الآية رقم (22) - أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

يُعطينا الله سبحانه وتعالى هنا مقابلة، ويعقد مقارنة بين صنفين من النّاس، الأوّل يمشي مكبّاً على وجهه، قد تنكّب طريق الحقّ واستبدل به الضّلال والزّيغ عن الحقّ، والصّنف الثّاني مَن يمشي على صراطٍ مستقيم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يعقد هذه المقارنة في صورة استفهام: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ، فأيّهما أهدى، وقد سلك الهداية؟!

وطريق الاهتداء بغير منهج الله عز وجل ضلال، أمّا منهج الله عز وجل فهو الصّراط المستقيم، فللهداية طريقٌ واحدٌ أوضحه رسول الله ﷺ بقوله: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ»([1])، أمّا طرق الضّلال فمتعدّدة ومناهجه مختلفة، فللضّلال ألف طريق، وهذا واضحٌ في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: من الآية 153]، والنّبيّ ﷺ حينما قرأ هذه الآية خطّ للصّحابة خطّاً مستقيماً، وخطّ حوله خطوطاً متعرّجة، ثمّ أشار إلى الخطّ المستقيم، وأخبرهم أنّه هذا ما هو عليه وأصحابه، فعَنْ جَابِرٍ t، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَخَطَّ خَطّاً هَكَذَا أَمَامَهُ، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ، قَالَ: «هَذِهِ سَبِيلُ الشَّيْطَانِ»، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام: من الآية 153]([2]).

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا﴾: أي: مكبّاً في الضّلالة، والكافر أعمى القلب، يمشي من غير هدى من ربّه، لا يُبصِر.

﴿مُكِبًّا﴾: مطرقاً إلى الأرض، والمقصود هنا أنّ الكافر قد أكبّ على المعاصي في الدّنيا فيحشره الله سبحانه وتعالى مكبّاً على وجهه، عن أَنَس بْن مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ»([3]).

﴿ مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ﴾: هو انتكاسٌ وارتكاسٌ لخِلقَة البشر؛ لأنّ الله عز وجل خلق الإنسان ﴿ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التّين: من الآية 4].

﴿ سَوِيًّا ﴾: أي: مستوياً غير ذي عوج، والحقّ سبحانه وتعالى يصف هنا الإنسان المتّبع للإيمان بأنّه يمشي سويّاً، وأحياناً يصف الحقّ سبحانه وتعالى الطّريق نفسه والصّراط بأنّه سويّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة]، وقال جل جلاله: ﴿ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: من الآية 43]، والصّراط السّويّ هو الطّريق المستقيم الّذي يوصلنا للغاية بأيسر مشقّة وفي أقصر وقت، وهو الطّريق الّذي لا التواء فيه، بحيث يكون أقرب المسافات إلى الهدف، فالطّريق إذا التوى انحرف عن الهدف، فالصّراط هو الطّريق الموصل إلى الغاية، ويحقّق الغاية بأقصر طريق لا اعوجاج فيه.

([1]) السّنّة لابن أبي عاصم: بَابُ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَوَى الْمَرْءِ تَبَعاً لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ,، الحديث رقم (15).

([2]) مسند الإمام أحمد: مُسند المكثرين من الصّحابة، مُسند جابر بن عبد الله t، الحديث رقم (15277).

([3]) مسند الإمام أحمد: مُسند المكثرين من الصّحابة، مُسند أنس بن مالك t، الحديث رقم (13392).

الآية رقم (23) - قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ

﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾: أي: قل يا محمّد: إنّ الله عز وجل هو الّذي أنشأكم، والحقّ تعالى هنا لم يذكر من أيّ شيءٍ أنشأنا، ولكنّه تعالى قال في آياتٍ أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾[الأنعام: من الآية 98]، وقال أيضاً: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[هود: من الآية 61]، وقال أيضاً: ﴿كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾[الأنعام: من الآية 133]، والإنشاء: هو الإيجاد ابتداءً من غير واسطة شيءٍ، يقال: أنشأ؛ أي: أوجد وجوداً من غير الاستعانة بشيءٍ، لذلك لا نقول لمن اخترع: إنّه أنشأ، وإنّما اكتشف؛ لأنّه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه.

والإنشاء هو عمليّة بناء، والّذي خلق قال: أنا خلقتك من تراب، من طين، من حمأ مسنون، من صلصال كالفخّار، فالماء وُضِع على التّراب فأصبح طيناً، والطّين تركناه فتغيّر لونه وأصبح صلصالاً، والصّلصال جفّ فأصبح حمأً مسنوناً، ثمّ نحته الله تعالى في صورة إنسان ونفخ الحقّ تعالى فيه الرّوح فأصبح بشراً، ثمّ يأتي الموت وهو نقضٌ للحياة، ونقض كلّ شيءٍ يأتي على عكس بنائه، فبناء العمارة يبدأ من أسفل إلى أعلى، وهدمها يبدأ من أعلى إلى أسفل، ولذلك فإنّ آخر مرحلة من رحلةٍ ما هي أوّل خطوة في طريق العودة، فإذا كنت مسافراً إلى طرطوس مثلاً، فأوّل مكان في طريق العودة هو آخر مكان وصلت إليه، فأوّل شيءٍ يخرج من الجسد هو الرّوح، وهو آخر ما دخل فيه، ثمّ بعد ذلك يتصلّب الجسم ويُصبح كالحمأ المسنون، ثمّ يتعفّن فيصبح كالصّلصال، ثمّ يتبخّر الماء الّذي فيه فيعود تُراباً، وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة متّفقاً مع المراحل الّتي بيّنها لنا الله تعالى، والله تعالى يُعطينا وصفاً دقيقاً لإنشاء الإنسان فيقول تعالى في إنشاء الإنسان من التّزاوج: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون]، فهو أنشأه في بطن أمّه خلقاً تابعاً لأمّه في أطوار ومراحل، ثُمّ يُنشِئه خلقاً آخر ونشأةً أُخرى عند إخراجه كوليد يحيا حياةً أخرى لا يعتمد فيها على أمّه، كأنّه كان تابعاً لأمّه فيخرجه الله تعالى خَلقاً آخر مُستقّلاً بذاته، فتكون الرّأس إلى أسفل، وهي أوّل ما ينزل من المولود، وبمجرّد نزوله تبدأ عمليّة التّنفّس، ومن هذه اللّحظة ينفصل الجنين عن أمّه، وبالتّنفّس تكون له ذاتيّة، فإذا ما تعسّر خروج باقي جسمه فتكون له فرصة التّنفّس، وهذا من لطف الله تعالى؛ لأنّ الجنين في هذه الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه، وهو في كلّ هذه الأطوار: النّطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة ثمّ العظام واللّحم ما يزال تابعاً لأمّه متّصلاً بها، ويتغذّى منها، فلمّا شاء الله تعالى له أن يولد ينفصل عن أمّه ليباشر حياته بذاته.

والله تعالى أنشأنا من عدمٍ، وسوّانا على هيئةٍ مستقيمةٍ وعلى أحسن تقويم، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[الأعلى]، وهذه التّسوية كانت أوّلاً للإنسان الأوّل الّذي خلقه الله تعالى من الطّين، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر]، وقال عز وجل: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾[السّجدة].

والله تعالى بعد أن يُنشئ الإنسان ويخلقه من ماء أبيه وبويضة أمّه، فإنّه تعالى يجعل له: ﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾، ففي هذه الآية قال تعالى:

﴿وَجَعَلَ لَكُمُ﴾: فالجَعْل غير الخَلق وغير الإنشاء، فالخَلْق شيءٌ والجَعْل شيءٌ آخر، فالخَلق هو إيجادٌ من عدم، والجَعْل هو توجيه مخلوق إلى مهمّته في الحياة، فالله تعالى خلق الإنسان وأنشأه إنشاءً، ولكن ليمارس مهمّته في الحياة جعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً، وكذلك خلق الله تعالى الشّمس والقمر، ثمّ جعل أحدهما للضّياء وجعل الآخر نوراً، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: من الآية 5].

﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾: هذه الثّلاثة هي آلاتٌ للإدراك، ومنافذ للعلم، فوسيلة العلم تأتي من الحواسّ، وسيّدة الحواسّ هي العين؛ لأنّه من الممكن أن تسمع شيئاً من واحد بتجربته هو، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التّجربة خاصّة بك، ولذلك يُقال: ليس مَن رأى كمن سمع، وقد أورد تعالى السّمع والأبصار أوّلاً؛ لأنّهما الوسيلتان الأساسيّتان، وأورد من بعد ذلك: (الأفئدة) وهي مختصّة بالمعاني والقلبيّات وغيرها، فحواسّ الإنسان من سمعٍ وبصرٍ تُعطيه القدرة على تكوين الخبرة، وهي منافذ الإدراك.

