمع منهج الحقّ، وألسنتهم تعطّلت عن نقل ما في قلوبهم، وأبصارهم لا ترى آيات الله عز وجل في الكون، فآلات إدراكهم لهدى الله سبحانه وتعالى معطّلة عندهم، لذلك وصف الحقّ سبحانه وتعالى الّذين كفروا فقال: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة]، فهناك شيءٌ قد سدّ منفذ السّمع فلا يسمع، ويسبّب الصّمم فهم بكم، فالإنسان إن لم يسمع فلن يتكلّم.

والعقل وُجِدَ ليفكّر به الإنسان، فإذا لم يفكّر تفكيراً سليماً منطقيّاً فكأنّ صاحبه لا عقل له، فالأصمّ حقيقة خير من الّذي يملك حاسّة السّمع ولا يفهم بها؛ لأنّ الأصمّ له عذره والأبكم كذلك، والمجنون أيضاً له عذره.

والفقه هو أن تفهم؛ أي: أن يكون عندك ملكة فَهم تفهم بها ما يُقال لك علماً، فالفهم أوّل مرحلة والعلم مرحلة تالية، فالفقه هو الفهم، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحجّ]، فهل يعقل الإنسان بقلبه، فنحن نعلم أنّ العقل في المخّ والقلب في الصّدر، فللإنسان وسائل إدراك هي الحواسّ الّتي تلتقط المحسّات كالعين واللّمس، فعندما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخّل العقل ليغربل هذه المدركات ويختار من البدائل ما يناسبه، وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضيّة تستقرّ في الذّهن وتقتنع بها، ولا تحتاج إلى إدراك مرّة أخرى، ولا لاختيار بين البدائل، فتعقد في القلب. وللعقل مهامّ أخرى غير أنّه يختار ويفاضل بين البدائل، فالعقل من مهامّه أن يعقل صاحبه عن الخطأ، ويعقله عن أن يشرد في المتاهات، وبعضهم يظنّ أنّ معنى عقل يعني حريّة الفكر، وأن يشطح المرء بعقله في الأفكار كيف يشاء، بالطّبع لا، العقل من عقال النّاقة الّذي يمنعها ويحجزها أن تشرد منك.

وهم؛ لأنّهم لم يكونوا يسمعون أو يعقلون أصبحوا في أصحاب السّعير، والشّيطان هو الّذي أوقعهم في هذا ودعاهم أن يكونوا من أصحاب السّعير، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر]، فستكون بينهم وبين النّار أُلفة، فهي تريدهم وتعشقهم حتّى صارت بينهما مصاحبة، ولكنّ الحقّ يقول هنا: ﴿ فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾، فلم يستخدم الحقّ سبحانه وتعالى كلمة: ﴿من﴾ ، بل استخدم ﴿فِي﴾، فكأنّ هؤلاء الّذين نتحدّث عنهم في وسط النّار، وأهل النّار محيطون بهم، فهم في المركز، هذا الفهم جاء من معنى: ﴿فِي﴾ هنا، لكن لماذا استحقّ هؤلاء أن يكونوا في الوسط وفي المركز وأهل النّار حولهم؟

الآية رقم (0) - تفسير سورة الملك

يُسمّى هذا الجزء جزء تبارك، نسبة إلى سورة الملك الّتي تبدأ بقوله سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهو الجزء التّاسع والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهو كبقيّة سور وآيات القرآن الكريم فيه العظمة والعطاء والسّعادة والسّرور والرّوح من خلال تدبّر آيات القرآن الكريم كما أمرنا المولى سبحانه وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص].

سورة الملك هي سورةٌ مكّيّة، عدد آياتها ثلاثون آية، نزلت بعد سورة الطّور، وتسمّى الواقية والمنجية، والدّافعة، عن ابن عبّاس 8 قال: قال رسول الله ﷺ: «وَدِدْتُ أَنَّ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ»([1])، وعن أبي هريرة t أنّ رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً، شَفَعَتْ لرَجُلٍ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ وَأدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ»([2])، وعنه قال: قال ﷺ: «إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([3])»، وقد ورد أنّ النّبيّ ﷺ كان يقرأ السّجدة وسورة الملك قبل النّوم.

([1]) الجامع الصّغير وزيادته: ج1، الحديث رقم (14275).

([2]) المنتخب من مسند عبد بن حميد: مج2، مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ t، الحديث رقم (1443).

([3]) صحيح ابن حبّان: باب قراءة القرآن، ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، الحديث رقم (787).

الآية رقم (1) - تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

الملك لله وحده ليس لأحدٍ غيره، وهو سبحانه وتعالى قديرٌ على كلّ شيء، كنّا عَدَماً فأحيانا الله سبحانه وتعالى في كوْنٍ هو سبحانه وتعالى خالقه، وأعدّه لنا قبل أن يخلقنا.

