﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾: أي: قل يا محمّد: إنّ الله عز وجل هو الّذي أنشأكم، والحقّ تعالى هنا لم يذكر من أيّ شيءٍ أنشأنا، ولكنّه تعالى قال في آياتٍ أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾[الأنعام: من الآية 98]، وقال أيضاً: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[هود: من الآية 61]، وقال أيضاً: ﴿كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾[الأنعام: من الآية 133]، والإنشاء: هو الإيجاد ابتداءً من غير واسطة شيءٍ، يقال: أنشأ؛ أي: أوجد وجوداً من غير الاستعانة بشيءٍ، لذلك لا نقول لمن اخترع: إنّه أنشأ، وإنّما اكتشف؛ لأنّه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه.
والإنشاء هو عمليّة بناء، والّذي خلق قال: أنا خلقتك من تراب، من طين، من حمأ مسنون، من صلصال كالفخّار، فالماء وُضِع على التّراب فأصبح طيناً، والطّين تركناه فتغيّر لونه وأصبح صلصالاً، والصّلصال جفّ فأصبح حمأً مسنوناً، ثمّ نحته الله تعالى في صورة إنسان ونفخ الحقّ تعالى فيه الرّوح فأصبح بشراً، ثمّ يأتي الموت وهو نقضٌ للحياة، ونقض كلّ شيءٍ يأتي على عكس بنائه، فبناء العمارة يبدأ من أسفل إلى أعلى، وهدمها يبدأ من أعلى إلى أسفل، ولذلك فإنّ آخر مرحلة من رحلةٍ ما هي أوّل خطوة في طريق العودة، فإذا كنت مسافراً إلى طرطوس مثلاً، فأوّل مكان في طريق العودة هو آخر مكان وصلت إليه، فأوّل شيءٍ يخرج من الجسد هو الرّوح، وهو آخر ما دخل فيه، ثمّ بعد ذلك يتصلّب الجسم ويُصبح كالحمأ المسنون، ثمّ يتعفّن فيصبح كالصّلصال، ثمّ يتبخّر الماء الّذي فيه فيعود تُراباً، وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة متّفقاً مع المراحل الّتي بيّنها لنا الله تعالى، والله تعالى يُعطينا وصفاً دقيقاً لإنشاء الإنسان فيقول تعالى في إنشاء الإنسان من التّزاوج: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون]، فهو أنشأه في بطن أمّه خلقاً تابعاً لأمّه في أطوار ومراحل، ثُمّ يُنشِئه خلقاً آخر ونشأةً أُخرى عند إخراجه كوليد يحيا حياةً أخرى لا يعتمد فيها على أمّه، كأنّه كان تابعاً لأمّه فيخرجه الله تعالى خَلقاً آخر مُستقّلاً بذاته، فتكون الرّأس إلى أسفل، وهي أوّل ما ينزل من المولود، وبمجرّد نزوله تبدأ عمليّة التّنفّس، ومن هذه اللّحظة ينفصل الجنين عن أمّه، وبالتّنفّس تكون له ذاتيّة، فإذا ما تعسّر خروج باقي جسمه فتكون له فرصة التّنفّس، وهذا من لطف الله تعالى؛ لأنّ الجنين في هذه الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه، وهو في كلّ هذه الأطوار: النّطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة ثمّ العظام واللّحم ما يزال تابعاً لأمّه متّصلاً بها، ويتغذّى منها، فلمّا شاء الله تعالى له أن يولد ينفصل عن أمّه ليباشر حياته بذاته.
والله تعالى أنشأنا من عدمٍ، وسوّانا على هيئةٍ مستقيمةٍ وعلى أحسن تقويم، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[الأعلى]، وهذه التّسوية كانت أوّلاً للإنسان الأوّل الّذي خلقه الله تعالى من الطّين، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر]، وقال عز وجل: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾[السّجدة].
والله تعالى بعد أن يُنشئ الإنسان ويخلقه من ماء أبيه وبويضة أمّه، فإنّه تعالى يجعل له: ﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾، ففي هذه الآية قال تعالى:
﴿وَجَعَلَ لَكُمُ﴾: فالجَعْل غير الخَلق وغير الإنشاء، فالخَلْق شيءٌ والجَعْل شيءٌ آخر، فالخَلق هو إيجادٌ من عدم، والجَعْل هو توجيه مخلوق إلى مهمّته في الحياة، فالله تعالى خلق الإنسان وأنشأه إنشاءً، ولكن ليمارس مهمّته في الحياة جعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً، وكذلك خلق الله تعالى الشّمس والقمر، ثمّ جعل أحدهما للضّياء وجعل الآخر نوراً، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: من الآية 5].
﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾: هذه الثّلاثة هي آلاتٌ للإدراك، ومنافذ للعلم، فوسيلة العلم تأتي من الحواسّ، وسيّدة الحواسّ هي العين؛ لأنّه من الممكن أن تسمع شيئاً من واحد بتجربته هو، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التّجربة خاصّة بك، ولذلك يُقال: ليس مَن رأى كمن سمع، وقد أورد تعالى السّمع والأبصار أوّلاً؛ لأنّهما الوسيلتان الأساسيّتان، وأورد من بعد ذلك: (الأفئدة) وهي مختصّة بالمعاني والقلبيّات وغيرها، فحواسّ الإنسان من سمعٍ وبصرٍ تُعطيه القدرة على تكوين الخبرة، وهي منافذ الإدراك.