فوسائل الإدراك من سمع وبصر وفؤاد، وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه، أمّا ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كلّ غَيرٍ له، وبذلك يكون السّمع أكثر اتّساعاً من العين.

والسّمع هو وسيلة الإدراك الّتي تُوجَد أوّلاً في الإنسان حين يُولَد، ونجد المولود لا يهتزّ عندما يقترب شيءٌ من عينيه؛ لأنّه لا يرى في ذلك الوقت، وقد يستمرّ ذلك لمدّة عشرة أيّام، ومن بعد ذلك يبدأ في الرّؤية، لكنّ الطّفل إذا سمع صوتاً بجانب أُذنيه ينفعل، فحاسّة السّمع هي الّتي تُوجَد أوّلاً، ولذلك يأتي لنا الحقّ تعالى بذلك، السّمع أوّلاً، ومن بعد ذلك الأبصار، ثمّ الأفئدة.

فـ (الجَعْل) هنا هو أنّه تعالى خصّص جُزءاً من خلايا الإنسان ليكون عيناً، وجُزءاً آخر ليكون أُذناً، وجُزءاً ثالثاً ليكون لساناً، وقد رتّب الله تعالى ممارسة هذه الحواسّ لمهامّها، فالأذن تؤدّي مهمّتها من فور ولادته، بينما عينه لا تُؤدّي مهمّة الرّؤية إلّا بعد مدّة، فأوّلاً يأتي السّمع ثمّ يأتي البصر، ومِن السّمع والبصر تتكوّن المعلومات، فتنشأ عند الإنسان معلومات عقليّة، وهو دور الفؤاد.

وقد قلنا سابقاً، ونكرّر هنا: لماذا أفرد الله تعالى السّمع، وأورد البصر مجموعاً، فقال تعالى: ﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾؟ الأذُن تستقبل بها أصواتاً متعدّدة في وقتٍ واحد، أمّا مجال الرّؤية فمحدودة، وأنت حين لا تريد أن ترى شيئاً تُبعد عينيك عنه، والأصوات تصل إلى أُذنك من كلّ مكان من غير أن تستطيع منعها، لذلك يأتي السّمع مفرداً والأبصار متعدّدة؛ لأنّ هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً، وكلّ حرفٍ في كتاب الله عز وجل جاذبٌ لمعناه، والسّمع هو آلة الاستدعاء والإيقاظ من النّوم، فتسمع وأنت نائم، بينما لا ترى وأنت نائم، وبُلِّغنا نحن عن الأنبياء -عليهم السّلام- عن طريق السّمع، وقد لفتنا الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العجائب فقال: “اعجبوا لهذا الإنسان، ينظر بشحم، ويتكلّم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفّس من خرم”، وأضاف بعضهم: “ونشمّ بغضروف، ونلمس بجلد، ونفكّر بعجين»، فالإنسان يُولَد وكأنّ مخّه قطعة من العجين الّتي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه، وهي الّتي ستكون ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك.

وحين نظر العلماء في معاني الألفاظ قالوا: “النّظائر حين تُخَالِف فلا بدّ من علّة للمخالفة، فالسّمع آلة إدراك، والبصر آلة إدراك، فلماذا قال الله تعالى في آلة الإدراك: (السّمع)، وقال في الآلة الثّانية: (الأبصار)؟”، هذا لنعلم أنّ المتكلّم هو الله تعالى، وكلّ كلمةٍ منه لها حكمة وموضوعة بميزان، فعندما نقرأ القرآن الكريم، فنحن نسمع كلام الله عز وجل، وكلام الله تعالى يختلف عن كلام البشر، ما بين أن ننظر إلى الأمر بمنظار الإنسان، أم بكلام ربّ الإنسان.

﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾: وشُكْرُنا لله تعالى لهذه الجوارح أن نصونها عن الإتيان بأيّ معصية، لا في سمعٍ ولا في بصرٍ ولا في نُطقٍ، وأن نمنع ألسنتنا عن قالة السّوء والفحش، فالله تعالى يريد منّا ألّا نتكلّم إلّا خيراً، قال ﷺ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ»([1])، والله تعالى بهذه الآية يقطع بأنّنا قليلاً ما نشكر نِعَم الله تعالى علينا، وعلينا أن نشكر الله تعالى حقّ الشّكر بأن نؤدّي شُكر كلّ نعمة من النِّعَم الّتي أنعمها الله تعالى علينا، وعندها يكون الإنسان محافظاً على هذه النِّعَم لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: من الآية 7]، فتزيد النِّعَم، والشّكر هو الثّناء من المنعَم عليه على المنعِم، ولكنّنا قليلاً ما نشكر، قال عز وجل: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: من الآية 13].

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، بَابٌ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، الحديث رقم (6018).

الآية رقم (24) - قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾: ذرأ: أي: خلق وبثّ ونشر، فهو الّذي بثّكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمروها، وإنّنا لنعجب حين نرى أُناساً مُتشبّثين بالجبال والصّحراء، لا يرضون عنها بديلاً، ويتحمّلون في سبيل البقاء بها العنت والمشقّة!! فالخالق تعالى نثر خيراته في أنحاء الأرض بالتّساوي، فكلّ قطعة من الأرض فيها من الخيرات مثل الأخرى، والله تعالى جعل الخلق يتكاثر، فالذّرأ ليس مطلق الخلق بل هو خلق بذاته في التّكاثر، والله تعالى قد خلق آدم عليه السلام أوّلاً، ثمّ أخرج منه النّسل ليتكاثر النّسل بذاته حين يجتمع زوجان فينتجان مثيلاً لهما، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النّساء: من الآية 1]، فـ ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾؛ أي: بثّ من آدم وحوّاء، وهما اثنان، والجمع البشريّ الّذي ظهر من الاثنين سيبثّ منه أكثر، وبعد ذلك يبثّ من المبثوث الثّاني مبثوثاً ثالثاً.. فالبثّ والذّرء هو الانتشار.

﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾: فلا تفهموا أنّكم بانتشاركم في الأرض وتفريقكم فيها أنّكم ستفلتون منّا، أو أنّنا لا نقدر على جمعكم مرّةً أخرى، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة، لا يخرج من أيدينا أحد، وهو تعالى القادر أن يحشرنا وليس لنا اختيار، وهو تعالى القادر على أن يأتي بنا وقد سلب منّا الاختيار.

والحشر هو الجمع والحشد، ويوم الحشر هو يوم الجمع؛ أي: جمع النّاس أجمعين من لدن آدم عليه السلام وإلى أن تقوم السّاعة في مكانٍ واحدٍ، ولغايةٍ واحدةٍ، وإذا كنّا الآن نضجُّ من الزّحام، ونشكو من ضيق الأرض بأهلها ونحن في جيلٍ واحد، فما بالنا بموقفٍ يجمع الله تعالى فيه الخلائق كلّها من آدم إلى قيام السّاعة؟!

الآية رقم (25) - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

هم يُكذِّبون أنّ الله تعالى سيحشرهم وسيجمعهم يوم القيامة للحساب بعد أن يكونوا تراباً، وهذا الإنكار والتّكذيب والاستهزاء هو منطق المشركين والملحدين في كلّ زمانٍ ومكانٍ، ولكنّ وعد الله تعالى حقٌّ ووعد الله قادمٌ، وهم يتساءلون بسخريةٍ عن هذا الوعد في كلّ زمان، فقولهم عن وقت تحقّق هذا الوعد بـ ﴿مَتَى﴾ هو استبطاءٌ منهم لوعد الله عز وجل بالآخرة والعَرْض عليه تعالى، وأنّه تعالى سيعذِّبهم بالنّار الّتي تُنضِج جلودهم ويُبدلهم الله تعالى جلوداً غيرها؛ وذلك لأنّهم لا يُصَدِّقون هذا ولا يُؤمنون به، فيقول المكذِّبون بالبعث والحشر: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾، و الغريب أنّهم يقولون: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ويغفلون عن أنّ الّذي يُخلِف الوعد أو الوعيد من الخلق فهذا أمرٌ مُتَوقَّع؛ لأنّه من الأغيار، فقد يموت أو يغيّر رأيه…، أمّا الله تعالى فهو صادق الوعد، فإذا جاء أمر الله تعالى فهو الفعّال لما يُريد، ووعد الله عز وجل آتٍ، وهو وعدٌ غير مكذوب، وعندما يقولون: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، فهو إنكارٌ للبعث، ولحقيقة البعث، ولكنّهم عمليّاً يخافون من هذا اليوم، وأن يكون هناك حساب على كلّ ما أفسدوه وما فعلوه في الدّنيا.