وسورة تبارك تُقدِّم لنا تصوّراً واسعاً شاملاً يتجاوز عالم الأرض الضّيّق وحيّز الدّنيا المحدود إلى عوالم في السّموات لا يعتريها الخلل، ومنها يَفهم الإنسان طبيعة وجوده في هذا الكون المنضبط بأمر الله سبحانه وتعالى وحده، ويجعله متوافقاً مع منظومة الكون الكبرى المسبِّحَة لله عز وجل.

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾: تبارك الله؛ أي تنزّه الله سبحانه وتعالى، ولو استعرضنا كلمة (تبارك) في القرآن الكريم سنجد فيها ألفاً بعد الباء، وتأتي مرّة بغير ألف، فالمسألة ليست رتابة كتابة؛ لأنّها لو كانت رتابة كتابة لجاءت على نظامٍ واحدٍ، فتكتب بالألف كلّها، وقد شاء الله سبحانه وتعالى هذا الأمر لتكون كتابة القرآن الكريم معجزة، كما أنّ ألفاظه وتراكيبه معجزة.

وقد قال بعضهم: العرب المعاصرون لرسول الله ﷺ لم يكونوا أهل إتقان للكتابة، ونقول: لو كانوا على غير دراية بالكتابة لما كتبوا ﴿بسم﴾ من غير ألف في موقع، وكتبت بألفٍ في موقعٍ آخر: ﴿باسم﴾، لقد علموا أنّ القرآن الكريم يجب أن يُكتَب كما نزل به جبريل عليه السلام، وليس كما يُريدون هم حسب معلوماتهم، فكتابة القرآن الكريم توقيفيّة؛ أي: كما أمر الله سبحانه وتعالى.

﴿تَبَارَكَ﴾: مادّة الباء والرّاء والكاف عادة تدلّ على البركة، وهي أن يُعطيك الشّيء من الخير فوق ما تظنّ فيه ويزيد عن تقديرك، كما لو رأينا طعام الثّلاثة يكفي العشرة، فنقول: إنّ هذا الطّعام مباركٌ، أو فيه بركة.

ومن معاني ﴿تَبَارَكَ﴾: تعالى قدره، و﴿تَبَارَكَ﴾: تنزّه عن شبه ما سواه، و﴿تَبَارَكَ﴾: عظم خيره وعطاؤه، وهي مكمّلة لبعضها.

ومن العجيب أنّ هذا اللّفظ: ﴿تَبَارَكَ﴾ مُعجزٌ في رسمه ومعجزٌ في اشتقاقه، فلو تتبّعنا القرآن الكريم لوجدنا أنّ هذه الكلمة وردت تسع مرّات فيه؛ كُتب سبع منها بالألف: ﴿تَبَارَكَ﴾، ومرّتان من غير الألف.

فلماذا لم تُكتَب بالألف في الجميع أو بدونها في الجميع؟!، ذلك ليدلّ على أنّ رسم القرآن الكريم توقيفيّ، ولو كان من عند بشر، لكتبوه كلّه بالصّيغة ذاتها، ﴿تَبَارَكَ﴾ كلّها بالألف، كما في كلمة ﴿باسم﴾ في قوله سبحانه وتعالى في أوّل سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق]، فرسم كلمة (اسم) هنا بالألف وفي باقي القرآن الكريم من غير الألف، فالقرآن الكريم ليس عاديّاً في رَسْمه وكتابته، وليس عاديّاً في قراءته، فأنت تقرأ في أيّ كتابٍ آخر على أيّ حالٍ كنت، إلّا في القرآن الكريم لا بدّ أن تكون على وضوء وتدخل عليه بطهر، وأن تستحضر سماع وقراءة كلام الله عز وجل.

فـــ ﴿تَبَارَكَ﴾ تدور حول معانٍ ثلاثة: تعالى قَدْره وتنزَّه عن مُشابهة ما سواه، وعَظُم خيره وعطاؤه، ومن تعاظُمِ خيره سبحانه وتعالى أنّه لا مثيل له: في قدره، ولا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.. وهذا كلّه في مصلحة البشر، فلا كبير إلّا الله، ولا جبّار إلّا الله، ولا غنيّ إلّا الله.

وعندما نقرأ كلمة: ﴿بِيَدِهِ﴾ لا بدّ أن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فنقف عند وصفه لذاته جل جلاله، نعم له يدٌ، وله يدان، وإيّانا أن نتصوّر أنّ كلّ ما يتعلّق بالله سبحانه وتعالى مثل ما يتعلّق بنا.