فوسائل الإدراك من سمع وبصر وفؤاد، وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه، أمّا ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كلّ غَيرٍ له، وبذلك يكون السّمع أكثر اتّساعاً من العين.
والسّمع هو وسيلة الإدراك الّتي تُوجَد أوّلاً في الإنسان حين يُولَد، ونجد المولود لا يهتزّ عندما يقترب شيءٌ من عينيه؛ لأنّه لا يرى في ذلك الوقت، وقد يستمرّ ذلك لمدّة عشرة أيّام، ومن بعد ذلك يبدأ في الرّؤية، لكنّ الطّفل إذا سمع صوتاً بجانب أُذنيه ينفعل، فحاسّة السّمع هي الّتي تُوجَد أوّلاً، ولذلك يأتي لنا الحقّ تعالى بذلك، السّمع أوّلاً، ومن بعد ذلك الأبصار، ثمّ الأفئدة.
فـ (الجَعْل) هنا هو أنّه تعالى خصّص جُزءاً من خلايا الإنسان ليكون عيناً، وجُزءاً آخر ليكون أُذناً، وجُزءاً ثالثاً ليكون لساناً، وقد رتّب الله تعالى ممارسة هذه الحواسّ لمهامّها، فالأذن تؤدّي مهمّتها من فور ولادته، بينما عينه لا تُؤدّي مهمّة الرّؤية إلّا بعد مدّة، فأوّلاً يأتي السّمع ثمّ يأتي البصر، ومِن السّمع والبصر تتكوّن المعلومات، فتنشأ عند الإنسان معلومات عقليّة، وهو دور الفؤاد.
وقد قلنا سابقاً، ونكرّر هنا: لماذا أفرد الله تعالى السّمع، وأورد البصر مجموعاً، فقال تعالى: ﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾؟ الأذُن تستقبل بها أصواتاً متعدّدة في وقتٍ واحد، أمّا مجال الرّؤية فمحدودة، وأنت حين لا تريد أن ترى شيئاً تُبعد عينيك عنه، والأصوات تصل إلى أُذنك من كلّ مكان من غير أن تستطيع منعها، لذلك يأتي السّمع مفرداً والأبصار متعدّدة؛ لأنّ هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً، وكلّ حرفٍ في كتاب الله عز وجل جاذبٌ لمعناه، والسّمع هو آلة الاستدعاء والإيقاظ من النّوم، فتسمع وأنت نائم، بينما لا ترى وأنت نائم، وبُلِّغنا نحن عن الأنبياء -عليهم السّلام- عن طريق السّمع، وقد لفتنا الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العجائب فقال: “اعجبوا لهذا الإنسان، ينظر بشحم، ويتكلّم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفّس من خرم”، وأضاف بعضهم: “ونشمّ بغضروف، ونلمس بجلد، ونفكّر بعجين»، فالإنسان يُولَد وكأنّ مخّه قطعة من العجين الّتي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه، وهي الّتي ستكون ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك.
وحين نظر العلماء في معاني الألفاظ قالوا: “النّظائر حين تُخَالِف فلا بدّ من علّة للمخالفة، فالسّمع آلة إدراك، والبصر آلة إدراك، فلماذا قال الله تعالى في آلة الإدراك: (السّمع)، وقال في الآلة الثّانية: (الأبصار)؟”، هذا لنعلم أنّ المتكلّم هو الله تعالى، وكلّ كلمةٍ منه لها حكمة وموضوعة بميزان، فعندما نقرأ القرآن الكريم، فنحن نسمع كلام الله عز وجل، وكلام الله تعالى يختلف عن كلام البشر، ما بين أن ننظر إلى الأمر بمنظار الإنسان، أم بكلام ربّ الإنسان.
﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾: وشُكْرُنا لله تعالى لهذه الجوارح أن نصونها عن الإتيان بأيّ معصية، لا في سمعٍ ولا في بصرٍ ولا في نُطقٍ، وأن نمنع ألسنتنا عن قالة السّوء والفحش، فالله تعالى يريد منّا ألّا نتكلّم إلّا خيراً، قال ﷺ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ»([1])، والله تعالى بهذه الآية يقطع بأنّنا قليلاً ما نشكر نِعَم الله تعالى علينا، وعلينا أن نشكر الله تعالى حقّ الشّكر بأن نؤدّي شُكر كلّ نعمة من النِّعَم الّتي أنعمها الله تعالى علينا، وعندها يكون الإنسان محافظاً على هذه النِّعَم لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: من الآية 7]، فتزيد النِّعَم، والشّكر هو الثّناء من المنعَم عليه على المنعِم، ولكنّنا قليلاً ما نشكر، قال عز وجل: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: من الآية 13].
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، بَابٌ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، الحديث رقم (6018).