الآية رقم (26) - قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ

﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾: وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان]، فعلم السّاعة عند الله تعالى، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الأعراف]، وقال عز وجل: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب].

﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾: أُبيّن لكم وأوضِّح لكم وأُنذِركم وأُحَذِّركم من هذا اليوم، لذلك فمهمّة النّبيّ ﷺ أنّه بشيرٌ ونذيرٌ، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية]، ذكِّرهم بيوم القيامة ويوم الحساب، وبأنّ الله تعالى سَيُثيب الطّائع، وسَيُعاقب الجاني، وإيّاكم أن تعتقدوا أنّكم إذا أفلتّم من عدالة الأرض فإنّكم ستفلتون من عدالة السّماء، لذلك قال تعالى: ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ﴾؛ أي: منذر من عذاب يوم القيامة، ومن السّاعة الّتي تسألون عنها.

﴿مُبِينٌ﴾: أي: مُبيّن واضح بالحجّة والبرهان والدّليل.

الآية رقم (27) - فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ

﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: يتحدّث الله تعالى عن يوم القيامة وكأنّنا رأيناه، فلمّا رأوا يوم الحساب الّذي أوعدهم الله تعالى به سيئت وجوههم بما رأوه من عذاب الذّلّ والمهانة والإيلام، وقد خصّ الله عز وجل الوجوه بالذّكر؛ لأنّ آثار انفعالاتهم لِـمَا رأوه إنّما تظهر على وجوههم حزناً وقلقاً، وفي آيةٍ أخرى ذكر الحقّ تعالى اسوداد الوجه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ[آل عمران].

﴿زُلْفَةً﴾: زلف إليه زلفةً: قَرُبَ ودنا.

﴿وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾: وهو توبيخٌ لهم لِـمَا ادّعوه من تكذيب يوم الحساب، أو هو توبيخٌ لهم من أنّهم طلبوا ما أوعدهم الله تعالى به، فقالوا: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، فها هو وعد الله تعالى، قد أتى يوم القيامة الّذي كنتم أيّها المشركون تدّعون بطلانه، وتزعمون أنّه لن يأتيكم، فها أنتم ترونه زلفة؛ أي: قريباً منكم.

والحقّ تعالى استخدم هنا ثلاثة أفعال ماضية: ﴿رَأَوْهُ﴾، ﴿سِيئَتْ﴾، ﴿وَقِيلَ﴾، والكلام إنّما هو عن مستقبلٍ سيأتي يوم القيامة، لكنّه تعالى أتى بها وكأنّها في الماضي، وكأنّ الله تعالى يقول: إنّ هذه الأمور الآتية محقّقة الوقوع بحيث يصحّ اعتبارها ماضية، فالزّمن المستقبل بالنّسبة إلى الله تعالى هو ماضٍ لعلمه تعالى بما سيحدث في المستقبل؛ لأنّه تعالى يعلم الأشياء دفعةً واحدةً، فلا ترتيب لعلمه تعالى، كقولنا: اليوم.. غداً.. بعد غدٍ..

الآية رقم (28) - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾: استخدم الحقّ تعالى هذه العبارة في آياتٍ كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾[القصص]، ويقول تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾[الأنعام]، فقوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ [الأنعام: من الآية 47]، يشمل ويضمّ ضمير المخاطب وهو التّاء المفتوحة، ويشمل أيضاً كاف الخطاب والجمع بين علامتي الخطاب (التّاء) و(الكاف) يدلّ على أنّ ذلك تنبيه على شيءٍ ما عليه من مزيد، ومرّة يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني أنتم وأعلموني إعلاماً يؤكّد لي صدق القضيّة، ويأتي الاستفهام هنا من مادّة (أرى) و(رأى)، فالحقّ تعالى في معرض تعداد نعمه علينا يقول: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾، يعني: أخبروني ماذا تفعلون، وهو استفهامٌ معناه التّقرير، فهو عز وجل يستخبرهم ليقرّرهم.

﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ﴾: والهلاك ضدّ الحياة، ومعنى: (هالك)؛ أي: ليس فيه حياة، والهلاك: الموت.

﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: فإذا كنت أنا كنبيّ ورسول من الله تعالى قد يرحمني الله عز وجل وقد يُهلكني، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، فما بال من كفر به تعالى؟ مَن الّذي يُجيركم من عذاب الله تعالى إذا نزل بكم؟! أتظنّون أنّ الأصنام تُجيركم؟!

﴿مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: أي: عذابٍ مؤلم، وعندما نسمع صيغة (فعيل) فنحن نأخذها بمعنى فاعل أو مفعول، لذلك نفهم ﴿أَلِيمٍ﴾ على أنّه مؤلم.

الآية رقم (29) - قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ﴾: من صيغ المبالغة، والله تعالى هو رحمن الدّنيا ورحيم الآخرة، والرّحمن أوسع تشمل العاصي والمؤمن والخلائق كلّهم، أمّا رحيم فكما قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾[الأعراف: من الآية 156]، والله تعالى رحمنٌ بربوبيّته لخلقه، فهو تعالى يمهل العاصي ويفتح أبواب التّوبة لكلّ مَن يلجأ إليه، فكان من الواجب أن يقدِّروا هذا الخير الّذي قدّمه لهم الرّحمن تعالى دون أن يكون لهم حولٌ ولا قوّة، والرّحمن يُنعِم بالنّعم كلّها وهو المتولّي تربية الخلق، ولو أنّه لم يفعل سوى أن خلقهم وأمدّهم بالحياة ومقوِّماتها لكان يكفي ذلك ليعبدوه وحده ولا يشركوا به أحداً.

والرّحمة صفة تحنين للخَلْق، واختار اسم ﴿ الرَّحْمَنُ ﴾، فمجال التّكليف كلّه الرّحمة، وما نزل المنهج من الله تعالى إلّا لينظّم حياة النّاس ويحقِّق لهم السّعادة في حركة الحياة، فالرّحمانيّة الإلهيّة هي الغالبة في التّشريع كلّه، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرّحمن]، فالقرآن الكريم الّذي نزل لينظّم حياة النّاس ويُصلِح حركة الحياة ويضع السّلام بينك وبين الله تعالى، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين النّاس، هذا القرآن أعظم مظهرٍ من مظاهر هذه الرّحمانيّة الإلهيّة.

﴿آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾: آمنّا به؛ أي: اعتقدنا وصدّقنا، ويُقال: آمن بالشّيء؛ أي: صدّقه، وآمن بكذا؛ أي: صدّق ما قيل، وقال إخوة يوسف لأبيهم: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾[يوسف: من الآية 17]؛ أي: لن تصدِّقنا، وآمن إذا تعدَّت بالباء فمعناها الاعتقاد، وإن تعدَّت باللّام فمعناها التّصديق، وإن تعدّت بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسّلام والاطمئنان، وإن تعدّت بمفعول أيضاً فمعناها القدرة على أداء الأمانات.

﴿آمَنَّا بِهِ﴾: اعتقدنا وصدّقنا، أمّا أنتم فكفرتم وكذّبتم وكفرتم بنِعَم الله عز وجل وأشركتم بالله تعالى.

﴿وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾: ونحن لم نؤمن بالرّحمن فقط، بل عليه توكّلنا، وقد تقدّم الجار والمجرور، ومعنى ذلك قصْر وحصْر الأمر والتّوكّل على الله عز وجل فحسب، فلا توكّل على سواه، والتّوكّل الحقيقيّ أن تعمل الجوارح وتتوكّل القلوب، وكم من عاملٍ بلا توكّل فتكون نتيجة عمله إحباطاً.

﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: أي: في ضلال ظاهر، وهو ضلال واضح صريح يعرفه صاحبه فيقع في غيبة عن الحقّ، أو تيهٍ عن الحقّ.

﴿مُبِينٍ﴾: أي: مُحِيط بصورة لا يمكن النّفاذ منها.