وهناك من يقول: إنّ لله سبحانه وتعالى يداً ولكن ليست كأيدينا؛ لأنّنا نأخذ كلّ ما يأتي وصفاً لله عز وجل على أنّه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، والتّأويل ممكن. ويقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾  [المائدة: من الآية 64]، والحقّ سبحانه وتعالى عندما يقول: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: من الآية 10]؛ أي أنّ قدرة الله عز وجل فوق قدرتهم، وكما قال سبحانه وتعالى عن قدرته في الخلق: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾[الذّاريات]، فإذا كان الملك بيد الله سبحانه وتعالى فلا تقلق على الرّزق، واطمئنّ فما دام الله سبحانه وتعالى قد استدعاك فإنّه ضمن لك رزقك، ورزقك ينزل من السّماء على الأرض.

ورزق الإنسان مرتبط بظواهر الطّبيعة كلّها على الأرض من رياحٍ وهواءٍ ودفءٍ وشمسٍ أو مطرٍ ينزل من السّحاب، وهذا كلّه في ملك الله سبحانه وتعالى، وبيده سبحانه لا بيد إلهٍ آخر؛ لأنّه لا يوجد إلهٌ آخر، فلا تقلق على رزقك.

والحقّ سبحانه وتعالى ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾: والملك يقتضي مالكاً ويقتضي مملوكاً، ويقتضي قدرةً على استمرار هذا الملك وعدم زواله، فكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن لنا أنّه يقدر ويملك القدرة، والإنسان ليست له قدرة التّملّك ولا المقدرة على استبقاء ما يملكه، ونحن أمام كلمتين: (مِلْك) و(مُلْك)، وكلمة (مِلك) تعني أنّ للإنسان ملكيّة بعض الأشياء، كملكيّته لملابسه وكتبه وأشيائه، لكن تملّك مالِك هذا الملك فهذا نسمّيه (مُلْك)؛ فإذا كانت هذه الملكيّة في الأمر الظّاهر لنا فإنّنا نسمّيه (عالم الـمُلك)، وإذا كانت هذه الملكيّة في الأمر الخفيّ فإنّنا نسمّيه (عالم الملكوت)، فنحن أمام (مِلك) و(مُلك) و(ملكوت)، والملكيّة بالنّسبة إلى الإنسان تتلخّص في أن يملك الإنسان شيئاً فيصير مالكاً، وإنسانٌ آخر يولّيه الله سبحانه وتعالى على جماعة من البشر فيصير ملكاً، هذا في المجال البشريّ.

أمّا في المجال الإلهيّ فإنّنا نرى مَن يملك كلّ مالك وملك الله سبحانه وتعالى، فكل شيء بمراد الله سبحانه وتعالى، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران]، فمن كان له ملكٌ فإنّه لا يدوم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ينزع الملك ممّن يشاء ويعطيه لمن يشاء، إنّها إرادة الله سبحانه وتعالى الخالق الأعلى، فعندما يريد فلا رادّ لقضائه، فعّال لما يريد، فالله جل جلاله بمطلق قدرته وقوّته على الملك خلق الموت والحياة، وخلق السّموات بكواكبها وشموسها ونجومها، وذلّل الأرض والجبال والأنهار لخدمة الإنسان، وطلب منه أن يسعى في مناكب الأرض ونواحيها ابتغاء رزق الله عز وجل.

فالله سبحانه وتعالى هو القادر والقدير، خلق الإنسان وأعطاه القدرة على تعمير الأرض وشقّ الطّرق والجبال، ولكنّ هذا بإقدار الله سبحانه وتعالى له لا لذاتيّة في الإنسان.

﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: فللحقّ سبحانه وتعالى طلاقة القدرة في ملكه، ولذلك إذا قال: إنّه سيأتي بأمرٍ، فإنّ هذا الأمر سيتحقّق حتماً وسيتمّ، ولا توجد قدرةٌ في هذا الكون إلّا قدرة الله سبحانه وتعالى، ولا قوّة إلّا قوّته جل جلاله، ولا فعل إلّا ما يريد، والله تعالى لا يُعجزه شيءٌ ولا يخرج عن طاعته شيءٌ، إنّه سبحانه وتعالى على كلّ شيءٍ قدير، فكلّ شيءٍ يدخل في إرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته، فالله سبحانه وتعالى له ملك السّموات والأرض، وهو سبحانه القادر الأعلى، القادر على الإيجاد وعلى الإمداد، وعلى البداية والنّهاية المحدودة، وبداية الخلود إمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار.

وكلمة: ﴿قَدِيرٌ﴾ بصيغة (فعيل) الّتي تأتي بمعنى (فاعل) وتأتي بمعنى (مفعول)، مثل قولنا: الله رحيم؛ أي: راحم، وهو فاعل، ونقول: فلان قتيل: أي: مقتول؛ أي: مفعول به.