الآية رقم (30) - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾: الحقّ تعالى جعل لنا خزّانات للماء تحت الأرض، لا لنُحرَم منه حين يوجد، لكن لنجده حين يُفقَد، وكون الماء ينابيع في الأرض يجعلنا نتغلّب على مشكلات كثيرة، فالأرض تحفظه لنا فلا يتبخّر ولا نحتاج إلى بناء السّدود وغيرها ممّا يحفظ لنا الماء العذب، وقد أعطانا رسول الله ﷺ مثلاً، فقال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»([1])، فهذه القيعان لها مهمّة يعرفها مَنْ فطن لهذه المسألة، وإلّا فالله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً أبداً، كذلك يكون انتفاع النّاس بالعلم، فمنهم مَن نرى أثر علمه خيراً عاجلاً، ومنهم مَن يتأخّر نفْع علمه للأجيال القادمة.

ثمّ إيّاك أن تظنّ أنّ الماء حين يسلكه الله عز وجل ينابيع في باطن الأرض يسيح فيها أو يحدث له استطراقٌ سائليّ يختلط فيه العذب بالمالح، لا.. إنّما يسير الماء العذب في شبه أنابيب ومسارب خاصّة، يجدونها حتّى تحت مياه الخليج المالحة، وهذه من عجائب الخلق الدّالّة على قدرة الخالق عز وجل، وكما يوجد برزخٌ بين الماءين على وجه الأرض: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ [الرّحمن]، كذلك هناك حاجزٌ للماءَين تحت الأرض.

﴿غَوْرًا﴾: أي: غائراً في الأرض، فإن قلتَ: يمكن أن يكون الماء غائراً، ويقول تعالى: ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾[الكهف]، ويقول الحقّ تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾[المؤمنون]، فنأخذ حاجتنا من ماء المطر، والباقي يتسرّب في باطن الأرض، كما قال تعالى: ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾[الزّمر: من الآية 21].

والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب، فقد يجدون الماء العذب بجوار المالح، بل وفي وسط البحر؛ لأنّها ليست مستطرقة، إنّما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض.

والمياه الجوفيّة مخزونٌ طبيعيٌّ من الماء نُخرجه عند الحاجة، ويُسعِدنا إذا نضب الماء العذب الموجود على سطح الأرض: ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ [المؤمنون: من الآية 18]، ليكون احتياطيّاً لحين الحاجة إليه، فإذا جفّ المطر تستطيعون أن تستنبطوه، ثمّ يُذكِّرنا الله تعالى بقدرته على سلب هذه النّعمة: ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: من الآية 18]، فحافظوا على هذه النِّعَم، ولا تُعَرِّضوها للزّوال.

﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾: الماء المعين: الماء الجاري الظّاهر الّذي تناله وسائل النّاس العاديّة في الاستخراج، فمن يأتيكم بهذا الماء المعين إن ذهب الماء في الأرض وغار، ولم تعودوا قادرين على تحصيله والوصول إليه؟!

ومن يتأمّل قول الحقّ تعالى: ﴿ مَاؤُكُمْ ﴾، يجد عجباً، فالحقّ تعالى نسب الماء إليهم وأنّه ماؤهم؛ أي: إلى النّاس، ومع هذا فهم غير قادرين عليه، ولا على الإتيان به، والله تعالى وحده هو القادر على أن يأتي به، فهو تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الملك: من الآية 1]، وإذا كان الله تعالى هو القادر، وهو تعالى مالك الملك، فلم تُشركون معه غيره؟! والحقّ تعالى يُذَكِّرنا بقدرته على سلب هذه النّعمة: ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾[المؤمنون: من الآية 18]، فسيروا في هذه النّعمة سيراً لا يُعَرِّضها للزّوال، والجؤوا إلى مُسَبِّب الأسباب، وارفعوا أيديكم لربّكم، فإذا استُنفِدَت الأسباب نطلب من المسبِّب، ولا يمكن أن يستنفد أحدٌ أسباب الله عز وجل الممدودة إليه، ويلجأ إليه فيردّه تعالى خائباً.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب العلم، بَابُ فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ، الحديث رقم (79).

الآية رقم (12) - إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾: الخشية لله سبحانه وتعالى وحده، والمؤمن لا يخشى بشراً؛ لأنّه يعلم أنّ القوّة لله جميعاً، ولذلك فإنّه يقدم على أيّ عملٍ بقلبٍ لا يهاب أحداً إلّا الحقّ سبحانه وتعالى، والخشية تكون لله جل جلاله، فإن خفتم فخافوا الله عز وجل، وحافظوا على تنفيذ منهجه.

والخشية خوفٌ متوهّم ممّن تظنّ أنّه قادرٌ على الضّرّ، ولا أحد غير الله جلّ وعلا قادرٌ على النّفع والضُّر.

﴿ بِالْغَيْبِ ﴾: أي: أنّهم يخافون الله سبحانه وتعالى مع أنّهم لا يرونه بأعينهم، إنّما يرونه في آثار صنعه.

أو: بالغيب يعني الأمور الغيبيّة الّتي لا يشاهدونها لكن أخبرهم الله سبحانه وتعالى بها، فأصبحت بعد إخبار الله عز وجل كأنّها مشهدٌ لم يروها بأعينهم.

أو: يكون المعنى: يخشون ربّهم في خلواتهم عن الخَلق، فمهابة الله سبحانه وتعالى والأدب معه تلازمهم حتّى في خلوتهم وانفرادهم، على خلاف مَن يُظهر هذا السّلوك أمام النّاس رياءً.

هؤلاء الّذين يخافون الله سبحانه وتعالى ويخشونه بالغيب:

﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾: فخشية الإنسان واستحضاره لعقاب الله عز وجل وتمثّله ثواب الله جل جلاله ومراقبة الله عز وجل هي الضّمانة، تؤدّي به إلى أن يكون خاشعاً صائماً متصدّقاً صادقاً صابراً، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب]، فبعد هذه الصّفات يحتاجون إلى المغفرة، ويطهّرهم الله سبحانه وتعالى من أدران الذّنوب كلّها قبل أن يأخذوا أجرهم، فالحقّ سبحانه يزيل الذّنوب أوّلاً بالمغفرة. وهو (أجرٌ عظيم) و(أجرٌ كبير)، وكلّ أجرٍ على عمل يأخذ وقته وحيّزه الزّمنيّ، فأجر الإنسان على عمله في الدّنيا يذهب ويزول؛ لأنّ الإنسان نفسه يذهب إلى الموت، أمّا أجر الآخرة فهو الباقي أبداً، وهو أجرٌ لا يفوت الإنسان ولا يفوته الإنسان، ذلك هو الأجر العظيم، فلا شيء يضيع عند الله عز وجل، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾  [المزّمّل: من الآية 20]، والخير الّذي نفعله إنّما ندّخره عند من لا ينكره، فَيَد الله سبحانه وتعالى أمينة.

الآية رقم (13) - وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ﴾ : كيف تنادي ربّك وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وكيف تناديه سبحانه وتعالى وهو يسمعك حتّى قبل أن تتكلّم، فإذا كان إقباله عليك موجوداً في كلّ وقت، فما الغرض من النّداء؟ ونداؤك ودعاؤك لله عز وجل ليس كنداء ودعاء الخلق للخلق، لا يحتاج إلى رفع الصّوت حتّى يسمع؛ لأنّه سبحانه وتعالى يستوي عنده السّرّ والجهر، ومن أدب دعاء الله سبحانه وتعالى أن ندعوه كما أمرنا: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [الأعراف: من الآية 55]، وهو جل جلاله: ﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: من الآية 7]؛ أي: وما هو أخفى من السّرّ؛ لأنّ السّرّ قبل أن يكون سرّاً علم أنّه سيكون سرّاً، ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه]، فسواء أسررتم قولكم أم جهرتم به فإنّه سبحانه وتعالى:

﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾: أي: يعلم مكنونات صدوركم قبل أن تصير كلاماً، بل إنّه سبحانه وتعالى يعلم ما توسوس به نفس كلّ إنسان، فوسوسة النّفس وذات الصّدور هي الأخفى من السّرّ، فلدينا: جهر وسرّ وأخفى من السّر، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾  [القصص]، ويقول في آيةٍ أخرى: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴾  [الأنبياء].

الآية رقم (14) - أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾: منهج الله سبحانه وتعالى هو أقوم المناهج وأصلحها؛ لأنّه منهج الخالق سبحانه وتعالى الّذي يعلم مَن خلق ويعلم ما يصلح الخلق، فالصّانع من البشر يعلم صنعته ويضع لها من تعليمات التّشغيل والصّيانة ما يضمن لها سلامة الأداء وأمن الاستعمال، فإذا ما استعملت الآلة حسب قانون صانعها أدّت مهمّتها بدقّة، وسَلِمَت من الأعطال، فالّذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته، فيقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا.. فآفة النّاس في الدّنيا أنّهم وهم صنعة الله سبحانه وتعالى يتركون أوامره ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم، ولا يلجؤون إلى أوامر الله تعالى، ولا تستقيم الحياة إلّا بمنهج الله سبحانه وتعالى، واستقامة الحياة بالقيم والأخلاق، والأوامر والنّواهي الّتي تمنع عن الحرام وتمنع عن سلوك الطّرق المعوجّة، فيصلح حال البشر، ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: من الآية 88]، لكنّ الحقّ سبحانه وتعالى يبشّرنا بما هو أعظم منها، وبما ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها، فجمع لنا ربّنا تبارك وتعالى نعيمَي الدّنيا والآخرة، نعيم الدّنيا؛ لأنّنا سرنا فيها على منهجٍ معتدلٍ ونظامٍ دقيق، يضمن لنا فيها الاستقامة والسّلام والتّعايش الآمن مع الخلق، ومن ذلك قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: من الآية 38]، وقوله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: من الآية 123]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النّحل]، فالله سبحانه وتعالى يعلم كلّ شيء فينا، وهو سبحانه وتعالى يقول لنا: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، فالّذي صنع الكرسيّ -ولله المثل الأعلى- يعرف أنّ الكرسيّ مصنوعٌ من الخشب، ونوع هذا الخشب، والمسمار الّذي يربط الجزء بالجزء إمّا مسمار صلب، وإمّا من مصدر آخر، كذلك يعلم أيّ صنفٍ من الغِرَاء استعمل في لصق أجزاء الكرسيّ، وكذلك مواد الدّهان الّتي تمّ دهنه بها، فقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ لا يحتاج إلى جدال، ولذلك نجد النّجّار الّذي يرغب في أن تكون صنعته مكشوفة واضحة يقول للمشتري: سوف أصنع الكرسيّ من خشب الزّان، وعليك أن تمرّ يوميّاً لرؤية مراحل صنعه، حتّى يرى كيف يتمّ.

﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾: إنّه خبيرٌ عليمٌ بكلّ شيءٍ، فلا بدّ من علم؛ لأنّ الّذي صنع الإنسان يعرف ما يناسبه وما يفسده، وهذا يتطلّب قدرة، فالعلم وحده لا يكفي، علمٌ وقدرة، علمٌ بالقوانين الّتي وضعها الله سبحانه وتعالى لخلقه، وقدرة مطلقة لله سبحانه وتعالى على خرق هذه القوانين، وجعل القوانين تفعل أو لا تفعل، وقد جاء الحقّ سبحانه وتعالى بهذا القول الفصل: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾.

﴿ اللَّطِيفُ ﴾: من أسماء الله الحسنى فهو سبحانه وتعالى الّذي لا تخفى عليه خافية، وهو الّذي خلق الخلق كلّهم، ويعلم -وهو العليم- ما يصلح للبشر من قوانين.

ونجد بأنّ الله سبحانه وتعالى قال هنا: ﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، لطيفٌ بالخلق، لطيفٌ بعباده، فالنّاس يستمسكون باسم اللّطيف ويردِّدونه، وليس فقط لطيف بعباده، بل أيضاً خبير.

﴿ الْخَبِيرُ ﴾: خبيرٌ على وزن فعيل؛ أي: يمارس الخبرة باستمرار، فالله سبحانه وتعالى يعلم، وهو لطيفٌ بعباده، وهو خبيرٌ بما يصلح لهم في حياتهم الدّنيا، وبما يناسبهم من أجل الآخرة، فاطمئنّوا، فربّكم ليس له من يؤثّر عليه، والله سبحانه وتعالى لا ينتفع بما يشرّعه لنا؛ لأنّه سبحانه وتعالى خلقنا بقدرته، وهو الغنيّ عنّا لا تنفعه طاعة الطّائعين، ولا تضرّه معصية العاصين. والعليم؛ أي: الّذي يعلم كلّ شيءٍ خافياً كان أو ظاهراً، والعلم كلّه منه، وعلمه هو الّذي يجعل الإنسان يسير على هذه الأرض ويأخذ من عطايا علم الله عز وجل المستتر، ولو أخذت البشريّة عن الله سبحانه وتعالى العلم بكلّ شيء لصارت الدّنيا إلى انسجامها، وهو جل جلاله العليم بكلّ خفايا عباده، والكاشف لكلّ الملكات النّفسيّة للعباد، وقد عَلِمَ سبحانه وتعالى أزلاً بكلّ سلوك وكلّ خافية، وهو العليم أبداً بما ينفع النّاس جميعاً، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصّدور، وهو العليم بما تتطلّبه الحكمة علماً يحيط بكلّ الزّوايا والجهات.

وهو سبحانه وتعالى: ﴿ اللَّطِيفُ ﴾، يقول جل جلاله: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام]، فأنت أيّها المؤمن تُصدّق ذلك، فاللّطف أمرٌ لا تبصره العيون، ولا تدركه، وفي الكون أشياء لا ندركها مع أنّه سبحانه وتعالى خلقها وعملت في خدمتنا، وبعد أن أدركناها ظلّت تعمل في خدمتنا، فإن حدّثك الحقّ سبحانه وتعالى بشيء لا تدركه فلا تقل: ما دام هذا الشّيء غير مُدرَك فهو غير موجود، وعلى سبيل المثال: أنت لا تدرك الكهرباء، ولا الجاذبيّة، ولا قمّة أسرار الحياة، وهي الرّوح الّتي تعطيك سرّ الحياة وتنفعل بها جوارحك كلّها، وإن خرجت الرّوح أصبح الإنسان جثّة هامدة.

وكلمة: ﴿اللَّطِيفُ﴾ لها معنى خاصّ، فالشّيء اللّطيف يُستعمل في الدّقيق التّكوين ولله المثل الأعلى، فالميكروب لم نعرفه إلّا مؤخّراً؛ لأنّه بلغ من اللّطف والدّقّة بحيث لا تدركه العين، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه، وإن بَعُدَ الميكروب عن ذلك فلن نراه، فكلّما دقّ الشّيء لطف ولا يمكن أن نراه، والشّيء إذا لَطُف أصبح أعلى وأهمّ، ونقول -ولله المثل الأعلى-: فلانٌ لطيف المعشر، والحقّ سبحانه وتعالى لطيفٌ في ذاته ويلطف بعباده.

فعندما نسمع (لاطف) فهذا اسم فاعل مثل: (آكل)، وحين نقول: (لطيف) فهي مبالغة في اللّطف؛ لأنّه لاطف بكلّ إنسان وكلّ كائن، وهذا يحتاج إلى مبالغة، ولذلك نقول: (رحيم)، وهي صيغة مبالغة؛ لأنّه سبحانه وتعالى يُسبغ رحمته على عباده.

وأوّل مظهر من مظاهر اللّطف هو تدبير أمورنا الدّقيقة تدبيراً يحقّق مصالحنا في وجودنا، تدبير اللّطيف بعباده، فقد خلق الله سبحانه وتعالى لنا الأرض، ثلاثة أرباعها ماء والرّبع يابس؛ لأنّه جل جلاله يريد أن يوسّع رقعة الماء، فكلّما اتّسعت رقعتها كان البخر فيها أسهل وأكثر، ولو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر سيكون على مستوى السّطح فقط، وهنا لا يأتي السّحاب بما يكفي الخلق من الماء، لقد وسّع الله سبحانه وتعالى رقعة الماء كي يتبخّر الماء ثمّ ينعقد كسحب في السّماء، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها وتشرب أنعامنا ونسقي الزّرع، وكلّ ذلك من لطف التّدبير.

ومن مظاهر اللّطف في الحقّ نجد أموراً لا توصف، ولذلك كلّ واحد من العلماء ينظر إلى زاوية من زوايا لُطف الله سبحانه وتعالى بخلقه، فواحدٌ قال: هو سُبوغ النّعمة، وقال الثّاني: هو دقّة التّدبير، وقال الثّالث: إنّ من مظاهر لطف الحقّ أنّه يستقلّ كثيراً من النّعم على خلقه؛ لأنّ خزائنه سبحانه وتعالى ملأى وعطاياه لا تنفد ولا يعتريها نقص.. فمظاهر اللّطف لا حصر لها، وعلى قدر دقّة اللّطف تكون دقّة إحصائه، فهو اللّطيف الّذي إذا ناديته لبّاك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافأك، وإذا أقرضته من فضله وماله الّذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك.

ويأتي عالِـمٌ آخر ممّن انفعلوا بصفات اللّطف فيقول: الّذي يجازيك إن وفّيت، ويعفو عنك إن قصّرت، وآخر يضيف إلى معاني اللّطف فيقول: مَن افتخر به أعزّه، ومن افتقر إليه أغناه، وعالِـمٌ ينفعل انفعالاً آخر بمظاهر اللّطف فيقول: مَن عطاؤه خير ومنعه ذخيرة؛ أي: أنّه لو منع عبده شيئاً فإنّه يدّخره له في الآخرة، كلّ هذه مظاهر للطف الله عز وجل.

والحقّ سبحانه وتعالى يصف ذاته بأنّه هو: ﴿ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، فهو لطيفٌ يعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، خبيرٌ بكلّ شيءٍ، وقديرٌ على كلّ شيء.

ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: من الآية 100]، فسبحانه هو المدبّر الّذي لا تخفى عليه خافية أبداً، وكلمة (لطف) ضدّ كلمة (كثافة)، فاللّطيف هو الّذي له جرمٌ دقيق، والشّيء كلّما لطُفَ ارتقى، هذا بالنّسبة إلى الإنسان، لكن مع الله سبحانه وتعالى نقول: سبحان الله، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، وهو العليم بموقع وموضع كلّ شيء، فهو سبحانه وتعالى يجمع بين اللّطف والخبرة، فلطفه لا يقف أمامه شيءٌ، ولا يوجد ما هو مستورٌ عنه، ولا يقوم أمام مراده شيءٌ، وهو الخبير الّذي يعلم خبايا الأمور حتّى في المسائل الدّقيقة.

الآية رقم (15) - هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ﴾: يلفتنا المولى سبحانه وتعالى هنا إلى خلق الأرض، والأرض هي المكان الّذي يعيش فيه النّاس، ولا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّه خلق الأرض أو أوجدها، ولنا أن نلتفت إلى فارقٍ مهمٍّ بين (الخلق) وبين (الجعل)، فالخلق شيءٌ والجعل شيءٌ آخر.

الخلق: هو إيجادٌ من عدم، والجعل: هو توجيه مخلوق إلى مهمّته في الحياة، فخلق الله سبحانه وتعالى لا يخلقون شيئاً، إنّما الخلق والإيجاد له جل جلاله، وعلينا نحن الخلق أن نخصّص كلّ شيء لمهمّته في حياته الّتي أرادها الله سبحانه وتعالى؛ أي: أن نترك (الجعل) لله عز وجل ولا نتدخّل فيه، فعلى سبيل المثال الخالق سبحانه وتعالى خلق الخنزير ليأكل من القاذورات، وليحمي الإنسان من أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان أن يخصّص الخنزير لهذه المهمّة فلا يحوّله إلى غير مهمّته كأن يأكله مثلاً؛ لأنّ تحويل مهمّة مخلوق لله سبحانه وتعالى إلى غير مهمّته هو أمرٌ يضرّ بالإنسان الّذي أراده الله سبحانه وتعالى سيّداً مُستخلفاً في الكون.

والخالق سبحانه وتعالى هو الّذي (خلق) وهو الّذي (جعل)، ومثال هذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: من الآية 5]، فالأمر ليس أمر التّذكير بخلق الله سبحانه وتعالى للشّمس والقمر، بل هو أمر التّذكير بما جُعلت له الشّمس وبما جُعل له القمر؛ أي: المهمّة الّتي خُلق من أجلها كلٌّ منهما.

فالفساد إنّما ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقاً لله عز وجل في مهمّةٍ غير تلك الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى له، وعلينا أن نسلّم بأنّ كلّ شيءٍ مخلوقٌ لمهمّة، فلا يصحّ أن نوجّه شيئاً إلى غير مهمّته، وتوجيه أشياء إلى غير ما جُعلت له أنتج آثاراً ضارّة، فالأرض خلقها الله سبحانه وتعالى وجعلها لمهامٍّ محدّدة، حدّدها سبحانه وتعالى في كتابه، قال جل جلاله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ [البقرة: من الآية 22]، فكلمة: ﴿ فِرَاشًا ﴾ توحي بأنّ الله سبحانه وتعالى أعدّ الأرض إعداداً مريحاً بشريّاً، ونحن نتوارث الأرض جيلاً بعد جيل، وهي تصلح لحياتنا جميعاً، ومنذ خلقت الأرض إلى يوم القيامة ستظلّ مهداً وفراشاً للإنسان، وحتّى عندما تقدّمت الحضارة وازدادت الرّفاهيّة ظلّت الأرض مهداً وفراشاً مع ما وُجد عليها من أشياء ليّنة، فكأنّ الله سبحانه وتعالى قد أعدّها لنا إعداداً يتناسب مع كلّ جيل، فكلّ جيل رُفِّه في العيش بسبب تقدّم الحضارة كشف الله سبحانه وتعالى ما يطوّع له الأرض ويجعلها فراشاً، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ [طه: من الآية 53]، والمهد: هو فراش الطّفل، ولا بدّ أن يكون مريحاً، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿مَهْدًا﴾، من التّمهيد وتوطئة الشّيء ليكون صالحاً لمهمّته، فمعنى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ﴾ [طه: من الآية 53]؛ أي: سوّاها ومهّدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [الرّوم: من الآية 44]، فكأنّ الّذي يعمل الصّالح في الدّنيا يمهّد لنفسه فراشاً في الآخرة، فالعمل الصّالح يسبق صاحبه إلى الجنّة ليمهّد له فراشه، فالأرض ذلولٌ مسخّرة من أجل الإنسان، والرّزق يأتي من الأرض.

والله سبحانه وتعالى ذلّل لنا أشياء كثيرة في هذا الكون، وأصبحت الأرض مسهّلة للحرث، وقد ذلّل الله جل جلاله لنا الأنعام، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس]، وعلى المؤمن أن يتذكّر أيضاً أنّ الحقّ سبحانه وتعالى ذلّل الجمل لصاحبه، وجعل الطّفل الصّغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض ليضع عليه الأحمال الثّقيلة ويأمره فيقوم، بينما لم يذلِّل الثّعبان أو الحيّة، ومن التّذليل يأتي رضوخ بقيّة الكائنات للإنسان، فالحمار عند الفلّاح يحمل السّماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان، ولا ينطق الحمار معترضاً، فهذه من أمور كثيرة تبيّن معنى: ﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾ [يس: من الآية 72]، وهي مهمّة لنفهم طبيعة العلاقة بيننا وبين الحياة، وألّا نتكاسل عن العمل، ومن حكمته سبحانه وتعالى ورحمته بنا أن ذلّل لنا سبل الحياة، وذلّل لنا ما ننتفع به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها.

فالإسلام حثّ على العلم والعمل، وعلى الحضارة، وعلى أن ننتفع بما أراده الله سبحانه وتعالى لنا.

﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾: مناكبها؛ أي: في جوانبها وأطرافها؛ أي: في كلّ مكان، فالأرض مذلّلة مسخّرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾  [الجمعة: من الآية 10]، فالإنسان يأخذ الرّزق من الأرض، وقانون الإصلاح الّذي جعله الله سبحانه وتعالى لحياة البشر يقوم على الضّرب في الأرض والسّعي في مناكبها، وفيه مقوّمات الحياة، فإذا تكاسلنا فإنّنا تخلّفنا وخالفنا أوامر ربّنا سبحانه وتعالى.

﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾: فنسب الرّزق إلى الله سبحانه وتعالى، وفي آياتٍ أخرى ينسب الرّزق إلى الإنسان، والحقّ سبحانه وتعالى يطمئن كلّ إنسان أنّ الرّزق يعرف عنوانه، فيأتيه من حيث لا يحتسب، بينما الإنسان لا يعلم عنوان الرّزق، أمّا السّعي إلى الرّزق شيءٌ آخر، فقد تسعى إلى رزقٍ ليس لك، بل هو رزقٌ لغيرك.

﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾: أي: النّشر، والنشر يعني الانطلاق في الأرض بالحركة، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: من الآية 10]، والحقّ سبحانه وتعالى قد جعل النّهار نُشوراً بعد سبات اللّيل، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾  [الفرقان]، أمّا هنا بهذه الآية فالمراد بالنّشور: الانتشار من القبور للبعث يوم القيامة، والنّشر معناه تفريق المنشور في الحيّز.

الآية رقم (16) - أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ

﴿ أَأَمِنْتُمْ ﴾: الأمن هو الاطمئنان إلى قضيّةٍ لا تثير مخاوف ولا متاعب، ويقال: فلانٌ آمِن؛ أي: لا يوجد ما يكدّر حياته.

﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ﴾: وفي سورة الإسراء يقول سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾ [الإسراء]، فلا تظنّوا أنّ البرّ أمانٌ لا خطر فيه، لا، بل خطري موجودٌ غير بعيد منكم، سواء أكنتم في البرّ أم البحر.

﴿ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ﴾: الخسف: هو تغييب الأرض ما على ظهرها، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى عن قارون: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: من الآية 81]، فالخسف أن تنشقّ الأرض فتبتلع ما عليها، والخسف حدث مع قارون فكان خسفاً به وبداره الّتي فيها كنوزه وخزائنه.

﴿ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾: فهل يأمن أحدٌ أن يخسف الله سبحانه وتعالى به الأرض فإذا هي تمور؟ يعني فإذا هي تدور بكم إلى الأرض السّفلى، ومورها تحرّكها فتفور بهم، فالله سبحانه وتعالى يحرّك الأرض عند الخسف بهم حتّى تضطرب وتتحرّك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها، والأرض تمور فوقهم فتقلبهم إلى أسفل.

الآية رقم (17) - أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ

﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾: عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكنّ عذاب الله عز وجل يتناسب مع قدرة ربّ البشر، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟! ليس لنا طاقة به أبداً.

﴿ حَاصِبًا ﴾: الحاصب: هو الرّيح الّتي تهبُّ محمّلة بالحصى.

ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾ [الإسراء]؛ أي: يرسل عليكم ريحاً تحمل الحصباء وترجمكم بها رجماً، والحصباء: الحصى الصّغار، وهي لونٌ من ألوان العذاب الّذي لا يُدفَع ولا يُردّ، لذلك قال سبحانه وتعالى بعدها: ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ﴾[الإسراء: من الآية 68]؛ أي: لا تجدوا من ينصركم أو يدفع عنكم، فلا تأمنوا سواء كنتم في بحرٍ أم في برّ.

﴿ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾: أي: فستعلمون يا أهل مكّة عند نزول العذاب كيف نذير، فستعلمون كيف عاقبة نذيري لكم، و﴿ نَذِيرِ ﴾ هنا؛ أي: إنذاري لكم.

الآية رقم (18) - وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ

﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: كان يجب أن يأخذوا عبرة ويروا ما جرى للّذين سبقوهم، فقد كذّب الّذين من قبلهم بالرّسل وأهانوهم، فمشركي مكّة ليسوا هم أوّل من كذّب، بل هو دأب الّذين من قبل، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الحجر]، وأصحاب الحجر هم قوم صالح عليه السلام. وهؤلاء مثل آل فرعون، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران]، والتّكذيب هو تأبٍّ من المكذّب، وهو إنكار لقول أو فعل.

﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾: فكيف كانت العقوبة والألم؟! والنّكير: هو الإنكار على شخصٍ بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة، كالّذي يُكرمك ويُغدق عليك، ثمّ يقطع عنك هذا كلّه، فتقول: لماذا تنكّر لي فلان؟ يعني: قطع عنّي نعمته.

وقوله جل جلاله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾؛ أي: فكيف كان إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النّعمة؟! فبدّلها الله سبحانه وتعالى عليهم بالعذاب.

الآية رقم (19) - أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾: يلفت الله سبحانه وتعالى نظر هؤلاء المكذّبين لله ورسوله إلى السّماء، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يسوق الأمر في هيئة استفهام: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إ ﴾، وهذا تأكيدٌ أنّهم فعلاً رأوا، فلماذا يكفرون ويكذّبون؟! ومثل هذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ [يس]، وهنا يلفت الحقّ سبحانه وتعالى إلى الطّير السّابح في السّماء؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾، فالطّير يطير في السّماء بحركة الجناحين الّتي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبيّة فلا يسقط إلى الأرض، فإذا ما قبض الطّائر جناحيه يظلّ معلَّقاً في السّماء لا يسقط، فمن يُمسكه في هذه الحالة؟ هذه صورة نشاهدها لا يشكّ فيها أحد، وهذه الطّير تسبّح لله سبحانه وتعالى، يقول جل جلاله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾  [النّور].

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾: أي أنّها في حالة بسط الأجنحة وفي حالة قبضها تظلّ معلّقة لا تسقط، وكذلك نجد من الطّيور ما له أجنحة طويلة، لكنّه لا يطير، مثل الأوز وغيره من الطّيور، فليست المسألة مسألة أجنحة، بل هي آيةٌ من آيات الله سبحانه وتعالى تمسك هذا الطّير في جوّ السّماء، فتراه حرّاً طليقاً لا يجذبه شيءٌ إلى الأرض، ولا يجذبه شيءٌ إلى السّماء، بل هو حرٌّ يرتفع إن أراد الارتفاع، وينزل إن أراد النّزول.

﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾: وكأنّ الخالق سبحانه وتعالى يقول: خذ من الطّير المشاهَد نموذجاً ووسيلة إيضاح، فهو سبحانه وتعالى برحمته يمسك السّماء أن تقع على الأرض، قال جل جلاله: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[الحجّ].

وكلمة: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ من صيغة المبالغة، فإذا قيل: (رحمن) تكون مبالغة في الصّفة، وكذلك إذا قيل: (رحيم) تكون مبالغة في الصّفة، والله سبحانه وتعالى رحمن الدّنيا ورحيم الآخرة، واسم ﴿الرَّحْمَنُ﴾  يفيد أنّ رحمته سبحانه وتعالى تعُمّ الخلق جميعاً، والرّحمن يُنعِم بالنّعم كلّها على خلقه كلّهم، المؤمن وغير المؤمن.

﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾: الباء للتّبعيض؛ أي: بأدنى شيء هو بصير ومطّلع عليه، فلا تعتقدوا أنّ هناك شيئاً يخفى على الله سبحانه وتعالى، أو أنّ أحداً يستطيع أن يخدع الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى بصيرٌ بكلّ شيءٍ، ليس بالظّاهر منك فقط، ولكن بما تخفيه في نفسك ولا تُطلِع عليه أحداً من خلق الله عز وجل.

الآية رقم (20) - أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ

﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾: كلمة: ﴿جُنْدٌ﴾ مفردة، لكنّها تدلّ على جماعة، وأصل الكلمة من (جند): وهي الأرض الغليظة الصّلبة القويّة، ونظراً لأنّ الجنود المفروض فيهم القوّة فقد أطلق عليهم لفظ: (جند).

﴿جُنْدٌ لَكُمْ﴾: الخطاب هنا للكافرين، أيّها الكافرون، بماذا أنتم منتصرون؟! وقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي﴾ هو استفهامٌ بمعنى التّوبيخ لمشركي مكّة، فأيّ هذه الأصنام والأوثان تمنعكم من عذاب الله عز وجل وتدفعه عنكم؟ وهذا نحو قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ [الأنبياء]، فهذه الآلهة لا تستطيع نصر أنفسها، فكيف ينصرونكم ويمنعونكم من عذاب الله عز وجل إن وقع بكم؟

فقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي﴾: خطابٌ للكافرين على وجه التّوبيخ والتّهديد وإقامة الحجّة عليهم، فلا جند لهم ينصرونهم إن أراد الله عز وجل عذابهم، ولن يجدوا من ينصرهم من دون الرّحمن عز وجل، واستخدم المولى سبحانه وتعالى كلمة: ﴿الرَّحْمَنِ﴾، فهو يذكِّرهم أنّ وجودهم في هذه الحياة إنّما هو برحمة الله سبحانه وتعالى، فقد أنعم عليهم بصفة الرّحمن، وهذا استفهامٌ على سبيل السّخرية منهم، فيستفهم المولى سبحانه وتعالى بهذه الطّريقة: من يستطيع أن ينصركم من دون الرّحمن؟! وملحظ الرّحمن ملحظٌ مهمٌّ جدّاً، فكان عليهم أن ينتبهوا إلى رحمة الله سبحانه وتعالى.

﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾: فغرور الدّنيا قد يركب بعض النّاس، فيظنّون أنّهم في منعة من الله عز وجل، وأنّهم لن يلاقوه.

وهناك (غُرور) بضمّ الغين، و(غَرور) بفتح الغين، فالغُرور بضمّ الغين هو الشّيء يصوّر لك على أنّه حقيقة وهو في الواقع وهمٌ، أمّا الغَرور بفتح الغين فهو من يفعل هذه العمليّة، ولذلك فالغَرور هو الشّيطان؛ لأنّه يزيّن للإنسان الأمر الوهميّ ويؤثّر مثلما يؤثّر السّراب، والغرور حيث يزيّن الشّيطان شيئاً للإنسان ويوهمه أنّه سيستمتع به، فإذا ما ذهب الإنسان إليه فلن يجد له حقيقة، بل العكس، فالغرور هو الإطماع فيما لا يصحّ ولا يحصل، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله: (أنت مغرور)، فأنت تقصد أنّه يسلك سبيلاً لا يوصله إلى الهدف المنشود.

والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر]، فهم في وهمٍ شديد، وابتعادٍ عن الحقّ، يسيرون وفق خُطا الشّيطان الّذي سمّاه الله سبحانه وتعالى (الغَرور)؛ لأنّه يطمعنا نحن البشر بأشياء متوهّمة لن تحدث.

الآية رقم (21) - أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ

﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾: فمن هذا الّذي يُطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك الله سبحانه وتعالى رزقه عنكم؟! من يرزقكم إن حبس رزقه عنكم؟! من الّذي يرزقكم سواه؟! فهل أحدٌ من تلك الآلهة الّتي تزعمون يرزقكم إن أمسك الله سبحانه وتعالى رزقه عنكم؟! فلا أحد يُعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلّا الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو يعطيكم منافع الدّنيا، وهو سبحانه وتعالى الّذي يعطيكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو إيقاف الهواء فلا تجرِ الرّياح، أو يجعل الماء غوراً إلّا بأمره سبحانه وتعالى.

﴿أَمْسَكَ﴾: مادّة الميم والسّين والكاف تدلّ على الارتباط الوثيق، فالّذي يجعل الإنسان متّصلاً بالشّيء هو ماسكه، وتقول: (مسك) و(أمسك)، وتقول: (استمسك) و(تماسك)، وكلّها مادّة واحدة، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ﴾[الأعراف: من الآية 170]، مبالغة في المسك.

فــ: ﴿ أَمْسَكَ ﴾: منع رزقه، والرّزق هنا منسوب إلى الله عز وجل، ونلحظ أنّ كلمة ﴿رِزْقَهُ﴾ وردت في القرآن الكريم أربع مرّات، منها مرّتان مضافة إلى الإنسان، يقول سبحانه وتعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾[الطّلاق: من الآية 7]، وفي سورة الفجر يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾  [الفجر: من الآية 16]، ومرّتان مُضافة إلى الحقّ سبحانه وتعالى، والمرّتان في سورةٍ واحدةٍ هي سورة الملك، قال سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: من الآية 15]، ويقول جلّ وعلا: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾[الملك: من الآية 21]، فالرّزق رزق الله سبحانه وتعالى، وردت هنا في سورة الملك مُضافة إلى الله عز وجل، وهذا يُناسب أنّ بيده تعالى الملك: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: من الآية 1]، فبيده سبحانه وتعالى كلّ شيء، وهو القادر على كلّ شيء، وعندما ينسب الرّزق إلى الإنسان، فسبحان الّذي خلق ونسب إليك، لكنّ الرزّاق هو الله عز وجل.

وحين نتكلّم عن الرّزق يظنّ كثير من النّاس أنّ الرّزق هو المال فقط، نقول له: لا، الرّزق هو كلّ ما يُنتَفع به، فالقوّة رزق، والعلم رزق، والحكمة رزق، والتّواضع رزق، وكلّ ما فيه حركة للحياة رزق، ومن الرّزق المطر وما ينتج عنه وينبت من الأرض، يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، ولذلك قال بعض العلماء: إنّ الرّزق المقصود هنا: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ هو المطر، فمن الّذي يرزقكم مطراً إن أمسك الله سبحانه وتعالى ماء السّماء عنكم؟!

﴿بَلْ﴾: للإضراب، فهي تنفي ما قبلها وتُثبت ما بعدها، فالمعنى أنّهم لم يؤمنوا ولم يسلكوا ما يقتضيه ما اطّلعوا عليه من بَعثات الرّسل، بل أضربوا عن هذا، وذهبوا إلى سلوك العتوّ والنّفور، فــ: ﴿بَلْ﴾ حرف يفيد الإضراب عن الكلام السّابق، وتقرير كلام جديد يُثبت الحكم للكلام بعدها.

﴿لَجُّوا ﴾: أي: دخلوا دخولاً أدّى إلى تماديهم في العتوّ والنّفور، وأبَوا غير هذا، فهم لا يعتبرون ولا يتفكّرون، بل لجّوا في طغيانهم وتماديهم وتباعدهم عن الإيمان، فــ ﴿لَجُّوا ﴾ تقحّموا في المعاصي، واللّجاج: تقحُّم الأمر مع كثرة الصّوارف الواضحة عنه، واستمرّوا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم، فهم داموا على اللّجاج والعناد.

﴿فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾: العتوّ: الكبرياء والإباء، وعتوا: يعني أبوا وعصوا واستكبروا، وهذا مُرُودٌ منهم وبلوغ الغاية من الفساد، وعتوا: بالغوا في الظّلم والتّحدّي وتجاوزوا الحدود، والعاتي: هو الّذي بلغ في الظّلم الحدّ، مثل الطّاغوت الّذي إن خاف النّاس منه انتفش وتمادى وازداد قوّة.

والنّفور: الكفور والتّباعد عن الإيمان، والنّفور من الحقّ والاستكبار عن اتّباع الإيمان.

فالعتوّ: هو التّمادي في الكفر، والنّفور هو التّباعد عن الحقّ، فقد حملهم اللّجاج على الكفر والنّفور عن الحقّ.

الآية رقم (11) - فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ

﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ﴾: إنّه اعترافٌ منهم باقترافهم الظّلم وقيامهم عليه، فهذا اعترافٌ وإقرارٌ منهم، والاعتراف والإقرار سيّدا الأدلّة؛ لأنّ كلام المقابل إنّما يكون شهادة، ولكن كلام المقرّ هو إقرارٌ واعتراف، واعترافهم: هو اعترافٌ بذنبٍ واحد يجمعهم وهو الكفر بالله سبحانه وتعالى، لذلك قال سبحانه وتعالى في هذه السّورة: ﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ﴾، أمّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ [التّوبة: من الآية 102]، فهي ذنوبٌ متعدّدة ومعاصٍ وقعوا فيها مع إيمانهم، لذلك جاءت بصيغة الجمع لاختلاف الذّنب من واحدٍ إلى آخر. والاعتراف لونٌ من الإقرار، والإقرار بالذّنب أنواع، فهناك من يقرّ بالذّنب إفاقة، وآخر يقرّ بالذّنب في صفاقة، مثلما تقول لواحد: هل ضربت فلاناً؟ فيقول: نعم ضربته؛ أي: أنّه اعترف بذنبه، وقد يضيف: وسأضرب مَنْ يُدَافع عنه أيضاً، وهذا اعترافٌ فيه صفاقة، أمّا من يعترف اعتراف إفاقة فهو يقرّ بأنّه ارتكب الذّنب ويطلب الصّفح عنه، وهذا هو الاعتراف المقبول عند الله عز وجل، وهم قد ﴿ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [التّوبة: من الآية 102]، اعتراف إفاقة.

وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ﴾، لكن ما فائدة هذا الاعتراف الآن؟ وبماذا ينفعهم في دار الحساب، لا في دار العمل والتّكليف؟!

وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أن يغرق: ﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾[يونس: من الآية 90]، لذلك ردّ الله سبحانه وتعالى عليه: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس].

﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ﴾: هم اعترفوا بذنبهم؛ لأنّهم سُقِط في أيديهم، فقالوا: لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته لنكوننّ من الهالكين، وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم والتجاءٌ إلى الله عز وجل في وقتٍ لا ينفعهم الاعتراف، لذلك هؤلاء يُقال لهم:

﴿ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾: ومعنى سحقاً: أي: بعداً لهم وخسارة وشقاء، فما أشقاهم وأرداهم، حيث فاتهم ثواب الله سبحانه وتعالى، وكانوا ملازمين للسّعير الّتي تستعر في أبدانهم وتطّلع على أفئدتهم، فبعداً لهم من الله سبحانه وتعالى ومن رحمته، و(سحقاً) منصوب على المصدر؛ أي: أسحقهم الله عز وجل سحقاً، وكان القياس إسحاقاً، والسّحيق: البعيد، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [المؤمنون: من الآية 41]؛ أي: بعداً لهم عن رحمتنا ونعيمنا الّذي كنّا نمنّيهم به ونعدهم به لو آمنوا.